مداخلة الدكتور عبد الله عبد الدائم في منتدى المرأة والتربية: نظرة عجلى شاملة

تيسيراً للعرض سوف نقسم بحثنا إلى مقدمة وأربعة محاور:
– المقدمة: دور التربية في التنمية بوجه عام.
– المحور الأول: تربية المرأة والتنمية الشاملة.
– المحور الثاني: المرأة وتربية الطفل.
– المحور الثالث: بيانات وإحصاءات خاطفة حول واقع تعليم المرأة في الوطن العربي.
– المحور الرابع: خاتمة.

المقدمة:
دور التربية في التنمية بوجه عام:
1- التربية توظيف مثمر للأموال وعامل أساسي من عوامل التنمية (الأبحاث العالمية والعربية في هذا المجال منذ خمسينيات القرن الماضي).
2- ولكن التربية التي تؤدي إلى التنمية الشاملة ليست أي نوع من التربية. إنها التربية التي نضع في مراحلها وبنيتها وأهدافها وطرائقها وتقنياتها، الخ.. أهداف التنمية وحاجات التنمية (لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها).
بل إن هنالك تربية تقود إلى عكس أهداف التنمية الشاملة وتعطل مسيرتها.
3- من هنا فإن مجرد التوسع الكمي في التعليم وفتح أبوابه على مصراعيها لا يؤديان بالضرورة إلى تطوير المجتمع وتنميته، ولابد من تجويد بنية التعليم ومضمونه. وأهم جوانب هذا التجويد العناية بتربية المرأة.
4- نظرة عجلى ناقدة إلى المراحل التي مرّت وتمرّ بها التربية في البلاد العربية من أجل أن تكون في خدمة التنمية:
– مرحلة التوسع الكمي.
– العناية بالنوع والكيف وتجويده، والأخذ بأساليب التخطيط التربوي، والأخذ بمبدأ الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة.
– تجديد التربية، بنى ومناهج وطرائق.. الخ. وتحطيم جدران الصف التقليدي.
– مرحلة بناء التربية المواكبة لجدائد العصر المغذّ في سيره، واستشراف آفاق التربية المستقبلية المرجوة.
المحور الأول:
تربية المرأة والتنمية الشاملة:
تجمع الدراسات على أن من أهم شروط تحقيق التنمية الشاملة في أي بلد (بما في ذلك تنمية التربية) توفير أوفر وأمثل حظ من التربية للمرأة كماً ونوعاً. وحسبنا أن نشير إلى نتائج بعض هذه الدراسات في هذا المجال:
1- كشفت الدراسات العالمية والعربية عن أن ثمة تلازماً وترابطاً بين تربية المرأة من جانب وبين التطور العام لأي مجتمع، من جانب آخر، لا سيما في مجالات الصحة، والتغذية، ومعدلات الخصوبة، وتزايد السكان، ونمو الأطفال وتعليمهم.
2- أكّد المؤتمر العالمي الرابع حول المرأة الذي عقد في مدينة بكين في أيلول عام 1995 أهمية عناية المجتمع العالمي بالأهداف الأساسية التالية المتصلة بتعليم المرأة:
«تحقيق فرص متكافئة في التعليم للنساء – القضاء على الأمية لدى النساء – تيسير سبل حصول النساء على الإعداد المهني، والتعليم العلمي التقاني، والتربية المستمرة الدائمة».
3- ومن قبله أكّد الإعلان العالمي حول «التربية للجميع» الذي عقد في «جوميتان تايلاند من 5-9 آذار 1990» أهمية تعليم الفتيات والنساء، ونصت المادة الثالثة منه على ما يلي:
«يجب أن تمنح الأولوية القصوى لضمان توفير التربية للفتيات والنساء وتحسين نوعيتها وإزالة العقبات التي تحول دون مشاركتهن على نحوٍ فعّال».
4- أكدت معظم الأبحاث والمؤتمرات أن من شروط تقدم أي مجتمع أن تتوافر للنساء فيه تربية تتيح لهن أن يردُمْن بأسرع وقت ممكن الهوة القائمة بينهن وبين الرجال، بحيث تتاح لهن بوجه خاص، في العمل والحياة الاجتماعية والميدان السياسي، مجالات من النشاط والسلطة ما تزال غير متوافرة لهن حتى الآن على النحو المرجو.
وهذا المطلب ليس مجرد مطلب إنساني وواجب خلقي، بل هو، كما دلّت الأبحاث، مطلب يستلزمه الواقع ويؤيده تفوق المرأة في كثير من بلدان العالم في مجالات الاقتصاد والمال والتنمية.
5- وغنيّ عن القول – كما بينت معظم الدراسات العالمية – إن التعليم يسهم إسهاماً واضحاً في تعزيز شخصية المرأة، ويمنحها الثقة بالنفس، ويجعلها أكثر وعياً وإدراكاً للأمور، وأكثر قدرة على الاختيار وعلى الدفاع عن حقوقها، كما يجعلها أقدر على التحكم بعدد المواليد، وعلى تحسين مستوى تغذية أطفالها وصحتهم، وعلى رفع مستواهم التعليمي وخفض معدلات تسربهم ورسوبهم، وسوى ذلك كثير.
6- وقد بينت دراسات أخرى، تمّ بعضها في البلاد العربية، أن ثمة ترابطاً إيجابياً بين نسب تسجيل الإناث في التعليم الابتدائي وبين ارتفاع الدخل القومي، وكشفت عن أن وجود فجوات كبيرة بين تعليم الجنسين يصاحبه عادة هبوط عام في الدخل القومي.
ومن هنا صحّ أن نردد مع كثيرين: «إن توظيف الأموال في تربية المرأة وتطويرها خير زاد من أجل المستقبل».
7- ويلحق بهذا ما أجمعت عليه الأبحاث والمؤتمرات الدولية والعربية من أن الأمية عائق أساسي يحول دون التطور الحضاري، وأن نسبة الأمية تعدّ أحد المقاييس الهامة التي يقاس بها مدى تخلف أي دولة.
وهذه النسبة – كما نعلم – مرتفعة بوجه خاص لدى النساء في كثير من الدول ومن بينها الدول العربية، كما سنرى.
ولا مجال لتفصيل الحديث هنا عما تشير إليه الدراسات في مجال الآثار الإيجابية التي يحدثها محو الأمية لدى الذين تمحى أميتهم: سواء اتصلت بالتفكير المنطقي الناقد، أو بالإفادة من المؤسسات الاقتصادية القائمة كالمصارف والتعاونيات، أو بالمشاركة السياسية، أو بغير ذلك وهو كثير.

المحور الثاني:
المرأة وتربية الطفل:
1- تحتل تربية الطفل (في المرحلة السابقة على التعليم الابتدائي بوجه خاص) مكانة متزايدة في نظم التربية الحديثة في العالم. ولا نغلو إذا قلنا إن الاهتمام العالمي قد انتقل في العقود الأخيرة من التأكيد على أولوية التعليم العالي وضرورة توجيه الأنظار إلى مزيد من التوسع فيه ومن تجويد مدخلاته ومخرجاته ومضمونه، إلى التأكيد على أولوية تربية الأطفال في المرحلة السابقة على التعليم الابتدائي، سواء في رياض الأطفال أو في دور الحضانة أو في منظمات رعاية الأطفال أو في المنزل.
2- ويتزايد هذا الاهتمام العالمي بتربية الطفل، بعد أن استبان للباحثين شأن هذه التربية في توليد القدرة على الإبداع، وتفتيق آفاق الخيال المبدع، وفي غير تلك من المواقف والاتجاهات التي أصبحت العناية بها من أهم شعارات التربية المواكبة لروح العصر والقادرة على الإرهاص بالمستقبل (من مثل تكوين روح المسؤولية، وروح الحوار، والنزوع نحو العمل الجماعي التضامني، وامتلاك القدرة على النقد العلمي، ومحبة العمل المنتج، وغير ذلك كثير).
3- وقد بينت الدراسات الحديثة أن أكثر أعضاء جسم الإنسان حاجة إلى الرعاية المبكرة هو الدماغ، الذي ينمو نمواً سريعاً خلال الأشهر الأولى ثم السنوات الأولى، ثم يتباطأ نموه بعد ذلك. وكشفت هذه الدراسات عن العلاقة بين بيولوجيا الأعصاب والتربية مما لا يتسع المجال للحديث عنه. وحسبنا أن نشير إلى ما انتهى إليه أحد أصحاب هذه الدراسات حين قال: «ربما أصبنا في القول إنك إذا أردت أناساً أذكياء فإن عليك أن تحضنهم وتداعبهم كثيراً عندما يكونون رضّعاً وأطفالاً.. لأن ذلك يزيد من عدد التوصيلات العصبية التي ينتجها دماغهم».
ولا يتسع المجال للحديث عن الأبحاث العلمية حول ما تخلفه إتاحة الفرص المبكرة للخبرات الحسية – الحركية من آثار إيجابية في مختلف قدرات التعلم طوال الحياة. وحسبنا أن نقول بإيجاز مخلّ إن نمو الطفل السليم لا يمكن أن يتم إلا بفضل اجتماع عاملين متكاملين: أولهما النضج العضوي، وثانيهما التدريب الوظيفي. ولحاق التدريب بالتالي بالنضج العضوي في الوقت المناسب هو قوام تنمية الطفولة تنمية فعالة، وهو القادر على استخراج ما في الطفولة من طاقات وقوى ووعود على أفضل شكل وإلى أقصى مدى. وههنا يبرز دور الأم الفريد. فهذا كله أو معظمه يقع على كاهل المرأة في المنزل أولاً. ويستمر هذا الدور في مؤسسات رعاية الطفولة وفي رياض الأطفال.
4- وتنعكس آثار تربية المرأة للطفل في مراحل حياته الأولى، على تربيته في المراحل التالية، سلباً أو إيجاباً.
– فالتربية المبكرة للطفل (في المنزل والروضة برعاية الأم) تنعكس آثارها على المرحلة الابتدائية، وما بعدها. والحديث عن هذا الجانب يطول. وحسبنا أن نقول إن الدراسات جميعها بينت أن نتائج التحصيل الدراسي في المرحلة الابتدائية، وما بعدها، لدى الأطفال الذين توافرت لهم تربية سابقة على المدرسة الابتدائية، تفوق بشكل واضح نتائج التحصيل الدراسي لدى سواهم.
– كذلك بينت دراسات كثيرة أن التربية المبكرة في رياض الأطفال تؤدي إلى تقليل عدد المتسربين والراسبين في المراحل التالية وتزيد بالتالي من المردود الداخلي للنظم التعليمية.
– يضاف إلى هذا أن وراء كثير من البرامج الحكومية المتصلة بالأطفال في العديد من الدول المتقدمة منطلقاً قوامه أن الوقاية من المشكلات في مرحلة الطفولة أقل تكلفة من علاجها بعد ظهورها، وأن التبكير في علاجها إذا ما ظهرت في طور مبكر من الطفولة هو أجدى وأجزل فائدة.
5- وإن ننسَ لا ننسَ ما للمرأة في مرحلة الطفولة وما بعدها من دور تثقيفي هام. وهذا ينقلنا إلى دور المرأة – إلى جانب الرجل – في العناية بالقصص الملائمة للأطفال (سواء كانت شفوية أو مكتوبة) وما يلحق بها مما يمكن أن نسميه بأدب الأطفال، بما في ذلك «حكايات جدتي» الآخذة بالزوال، والحكايات الأسطورية، والحكايات على لسان الحيوان والترانيم التي تجري على لسان الأمهات، فضلاً عن الشعر قديمة وحديثه. وحري بنا أن نذكر في هذا المجال أن العرب القدامى قد عنوا بهذا الطراز من الأدب الخاص بالأطفال، ولاسيما الشعر الخاص بترقيص الأولاد. وقد وصلتنا مقطوعات منه كثيرة كانوا يغنّونها لأبنائهم، تكشف الفضائل التي كان العربي يحب أن يتحلى بها. والأمثلة عليها كثيرة، يحدثنا عنها كتاب فريد في باب الترقيص هذا، وضعه في أواخر القرن الرابع الهجري محمد بن المعلّى الأزدي النحوي اللغوي (وجمعه قبل حوالي نصف قرن أحمد عيسى بك) نذكر منها مثالاً واحداً هو ما قالته أم الفضل بنت الحارثة الهلالية وهي ترقّص ابنها:
ثكلتُ نفسي وثكلت بكري إن لم يسُدْ فهراً وغير فهر
وفي العصور الحديثة لم يظهر شعر الأطفال إلا في وقت متأخر. ومن أبرز شعراء الطفولة المعاصرين سليمان العيسى الذي قدم مجموعة شعرية للأطفال من عشرة أجزاء، فضلاً عن عطاءاته الأخرى.
على أن الثقافة التي تقدمها الأسرة (والتي تقدمها الأم بوجه خاص) لا تقتصر على الأدب والشعر والفنون الجميلة، وكل ما من شأنه تفتيح آفاق الخيال وشحذ «الذكاء المجانف Divergent» بل تمتد لتشمل سائر جوانب النمو الفكري والانفعالي والحسي والجمالي لدى الطفل، وعليها أن تعنى عناية خاصة ببناء القيم الثقافية القومية والإنسانية وبتعليم اللغة العربية منذ طور مبكر.
6- والحديث عن دور المرأة في تربية الطفل حديث يطول، لا مجال للتفصيل فيه.
وهذا الدور – كما سبق أن ذكرنا – يتم في المنزل ورياض الأطفال ومؤسسات الرعاية الاجتماعية ومؤسسات التعليم المختلفة في سائر مراحل التعليم. وهو يبيّن أهمية الاهتمام بالأمهات (والآباء) من أجل الاضطلاع بدورهن الأساسي في رعاية الطفل منذ الولادة (بل قبل الولادة كما تبين بعض الدراسات الحديثة المتصلة بعلم نفس الجنين The Psychology of the unborn child ).
7- إن كل ما قلناه يؤكد أهمية مرحلة الطفولة المبكرة ويؤكد دور الأم الرائد فيها. غير أن الواقع العربي يكشف عن أن الاهتمام بهذا الشأن ما يزال مقصراً عن مداه، ولم تحظ مرحلة الطفولة المبكرة ومرحلة ما قبل التعليم الابتدائي بما تستحقه من رعاية معظم الدول العربية.
يشهد على ذلك أن نسبة رياض الأطفال الحكومية إلى رياض الأطفال الخاصة ما تزال ضعيفة بل معدومة في أكثر من بلد عربي.
يضاف إلى هذا أن معدلات الانتساب إلى رياض الأطفال الخاصة والحكومية لدى فئة العمر المقابلة ما تزال متدنية في معظم هذه البلدان، ويبلغ متوسطها في جملة الوطن العربي حوالي 24%.
8- ومن حسن الطالع ظهور عدد من المؤسسات العربية الهامة التي تعنى بشؤون الطفولة وبدور المرأة فيها:
– ومن أهمها «المجلس العربي للطفولة» الذي قام ويقوم بنشاطات واسعة وهامة في هذا المجال، (منذ نشأته حتى اليوم). من أبرزها الندوة العلمية التي أقامها في مقره بالقاهرة بين 3-6 تموز/يوليو عام 1989 حول واقع رياض الأطفال ومستقبلها في الوطن العربي. وقد عنيت تلك الندوة عناية خاصة بتأهيل مربيات رياض الأطفال، فضلاً عن برامج رياض الأطفال.
– ومن هذه المؤسسات الهامة التي عنيت بالأطفال وتربيتهم «الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية» التي قامت بجهود موصولة في ميدان رعاية الطفل وتنميته، عن طريق اللجوء إلى أنماط متعددة من النشاطات، على رأسها إصدار مجلة «الطفولة العربية» والاستعانة بوسائل الإعلام الحديثة (وعلى رأسها التلفاز).
وإلى جانب هذه المؤسسات الإقليمية الكبرى التي تعنى بالطفل وبدور المرأة في تربيته، هنالك مؤسسات كثيرة في معظم البلدان العربية تعنى بشكل أو بآخر بتقديم العون والتدريب للآباء والأمهات في مجال تربية الأطفال. على أن هذه المؤسسات ما تزال مقصرة عن الشأو المطلوب كماً وكيفاً.
9- على أن لتربية المرأة العربية دوراً خاصاً في تربية الأطفال ينبغي أن تتريث عنده، ونعني به دورها في التصدي لبعض المشكلات الاجتماعية القاسية التي يعاني منها الأطفال، وعلى رأسها مشكلتان: مشكلة اشتغال الأطفال (أو عمالة الأطفال) الذين هم دون الخامسة عشرة من العمر ودون سن الإلزام بوجه عام (ولاسيما الفتيات منهم) ومشكلة «أطفال الشوارع».
– أما الأولى فشائعة في معظم البلدان العربية كما نعلم على نحوٍ متفاوت. وتشير التقديرات إلى وجود عدد يتراوح ما بين تسعة ملايين وعشرة ملايين طفل عربي يعملون في مجتمعاتهم في ظروف بالغة القسوة.
وقد أولى «المجلس العربي للطفولة والتنمية» هذا الموضوع قدراً كبيراً من عنايته، وقام بمحاولة لوضع استراتيجية عربية لمواجهة هذه الظاهرة ومعالجتها، بالتعاون مع بعض الهيئات والمؤسسات الدولية، ولاسيما البرنامج الدولي للقضاء على ظاهرة تشغيل الأطفال (الإيبك Ipec) ومنظمة العمل الدولية ومركز التدريب الدولي في «تورنتو».
وغني عن البيان أن المرأة تستطيع أن تلعب درواً هاماً في هذا المجال، وأن برامج تربية المرأة ينبغي أن تعيره اهتماماً خاصاً، وأن على مؤسسات رعاية الطفولة أن تسهم إسهاماً فعالاً في معالجته.
– هذا عن المشكلة الأولى التي يعاني منها الأطفال في البلاد العربية. أما المشكلة الثانية – نعني مشكلة «أطفال الشوارع» – فأفدح خطراً: إذ تشير التقديرات إلى أن هنالك في العالم اليوم أكثر من ثلاثين مليوناً من أطفال الشوارع، ينتشرون في المدن الكبيرة بوجه خاص (كما نجد مثلاً في القاهرة وفي ريو دي جانيرو وسواها). وهم أطفال محرومون من الحب والرعاية، وكثيراً ما يحترفون الجريمة أو البغاء.
أما أسباب المشكلة فعديدة: منها النمو السريع للمدن الحديثة، ومنها التحول من الأسر كبيرة الحجم إلى الأسر الصغيرة (النووية كما يقال)، ومنها الفقر المدقع، وأهمها الافتقار إلى عطف الوالدين. ويكوّن هؤلاء الأطفال في معظم الأحيان عصابات ويعيشون على هامش حياة الكبار.
أما وسائل علاج هذه الظاهرة فلا يتسع المجال للحديث عنها، وهي ترتدّ في خاتمة المطاف غالباً إلى الحيلولة دون تفكك الأسرة. ولا شك أن تربية المرأة ينبغي أن تلتفت إلى هذا الجانب وأن تحاول علاجه من خلال معالجة أوضاع الأسرة بوجه عام، ومن خلال توفير جوانب النمو النفسي الاجتماعي السليم اللازمة للطفل منذ نعومة الأظفار. فالوقاية خيرٌ دوماً من العلاج.
المحور الثالث
بيانات وإحصاءات خاطفة حول واقع تعليم المرأة في الوطن العربي:
1- إذا نحن نظرنا نظرة خاطفة إلى واقع التعليم النظامي في البلاد العربية، أمكننا أن نقول إن معدلات الانتساب إلى مراحله المختلفة (السابقة لمرحلة التعليم العالي) معدلات متباينة دون شك بين بلد وآخر، ولكنها في الجملة مقبولة (سواء اتصلت بالإناث أو بالذكور) وذلك بفضل الخطوات الواسعة التي خطاها هذا التعليم منذ منتصف القرن الماضي.
وهكذا تشير إحصاءات اليونسكو عام 1995 إلى النسب المئوية التالية في معدلات الانتساب الصافية لدى الذكور والإناث تبعاً لفئات العمر المقابلة لمراحل التعليم النظامي (وهي معدلات تقديرية وبالتالي تقريبية).
فئة العمر 6-11 12 – 17 18 – 23
الجنس ذكور إناث ذكور إناث ذكور إناث
النسبة المئوية إلى فئة العمر 83.9 71.6 59.2 47.1 24.5 16.3

ويستبين من هذا الجدول (وأرقامه كما نرى تقديرية وتقريبية بالتالي) أن معدلات انتساب الإناث إلى مراحل التعليم النظامي معدلات متقاربة إلى حد ما من معدلات انتساب الذكور.
2- ويمكننا، لتوضيح الصورة بعض الشيء أن نذكر ما أوردته وزارة التربية بالجمهورية العربية السورية عن تعليم الإناث في مراحل التعليم المختلفة في سورية، على نحو ما نجد في الخلاصة الإحصائية لعام 2000 / 2001. وفيها أن عدد الإناث أقل قليلاً من عدد الذكور في مرحلة رياض الأطفال وفي مرحلة التعليم الابتدائي الرسمي والخاص، وأنه يكاد يكون نصف عدد الذكور في مرحلة التعليم المتوسط وأن الأعداد لدى كليهما تكاد تتساوى في مرحلة التعليم الثانوي العام وفي مرحلة التعليم الثانوي المهني، وأن عدد الذكور يفوق عدد الإناث بحوالي الثلث في المعاهد المتوسطة وبحوالي النصف في دور المعلمين.
(ص 18 من كتاب وزارة التربية عام 2001).
3- أما في التعليم العالي فقد حققت البلدان العربية تسارعاً مقبولاً في النمو خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي. ومع ذلك فما يزال البون شاسعاً بين البلدان العربية والبلدان المتقدمة في ميدان انتشار التعليم العالي: ففي حين تبلغ نسبة الملتحقين بالتعليم العالي في البلدان المتقدمة بالقياس إلى فئة السن المقابلة (أي فئة 18 – 23 سنة) حوالي 42.7 % عام 1995، تبلغ هذه النسبة في البلدان العربية مجتمعة 20 % من فئة العمر المقابلة، في العام نفسه. على أن ثمة ظاهرة ملفتة للنظر في توسع التعليم العالي في البلدان العربية، لها وجهها الإيجابي ووجهها السلبي معاً، وهي تزايد عدد الإناث في التعليم العالي في بعض البلدان العربية ولاسيما في بعض الاختصاصات، بحيث أصبح عددهن في بعض الجامعات يفوق عدد الذكور.
4- غير أن المشكلة الأساسية – ولاسيما فيما يتصل بتعليم المرأة – تكمن في واقع الأمية في البلاد العربية، وهو واقع يكشف عن شيوع الأمية فيه ولاسيما لدى النساء (وإلى حد كبير بسبب أمية النساء).
وعلى الرغم من أن البلدان العربية شهدت تقدماً ملموساً في القضاء على الأمية (بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة) لدى البالغين (الذين يتجاوز عمرهم عشر سنوات)، بحيث انخفض معدل الأمية لديهم من حوالي 60% عام 1980 إلى حوالي 43% في منتصف التسعينيات (كما تدل على ذلك إحصاءات اليونسكو) فإن معدلات الأمية هذه في الوطن العربي ما تزال أعلى من المتوسط الدولي، بل ما تزال أعلى من متوسطها في البلدان النامية. فضلاً عن ذلك فإن عدد الأميين في البلاد العربية ما يزال في ازدياد، بحيث تدخل هذه البلدان القرن الحادي والعشرين مثقلة بحوالي (60) ستين مليون بالغ أمي، معظمهم من النساء.
وهذا يعني أن منابع الأمية (في التعليم الابتدائي) لم تسدّ بعد، على الرغم من القوانين التي تنص على إلزامية هذا التعليم في البلاد العربية. الأمر الذي يفرض – إلى جانب تطبيق هذه القوانين – القضاء على عوامل الرسوب والتسرب بوجه خاص (وهذا يعني فيما يعني تجويد العملية التعليمية بحيث يصبح النجاح في المدرسة نتيجة لنجاح المدرسة نفسها في مهمتها، بالإضافة إلى التدابير الأخرى التي تربط المدرسة بالمجتمع وتعمل على تغيير مواقف الآباء والأمهات بشكل خاص، لا سيما فيما يتصل بدور الفتاة في خدمة المنزل).

5- وقد كان بودنا – لولا ضيق المجال – أن نقدم بعض البيانات التي تعكس واقع المرأة في التعليم (وهو واقع يطرح مشكلات عديدة). وحسبنا أن نعدّد عابرين أمهات هذه المشكلات:
تباين تعليم الإناث بين الريف والحضر وتبعاً لمكان الإقامة وتبعاً للمناطق – تدني نسبة القيد الصافية للبنات في التعليم الابتدائي والمتوسط (التعليم الإلزامي) – ارتفاع معدلات التسرب لدى الإناث – تراجع معدلات قيد الإناث في المرحلة الإعدادية – تدني نسبة الإناث في بعض فروع التعليم العالي (كالفروع الهندسية).

المحور الرابع:
خاتمة:
1- لقد أجمعت الدراسات وأجمع حصاد المؤتمرات والندوات العالمية الكثيرة التي عقدت حول المرأة على حقيقة بدهية وهي أن وضع النساء في أي مجتمع هو المقياس الواضح لمدى تقدم هذا المجتمع ونموه. وأجمعت تلك الدراسات والمؤتمرات في الوقت نفسه على أن مدى تعليم المرأة في أي مجتمع هو أفصح تعبير عن وضع النساء فيه. ومن هنا كانت العلاقة بين تربية المرأة وبين تنمية المجتمع علاقة عضوية لا جدال فيها.
2- وينعكس الخلل في تنمية المجتمع، بسبب القصور في تربية المرأة، في مظاهر أساسية أشرنا إليها إشارات عابرة في هذه الكلمة، أهمها:
– تزايد معدلات الخصوبة وما يلحق به من زيادة سكانية كبيرة. وهذا التزايد هو في نظر بعض الباحثين العقبة الكأداء التي تحول بين الدول السائرة في طريق النمو وبين تحقيق ما ترجو من نمو، ولاسيما في انطلاقتها الأولى نحو التقدم.
– التخلف في مجالات الصحة والتغذية، وزيادة معدلات وفيات الأمهات والرضّع.
– الحيلولة بين الأطفال وبين أن تتفتح كامل إمكاناتهم وطاقاتهم، بله أن يحققوا للمجتمع ما يرجوه منهم من إبداع وتجديد وتطوير.
– ذيوع البطالة لدى المرأة وضعف إسهامها في قوة العمل.
– ضعف مشاركة المرأة في المراكز القيادية ولاسيما الاقتصادية، وضعف مشاركتها بوجه خاص في مواقع اتخاذ القرارات السياسية (سواءً في السلطة التشريعية أو في السلطة التنفيذية أو في المجالس المحلية أو في الأحزاب السياسية) أو في الوظائف الحكومية القيادية والإشرافية، أو في العمل الدبلوماسي، الخ..
– تأنيث الفقر – إن صحّ التعبير – فالفقر ظاهرة تعاني منها المرأة أكثر من سواها.
– ذيوع ظاهرة العنف ضد المرأة بشتى أشكاله (الاعتداء الجسدي أو المعنوي وسائر أشكال السلوك التي تحرمها من ممارسة حقوقها ومن تحقيق وجودها على النحو المطلوب) وأبرز أشكال العنف، العنف الأسري والمجتمعي الموجه ضد الطفلة الأنثى.
– إحجام الإناث عن المشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية.
– الخ…

3- غير أن علينا ألا ننسى أننا في عصر الثورات الكبرى.. الثورة العلمية التقانية، والثورة في عالم الاقتصاد والمال، والثورة البيولوجية والجينية، والثورة في عالم الاتصال والمعلومات، والثورة في عالم المعرفة. وفوق هذا وذاك نحن في عصر العولمة بما لها وما عليها. ونحن في عصر التغير السريع المذهل، في عصر لا نكاد نعرفه، وأمام مستقبل نجهل معالمه إلى حد كبير وليس في وسعنا صياغته كما نريد.
ومن هنا فإن التربية التي ينبغي أن نقدمها للمرأة من أجلها ومن أجل تعزيز دورها التنموي، لابد أن تكون في عصرنا هذا تربية من طراز جديد.
إن المعارف والمعلومات في هذا العصر القلّب المتحول تتغير كلمح البصر. ويبيّن تقرير نشرته جامعة MIT الأمريكية، أن المعلومات الآن تتضاعف خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و24 شهراً. غير أن هذه الفترة سوف تتضاءل في نهاية العقد الأول من القرن الحالي إلى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع!
ومن هنا حق للكاتب الشهير «توفلر A. Toffler» أن يقول في كتابه الأخير عن «تحول السلطة»: إن الأميين في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، بل هم أولئك الذين لا يعرفون التعلّم ثم نسيان ما تعلّموه ثم التعلّم من جديد.
– ولذا كان أهم شعار من شعارات التربية، في عصر حُوَّل قُلَّب ومن أجل المستقبل، هو شعار «التعلم الذاتي Self Learning» فالطفل – أنثى كان أو ذكراً – ينبغي أن نجعله قادراً على أن يعلّم نفسه ويجدد تعليمه دوماً وأبداً، بفضل ما نقدمه له من أدوات المعرفة وما ندربه عليه من وسائلها. وقد غدا هذا الشعار ميسَّر التحقيق إلى حد بعيد بفضل انتشار تقنية المعلومات بأشكالها المختلفة، وعلى رأسها الأنترنيت.
بل إن التربية المرجوة في عصر التحول، لا تعنى فقط بأن يمتلك المتعلم أدوات المعرفة ومهاراتها، بل تعنى أيضاً عناية خاصة بتكوين المواقف والاتجاهات الفكرية والنفسية التي تجعله قادراً على التعايش مع أي تغيّر، بل على إبداع التغير.
– وعلى رأس هذه الاتجاهات التي ينبغي أن تعنى بها التربية الاتجاهات الفكرية والنفسية اللازمة للنجاح في سوق العمل المتغيرة (كروح العمل المشترك، والتضامن، وإتقان العمل، والاستجابة المبدعة للمواقف الجديدة)، فضلاً عن بعض القيم الأخلاقية التي يزخر بها تراثنا، ومن بينها امتلاك «روح المسؤولية» على حد قول المفكر الألماني «هابرماسHabermas » و«روح الحوار» على حد قول المفكر الألماني «جوناس Jonas».
– لقد ذهب الزمان الذي كان يُطلب فيه إلى النظام التربوي أن يعيد إنتاج عين المجتمع الذي أنتجه، على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي «بورديو Bourdieu»، ونظام التربية مدعو في عصر التغير القلق إلى استباق أي طارئ والإعداد لمواجهته، عن طريق تكوين أناس قادرين إلى حد بعيد على أن يعلموا أنفسهم بأنفسهم وعلى أن يبدعوا حياتهم ومستقبلهم.
4- وتلحق بالتعلم الذاتي وتكمله «التربية الدائمة المستمرة» من المهد إلى اللحد. وهذا الشعار يكمل شعار «التعلم الذاتي» ويتفاعل معه. ويشمل هذا فيما يشمل تجديد المعرفة وفق مطالب التغير في سوق العمل، ووفق تطور المعرفة العلمية والتقانية، ووفق تطور حاجات البلد.
على أن «التربية المستمرة» تعني فوق هذا أن يعاد النظر في بنى وهياكل ومناهج أهداف مراحل التعليم النظامية المألوفة، وفي بناها وهياكلها ومناهجها، ما دامت ستكملها، تبعاً لمقتضى الحال، أنماط من التربية غير النظامية Non formal بل من التربية العفوية Informal. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إعادة النظر خاصة في المعرفة الموسوعية التي يقدمها التعليم النظامي عادة، ذلك التعليم الذي هو وريث الثورة الصناعية الأولى.
– ومن مستلزمات «التعلم الذاتي» و«التربية المستمرة» وسائر ضروب التجديد التي ينبغي أن يلجأ إليها نظام التربية تحقيق المرونة في شتى مقومات العملية التعليمية: في المناهج والطرائق والمقررات الدراسية والأبنية المدرسية، وفي سياسات القبول، وفي الامتحانات والتقويم المستمر، وفي مراحل التعليم وفروعه وأنواعه واختصاصاته، الخ…
ولا نغلو إذا قلنا في هذا المجال: إن النظام التربوي الثابت الجامد هو في طريقه إلى الزوال في عصرنا، وإن نظام التعليم التقليدي الذي قوامه الصف والسبورة والمقاعد والطلاب والمعلمون ليس نظاماً مُنْزلاً، وقد آذن بالزوال، لاسيما بعد التطور المتسارع في عالم التقنيات المعلوماتية وفي الإنترنيت بوجه خاص، وبعد ظهور أنماط متنوعة من «التعليم عن بعد».
ومن البدهي أن هذا كله يستلزم تكوين معلم من طراز جديد، وإعداده إعداداً ملائماً للأهداف الجديدة، وتدريبه تدريباً مستمراً على التقنيات والجدائد التربوية المتغيرة.
على أن المجال هنا ليس مجال التفصيل في هذا الجانب الهام من جوانب تطوير التربية في البلاد العربية، في ضوء الجدائد التي تتم في العصر وفي ضوء ما يرهص به المستقبل. والأدب التربوي حافل بالحديث عن الثورة المطلوبة في ميدان التربية، استجابة للثورات القائمة في شتى جوانب حياة العصر، وعلى رأسها ثورة الاتصالات والمعلومات، والثورة التقانية في شتى ميادين الإنتاج، وثورة العلم والمعرفة.
وحسبنا أن نقول في خاتمة هذه الكلمة إن مشكلة تربية المرأة العربية من أجل التنمية لا يجوز أن تعالج معالجة تقليدية تصطدم لا محالة بنقص الإمكانات والموارد، بل ينبغي أن تعالج معالجة حديثة في إطار الثورة العلمية التقانية والثورة المعلوماتية بوجه خاص. وههنا أيضاً – شأننا في أي مجال يشكو من نقص الموارد – لابد أن نقول إن مشكلات الكم المالية لا يقضي عليها إلا تجويد الكيف، وإن تعليم المرأة من أجل التنمية في حاجة إلى نظام تربوي شامل يتبنى شعارات «التعلّم الذاتي» و«التربية المستمرة» و«التربية المرنة»، مستعيناً بوجه خاص بوسائل المعلومات الحديثة وتقنيات الاتصال الفعالة والملائمة، التي تؤدي في آن واحد إلى تجويد العائد وتقليل الكلفة. لاسيما أن من شروط مثل هذه التربية ومن نتائجها أن تلتقي مع حاجات التنمية الشاملة، المتغيرة أيضاً والمتجددة.
والحديث ههنا ذو شجون لا تتسع له جلسات هذا المنتدى.

دمشق في 15/1/2003