أنطون المقدسي النجم الساطع الذي غاب

بوفاة أنطون المقدسي، المفكر العربي والعالمي، هوى نجمٌ ساطعٌ فريدٌ من نجوم الثقافة في الوطن العربي.
فالفقيد الكبير لم يكن فقط قمة ثقافية شامخة كسواه من القمم في دنيا العرب، بل كان «نسيج وحده» بينها، لفكره مذاق نادر متميز، ولحضوره الثقافي إشعاع أصيل فذّ.
والفقيد، فوق هذا وذاك، كان لا يعرف التفاخر والعُجب بالذات، بل كان يزداد تواضعاً أمام ما يشدأ من علم ومعرفة إنسانية، ويكاد يشعر بالعجز عن مواجهة مشكلات الإنسان العربي المتكاثرة ومشكلات الإنسان أنّى كان، في عالم حُوَّلٍ قُلَّب لا قرار له، لا نعرف عنه إلا أننا لا نعرفه.
ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إنه، لذلك كله وبحكم طبعه، كان في صراع بين الشك واليقين، فيما يقرأ من حلول وفيما يُرسَم ويَرْسم من سبل الخلاص.
إنها النزاهة، النزاهة الفكرية التي تأبى أنصاف الحقائق، ولا تقبل إلا الصادق الصّلْد منها، وتبحث عنها جادّة حائرة.
أجل، لقد كان الفقيد يجسّد يقين الحائرين وحيرة أصحاب اليقين. وتلك منزلة لا يبلغها إلا الراسخون في العلم، الذين يرون في العلم تجاوزاً للعلم، ولا يرون للمعرفة حداً إلا المزيد من المعرفة.
عرفته يوم كنت طالباً في قسم الفلسفة في صف البكالوريا الثانية بثانوية حمص عام 1941-1942. وكان يتولى تدريسنا الفلسفة، وهو شاب عائد حديثاً من فرنسة بعد أن حصل على شهادة الليسانس في الفلسفة. وكان فريداً فذاً بين سائر أساتذتنا آنذاك. وله الفضل في تعلقي بدراسة الفلسفة بعد تخرجي من الثانوية. لقد استطاع – بحيويته وأسلوب تدريسه وطريقة إلقائه – أن يحبّب إليّ الفلسفة، بل أن يُحدث انقلاباً في حياتي الفكرية كلها:
فبعد أن كنت متعلقاً بدراسة الآداب العربية والآداب الفرنسية تعلقاً نادراً، استطاع الفكر الساحر لأستاذي المقدسي أن ينتزعني بقوة وأن يجعلني من عشاق الفلسفة.
وهكذا ودّعتُ إلى حين قراءة «صبح الأعشى، والأغاني والعمدة والقلقشندي وابن عبد ربه وسواها». كما ودّعت قراءة «ستاندال» و«بالزاك» و«هوغو» و«فلوبير»، وغيرهم، وأقبلت بنهم شره على قراءة «برغسون» و«بوانكاريه» و«نيتشه» وكثير سواهم ممن كانت تضم كتبهم مكتبةُ أستاذي المقدسي بيبرود، حتى كدت أستنفد ما في تلك المكتبة.
وهكذا انعقدت صلة فكرية عميقة بين أستاذي وبيني، فكان أستاذي وصديقي منذ ذلك الحين. واشتدت هذه الصلة بعد أن نجحت في المسابقة التي أجرتها وزارة المعارف آنذاك (عام 1942) لاختيار عدد محدود من المتخصصين (لا يتجاوز الثمانية) كيما يوفدوا إلى القاهرة (بسبب تعذر إيفادهم إلى فرنسة أيام الحرب العالمية الثانية) من أجل الاختصاص في عدد محدود من الفروع، كان أحدها فرع الفلسفة الذي اخترته. وهكذا استمرت الصلة بيني وبين أستاذي، وكنت ألتقيه غالباً أثناء العطل الصيفية، بل كنت أزوره في يبرود حيث نقضي أمسيات فكرية وموسيقية (لسماع أجمل السانفوينات العالمية وسواها من موسيقى كبار الموسيقيين في الغرب).
وتوالت السنون، وكنا نلتقي دوماً في منزله أو في مكتبه بوزارة الثقافة. وفي الخمسينيات التقينا في باريس، طوال المرحلة التي تابعنا فيها الدراسة هناك.
وأهم من هذا وذاك لقاؤنا الفكري والنضالي خلال فترة طويلة، كان فيها أستاذنا – شأنه دوماً – نموذجاً يحتذى في الصدق والعطاء والتضحية والزهد بالمنصب والجاه.
كتب أنطون المقدسي غير قليل من الكتب والدراسات، وألقى القيّم من المحاضرات، وشارك في مؤتمرات وندوات عربية وعالمية، وكان في ذلك كله يعزف معزوفة واحدة: معزوفة البحث عن سبل خلاص الأمة العربية والعالم. لقد حمل على كتفيه همّ الإنسان، إن لم نقل «خطيئة الإنسان»، وأدرك أن خلاص الإنسانية لا يكون إلا عن طريق الحشد الثقافي المتنامي المتعاظم الموصول، وأن خلاص الأمة العربية، بعد عصور من الانحسار، يستلزم عملاً ثقافياً متصلاً دائباً، ويتطلب «عملاً فكرياً ميدانياً جماعياً، يستخدم وسائل البحث والتعبير كلها» ويمتد سنوات أو أجيالاً. على أن بذور القنوط والشك الممزوجة بأمل البحث عن الخلاص كانت تقفز دوماً أمام عيني القارئ.
وهذا ما نجده في كلمته العميقة التي خاطبني بها على صفحات مجلة «الأسبوع الأدبي» (ملحق العدد الخامس والعشرين – كانون الثاني 1992)، حين قال في خاتمتها:
«والحق إن علينا أن نتجاوز التفاؤل والتشاؤم، هي والانفعالات الأخرى، التي تأتي وتزول في حينها. ومن ثمَّ فإن الشعور بالموقف أرسخ من كل الانفعالات وهو الذي يملي علينا سلوكنا ومواقفنا النظرية. وشعوري الشخصي العميق هو أني أشبهُ بمن يسبح في بحر
لا قرار له. فهو يطفو على وجه الماء حيث يتنفّس، يبستم للشمس والأحياء، يضحك للبشر والأصدقاء. ثم يغمض عينيه ويواصل السباحة، فإلى متى وحتىّ متى يمهلني الموج العاتي؟ قل لي أهذا الشعور هو شعور رجل أخفق أم أنه حقيقةُ أمةٍ ترقص وهي تصارع الموت؟ على أية حال فسنواصل العمل حتى النفس الأخير من حياتنا، ونترك ما تبقّى للأجيال المقبلة ولمن خلقنا وخلق هذه الأجيال، رب العالمين».
ذلك هو أنطون المقدسي: فكر يولّد ذاته ويأكل ذاته، وإيمان يسمو عن طريق الشك إلى إيمان أرسخ، وصدق مع الذات والآخرين، ومحبة واسعة فسيحة تتسع للصديق ولسواه، وزهد وتقشف، ورهبانية من أجل العلم والحقيقة، وبحث دائب عن الخلاص وسط الأمواج العاتية، وإجلال للإبداع والمبدعين وللنضال والمناضلين.
وفوق هذا وذاك، إطلاع نادر على ما يكتب في شتى بلدان العالم وفي البلاد العربية.
لقد استمعت منذ بضع سنوات إلى محاضرة له عن المفكر والكاتب الفرنسي الشهير «أندره مالرو» دعت إليها وزارة الثقافة، في مكتبة الأسد، صعد خلالها أستاذنا المنبر وهو شبه مُقعد وارتجل حديثاً رائعاً خلال أكثر من ساعة عن حياة «مالرو» وفكره، دون أن يلجأ إلى أي نص مكتوب. وأدهشني ما ذكر من أرقام وتواريخ دقيقة دون أي عون، وخيّل إليّ، وأنا أستمع إلى تلك المحاضرة الحية الجذابة، أنني لست أمام بشر عادي، بل أمام مخلوق جُبل من الفكر والعلم والتوق إلى المعرفة.
وبعد، ماذا نذكر من صفات الفقيد وماذا ندع؟ إن مثل هذه المهمة تستلزم محاضرة أو بحثاً أو كتاباً بل كتباً.
وحسبنا في هذه العجالة أن أومأنا إلى أهم قسمات فقيدنا الغالي، آملين أن تجمع كتاباته وأن تذيع لدى الجيل الحالي والأجيال القادمة.
رحمك الله أبا ميشيل، وأحر التعازي لأفراد أسرتك الكريمة.