أدعو إلى بناء الحداثة من خلال التراث

من أبرز أعلام عصره، حصل على «ليسانس» الفلسفة من جامعة فؤاد الأول عام 1946 ونال درجة دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة السوربون بباريس عام 1956. وصل عدد مؤلفاته المطبوعة إلى أكثر من 40 مؤلفاً في ميدان الفكر القومي والأبحاث التربوية. من أحدث كتبه القومية « في سبيل ثقافة عربية ذاتية»، «القومية العربية والنظام العالمي الجديد»، «إسرائيل وهويتها الممزقة»، «دور التربية والثقافة في بناء حضارة إنسانية جديدة»، «صراع اليهودية مع القومية الصهيونية»، وصدر له حديثاً كتاب «العرب والعالم وحوار الحضارات» عن دار طلاس بدمشق.
الدكتور عبد الله عبد الدائم: أدعو إلى بناء الحداثة من خلال التراث
حلم إسرائيل القديم والدائم هو التطبيع الثقافي
الإعلام العربي مقصر في الاتصال بالإعلام الأجنبي
تعدد الثقافات القطرية والتحديات التي تواجه الثقافة القومية من المواضيع المطروحة والشائكة. كيف يقرأ الدكتور عبد الدائم هذه القضية؟
ليس هناك تعارض أو تضارب بين الثقافات القطرية في الوطن العربي، بل هنالك ثقافة عربية واحدة تجمعها، قوامها التراث المشترك من الصلات المادية والروحية التي اغتنت عبر الزمن، وكونت مشاعر الانتماء الموحد والتضامن والمصير الواحد، والهوية الواحدة.
ولا شك أن اللغة العربية والتاريخ العربي والقيم الدينية والحضارة العربية (سواء كانت أدبية أو فكرية أو فنية أو علمية) فضلاً عن الشعور بالمصير الواحد، هي من أهم عناصر تلك الثقافة العربية الجامعة ولا نغالي إذا قلنا أنه ما اجتمع لأمة من مقومات الوحدة الثقافية مثل ما اجتمع للأمة العربية.
وطبيعي بعد ذلك أن تكون هنالك بعض السمات الثقافية التي تختلف من قطر عربي إلى آخر (وهذا شأن أي ثقافة في أي بلد من بلدان العالم).
ولكن هذه السمات القطرية لا تعدو أن تكون ألحاناً تغذي السمفونية وتغنيها.
وطبيعي كذلك أن تكون في كل قطر عربي ثقافات محلية، تغذي بدورها الثقافة القطرية والثقافة القومية الجامعة بالتالي. وبتعبير موجز في الوطن العربي تنوع خصيب في الثقافات لا يتجاوز إطار الثقافة القومية الجامعة، بل يغنيها ويتفاعل معها تفاعلاً خصيباً.
– تحدثت عن الهوية الثقافية العربية، كيف تقرأ مصير هذه الهوية في ظل العولمة أو الغزو الثقافي المستمر الذي تتعرض له أمتنا العربية؟
العولمة نتيجة طبيعية للثورات الكبرى في عصرنا، وعلى رأسها ثورة المعلومات والاتصالات وثورة المال. وقد تكون العولمة أسوا حظوظ الإنسان وقد تكون أحسنها، وذلك رهن بما نضعه فيها وبما نرسمه لها من أهداف ووسائل. ولا شك أن العولمة، على نحو ما شاعت وذاعت حتى الآن، ما تزال بعيدة عن أن تكون في خدمة الإنسانية بل هي في واقع حالها ضد الأهداف الإنسانية الحقة (ولا سيما حين تترك القيادة فيها للمال وللسوق الحرة). ومن هنا شاع على الألسن – في العالم المتقدم والنامي – وصفها بأنها عولمة وحشية تعتبر العالم كله سلعة للبيع والشراء، على حد قول المناضل الفرنسي «جوزي بوفيه»، في كتابه «العالم ليس سلعة».
ولا شك أن الهويات الثقافية في العالم غدت مهددة بنتائج هذه العولمة الوحشية. والواقع يشير إلى أن الدول القومية مخيرة أمام انتشار هذه العولمة بين أن تذوب ثقافاتها القومية وتتبنى بالتالي ثقافة الأقوى (تعني الثقافة الأمريكية) وبين أن تحتمي بجلدتها خوفاً من الذوبان ومقاومة العدوان على الهويات الثقافية الذي تفرضه العولمة الوحشية، وهو ما غدا مطلباً تناضل من أجله كثير من الدول المتقدمة ومعظم البلدان النامية. ولا أدل على ذلك من رفض فرنسا إدخال الصناعات الثقافية في إطار اتفاق التجارة العالمية (الغات).
– إلى أي حد وصل تأثير الغزو الثقافي في الثقافة العربية من وجهة نظرك؟
– لا بد أن ننكر أن الغزو الثقافي للبلاد العربية أخذ مجراه في السنوات الأخيرة، وإن ظلت آثاره محدودة حتى الآن. وتزداد أخطار هذا الغزو مع انتشار وسائل الإعلام الحديثة، وعلى رأسها الفضائيات.
على أن أخطر أشكال هذا الغزو الثقافي هو الذي تغذيه إسرائيل والصهيونية والذي يعرف باسم التطبيع الثقافي. هذا التطبيع الثقافي مع البلاد العربية هدف أساسي من أهداف إسرائيل منذ ولدت. فهي تدرك أن المقام لن يطيب لها في قلب الوجود العربي ما دام جدار الثقافة العربية والإسلامية جداراً منيعاً يحول دون تحقيق سائر أشكال التطبيع الأخرى، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية. على أن رفض التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، ورفض الغزو الثقافي الغربي للبلاد العربية، لا يعنيان رفض الحضارة الغربية ورفض مستجداتها الفكرية والعلمية والتقانية. ولا بد للبلاد العربية أن تدخل التحديث من أوسع أبوابه، ولكن التحديث لا يعني في نظرنا «التغريب» أي مجرد تقليد التجربة الغربية. والتحديث الخصيب هو ذلك الذي يولد من داخل التراث الثقافي العربي ومن تفاعل هذا التراث مع تجربة العصر على نحو ما حدث في اليابان وما يحدث اليوم في الصين ودول شرقي آسيا وسواها. إنه التحديث الذي يولد من رحم تجديد التراث وتفاعله مع معطيات العصر ومطالب المستقبل. وبتعبير آخر، نحن نرفض مواقف من يدعوهم المؤرخ «توينبي» باسم «الزيلوتيين» (أي الذين يلجؤون إلى الاحتماء بالمألوف خوفاً من المجهول)، كما نرفض في الوقت نفسه موقف من يدعوهم «توينبي» باسم «الهيرودوسيين» (أي الذين يقلدون الثقافة الغربية ويقتدون بها، مهملين ثقافتهم الخاصة) وننادي بالتالي بتوليد ثقافة حديثة من قلب التراث نفسه، وندعو إلى بناء الحداثة من خلال ذلك التراث. فمن خلال الحوار بين الأنا والآخر ينبغي بناء الثقافات العالمية.
– أين دور الإعلام في هذه المرحلة، وما هي مقومات توحيد الخطاب الإعلامي العربي؟
– أهم ما يستطيع أن يضطلع به الإعلام العربي في مجال تحديث الثقافة العربية، أن يوجه عناية خاصة إلى تاريخ الحضارة العربية، وإلى مقومات الهوية الثقافية العربية المشتركة، وبوجه خاص إلى بيان دور قيم الثقافة العربية الإسلامية في معالجة المشكلات الواقعية التي يعاني منها الوجود العربي. ففي التراث العربي الإسلامي قيم منسية غالباً، أو لا تعطى الأهمية الكافية، تتناول جوانب حيوية هامة من شأنها أن تؤدي إلى تنمية المجتمع العربي اقتصادياً واجتماعياً وعلمياً، وأن تحفز أبناء هذا التراث على توفير حاجات أمتهم من المأكل والمشرب والملبس والصناعات المختلفة، على حد قول الإمام الشاطبي الأندلسي وكثير من أئمة الفقه.
وهذه القيم لم يتم جلاؤها جلاءً كاملاً، على الرغم من أنها تتصدى تصدياً إيجابياً وفعالاً لمعالجة مسائل الحفاظ على البيئة مثلاً، كما أنها تؤكد في أصول الدين من تأكيد على أهمية توفير ما يحتاج إليه أي بلد من الصناعات والتقانات الحديثة، وسوى ذلك كثير.
وبتعبير موجز، من أهم أهداف الإعلام العربي في نظرنا أن يبرز في التراث من قيم الحداثة وأن يعمل على بيان الصلة العضوية التي ينبغي أن تقوم بينه وبين التحديث، وأن يبين أن مهمة التحديث هي جزء لا يتجزأ من التراث.
– في كتابك «إسرائيل وهويتها الممزقة» تستبعد استمرار الكيان الإسرائيلي في المنطقة. على أي أساس تبني هذه القناعة؟
– بينت في منشورات عديدة، كما بين كثير من الباحثين، أن الكيان الإسرائيلي كيان غير متجانس، بل متنافر، وأن الصراعات فيه تشتد يوماً بعد يوم بين قبائله المختلفة على حد تعبير الصحافة الإسرائيلية نفسها:
فهنالك الصراع الاثني والثقافي بين الأشكنازيم والسافارديم. وهنالك الصراع بين المتدينين والعلمانيين، وهنالك الصراع في قلب المتدينين وبين أتباع المذاهب اليهودية الأساسية. وهناك الصراع بين المهاجرين من الاتحاد السوفييتي وبين سواهم. وهناك الصراع بين الإسرائيليين والعرب المقيمين في إسرائيل. وهنالك فئات اثنية معزولة كالفلاشا وسواهم.
وقد بينت انتخابات عام 1996 في إسرائيل أن ثمة خمسة عشر حزباً دخلوا المعركة، تتباين اتجاهاتهم وانتماءاتهم.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تعريف «اليهودي» ما يزال حتى اليوم أمراً مختلفاً فيه في إسرائيل (ولا سيما بين الأحزاب الدينية الرئيسية الثلاثة):
وهكذا لا توجدي في إسرائيل هوية واحدة، بل هويات متنافرة في كثير من الأحيان غير أن هذا لا يعني أن إسرائيل يمكن أن تسقط من تلقاء ذاتها، نتيجة لهذا التمزق، فهنالك أمم كثيرة استطاعت أن تبقى على الرغم من تمزق بنيتها الداخلية وإسرائيل تستمد بقاءها كما نعلم من التأييد غير المحدود الذي تلقاه من الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى العون المالي الكبير الذي تتلقاه من الولايات المتحدة.
– تتحدث عن التمزق في البنية الإسرائيلية، مع ذلك نجد أن القرار اليهودي العالمي موحد، على عكس القرار العربي.
– القرار اليهودي العالمي ليس موحداً تماماً، وفي داخله نزاعات، وهناك من يستنكر أعمال إسرائيل، وحتى من ينكر الصهيونية أصلاً، وهذا الموقف اليهودي العالمي يمكن أن يتغير إذا هو استيقن من أن العرب مصممون على استرجاع حقوقهم، وإذا هو أدرك أن الكيان الإسرائيلي لا يستطيع البقاء وسط كيان عربي يرفضه.
ويتجلى هذا الموقف لدى الكثير من الكتاب اليهود في العالم بعد قيام الانتفاضة الفلسطينية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما كتبه «جاك أتالي» اليهودي (المستشار السابق للرئيس ميتران) في مقال بمجلة «اكسبرس» الفرنسية عنوانه: «إلى أين تمضي إسرائيل؟».
– كيف تنظر إلى دور المثقف العربي في صراعنا مع إسرائيل، لا سيما أننا نسمع دائماً دعوات إلى التطبيع من هنا وهناك؟
– حلم إسرائيل القديم والدائم هو التطبيع الثقافي مع الأمة العربية، أو بتعبير آخر أدق، الغزو الثقافي للأمة العربية.
من هنا فإن مهمة المثقفين الأولى في هذه المرحلة أن يقوموا بجهود منظمة من أجل الحيلولة دون إحداث شروخ خطيرة في هذا الجدار الواقي، جدار الثقافة العربية الإسلامية، ومن غير الجائز أن يطمئن المثقفون إلى متانة هذا الجدار وصلابته، فوسائل الاختراق الثقافي في عصر الاتصال والمعلومات أصبحت خطيرة، تنسل دون أن يشعر بها أصحابها.
– أصدر الروائي الكولومبي «فريدر يكوغارسيا ماركيز» بياناً باسمه يندد فيه بمجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين قوبل بشبه لامبالاة إعلامية عربية لماذا؟.
– ثمة كتابات عالمية بأقلام عالمية معروفة تظهر دوماً في وسائل الإعلام الأجنبية تندد بإسرائيل. ومن الأمور الهامة أن يتم رصد هذه الكتابات وتحليلها ونشرها على أوسع نطاق ممكن. ولكن الإعلام العربي كان دوماً مقصراً في الاتصال بالإعلام الأجنبي. وهذا ما أدى إلى أن الإعلام الإسرائيلي الناجح استطاع أن يجعل ن خرافة إسرائيل «حقيقة» بينما أدى قصور الإعلام العربي إلى أن تصبح الحقيقة العربية المتصلة بفلسطين «خرافة».
واكتفي بمثال واحد لبيان مدى إهمالنا لما يكتب عن إسرائيل وجرائمها بأقلام غير العرب. كلنا سمع بفيلسوف إسرائيل «ليبوفتش» (الذي مات عام 1994 وكنا متديناً وصهيونياً)، وقد كتب بعد احتلال إسرائيل للبنان: «إن إسرائيل أصبحت بعد احتلال لبنان دولة فاشية نازية».
وما يكتب اليوم في الغرب عن شارون وجرائمه أدهى وأمر.
– أيضاً إعلان الستين مثقفاً أمريكياً بعد إعلان الحرب على ما تسميه أمريكا بالإرهاب في بادرة أمريكية لتوحيد البندقية الإيديولوجية الأمريكية متناسين المظالم التي وقعت على شعوب العالم النامي، أين مثقفونا ومفكرونا الذي غمروا مكتباتنا بنقد العقل العربي والإسلامي؟
– أذكر عندما كنت في نيجيريا سمعت أغنية للمغنية الأفريقية المشهورة بأغانيها ضد الاستعمار (ماريا مكابي) ذات اللون (الخلاسي) الفاتح تقول فيها: سرقتم كل شيء منا حتى لون جلدنا.
هم يتكلمون عن حقوق الإنسان واغتيال العقول ويحاربون اغتيال العقول فقط ضمن حدود جغرافية بلادهم، والأسوأ من ذلك أن وسائل الإعلام العربية تنقل الأخبار عن المنطقة العربية كما تنقلها وسائل الإعلام الغربية دون أن تكلف نفسها عناء التحقق من مصداقيتها.

حوار: آصف إبراهيم