العرب والعالم وحوار الحضارات

شغلت قضية حوار الحضارات على وجه العموم، والحضارتين العربية الإسلامية والغربية على وجه الخصوص، جانباً كبيراً من اهتمام الرأي العالمي على مختلف الصعد السياسية والثقافية والفكرية والأكاديمية خلال العقد الأخير من القرن العشرين، حيث عقدت ندوات وأقيمت مؤتمرات في كل العالم الإسلامي والغرب لمناقشة قضية حوار الحضارات، ودعيت إلهيا وشاركت فيها رموز تمثل مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.
ولئن كانت مقالة الكاتب الأمريكي الشهير صموئيل هانتنغتون عن «صدام الحضارات» في دورية شؤون خارجية عام 1993 هي الحجر الذي حرك المياه الراكدة وأثار ذك القدر الهائل من النقاش والجدل والحوار بشأن أنماط التفاعل فيما بين الحضارات، إلا أن هذا الموضوع قد أخذ أبعاداً أكر شمولاً مع دعوة الرئيس الإيراني محمد خاتمي إلى فتح صفحة جديدة من الحوار بين الحضارتين الإسلامية والغربية في كلمته أمام الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر من عام 1999، وهي الدعوة التي لاقت قبولاً واستحساناً من جانب الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، مما أسفر عن إعلان المنظمة عام 2001 «عام الأمم المتحدة للحوار بين الحضارات».
والكتاب الذي نعرض له اليوم وهو «العرب والعالم وحوار الحضارات» الذي أعده المفكر العربي عبد الله عبد الدائم، يمكن اعتباره جزءاً من ذلك الزخم الذي أثارته دعوة هانتنغتون، كما يذكر الكاتب نفسه في المقدمة، حيث يقوم الكتاب بإعادة نشر ثلاثة أبحاث ألفها عبد الله عبد الدائم خلال الفترة بين عامي 1995 و2000 تنتظم جميعها حول موضوع واحد اعتبره الكاتب موضوع الساعة عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وهو موضوع العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، وما يلحق بهذه العلاقة من مشكلات الصراع أو الحوار والتواصل.
وعليه، فإن الكتاب الذي يقع في 136 صفحة من القطع الصغير ينقسم إلى ثلاثة فصول رئيسية يضم كل فصل منها واحداً من الأبحاث الرئيسية الثلاثة التي يعيد الكتاب نشرها، وتسبق هذه الفصول مقدمة تمهيدية كتبت حديثاً عقب أحداث نيويورك وواشنطن، وتعقبها خاتمة تحاول أن تستشرف آفاق المستقبل بالدعوة إلى تبني نمط جديد من العلاقة مع الغرب لا يتعارض مع تراثنا وقيمنا ولا يحول في الوقت ذاته دون الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية.
أولاً: مقدمة الكتاب:
يسوق الكاتب في تقديمه للكتاب الأسباب التي دعته إلى إعادة جمع الأبحاث الثلاثة التي سبق وأن نشر كلاً منها على حدة، مشيراً إلى أن ما ورد في ثلاثتها يقدم طرحاً بخصوص مشكلة العلاقة بين حضارة الغرب والحضارة الإسلامية يلتقي التقاء كاملاً مع الطرح السائد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر وما أثارته من تساؤلات، كما يذكر أن الأبحاث الثلاثة تقدم منطلقات سليمة لإجابة مثل تلك التساؤلات.
بعد ذلك يبدأ الكاتب في استعراض مجموعة من المتغيرات التي أعادت تشكيل العالم خلال عقد التسعينيات والتي من بينها انهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنة النموذج الغربي الليبرالي القائم على تفاعل قوى السوق وما أفرزه هذا النموذج من عولمة متوحشة تتصاعد الاتجاهات المعارضة لها يوماً بعد الآخر، حتى في دول الغرب الليبرالي ذاتها.
ثم يتخذ الكاتب من قصف وزارة الدفاع والبرجين نموذجاً لإبراز بعض سلبيات النظام الليبرالي الذي يسود العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والتي من أبرزها تضاؤل دور الدولة وهيمنة ما هو اقتصادي على ما هو سياسي مستشهداً في هذا الصدد بما كتبه أحد كبار الكتاب حول ما أظهرته أحداث نيويورك وواشنطن من سوءات خصخصة الأمن الجوي في مطارات الولايات المتحدة الأمريكية.
ويستعرض الكاتب جذور الفكرة الشائعة التي ترسخت في أذهان الغرب عن العرب والمسلمين منذ مئات السنين والتي تعود إلى ما قبل الحروب الصليبية وكانت سبباً بحد ذاتها في توتر العلاقة بين الطرفين. ومن هنا فإنه يحدد الهدف الرئيسي من الحوار المنشود بين الحضارات بالعمل على تحويل ظاهرة العولمة من عولمة متوحشة تقوم على استقواء القوي على الضعيف وإذلاله واستغلاله إلى عولمة إنسانية تعمل على تعظيم استفادة الجميع على حد سواء بما تتيحه منجزاتها من تقنيات المعلومات والاتصالات في ظل عالم متآخ متضامن يقوم على احترام التنوع الثقافي والحضاري وعلى إقرار خصوصية الآخر وتقبلها.
على صعيد آخر، يقدم عبد الله عبد الدائم تصوره الخاص لرؤية الحضارة الإسلامية للحوار مع الآخر، حيث يؤكد في هذا الإطار على أن الحوار الذي يجب أن تباشره الحضارة الإسلامية مع الغرب ينبغي أن يرافقه أمران: أولهما تطهير الإسلام مما لحق به من شوائب بسبب الفهم المتزمت للتراث، وثانيهما ردف هذا الحوار بتوليد خصائص جديدة لثقافة عربية إسلامية لا ترفض الآخر ولا تقلده في الوقت نفسه أو تقتدي به، بحيث يتم توليدها واستقاؤها من رحم الحضارة العربية الإسلامية ذاتها، وتتولى فيها الحداثة بناء التراث.
وفي نهاية تقديمه للكتاب، يدعو الكاتب الغرب إلى القيام بمراجعة صادقة لما استقر في ثقافته عبر العصور من صور وأفكار شائهة ومضللة عن العرب والإسلام والمسلمين، كما لا يفوته أن يشير إلى القضية المحورية التي تمثل حجر عثرة على طريق إقامة أي حوار مثمر مع الغرب، ألا وهي قضية فلسطين والكيان الصهيوني الذي زرع في قلب الأمة العربية الإسلامية وما زال ينمو ويستفحل ويستشري خطره في ظل رعاية وحماية من الغرب.
ثانياً: الفصل الأول: التخلف العربي والخوف من الغرب:
كان هذا الفصل في الأصل مقالة سبق نشرها للكاتب بالعنوان نفسه في دورية شؤون عربية التي تصدر عن جامعة الدول العربية، عدد حزيران/ يونيو 1995، وقد قسمه عبد الدائم إلى ثلاثة أجزاء رئيسية تتلوها خاتمة تدور كافتها حول قضية التخلف وأسبابه، وكذلك حول أسباب الخوف من الغرب، وهو الخوف الذي يعده الكاتب نتيجة الخبرة التاريخية السلبية الناجمة عن التعامل مع الغرب.
يعود في الجزء الأول إلى التاريخ البعيد والقريب للحضارة العربية الإسلامية عارضاً لنماذج تاريخية مختلفة من هذا التاريخ، كانت القاعدة الأساسية فيها هي التمازج الثقافي الخصب القائم على التعارف والتآلف فيما بين مختلف الشعوب التي انضوت تحت جناح الحضارة العربية الإسلامية، ومستشهداً من التاريخ البعيد بالفتوحات العربية الإسلامية في صدر الإسلام، وبالدولة الإسلامية في الأندلس، ثم من التاريخ الحديث بتجربتين للنهضة: أولاهما تجربة محمد علي باشا الذي سعى لإقامة دولة حديثة في الشرق تتحرر من الخضوع للسلطان العثماني وتقوم بشكل أساسي على الاستفادة من الحضارة الغربية، وهو ما رفضه الغرب وحاك لإحباطه المؤامرات والدسائس وصولاً لإفشال التجربة برمتها. وثانيتهما تجربة خير الدين التونسي في تونس في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي انتهت هي الأخرى بتدخل الغرب وإجهاض الخطط التونسية للإصلاح والتحديث.
ثم يعرض عبد الدائم لكتابات التيار القومي التي بزغت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي كان من بين روادها الأوائل عبد الرحمن الكواكبي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. ويخلص من استعراضه لهذه المسيرة التاريخية من النهضة والتحديث إلى التأكيد على أن هذه النهضة قامت في بادئ الأمر على أساس الانفتاح على الغرب، والنزوع إلى التحديث، والتأكيد على التوافق فيما بين معطيات الحضارتين العربية الإسلامية والغربية والتفاعل مع الغرب أخذاً وعطاءً، إلا أن الاغتيال الأوروبي لهذه الحركات الإصلاحية أدى إلى نشوء ثلاثة تيارات أساسية لكل منها موقفه من التعامل مع الغرب، حيث يدعو أولها إلى الرفض التام لكل ما هو غربي، في حين ينادي الثاني بالانفتاح الشامل على الغرب والاقتداء به والاستفادة من منجزاته الحضارية، ويقف التيار الثالث موقفاً وسطاً يؤكد على أن نأخذ من الحضارة الغربية أفضل ما فيها دون أن نولي ظهرنا لقيمنا وموروثاتنا الحضارية الأصلية.
ويبادر الجزء الثاني من الفصل الذي يحمل عنوان الدروس المستخلصة بالتأكيد على أن هدف التحليل التاريخي في الجزء الأول لا يتمثل البتة في إلقاء تبعة تخلف الأمة العربية على الغرب فقط، بل إنها التأكيد على أن الثقافة العربية طرأ عليها من مظاهر الجمود والتخلف، ما يجعلها تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية عما أصاب الأمة من تدهور.
ومن بعد يبدأ الكاتب في بسط الفكرة التي يدعو إليها، ألا وهي ضرورة تحرير الإنسان العربي من عقدة الخوف من الغرب، حذراً من ابتلاعه ومن استلابه بالكلية. ويرى أن المسؤولية في هذا الخصوص تقع على الجانب العربي نفسه عن طريق النضال من أجل الاقتباس عن الغرب ومواجهته في آن واحد. ويعنى عبد الدائم باستعراض بعض الأسس التي تبرز دعواه السابقة، ومن قبيلها: شعور العرب أنهم كانوا أصحاب حضارة قضى عليها الغرب وانتزعها منهم، والصورة المشوهة التي استقرت في أذهان الغرب عن العرب والمسلمين ودور العرب في تصحيح هذه الصورة، والخوف الغربي من العرب نتيجة لتصور أن الثقافة العربي الإسلامية تحمل في طياتها بذور العدوان والكراهية، وانعدام الشعور بالثقة بالنفس لدى العرب كأحد مبررات الحذر من الغرب، والاقتناع التام بأن التراث العربي يحمل في ثناياه بذور تجديده وتطويره، وكذلك أن خصوبة أي ثقافة ترجع إلى مبلغ تفاعلها مع الثقافات الأخرى.
ويخصص الجزء الثالث للربط بين الخوف من الغرب وتجارب النهضة في البلدان النامية، حيث يؤكد الكاتب على أن مواجهة الخوف من الغرب لا تكون بالازورار عن حضارته والازدراء بها، بل بغزوها والتغلغل فيها عن طريق حضارة عربية حديثة وأصيلة، والدعوة في ضوء ذلك إلى الاقتداء بدول شرق آسيا التي حققت نهضتها الكبرى انطلاقاً من أحياء قيمها التراثية الأصلية التي تعلي من أهمية العلم والعمل، مع الاستفادة من التقدم الصناعي الغربي وتطويعه ليتفق والثقافات المحلية السائدة بها، وهذا منطقي لأن أي تقدم على طريق التنمية والتحديث لابد من أن يعنى أولاً ببناء القدرة الذاتية وإعلاء شأن الرابطة القومية.
وفي خاتمة الفصل، يخلص الكاتب إلى أن ثمة مأزقاً خطيراً يواجه الأمة العربية، وهو مأزق التلكؤ في التحديث خوفاً من سيطرة الغرب، وأن الأمة العربية عليها أن تخرج من هذا المأزق، فهي جديرة قبل سواها بألا يعوقها الخوف عن خوض معركة التحديث، كما أنها جديرة أن يكون لها السبق في تسديد خطى مسيرة الحضارة العالمية.
ثالثاً: الفصل الثاني: العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات:
كان هذا الفصل في الأصل مقالة سبق أن نشرها الكاتب في مجلة المستقبل العربي، عدد كانون الثاني/ يناير 1996. وفيه يسعى عبد الدائم لان يحدد ملامح العالم في فترة النصف الثاني من عقد التسعينيات، حيث يبدأ بتفنيد مقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، مؤكداً على أن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يكن يمثل نهاية للتاريخ بقدر ما كان يشير إلى بداية تاريخ جديد يكون التيه والتخبط هو السمة الرئيسية له. بقول آخر، يؤكد الكاتب أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان إيذاناً بميلاد عهد جديد للبشرية طغت فيه الرأسمالية بصورة لم تحدث من قبل، واتجهت إلى تبني أشد أشكالها تطرفاً ومعاداة للقيم الإنسانية جمعاء في وضع عالمي بائس تجلت أسوأ مظاهره في العديد من الحروب التي شهدها العالم خلال عقد التسعينيات.
وقد تجلى أخطر مظاهر الوضع العالمي البائس، وأخطر منحدراته، حسب تعبير الكاتب، في منحدرين رئيسيين: يتمثل أولهما في معاداة القومية، ويتمثل ثانيهما في معاداة الإسلام، حيث شرع الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في البحث عن عدو جديد تتوجه إليه السهام وتنصب عليه اللعنات وتصب عليه الاتهامات. فلم يجد عدواً أضعف من المسلمين الذين استقرت في الذاكرة الجمعية صورة شوهاء عنهم وعن عقيدتهم نفسها.
ثم يعرض الكاتب للفكرة الرئيسية لمقالة صموئيل هانتنغتون عن الصراع بين الحضارات، مفنداً ما ذهب إليه من أن الحضارة الإسلامية تمثل تهديداً شديداً للغرب يتعين الاستعداد له والعمل على مواجهته، وإن أمن على أطروحة أن الصراعات العالمية القائمة والمقبلة هي في الأساس صراعات ثقافية المصدر. وعلى الرغم من اتفاقه أيضاً مع ما ذهب إليه هانتنغتون من أن صراعاً عاتياً سوف ينشب فيما بين الحضارات إذا لم يبادر العالم باستيعاب الدروس المستفادة من الصراعات القائمة ويحوّلها إلى مساحة من مساحات الحوار. إلا أنه ينبه إلى خطورة الدعوة إلى تبني ثقافة عالمية واحدة، مشيراً إلى أن هذه الثقافة سوف تكون حتماً الثقافة الأمريكية، ومؤيداً الدعوة المضادة إلى التفاعل العالمي فيما بين الثقافات باعتبارها مخرجاً رئيسياً من الأزمة التي يمر بها العالم حالياً.
وتقود النقطة السابقة الكاتب إلى الحديث عن دوائر ثلاث للثقافة، هي الدائرة المحلية، والدائرة الوطنية، وأخيراً الدائرة العالمية، ويرى أن التطورات الأخيرة التي استحدثتها ثورة الاتصالات والمعلومات تؤدي دون شك إلى اتساع الدائرة الثالثة، دائرة الثقافة العالمية على حساب الدائرتين الأولى والثانية. ويشدد في هذا الإطار على ضرورة أن يعمل العالم على الحيلولة دون تغول دائرة الثقافة العالمية على خصوصيات الثقافة القومية والمحلية. ويبادر من جانبه إلى وضع شروط يجدها بمثابة منطلقات ضرورية للحوار فيما بين الحضارات والثقافات، وتلك هي ضرورة الالتزام بالنزاهة الفكرية من جانب المفكرين والسياسيين على حد سواء، والعمل من قبل جميع الفرقاء على إزالة آثار العدوان الثقافي، أي تطهير ثقافة كل أمة مما قد يشوبها ن تزوير للحقائق المتصلة بالشعوب الأخرى، وما قد تتضمنه بالتالي من إثارة الأحقاد فيما بين الثقافات. ويختم بمناقشة عن موقع الثقافة العربية في إطار الحوار العالمي بين الثقافات، حيث يعيد التأكيد على أن الحضارة العربية قدمت دوماً أفضل نموذج للتفاعل والانفتاح على ثقافات الآخرين، وأنها وإن باتت تعاني بعض عوامل التخلف إلا أنها ما زالت لديها القدرة على تجديد ذاتها وتحديث مضمونها بالرجوع إلى التراث أو بالتفاعل والانفتاح على حضارات أخرى، وبصفة خاصة حضارة الغرب.
رابعاً: الفصل الثالث: مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها:
أما الفصل الثالث والأخير من الكتاب، فقد كان في الأصل محاضرة ألقيت في المركز الثقافي العربي في حلب في آذار/ مارس 2000، ثم أعيد نشرها في مجلة المستقبل العربي، عدد تشرين الأول/ أكتوبر 2000.
يبدأ الكاتب هذا الفصل بمجموعة من التعريفات لمصطلحي الثقافة والحضارة، منتهياً إلى تبني تعريف يدمج فيما بين المصطلحين باعتبارهما يشيران إلى مجموعة من القيم والمعايير والمؤسسات وأنماط التفكير التي أولتها أجيال متعاقبة في مجتمع أو أمة معينة أهمية حاسمة. بعد ذلك يتحدث الكاتب عن الثقافة في عالم اليوم مؤكداً أن الثقافة والهويات الثقافية التي تعد إلى حد بعيد هويات حضارية هي التي تحدد مدى التماسك أو الانفراط أو الصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة، وأن السؤال السائد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أصبح ذا صلة بالهوية الذاتية والقومية، وهذا السؤال هو: من أنت؟ ويؤكد على أن دعوة الغرب التي تنكر هذه الهويات ستقوده يوماً بعد يوم إلى التصارع مع حضارات أخرى.
وينتقل الكاتب إلى مناقشة التحديث والتغريب، حيث يشدد على أن التحديث ليس مرادفاً للتغريب، فالتحديث وإن كان عادة ما يبدأ متأثراً بالغرب، ساعياً إلى الاستفادة من خبراته ومعارفه، إلا أن المضيّ قدماً في خطوات التحديث يؤدي إلى انخفاض نسبة التغريب في الوقت ذاته الذي تستعيد فيه الثقافة القومية قدرتها على التجديد وعزمها على المضي قدماً في طريق التحديث. وللتأكيد على ما قاله، يتحدث الكاتب عن أن حضارة الغرب تمضي في طريقها إلى الأفول مدللاً على ذلك بالعديد من الشواهد، من بينها: تزايد معدلات الجرائم، وتفشي إدمان المخدرات، والانحدار الأخلاقي في مجتمعات الغرب، وتراجع دور الأسرة، بل انهيارها أيضاً. في كثير من الأحيان.
ثم يعيد عبد الدائم ما سبق أن ذكره في الفصل الأول من الكتاب من نماذج تاريخية من العهد الأموي والدول العربية في الأندلس للدلالة على أن الحضارة العربية الإسلامية كانت دوماً نموذجاً يحتذى في التفاعل الحضاري والتمازج الثقافي، ويعطف على ما تضمنه كتاب آخر له عنوانه القومية والإنسانية من تأكيد على حرص الفكر القومي العربي على الربط الوثيق بين القومية والإنسانية.
أما نهاية الفصل فإنها تخصص للتحديات الخارجية التي تواجه الثقافة العربية والتي يرى الكاتب أن الصهيونية تعد أخطرها بما تمثله من تحد ثقافي للأمة العربية. وينكر الكاتب في السياق ذاته عملية التسوية، كون إسرائيل جعلت من التطبيع الثقافي مع الدول العربية أحد أهدافها الرئيسية، الأمر الذي يحتم على العرب خوض معركة مقاومة التطبيع الثقافي اليوم وليس غداً. ومن التحديات الأخرى التي تواجهها الأمة العربية، تحدي التغير المعرفي السريع، حيث أصبحت المعرفة الإنسانية تتضاعف مرة كل 18-24 شهراً، وهو ما يجعل من الصعب الإحاطة بها ويتطلب جهوداً استثنائية في مجال الثقافة بوجه عام، والتربية بوجه عام.
وفي خاتمة الكتاب يعيد الكاتب التأكيد على أن الثقافة الذاتية كانت ولا تزال الوعاء الطبيعي لعطاء الإنسان من أجل ذاته، ومن أجل أمته، ومن أجل الإنسانية جمعاء، وعليه فلا سبيل إلى النهضة والتحديث إلا بإحياء التراث، ذلك الإحياء الذي تنتج منه ثقافة عربية حديثة وذاتية. أداتها تجديد التراث، وحصادها التفاعل الخصب مع الآخر.