المشروع القومي العربي بين الواقع والطموح

لم تفاجئ الحاضرين محاولاته إعلاء شأن فكرة القومية العربية، ولم يكن غريباً إبداء انزعاجه من أولئك الذين ينكرون النهج القومي..
فالمفكر الدكتور عبد الله عبد الدائم معروف بإسهاماته الكبيرة في التأكيد على البعد القومي للوصول إلى المجتمع العربي النهضوي المنشود..
وخلافاً لما يقال من أن العولمة وسواها أثرت على الفكر القومي وأثرت على الأيديولوجيات، وأننا أصبحنا في عصر لا مجال فيه للأيديولوجيات.. يجدد د. عبد الدائم تأكيده على أن فكرة القومية العربية لم تفقد شأوها أبداً، مشيراً إلى أن الأمة سابقة على القومية، أي أن مشاعر أبناء الأمة التي تؤكد انتماءهم إلى هوية واحدة هي نقطة انطلاق النظرية القومية والعمل القومي، لكن هذا العمل قد ينطلق وقد لا ينطلق لأسباب عديدة وكثيراً ما يقصر عن مداه في المجتمعات المتخلفة أو الخاضعة لمكائد الاستعمار.
البناء القومي يتطلب شعلة من الإيمان.. نوقدها
ويرى في محاضرته «الطريق إلى المشروع القومي العربي» (والتي ألقاها الأربعاء الماضي في المركز الثقافي بالمزة بالتعاون مع المركز العربي للدراسات الاستراتيجية) أن لا سبيل لنهوض وتنمية البلاد العربية، إلا سبيل العمل العربي المشترك والتضامن المشترك والطريق القومي المشترك..
ويؤكد أن جوانب ثلاثة تتضمنها الطريق إلى المشروع القومي العربي:
– الهوية القومية العربية ومقوماتها ومضمونها.
– النظرية القومية التي تضع أسس الكيان القومي المطلوب، وأهدافه، وأبعاده.
– الطريق التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق ذلك الكيان، والأساليب التي يجدر اتباعها.
* فكيف ينظر د. الدائم إلى هذه الركائز الأساسية التي يستلزمها وضع هذا المشروع..؟؟
** فيما يخص مستوى الشعور بالهوية القومية الواحدة يرى الدائم أن هذا الشعور هو المعيار الأساسي لعمق الانتماء القومي لدى أمة من الأمم، وهو بالتالي ضرب من الوجود القومي لدى أمة من الأمم، وهو بالتالي ضرب من الوجود القومي «بالقوة» أو بالإمكان – على حد تعبير أرسطو – ينتظر ما يحيله إلى وجود بالفعل، على حد تعبير أرسطو أيضاً..
وهذا الانطلاق من المشاعر القومية الموجودة «بالقوة». والإمكان لدى أمة من الأمم إلى وضع أيديولوجية قومية (تكون بمثابة نظرية شاملة للبناء القومي). هو – برأي الدائم – المستوى الثاني للقومية العربية أو سواها. وهدفه أن ينقل الوجود القومي الكامن (بالقوة) إلى وجود قومي ظاهر وفعلي يتحقق في الأذهان والأعيان.
ووراء هذا القول أن الفكرة قوة، وأن أي عمل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي يهدف إلى تطوير الوجود العربي يظل تائها ضالاً، أن لم يرفده فكر واضح متكامل يضيء له الطريق. وفي المقابل فإن أي فكر يظل مجرداً وعاجزاً عن التأثير إن لم يغتن بحركة الواقع. وهذا ينقلنا إلى المستوى الثالث من مستويات العمل للمشروع القومي، وهو مستوى البحث الإجرائي الذي يرسم سبل تحقيق الأهداف القومية، على نحو ما وضعتها الأيديولوجية القومية.
ويشير د. الدائم إلى أن هذا المطلب هو أصعب مطالب العمل للفكرة القومية، فهدفه أن يرسم استراتيجية بل خططاً عملية وبرامج واضحة من أجل تحقيق الوجود القومي، وبنائه بناءً متيناً يستجيب لمطالب الحاضر العربي والمستقبل العربي ومستلزمات التطور العالمي، لكنه في الوقت نفسه هو ما تحتاجه – برأي الدائم – الأمة العربية في المرحلة الراهنة.
ولعل أهم أسباب الخلاف بين المؤمنين المتحمسين للمشروع القومي العربي وبين المشككين فيه عدم توافر صيغة عملية لهذا المشروع تبين محاوره وعناصره وأولوياته وتبين بوجه خاص سبل تحقيقه.
ويقول د. الدائم: «ليس الإيمان بالقومية العربية ودورها في بناء الكيان العربي المتقدم المنيع، هو الذي اهتز في العقود الأخيرة، وإنما اهتزت في أعين الكثيرين إمكانية إقامة ذلك البناء، وكادت سبل تحقيقه تتراءى للكثيرين وكأنها مقفلة».
وفي حديثه عن تطور الأيديولوجية القومية العربية توصل الدائم إلى أنه بعد مجيء حزب البعث جاءت حركة القوميين العرب (التي كانت تعمل في البداية أيام «العروة الوثقى» منذ مطلع الثلاثينيات تحت جناح قسطنطين زريق) وجاءت الناصرية، فتجاوزت النظرة الجزئية إلى هذا الجانب أو ذاك من جوانب بناء القومية العربية، وأعطت الفكر القومي مضمونه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتكامل والشامل. وقد يسر لها مهمتها هذه كونها خاضت معترك العمل السياسي وحققت بذلك مع الواقع العربي القائم علاقة تأثر وتأثير متبادلين. وهكذا جعلت من التحام الفكر والنضال عندها الوسيلة المثلى لنقل الوجود القومي. من وجود «بالقوة» إلى وجود بالفعل إلى حد كبير..
وقد تجلى هذا في حزب البعث بوجه خاص، حين ربط – برأي الدائم – بين «وحدة النضال ونضال الوحدة» أي حين جعل من وحدة النضال العربي الأداة المثلى لتحقيق الوحدة.
وتعليقاً على ما جاء به أولئك المشككون بالفكرة القومية، أدلى الدائم بملاحظة واحدة، وهي أن ما نشهد من تردي الوجود العربي، ومن ضعف الترابط القومي، ومن سيطرة القوى الصهيونية والأمريكية على المنطقة العربية، إنما هو نتيجة لغياب المدّ القومي العربي وليس برهاناً على ضعف الهوية القومية العربية.
وبتعبير آخر، إن صورة البلاد العربية كما نشهدها اليوم مرآة واضحة تعكس ما يمكن أن يكون عليه الوجود العربي حين تغيب لحمته الأساسية: (أي التكافل والتكامل والوحدة بين أجزائه الممزقة) إنها برهان بالخلف على أهمية العمل العربي الموحد.
وعلى عكس ما يظن بعض المجددين القوميين وسواهم يرى د. عبد الله عبد الدائم، أن العولمة تبدو في صيغتها الحالية عدواناً على الهويات الثقافية وتهديداً للكيانات القومية المستندة إلى تلك الهويات، وأن الاتجاه القومي بمثابة درع حصينة تقي الأمة العربية من مخاطر تهديم كياناتها الثقافية التي تكوّن – في خاتمة المطاف – الجدار الصلد الذي يحميها من الصهيونية وأنصارها..
كما أن الدعوة القومية العربية الحديثة (منذ الأربعينيات من القرن الماضي) انطلقت من احترام القوميات الأخرى واحترام مشاعرها القومية ورأت أن القومية تظل ناقصة ومقصرة عن مداها إذا لم تلتحم برسالتها الإنسانية، ومن هنا كان قوام تصورها لمستقبل العالم قيام هذا المستقبل على أساس «التعاون الحر بين أمم حرة».
والإنسانية عندها، كما جاء في دستور حزب البعث العربي «مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته» فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغدونها، ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسمو في الخلق والروح. أما العولمة، وهي منزع ما يزال في طريقه إلى التكوين، فليس من المحتم أن تكون مناقضة للقومية، بل إن آفاق التطور العالمي تومئ يوماً بعد يوم إلى حتمية ولادة عولمة قوامها الدول القومية، مادامت الدولة القومية هي التي تملك وحدها الشرطين الأساسيين واللازمين لحياة المجتمعات (ويعني د. الدائم الهوية والشرعية)، وهما شرطان لا يتوافران – برأيه – فيما يتجاوز القومية من بنى».
وهذا ما يفسر لنا ما تلجأ إليه العولمة حتى الآن من فتح المعابر أمام رؤوس الأموال وحدها وإغلاقها أمام العناصر البشرية وانتقال الأيدي العاملة.
وفي ختام محاضرته توصل د. عبد الله عبد الدائم إلى أنه من الضروري أولاً ألا تتعارض أهداف البناء القطري مع أحداث البناء القومي – وثانياً: يجب الأخذ بمبدأ التوحيد التدريجي بين الأقطار العربية في شتى مجالات الحياة، من خلال رؤية شاملة. وأن تخصص – ثالثاً – كل دولة قطرية جانباً من جهودها ومن الإمكانات المالية والبشرية لديها من أجل تقوية بنية العمل العربي المشترك.. كما ينبغي – رابعاً – أن تتوفر ظروف ومناخات مؤاتية لقيام وحدات فدرالية (أو كونفدرالية أو لا مركزية.. الخ) بين البلدان العربية..
وأكد أنه ينبغي ألا ننسى أن الدولة القطرية من دون العمل القومي تظل هشة، وتصبح مرتعاً للصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية إذا لم تصهر هذه الصراعات الرابطة القومية العليا. كما يجب العمل على أن يستبدل بالكيانات القطرية المصابة – برأي الدائم – بما يشبه الغزو السرطاني للكيانات المتشرذمة، كيان قومي متآزر.
وهذا يؤكد لنا أهمية النقطة السادسة التي طرحها د. الدائم عن أهمية التلاحم بين العمل للمشروع القومي وبين مقارعة إسرائيل والصهيونية، لا سيما وأن مخطط إسرائيل هو العمل الدائب من أجل تفتيت الوجود العربي عن طريق اللعب بما يسمى الفسيفساء الطائفية والعرقية التي تسمه (على حد «تعبير أوديد ينون» الموظف بوزارة الخارجية الإسرائيلية سابقاً) والتي تجعل منه في زعمه وجوداً أبعد ما يكون عن الوحدة وأقوى ما يكون استعداداً لعوامل التآكل والتفتيت ميسراً، بذلك نجاح المحاولات التي تستهدف إعادة النظر في خارطته السياسية وفي كياناته القائمة من أجل خلق كيانات طائفية وعرقية جديدة.
ويلخص د. عبد الله عبد الدائم هذا كله بأن ثمة تلازماً بين القومية والنهضة، وأن القومية هي الوعاء الخصيب الذي يحتضن نهضة أية أمة ويخصبها. والواقع العربي يشير إلى أن أي تفكير في أي مشروع نهضوي في منأى عن مطلب التوحيد القومي تفكير طوباوي ينسى الواقع، فمما لا يختلف فيه اثنان أن شتى ضروب التنمية في الأقطار العربية كادت تصل إلى طريق مسدود والدولة القطرية أعجز – برأي الدائم – عن أن تحمل إمكانية حقيقية للتنمية والأمن القومي وللتطور الديمقراطي وسواها من الأهداف النهضوية، ودروس التاريخ القريب والبعيد تؤكد لنا ذلك، ومن حسن الطالع أن الدول العربية نفسها بدأت تعيش هذه الحقيقة ونتائجها وأخذت تسير بخطوات (متثاقلة دون شك) نحو ضروب من التوحيد، معظمها اقتصادي قد لا تكون كاملة، ولكنها قد تكتمل بفعل ضغوط الواقع نفسه ولعل هذه الضغوط سوف تدفع البلاد العربية يوماً بعد يوم إلى مزيد من التوحيد، لا سيما إذا صاحبها عمل شعبي ضاغط.
على أن هذا كله من وجهة نظر د. الدائم يفرض علينا أن نذكر المنادين بالفكر القومي الجديد أو المشككين في إمكان العمل القومي في ظروف الأمة الراهنة، بأن البناء القومي
لا يأتي سهواً رهواً، لأنه يتطلب شعلة من الإيمان نوقدها.