العولمة الوحشية صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها

أيام الأسرة – العدد /23/ – حزيران/يونيو 2002

د. عبد الله عبد الدائم في حوار مع (أيام الأسرة)

العولمة الوحشية صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها

حوار الحضارات مطلب إنساني
وعلينا أن نحدد موقفنا منه وفهمنا الحضاري له
الحوار مع عبد الله عبد الدائم لابد أن يتشعَّب بتشعب تفكيره بين الفكر الفلسفي، والسياسي، والتربوي والنفسي.
الاختيار كان صعباً، ولكن المرحلة أملت ثلاثة محاور حول الوحدة، والمشروع الصهيوني، وحوار الحضارات.
البداية كانت من “الوضع القومي الراهن”.
يقول عبد الدائم:
لا شك بأن ما ابتليت به الأمة العربية في العهود الحديثة، قلّ أن تبتلى به أمة من الأمم، والسبب واضح، وهو غرس هذا الكيان الهمجي في قلبها كالخنجر، مع كل ما يحمله من قدرة على تفتيتها ومنع تقدمها.. ومن ثم ابتلاعها جزءاً بعد آخر.. فإذا أضفنا إلى بلاء (الصهيونية) بلاء الاستعمار الذي كاد للأمة العربية وسيطر على مقدراتها منذ قرون بعيدة، توضحت لنا فداحة الأرزاء التي ابتليت بها الأمة العربية من خارجها، فعطلت قواها، ومنعت استعادتها لمجدها وإرثها الحضاري.
غير أن هذا بمجمله لا يفسر كل شئ، بل أن الأمة التي أصيبت بخنجر سواها، أصابتها من داخل عوامل وأمراض حالت بينها وبين ارتقائها وازدهارها، وحسبنا هنا أن نقول: إن الأمة العربية قصرت في إعداد العدة اللازمة لمواجهة التحديات الكبرى، والمخاطر التي أحاطت بها، تقصيراً غير جائز، ظل متراكماً ومستمراً من أيام استقلالها عن الدولة العثمانية وإلى اليوم.
كان على الأمة العربية أن تعي أن ما يحدث اليوم، كان لابد من حدوثه إذا لم تعمل بدأب متواصل من أجل تفاديه والنجاة من شروره..
لقد قامت (الصهيونية) في قلبها دون أن تعبئها التعبئة الضرورية.. بل ودون أن تعرف معرفة عميقة، حقيقة مقاصد الصهيونية، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه.. وكثيراً ما يعني: عدم الاعتراف بالصهيونية وإسرائيل لدى الدول العربية، مجرد عدم معرفتها.. إن شارون السفاح ومن قبله، اليمين المتطرف كله وعلى رأسه: بيغن، وشامير، ونتنياهو وسواهم من بناة الصهيونية، هم كما نعلم أبناء ذلك الصهيوني اليميني المتغطرس والمتوحش (جابوتنسكي) المولود عام 1880 والمتوفي عام 1940، وهو رأس هذا اليمين الصهيوني المتطرف الخبيث.. وشارون يطبق برنامجه اليوم بالحرف الواحد.
في عام 1923 كتب (جابوتنسكي) مقالة شهيرة بعنوان (الجدار الحديدي) قال فيها قولاً لا لبس فيه: إن العرب لن يتخلوا عن أرض إسرائيل المزعومة!! طوعاً ولابد لنا أن نكرههم على تركها بالقوة، وليس في المستقبل القريب ولا في المستقبل البعيد، أي أمل في أن يتخلى العرب عن أرض إسرائيل بمحض إرادتهم).

ومثل هذا القول كرره عتاة الصهاينة وخاصة نتنياهو في كتابه: (مكان تحت الشمس).. وما دام المجتمع العربي ما يزال يأمل بأن تعود إسرائيل إلى رشدها، علينا أن نذكر أن (جابوتنسكي) هذا حين قيل له: إن استعادة أرض الميعاد بالقوة والعنف ووسائل القمع كما يريد، أمر يجانب القيم والأخلاق الإنسانية، أجاب بكل بساطة: إذا كانت القضية التي تدافع عنها وتحارب من أجلها قضية مقدسة، فكل الوسائل التي يمكن أن تستخدمها لبلوغها مقدسة أيضاً!.. هذا جانب من تقصير العرب بمعرفة عدوهم، وأفدح منه تقصيرهم في إعداد العدة الضرورية لاجتناب المصير الأسوأ الذي ينتظرهم.. لقد كانوا يتلقون النكبة تلو النكبة، وكان ما يصيبهم هو ختام النكبات، وفي معظم الأحيان كان جهدهم يتوقف عند إيجاد حل لن يكون بطبيعة الحال، إلا منقوصاً بل وفاشلاً للنكبة على نحو ما تقع.. ثم يلي بعد ذلك صمت مطبق.. بل ونوم عميق!!
كيف يرى الدكتور (عبد الله عبد الدائم) المخرج؟ وعلى من تقع مسؤولية الإنقاذ؟.
طبعاً، مهما يكن شأن المجتمع الدولي، ومهما يكن خاضعاً للقوة الغالبة العظمى فيه، يظل من الصحيح أن المجتمع الدولي لن يعيد إلينا ولو جزءاً يسيراً من حقوقنا، إلا إذا تبين له أننا نملك الإرادة والقدرة والعزيمة اللازمة لتحرير أنفسنا. ومن هنا فالمسؤولية هي مسؤوليتنا جميعاً حكاماً ومحكومين، شعوباً ودولاً،.. وفي هذا المجال لابد من القول بأن مقاومة الصهيونية، ومقاومة أخطارها القائمة والقادمة، لابد وان يكون رأس الحربة فيها جماهير الشعب العربي، المؤمنة بأمتها وقيمتها وتراثها، ولكن شريطة أن تكون هذه الجماهير منظمة.. لأن الجماهير مهما يكن عطاؤها، غير قادرة على التأثير في الأحداث تأثيراً فعالاً إلا من خلال أقنية منظمة، سواء كانت حزبية أو نقابية أو مهنية أو غير ذلك..
المهم أن نؤمن بأن المعركة مستمرة، وأن نؤمن بأن النصر لنا في النهاية، وإذا نحن أحكمنا تعبئة قوانا.
والتطبيع..؟!
من المؤكد أن أكبر خطر يتهدد أمتنا هو تصميم العدو الإسرائيلي، منذ قيام كيانه الغاصب، على القضاء على الهوية الثقافية العربية الإسلامية، فهذا المطلب مطلب أساسي، بل يكاد يكون المطلب الأول الذي جعلته إسرائيل، الهم الأول لها من أجل إنهاك الكيان العربي والقضاء عليه تماماً.. من الممكن أن ينهار الكيان إلى حين عسكرياً، وقد ينهار اقتصادياً ولكنه يبقى قادراً على المقاومة والصمود إذا ظل متمسكاً بهويته العربية الإسلامية.. تلك الهوية تمثل جداراً صلباً وعصياً يحول بين الأمة العربية وبين أن تذوب في الكيان الصهيوني الخبيث. نحن ندرك بأن وسائل الإعلام الحديثة، باتت أقدر على الغزو الثقافي للامة العربية، وأقدر على اختراق الثقافة العربية بوسائلها المختلفة، ومن هنا، فمن غير الجائز أن نطمئن إلى عمق الثقافة العربية وقوتها لدى الكثرة الكاثرة من الجماهير العربية.. ولابد بالتالي أن ندرك بأننا أمام عالم جديد، ووسائل إعلامية جديدة وقادرة، وسموم ثقافية أكثر فتكاً وتخريباً وأيديولوجيات مختلفة، لابد أن تتصدى لها النخبة المثقفة في الوطن العربي، وتقاومها مقاومة علمية منظمة ومستمرة، ومن هنا كان شعار العمل لمقاومة التطبيع مع العدو، أهم شعار على المثقفين أن يتمسكوا به اليوم، ويقلبوه على وجوهه المختلفة، ولا يكفي في ذلك العمل الثقافي الفردي، بل يترتب وبسرعة إنشاء شبكة عربية واسعة ومتكاملة، هدفها مقاومة التطبيع الثقافي مقاومة يومية متواصلة بأشكال عديدة واسعة ومتكاملة، ولا شك أن ميدان المقاومة واسع جداً.. وبالذات إذا أخذنا المعنى الواسع لكلمة ثقافة اليوم، والتي لا تعني الفنون والآداب والأفكار وحسب، بل تعني كل أنماط السلوك المادي والمعنوي، السائدة في مجتمع من المجتمعات، والتي تميزه عن سواه، والتي تكون في نهاية المطاف قوام الهوية الثقافية لأمة من الأمم.
والوحدة أما زالت ممكنة؟.
من الخطأ أن نعتقد بأن العولمة تعني حتماً وحكماً زوال الكيانات القومية، والاتجاهات التي نجدها في العالم اليوم، ويتحدث بعضهم أو يدعي أن الكيانات القومية لابد أن تزول في عصر العولمة.. في حين يرى بعضهم الآخر – على العكس – أن العولمة ستؤدي إلى احتماء الكيانات القومية المختلفة بجلداتها وكيانها تجنباً لمخاطر العولمة، ويصدق هذا بوجه خاص على البلدان النامية، ونحن نعتقد بأنه ليس هناك أي شئ في العولمة – إذا فهمناها بالمعنى الصحيح – يدعو حكماً وحتماً إلى زوال الكيانات القومية، بل نحن نرى بأم أعيننا من اليوم، أن كثيراً من الدول، بينها دول متقدمة، أخذت تؤمن بأهمية الكيانات القومية المتجانسة، كما نرى في أوروبا والاتحاد الأوروبي، وكما نجد في آسيا واتحاد دول الباسيفيك، ودول أمريكا اللاتينية، وإن اتخذت الكيانات القومية هناك شكلاً أوسع.. وقد سئل الرئيس (ميتران) عندما كان متوجهاً إلى (مايسترش) للتوقيع على دستور الوحدة الأوروبية: ما سر تأكيدك لأهمية الوحدة الأوروبية، وما الدافع لقولك: فرنسا وطني، ولكن أوروبا مستقبلي؟. فأجاب بقوله: ولكن ما البديل؟.. هل البديل هو العودة إلى صراعات القرن التاسع عشر؟.

هوية العربي الثقافية هي سورهم المنيع، وإلغاؤها هدف الصهيونية الأول
شارون يطبق، بحرفية، مشروع الصهيوني البغيض جابوتنسكي
تجربة أوروبا أكدت أهمية التمسك بالكيان القومي
الدولة القطرية عاجزة عن التقدم والتنمية والأمن

ومنذ قرون أيضاً كتب (ماديسون) أحد رواد الاتحاد في الولايات المتحدة، يوم كانت ثلاث عشرة ولاية، مدافعاً عن أهمية هذه الولايات: (كل من يظن أن الجوار بين الأمم يخلق الوئام
لا الخصام، إنسان جاهل بحقائق التاريخ) وقد أراد بهذا التعبير أن يوضح للأمريكيين في ذلك، أن يختاروا بين ولايات ثلاث عشرة تتخاصم وتتنازع ويحكمها الأجنبي المستعمر من وراء البحار، من أسبان وإنكليز وسواهم، وبين ولايات يجمعها دستور اتحادي، وينظم العلاقات فيما بينها.. وخيرها وقتها بين التمزق وبين الهيبة. ونحن هنا في وطننا العربي، نستطيع أن نقول كما قال ميتران ما البديل عن الوحدة العربية؟.. إن الذين يشككون بالوحدة العربية هم أنفسهم يقرون ويعترفون بأن الدولة القطرية عاجزة عن التقدم والتنمية والأمن، ولا نقول جديداً حين نؤكد بأن أي دولة عربية عاجزة وحدها عن أن تبني مستقبلاً آمناً في وجه إسرائيل بوجه خاص، وأن تحقق التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وسائر ضروب التنمية، وان توفر الطمأنينة والأمن لمواطنيها، وأنا أرى أن هنالك مغالطة أو سوء فهم لدى الذين ينظرون إلى واقع الأقطار العربية المجزأ، ويستخلصون منه تعذر قيام الوحدة بينها، وذلك لأن هذا الواقع المجزأ بل والمتخاصم أحياناً – مع الأسف – والعاجز عن أن يقف في وجه إسرائيل، والعاجز عن التنمية.. هو نتيجة طبيعية لغياب الوحدة، وليس مبرراً يبرر تعذر قيامها، فصورة الدول العربية إذا لم تصهرها قوة الوحدة هي بالضرورة ما نرى وما نشهد.
راهنت في واحدة من مؤلفاتك على اندحار المشروع الصهيوني.. فعلام بنيت هذا الرأي؟.
لم أراهن تماماً على اندحار المشروع الصهيوني.. ما قلته بأن هذا المشروع فيه كل عوامل وأمراض التفتت والصراع، ومن الممكن بالتالي الإفادة من هذه الأمراض، من أجل حشد القوى العربية لمواجهته، وبتعبير آخر، هنالك أمم كثيرة ابتليت بالصراع الداخلي، والتفتت من داخلها، وتمزق هويتها، على ما نشهد في إسرائيل اليوم، ومع ذلك استطاعت أن تبقى حين لم تتوافر قوة خارجية تقضي عليها، ومعنى هذا أن الدرس الذي يمكن أن نستخلصه مما نشهد في إسرائيل من صراع وفقدان للتجانس ومشكلات في تحديد الهوية، ومشكلات في تحديد القصد من كلمة يهودي.. الخ، هي أمراض تضعف الكيان الغاصب ولا شك، ولكنه لن يزول إلا إذا واجه قوة خارجية، وها هنا عربية، تفيد من هزال بنيته من أجل القضاء عليه.
العرب والعالم وحوار الحضارات. كيف ومن أين؟!.
نحن في حاجة للحديث عن حوار الحضارات لهدفين: الأول هو: نحن.. علينا نحن أولاً، أن نحدد موقفنا وفهمنا الحضاري لحوار الحضارات بشكل دقيق وسليم. أقول هذا لأن الحضارات العربية الإسلامية قامت على أساس حوار الحضارات، بل على أساس تمازج الثقافات، ولكن عهود التخلف التي مرت بها الأمة العربية من ناحية، وموقف الغرب المعادي للأمة العربية من ناحية أخرى، جعل أبناء أمتنا ينطوون على أنفسهم ويخشون من حوار الحضارات، خوفاً من أن تعني ابتلاع الآخرين لهم، ويؤثرون على ذلك ضرباً من النزعة التي يسميها (توينبي): (النزعة الزيلوتية) وتعني: الانطواء على الذات والاكتفاء بالذات.. بل ومحاربة كل شئ عدا الذات.
والسبب الثاني، أن العالم الغربي، الذي يحمل رواسب قرون طويلة من العداء للعرب ومن كره العرب، ومن تشويه لتاريخ العرب، أصبح في أيامنا هذه، بوجه خاص، بحاجة إلى فهم الحضارة العربية فهماً جديداً، وإلى أن يدرك منازعها الإنسانية العميقة، ونزوعها من البداية إلى الانفتاح على الثقافات كلها، والحضارات كلها والأديان كلها، كما حدث في أيام الدولة الأموية، والعباسية، وفي الأندلس بشكل خاص.
وموضوع الربط المغلوط الذي يربط به بعض أبناء الغرب بين الإسلام والإرهاب، لا بد أن يتولى النقاش حوله، وتوضيحه من قبل أبناء الحضارة العربية أنفسهم قبل غيرهم.. لست في حاجة لذكر أمثلة، كتابي فيه أمثلة كثيرة على المنازع الإنسانية للحضارة العربية، سواء في النصوص الدينية أو سواها، أو في الممارسات العملية.. ثم يضاف إلى هذا أن موضوع (حوار الحضارات) أصبح مطلباً إنسانياً شاملاً، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، فقد بينت الأحداث أن العولمة الوحشية لا تؤدي فقط إلى إفقار الدول النامية، تاركة الدول المتقدمة تنعم بخيراتها وثرواتها.. بل أن هذه العولمة صارت خطراً على الدول المتقدمة نفسها وفي عقر دارها، واحد وسائل بناء عولمة سليمة لا عدوان فيها من أمة على أمة، ولا بد أن يكون بالتالي: حوار الحضارات.
تحضرني هنا كلمة لمفكر غربي ترتبط بالحوار، وبما يمكن أن يؤدي إليه انعدام الحوار من عنف، فيقول، وهذا القول يلخص في نظري الموقف العالمي كله، (لا تستطيع دولة قامت على العنف، واستطاعت أن تستمر عن طريق العنف، أن تتخلص من العنف الذي يتهددها إلا إذا تخلت هي عن العنف..).
والحوار بين الحضارات بغير شك، هو عمل كل إنسان والمثقفين بشكل خاص. ولكن في الظروف الحالية لابد وأن تكون له مؤسساته التي تخاطب العرب وغير العرب، والتي تنتظم المثقفين بشكل خاص.