مداخلة الدكتور عبد الدائم في الحلقة النقاشية حول تقرير التنمية الإنسانية

(أولاً) لماذا التقرير؟
1- من المفترض في التقارير الدولية عن بلد ما أنها تقارير رسمية، تكتب من أجل أن تتولى الهيئة الدولية المعنية تقديم العون (المعنوي والفني والمادي) من أجل إنفاذها من قبل البلد المستهدف.
أما إذا اقتصر الأمر على تحليل الواقع الخاص بمشكلة معينة وعلى إبداء الرأي حولها، فإن التقارير لا تعدو عند ذلك أن تكون دراسة وصفية تحليلية، توضع قيد تصرف البلدان المعنيّة، كي تتولى متابعتها وإنفاذها إن شاءت أو استطاعت.
2- والتقرير الذي بين يدينا – ومثله الذي سبقه – هو من هذا النوع الثاني. فهو لا يعدو أن يكون عرضاً لآراء بعض المفكرين العرب، يصف الواقع العربي حول أحد مجالات التنمية الإنسانية في البلاد العربية، نعني «إقامة مجتمع المعرفة في البلاد العربية»، ويقترح آراءاً وأفكاراً قيّمة من شأنها – إذا وعاها أهلها ورعوها وامتلكوا الإمكانات اللازمة لتطبيقها – أن تؤدي إلى تطويره.
3- وهذا ما يعبر عنه بوضوح التصدير الذي كتبه المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حين بيّن «أن هذا التقرير يستمد قوته من أن واضعيه ليسوا من المؤلفين العاديين العاملين في الأمم المتحدة. فقد وضع هذا التقرير – كما يقول – فريق من المفكرين العرب البارزين، وتوجهوا به إلى جمهور عربي في المقام الأول، وكان الدعم الذي قدمته الأمم المتحدة لهم بمثابة منبر للرأي واعتراف بالجهد ما كان لهم أن يتمتعوا بهما بغير ذلك».
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا التقرير؟ أليس في المكتبة العربية مئات الكتب والمجلات والدراسات والأبحاث التي تصدّت لهذا الموضوع، وقلّبته على وجوهه المختلفة، والكثير منها يبذّ ما أتى به هذا التقرير ويجاوزه؟
أو ليست هنالك موسوعات واستراتيجيات (الإستراتيجية العربية للتربية، والإستراتيجية العربية للمرحلة السابقة على التعليم الابتدائي، وإستراتيجية الثقافة العربية، وإستراتيجية العلوم وسواها) قلّبت موضوع المعرفة والثقافة وسواهما على أوجههما المختلفة.
4- بوجيز العبارة: هل نحن بصدد مؤلَّف جديد قام به عدد من المؤلفين الأكفياء حول واقع المعرفة وإنتاجها في البلاد العربية، أم نحن أمام خطة عملية واقعية، لها وسائل تنفيذها، تتولى منظمات هيئة الأمم المتحدة المختصة تقديم العون الفني والمادي لها، وتتولى رعاية متابعتها منظمات ومؤسسات عربية؟
5- والمعوقات الكبرى التي تحول دون إنتاج المعرفة في البلدان العربية (من سياسية واقتصادية واجتماعية) ماذا يُعِدّ من أجل تذليلها البرنامجُ الإنمائي للمنظمة الدولية الكبرى، نعني هيئة الأمم؟ وماذا يقترح بهذا الصدد من خطوات من شأنها إزالة العوائق الكبرى التي تحول دون إنتاج المعرفة والتقانة في الوطن العربي، وعلى رأسها التهديد والعدوان الصهيوني المستمر، والضغوط الأمريكية والعالمية المالية والسياسية والعسكرية؟
(ثانياً) مزايا التقرير:
إذا نظرنا في التقرير في إطار الحدود التي ذكرناها والتي تجعل منه دراسة نظرية هدفها التوعية – أمكننا أن نجد فيه العديد من المزايا. منها:
1- اختياره للموضوع (نحو إقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية):
– فالمعرفة غدت السلطة الجديدة في عالمنا (قبل سلطة المال والسلطة العسكرية).
– ويمكن الرجوع في هذا إلى:
ألفن توفلر Alvin Toffler وكتابه «تحول السلطة Power Shift».
وإلى تعريفه للأمي في عصرنا «الأمي في القرن الحادي والعشرين لن يكون ذلك الذي يجهل القراءة والكتابة، ولكن ذلك الذي لا يعرف أن يتعلم، ولا يعرف أن ينسى ما تعلّم ولا يعرف أن يتعلّم من جديد».
– كما يمكن الرجوع إلى:
إحصاءات معهد «ماساشوستس للتكنولوجيا M+T»: التي تبين أن «المعلومات والمعارف تتضاعف الآن خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و24 شهراً.
أما في نهاية العقد الحالي فسوف تتضاعف خلال أسبوعين أو ثلاثة».
2- تأكيد التقرير على أهمية التعليم راقي النوعية:
وعلى تعميم التعليم الأساسي.
وعلى الاهتمام الخاص بمرحلة الطفولة المبكرة.
وعلى التعليم المستمر مدى الحياة.
وعلى الارتقاء بنوعية التعليم العالي.
الخ..
(ولكن كان عليه في هذا المجال أن يبين حدود الاستثمار في التعليم وأن التعليم ليس في جميع الأحوال توظيفاً مثمراً لرؤوس الأموال).
3- تأكيده على التراث المعرفي العربي:
وعلى إثراء التنوع الثقافي.
وعلى الانفتاح على الثقافات الإنسانية الكبرى.
(ثالثاً) نقائص التقرير:
ثمة جوانب أشار إليها التقرير عابراً وكان من الجدير به التريث عندها، منها:
1- الثورات العالمية الكبرى في العقود الأخيرة وانعكاساتها الجذرية على عالم المعرفة:
– الثورة في عالم الاقتصاد والمال.
– الثورة في عالم الاتصال والمعلومات.
– الثورة في عالم البيولوجيا والمورثات.
– الثورة الجامعة: العولمة (بوعودها ومخاطرها).
2- هذا الواقع العالمي الجديد له آثاره الكبرى على عالم المعرفة، ولا سيما التربية والتعليم والثقافة. وكان على التقرير أن يفصّل في هذا المجال. وحسبنا – كمثال – انعكاسات هذا الواقع على التربية والتعليم، وهو جانب أغفله التقرير، والحديث عن ذلك يطول، ونكتفي بنظرة شاملة عابرة إلى المراحل الأساسية التي يمرّ بها التعليم ومرّت بها المعرفة بالتالي في البلاد العربية:
– مرحلة التوسع الكمي.
– مرحلة تجويد النوع إلى جانب التوسع الكمي.
– مرحلة التجديد التربوي:
* تخطيط تربوي.
* تقنيات تربوية.
* ربط التربية بحاجات القوى العاملة وبالاقتصاد عامة.
– مرحلة التغيير:
* من التربة النظامية إلى المجتمع المعلِّم المتعلم.
* التربية المستمرة من المهد إلى اللحد.
* إعادة النظر في بُنى التعليم وهياكله.
* إعادة النظر في عدد سنوات الدراسة.
* النظام التربوي الثابت مات أو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
– مرحلة الإرهاص والحسبان.
– التربية من أجل المستقبل ومن أجل مستقبل مليء بالاحتمالات. وهذا يستلزم العناية بما يلي:
– التعلّم الذاتي.
– التربية المستمرة.
– التعليم المولّد للعمل والإنتاج (ولا سيما في التعليم العالي).
– الاهتمام بتكوين المواقف والاتجاهات (منذ رياض الأطفال).
– امتلاك القيم الخلقية اللازمة لعصر العلم والتقانة (هابرماس Habermas وجوناس Jonas).
– امتلاك المواقف السليمة من العلم والمعرفة:
– الشك (الشك من أجل الوصول إلى اليقين).
– النسبية (إدراك نسبية الحقائق والمعلومات).
– امتلاك الاستقلال والنظرة المستقلة الذاتية.
– أهمية تضامن العلوم والمعارف وتقاطع وتكامل الاختصاصات.
– امتلاك روح الخلق والإبداع.
(إدغار موران Morin: معرفة المعرفة).
خاتمة:
أهمية غرس القيم الأساسية اللازمة لانبثاق المعرفة والتقانة دوماً وأبداً، وأهمها:
1- تحريض إرادة العمل المشترك لدى المواطنين من خلال ارتباطهم بتاريخهم وثقافتهم الذاتية ورغبتهم في بناء المستقبل.
(اليابان وعصر مييجي Méiji منذ عام 1868)
2- الجمع بين شرارتي التقدم وهما الإيمان بالعمل القومي المشترك، وإعداد الأرضية اللازمة لنمو العلم والتقانة واستنباتهما.
– هذا يستلزم وضع أهداف كبرى للتربية والثقافة والمعرفة:
من بينها العمل من أجل تحقيق ما ورد في الخطة الشاملة للثقافة العربية (عام 1986) من أهداف، أهمها:
– الاستقلال والتحرر في مواجهة الهيمنة الأجنبية.
– الوحدة القومية في مواجهة التجزئة والعصبية والإقليمية.
– الديمقراطية في مواجهة الاستبداد الداخلي والخارجي.
– العدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال.
– الأصالة والتحديث في مواجهة التغريب والتبعية الثقافية.
– الحضور القومي بين الأمم.
– الإنتاج والإبداع في مواجهة الاستهلاك والتقليد. ونضيف إليها اليوم غاية كبرى أساسية هي:
– الحوار والتضامن بين بني البشر بدلاً من العدوان والتنافس والسيطرة.
المداخلة (2) الجلسة الثانية
شكراً السيد الرئيس
مقدمة:
البحوث التي ألقيت في هذه الأمسية بحوث هامة، جديرة بأن نتريّث عندها. غير أني – في نطاق الوقت المحدد – أقتصر على واحد منها، قد تعجبون لتوقفي عنده. هذا البحث هو الذي قدّمه الدكتور علي فياض والمتصل بالدين والحكم الصالح.
ذلك أنا – فيما أرى – إذا لم نوفّ هذه المشكلة – مشكلة الدين والحكم الصالح – حقها من البحث والدراسة، وإذا لم ندرك دورها في العلم والمعرفة، فإن من العسير علينا أن نعالج سائر مشكلاتنا، ولاسيما تلك المتصلة بالعلم والتقانة والتنمية بوجه عام. فالتقاليد الخاطئة الموروثة، التي ورثناها عن عهود الانحطاط العربي الإسلامي ولاسيما العثماني، والتي ولّدت لدى الجمهرة الكبرى من أبناء شعبنا روح التواكل (وهو غير التوكُّل) والاستسلام والقعود، والتي ولّدت النظرة الخاطئة إلى المرأة، بل ولّدت العقلية السحرية والغيبية أحياناً، كلها وسواها ثغرات في ثقافتنا الموروثة لابد من علاجها، ومعوّقات تحول دون التقدم لابدّ من التغلب عليها.
ولا ترجع هذه الثغرات إلى علل في صلب الديانة الإسلامية، والعكس هو الصحيح. ذلكم أن الدين يتخلف عندما يتخلف الذين يدينون به، والعكس غير صحيح. وأسباب تخلف الديّانين أسباب كثيرة يقودنا البحث عنها إلى تساؤل لا يتّسع له المجال: نعني ما هي عوامل تخلف الأمم (ويمكن الرجوع في هذا المجال إلى كتب الدكتور قسطنطين زريق العديدة، ولاسيما كتابه الهام «في معركة الحضارة»، كما يمكن الرجوع إلى كتابنا «نحو فلسفة تربوية عربية»). وحسبُنا في المجال الذي نتحدث عنه أن نستشهد بما ذكره المستشرق الفرنسي «ماكسيم رودانسون» في كتابه «الإسلام والرأسمالية» حين بين أن مبادئ الدين الإسلامي ليس فيها ما يحول دون تبني الرأسمالية الحديثة والاقتصاد الحديث (أو سواها من منطلقات التقدم في عصرنا). وأنا أزيد على ذلك فأقول: إن مبادئ الحضارة العربية الإسلامية لا تتصف فقط بكونها مبادئ غير معادية للتقدم، بل يتصف الكثير منها بأنه – إذا أحسنّ استخدامه وفهمه – عامل أساسي من عوامل التقدم، ومن عوامل بناء المستقبل. ومبادئ الدين – إذا فهمت على حقيقتها – يمكن أن تصبح أداة هامة من أدوات بناء الحاضر المتقدم والمستقبل الموعود. ولا مجال للإطالة في هذا الميدان، فقد كُتب كثير الكثير – منذ حملة نابوليون على مصر حتى أيامنا هذه – عما يحمله الدين الإسلامي وتحمله الحضارة العربية الإسلامية من معاني التقدم ومن منطلقات الأخذ بالعلم الحديث.
أولاً: وحسبنا أن نقول – بإيجاز مخلّ – إن في الإسلام قيماً حية يحسن التأكيد عليها وتبنيها: كالتكافل الاجتماعي – والشورى – والتحلي بروح المسؤولية (تجاه سائر أفراد المجتمع) – والعدالة – والمساواة – وتقديس العلم – وتقديس العمل وإتقانه – والوفاء – والإحسان – واحترام الإنسان وتكريمه، الخ…
وعلى سبيل المثال حسبنا أن نذكر – في مجال التضامن – الأوقاف الإسلامية، وفي مجال المساواة (المساواة بين سائر البشر) عالمية الإسلام ونزعته الإنسانية (التي يحدثنا عنها أمثال الكاتب السويسري بوازار Boisard، في كتاب يحمل عنوان «إنسانية الإسلام» ترجم إلى العربية ونشرته دار الآداب ببيروت، كما يحدثنا عنها – في من يحدثنا – شوقي ضيف في كتابه «عالمية الإسلام»، الخ…).
ثانياً: يضاف إلى ذلك أن الحضارة العربية الإسلامية – خلافاً لما هو شائع عنها، ولا سيما في الغرب – حضارة علمية تقانية تجريبية، وليست مجرد حضارة فقهية أو أدبية. وقد تحدث عما أحدثته من ثورة في الدراسات التجريبية الباحثُ الفرنسي فانتيجو Ventéjoux، في كتابه «المعجزة العربية» الذي ترجم إلى اللغة العربية، وذلك حين بيّن أن الحضارة العربية الإسلامية هي التي نقلت العقل الإنساني من الدوران حول ذاته (كما كانت عليه في الحضارة اليونانية) إلى الدوران حول الأشياء، بفضل المشاهدة والتجربة والبحث. كما تحدث عن ذلك «راندال» في كتابه «تكوين العقل الحديث»، وكما تحدث آخرون كثيرون، من أبرزهم «لوكلير Leclerc» في كتابه «الطب عند العرب».
ثالثاً: على أن الحضارة العربية الإسلامية لم تكتف بتقديس العلم بأنواعه المختلفة، بل أكّدت على ضرورة بذله للآخرين، ورأت في التعليم شرطاً لقيام العالم بواجباته (في الحديث الشريف: «من كتم علماً يجيده ألجمه الله بلجام من نار»). وإنفاق العلم في التراث الإسلامي – «واجب كإنفاق المال».
رابعاً: وفوق هذا كله – بل قبل هذا كله – نجد في قواعد التشريع في الإسلام ما يفسح المجال واسعاً للتجديد وبناء المجتمع على أسس علمية عقلانية حديثة. فمن أصول التشريع – كما نعلم – (بالإضافة إلى القرآن والسنة والقياس والإجماع) – ما عُرف باسم «المصالح المرسلة والاستحسان». ومما أكده ابن تيمية وابن قيم الجوزية في هذا المجال أن كل ما فيه مصلحة الأمة هو من الدين (ومما يقوله ابن تيمية في ذلك: «إن شريعة الله كاملة مطابقة للعقل والحق والعدل. فإذا ظهرت أمارات الحق وقامت أدلّته وأسفرِ صُبحه بأي طريقٍ كان فذلك شرع الله ودينه. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلّته وأماراته في نوع واحد، ولكن بيّن أن مقصوده إقامةُ الحق والعدل بأي طريق كان». وهذا كله – كما نرى بوضوح – يفتح الباب واسعاً أمام الاجتهاد والتجديد. هذه الحقائق – وسواها – جعلت الأستاذ طارق البشري يقول في أيامنا: «إن في القواعد التي وضعها الإسلام لاستنباط الأحكام ما يكفي لاستنباط كل الحضارة الحديثة»).
خامساً: أما الاحتكام إلى العقل في الحضارة العربية الإسلامية، فالحديث عنه يطول، وقد عرف تاريخ الإسلام مناقشات حامية في هذا المجال. ولعل ابن رشد قد لخص الجدل حول هذا الموضوع في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» حين رأى أن العقل لابدّ أن يوافق النّقل، فإذا ظهر خلاف بينهما «فلابّد أن يكون للنقل ظاهر يحتمل التأويل».
سادساً: وقد يقال ما يقال عن المرأة في الحضارة العربية الإسلامية وعن مكانتها. وقد حدثنا عن ذلك الأستاذ حسين العويدات في ورقته القيمة، وههنا أيضاً أفكار ومواقف خاطئة انتشرت لدى عامة الناس في عصور التخلف الإسلامي. وتقرّي التراث الإسلامي يكشف عن أن هذه المشكلة مشكلة زائفة إلى حد كبير، إذا فُهمت اتجاهات الدين الإسلامي في هذا المجال حقّ فهمها:
فمنذ بواكير العصر الإسلامي ظهرت مواقف تجاه المرأة تضمن لها كيانها ومكانتها:
أ- فالتراث لا يميّز بين المرأة والرجل ولا يعتبرها كائناً خاصاً، بل يضمن لها كرامتها الإنسانية الكاملة. وفي الحديث الشريف: «ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهنّ إلا لئيم». وفيه أيضاً «من كانت له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فعلّمهن وأدّبهنّ وأتقى الله فيهن، فله الجنة» وفيه أيضاً «ساووا بين أولادكم في العطيّة، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت الإناث».
ب- يكفل التراث الإسلامي حقوق المرأة كاملة. ففي الزواج «لا تُزوَّج حتى تُستأذَن». وقد تركت لها حرية اختيار زوجها، الخ…
جـ- وفي الطلاق الذي جعله التراث الإسلامي، «أبغض الحلال»، اشترط له شروطاً قاسية، ومنح المرأة الحق في حلّ عقدة الزواج، كالرجل سواء بسواء.
ء- وقد ساوى التراث بين المرأة والرجل فيما يتصل بالعمل وتقلّد المناصب والمشاركة في الحرب والجهاد.
والأمثلة أكثر من أن تحصى على مكانة المرأة في التراث الإسلامي، (خلافاً لما هو شائع وخلافاً لما تحاول أن تروجّه الدعايات الأجنبية المعادية «للشيطان الجديد» في زعمها (وتعني به الإسلام).
سابعاً: وُثمة مسألة أخرى تتصل بالتراث الإسلامي، نعني القول بأن الإسلام دين ودولة. والحق إن الإسلام دين ودولة إذا عنينا بذلك أن الشرائع والقوانين والأحكام ينبغي أن تستهدي مبادئ الدين، وأن الدين الإسلامي مصدر أساسي من مصادر التشريع. ولكن هذا لا يعني أن الحاكم يستمد سلطته من الدين (كما كان عليه الأمر في الغرب في القرون الوسطى) وأنه خليفة الله على الأرض. فالحاكم في الإسلام (منذ أيام الرسول) يستمد سلطته من الشعب (كما حدث في بيعة العقبة الأولى والثانية وفي دستور المدينة). وقصة «تأبير النخل» تذكرها كتب السيرة وتذكر ما قاله الرسول (ص) على أثرها: «أنتم أعلم مني بأمور دنياكم».
ثامناً: وقبل أن أختم مداخلتي أودّ أن أشير إلى موضوع هام ولكنه مهمل إلى حد كبير، وهو أن نصوص الفقه (حتى ما اتصل منها بالعبادات) يمكن أن تكون منطلقاً لنهضة علمية متقدمة، إذا ما أُحسن فهمها. وأكتفي بمثال واحد متصل بفرض الكفاية: فمما ذكره الإمام الشاطبي الأندلسي في كتابه الشهير «الموافقات» أن من فروض الكفاية أن يوجد في كل بلد من يسدّ حاجته من المأكل والمشرب والصناعات المختلفة». ويقع فرض الكفاية هذا على من يملك الاستعداد والتأهيل اللازم لذلك. ومعنى هذا أن من فروض الكفاية لدى المسلمين اليوم أن يتوافر لديهم في كل مجال من مجالات العلم والتقنية من يسدّ حاجتهم إلى ذلك. وأعتقد أننا ندرك بيسر ما يحمله مثل هذا المبدأ الفقهي من حثّ لجمهور المسلمين على أن يوفروا لبلدهم في كل مجال ما يحتاج إليه في أمور الصناعة والزراعة والحرب والمعرفة وسوى ذلك.
وهذا الموقف نجده عند طائفة من الفقهاء المسلمين القدامى ومن أبرزهم «ابن تيمية وابن قيّم الجوزية».
وبعد، الحديث في هذا المجال ذو شجون، وحسبنا أن طرحنا المسألة. وأرجو أن نكون قد وُفّقنا إلى بيان بعض ما تحمله مبادئ الحضارة العربية الإسلامية من معاني التقدم ومن مقومات المعرفة، إن نحن أجدنا فهمها وأدركنا روحها وقمنا بتجديدها انطلاقاً من ذاتها.
وشـكراً
بعض كتب الدكتور عبد الله عبد الدائم المتصلة بالتقرير:
– نحو فلسفة تربوية عربية. التربية ومستقبل الوطن العربي. منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية عام 2000.
– الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية. دار العلم للملايين، بيروت، عام 2000.
– دور التربية والثقافة في بناء حضارة إنسانية جديدة. دار الطليعة، بيروت، عام 1998.
– العرب والعالم وحوار الحضارات. دار طلاس، دمشق، عام 2002.
– القومية العربية والنظام العالمي الجديد. دار الآداب، بيروت، عام 1994.
– في سبيل ثقافة عربية ذاتية. دار الآداب، بيروت، عام 1982.
– التربية وتنمية الإنسان في الوطن العربي. دار العلم للملايين، عام 1988.
– دراسة مقارنة للتربية في البلاد العربية. أليكسو، تونس، عام 1994.
– مراجعة إستراتيجية تطوير التربية العربية. أليكسو، تونس، عام 1995.
– الإستراتيجية العربية للتربية في المرحلة السابقة على التعليم الابتدائي. أليكسو، تونس، عام 1996.