“الطريق الى المشروع القومي العربي”

اسـتهلال

في هذا الوضع المتردي الذي آلت إليه الأمة العربية، قد يبدو المتحدث عن المشروع القومي العربي كالطائر خارج السرب.
ومع ذلك يظل من الصحيح دوماً وأبداً أن التردي الذي نشهده هو النتيجةُ الطبيعية لغياب المد القومي، وأن الخروج منه لا يكون إلا بالعودة إلى المنطلقات الأساسية التي أكدتها وتؤكدها الدعوة القومية العربية. إذ لا بديل عنها من أجل توفير التنمية والأمن للأقطار العربية كلها. والحديث بهذا الشأن يستغرق المحاضرات العديدة، فضلاً عن المؤلفات.
ومن هنا كان ما سنقدمه خلال الوقت القصير المتاح لمحاضرتنا لا يعدو أن يكون إطاراً عاماً. وفي هذا الإطار مسائل وأمور عديدة لن يتاح لنا التوقف عندها.
وحسبنا أن نطرح المسألة. وإجادة طرح المسألة – كما يقول المثل اللاتيني – نصف العلم.
مدخـل

عنوان المحاضرة يفصح عن مقوماتها:
1- هنالك الهوية القوميةُ العربيةَ ومقوماتُها ومضمونها.
2- وهنالك النظرية القومية التي تضع أسس الكيان القوميِ المطلوب وأهدافَه وأبعادَه.
3- وهنالك الطريق التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق ذلك الكيان وأهم الأساليب التي يجدر اتباعها لسلوك تلك الطريق.
ولاشك أن كل محورٍ من هذه المحاور الثلاثة في حاجة إلى بحث مستفيض لا يتسع له المقام، ولابد أن يكون حديثنا عنه حديثاً برقياً مختزلاً بل مقصراً عن الشأو المطلوب..
ولنبدأ بأن نعرّف بإيجاز المستويات الثلاثة التي يستلزمها وضع هذا المشروع، والتي أشرنا إليها منذ قليل.
1- المستوى الأول هو مستوى الشعورِ بالهويةِ القوميةِ الواحدة على نحو ما نجده لدى أفراد أمة من الأمم والذي يشهد على انتمائهم إلى جذور واحدة، تستمد قوتها من جملة العوامل الثقافية التي تجمع بين الكثرة الكاثرة من أبناء مجموعة بشرية معينة.
وهذا الشعور بالانتماء إلى هويةٍ واحدة هو المعيار الأساسي لعمق الانتماء القومي لدى أمة من الأمم. وهو بالتالي ضربٌ من الوجود القومي «بالقوة»
أو بالإمكان على حد تعبير أرسطو، ينتظر ما يحيله إلى وجود بالفعل، على حد تعبير أرسطو أيضاً.
2- هذا الانطلاق من المشاعرِ القوميةِ الموجودةِ «بالقوة» والإمكان لدى أمة من الأمم، إلى وضع إيديولوجية قومية، تكون بمثابة نظرية شاملة للبناء القومي، هو المستوى الثاني للقومية العربية أو سواها. وهدفه أن ينقل الوجود القومي الكامن إلى وجود قوميٍ ظاهرٍ وفعلي، يتحقق في الأذهان والأعيان.
ومن هنا يمكننا أن نقول إن الإيديولوجية القومية العربية تعني صياغة قضية الأمة العربية في نظرية شاملة تسمح للنهضة العربية أن تتقدم على أسس راسخة، وأن تنطلق انطلاقاً سليماً ومتيناً..
ولابد من أن نقول – وقد يكون هذا ضرباً من تحصيل الحاصل – إن الأمة سابقة على القومية، أي أن مشاعر أبناء الأمة التي تؤكد انتماءهم إلى هوية واحدة، هي نقطة انطلاق النظرية القومية والعمل القومي. وهذا العمل قد ينطلق وقد لا ينطلق لأسباب عديدة. وكثيراً ما يقصر عن مداه في المجتمعات المتخلفة أو الخاضعة لمكائد الاستعمار.
3- أما المستوى الثالث من مستويات الفكرة القومية العربية فهو مستوى البحث الإجرائي – إن صح التعبير – الذي يرسم سبل تحقيق الأهداف القومية، على نحو ما وضعتها الإيديولوجيةُ القومية. ولعل هذا المطلب أصعب مطالب العمل للفكرة القومية.

فهدفه أن يرسم استراتيجيةً بل خططاً عملية وبرامجَ واضحة من أجل تحقيق الوجود القومي وبنائه بناءً متيناً يستجيب لمطالب الحاضر العربي والمستقبل العربي ومستلزمات التطور العالمي. بل هدفه فوق هذا وقبل هذا أن يدأب ويناضل من أجل تطبيق تلك الاستراتيجية وإنفاذها بأسرع الخطى الممكنة.
وعلينا الآن أن نقف وقفة تحليلية – موجزةً مع ذلك – عند كل مستوى من مستويات الدعوة القومية الثلاثة التي أشرنا إليها.
(أولاً) الهوية القومية العربية:
قد لا نكون في حاجة إلى بيان الأساس المكين للقومية العربية، المستمد أولاً وقبل كل شيء من شعور أبناء الأمة العربية بانتمائهم إلى هوية واحدة، هي الهوية التي تمثلها بالدرجة الأولى الثقافةُ العربيةُ المشتركة بمكوّناتها المتعددة. وتشمل هذه الثقافةُ العربيةُ المشتركة عناصر عديدة تكونت عبر التاريخ قديمه وحديثه (اللغة – التاريخ – التراث الديني – الآداب والفنون والعلوم المختلفة – وسائر أنماط السلوك التي يوليها أبناء أمة معينة أهمية خاصة.. الخ..). هذا الشعور بالهوية المشتركة من مزاياه أنه قائم لدى الجماهيرِ الشعبيةِ الغفيرة على نحو عفوي وعميق. ومن شأن هذه الحقيقة أن تهدي المشروع النهضوي العربي الذي يراد بناؤه وأن تيسّر مهمته حين يشرك هذه الجماهير على أوسع نطاق ممكن في وضع هذا المشروع وإنفاذه.
أما الشواهد على عمق الشعور بالهوية القومية العربية لدى أبناء الأمة العربية فلا حاجة إلى التريث عندها طويلاً، وقد قتلتها الدراسات بحثاً. وحسبنا ملاحظاتٌ جزئيةٌ عابرة:
1- لاشك أن الخيوط الواهنةَ القليلة من الشعور القومي التي اخترقت الجاهليةَ وصدرَ الإسلام وعهدَ الخلفاء الراشدين، لم تغدُ تياراً واضحاً إلا في أيام الدولة الأموية.
ولاشك أن الدعوة الإسلامية كانت دعوة عالمية للناس كافة، ولم يدعُ الإسلام لقوميةٍ أو سيادةٍ عربية. غير أن ذلك لم يمنع اعتزاز العرب منذ البداية بدورهم في الإسلام، ومفاخرتهم بالقرآن كتاباً عربياً، وإكبارهم للغته العربية، لغة السماء والأرض. وهكذا لم تمنع «لا قوميةُ» الإسلام عروبةَ أولِ كيانٍ إسلاميٍ واسعٍ وعالميٍ في التاريخ. نعني الكيان الأموي. لكن هذا لا يعني أن الشعور العربي آنذاك، وعبر نضجه، قد تعدّى حدود الإحساس البسيط أو تحوّل إلى وعي قومي واضح(1).
وعندما زال الأمويون وجاء الحكم العباسي بدأت السيادة العربية بالزوال تدريجياً، وإن يكن الإحساس العربي ظل حياً يكافح ويناضل قرناً من الزمان نضالاً أديباً وفكرياً.
وقد أذكى هذا النضال بزوغُ بدايات الشعوبية منذ العصر الأموي واستشراؤها بعد الدعوة العباسية وانتصارِ العباسيين ووصولِهم إلى الحكم نتيجة دعوة وثورة.
وهكذا عني العرب ببيان وحدة الثقافة العربية، بينما حاولت الشعوبية بتر الجذور الثقافية وفصل ماضي العرب الثقافي عن حاضرهم. ومن هنا نجد في مؤلفات القرن الثالث الهجري محاولاتٍ لإظهار الاتصال الثقافي، ولتأكيد الاستمرار والوحدة في الثقافة العربية، عن طريق جمع الآثار العربية الأدبية قبل الإسلام وبعده في مؤلفات واحدة، كما نرى في آثار الجاحظ (ولا سيما البيان والتبيين) وابن قتيبة (ولا سيما في كتاب المعارف وفي كتاب أدب الكاتب) وسواهما.
كذلك فعلوا في ميدان التاريخ. فقد كتبوا في التاريخ العربي الإسلامي تلك المجلداتِ الضخمةِ المذهلة، تأكيداً لدور العرب في التاريخ، وكان بعضها يبرز هذا الدور بوضوح، كما نجد في فتوح البلدان للبلاذري. بل إن بعضهم الآخر عُنِي بإظهار الاستمرار والتماسك في تاريخ العرب قبل الإسلام، كما فعل الأصمعي في كتابه عن تاريخ العرب قبل الإسلام.
ثم كان ما كان من أمر استيلاء الأعاجم على مقاليد الحكم في البلاد العربية الإسلامية ودخول أخلاط المغول والتتر والأتراك وسقوط بغداد على يد «هولاكو» عام 1258، وانتقالِ الخلافة إلى الأتراك والرزوح تحت نير العثمانيين قروناً أربعة، وما رافق ذلك كلَّه من ركود للحضارة العربية الإسلامية وتخلفها.
2- ثم جاءت تباشير الفكر القومي العربي في أواخر العهد العثماني. والحديث عنها حديث مكرور. ويعنينا من هذه اليقظة بوجه خاص ما كان لها من شأن في إعادة اللحمةِ والترابطِ العضوي بين العروبة والإسلام، على نحو ما نجد لدى الأفغاني (1839 – 1897) ومحمد عبده (1849 – 1905) ورشيد رضا (1865 – 1935) وشكيب أرسلان وعبد الرحمن الكواكبي (1848 – 1902) وسواهم. هذا بالإضافة إلى ما قام به بعض المثقفين من بلورة الوعي القومي، من أمثال «ناصيف اليازجي» (1800 – 1871) وبطرس البستاني (1819 – 1883) وإبراهيم اليازجي (1847 – 1906) ونجيب عازوري، صاحبِ «يقظة الأمة العربية» (المتوفى عام 1916) وفرح أنطون، صاحب «ابن رشد وفلسفته» (1872 – 1922) وسواهم، وبالإضافة إلى «الجمعيات» الكثيرة التي ظهرت منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر للتبشير بالرسالة القومية.
3- واتسمت المرحلةُ السابقةُ على الحرب العالمية الأولى بنشاط فكري وسياسي بارز أسهم فيه الشباب والطلاب والضباط الصغار والصحفيون والمثقفون، وكان موجهاً ضد سياسة التتريك بوجه خاص. وهكذا تبدى عطاء هذه المرحلة في تحويل الحركة القومية العربية إلى حركة سياسية تجلّت في تقديم أولى القرابين من أجلها.
4- هذه المرحلة إذن كانت إلى حد كبير مرحلةَ جلاء الهوية القومية العربية، وفيها – منذ صدر الإسلام حتى زوال الحكم العثماني – تمّ التأكيد بوجه خاص على الترابط بين الهوية العربية والهوية الإسلامية، لاسيما حين تمّ التأكيد على أن الإسلام دين وهويةٌ قوميةٌ للمسلمين من العرب، وتراثٌ قومي لغير المسلمين من العرب. وهذا ما عبّر عنه محمد رشيد رضا حين قال: «فإسلامي مقارنٌ في التاريخ لعروبتي.. قلت إني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من العرب وغير العرب، وأخٌ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغيرِ المسلمين»(2). وهذا ما عبر عنه أمين نخلة أجمل تعبير أيضاً حين قال: «كأنما العربُ جميعاً مسلمون حينما يكون الإسلام اهتداء بمحمد وتمسكاً بقوميته وكَلَفاً بلغته»(3) وعبر عن ذلك أيضاً «مارون عبود» حين قال: «ما كنت قبل أن أولد إلا عربياً صميماً. ولكن لم تكن لي فكرة سوية عن الرسول العربي ولا قرأت حديثه، حتى آتاني الله من فضله، فحلّقت إلى سماء تراثنا الروحي»، وحين أضاف قائلاً: «ولقد شرع يقيني بتفوق أمتي يزداد رسوخاً منذ ذلك الحين، ونار حبي وحماستي تزداد ذُكاءً ببرد هذا اليقين»(4).
(ثانياً) الإيديولوجية القومية:
المستوى الثاني من مستويات الحركة القومية، كما سبق أن ذكرنا، هو مستوى الإيديولوجية القومية، تلك الإيديولوجية التي تستند إلى مشاعر الهوية المشتركة الموجودةِ لدى جماهير الأمة العربية، من أجل وضع نظرية شاملة تسمح للكيان العربي أن يتكوّن في إطار سليم وولود، وللنهضة العربية أن تقوم على أسس راسخة وواعدة.
وههنا أيضاً قامت جهود كبيرة وموصولة وهامة، وتطورت الإيديولوجية القومية العربية عبر مراحل نذكّر بأهمها:
1- وضع ساطع الحصري (1880 – 1968) أبجدية العمل القومي، وأراد أن يؤكد وجودَ أمةٍ عربيةٍ واحدة، عن طريق تحديد مفهوم الأمة ومفهومِ القومية وبيانِ مقوماته وعناصره.
وقد استقرأ لهذه الغاية تجارب الأمم، وقاده ذلك إلى رد مقومات الأمة إلى مقومين أساسييين، هما اللغة والتاريخ.
وكان عطاؤه فكرياً قبل أن يكون سياسياً، وعُني بشكل خاص ببيان دور وحدة الثقافة في بناء وحدة الأمة العربية.
2- وقد تريّث قسطنطين زريق (1909 – 2000) عند جانب من جوانب العمل القومي، لم تُعره الدراسات السابقةُ حظه الكاملَ من الاهتمام، هو التأكيد على ضرورة بناء مجتمعٍ عربيٍ حضاريٍ حديث، تحكمه العقلانية، ويسوده الفكر العلمي، ويغذّيه الإبداع. واعتبر تحديثَ المجتمع العربي على هذا النحو الشرطَ اللازم – بل
والكافي – لأي عمل قومي فعال.
وهكذا يمثل قسطنطين زريق – شأنه شأن ساطع الحصري – العروبة الثقافية في مقابل العروبة السياسية.
3- وجاء حزب البعث وجاءت حركة القوميين العرب. وجاءت الناصرية، فأعطت الفكر القومي مضمونه الاجتماعيَ والاقتصاديَ والسياسيَ المتكاملَ والشامل. وقد يسّر لها مهمتها هذه كونها خاضت معترك العمل السياسي، وحققت بذلك مع الواقع العربي القائم علاقةَ تأثرٍ وتأثير متبادلين. وهكذا جعلت من التحام الفكر والنضال عندها الوسيلة المثلى لنقل الوجود القومي، على نحو ما أشرنا منذ البداية، من وجود «بالقوة» (بالمعنى الأرسططالي للكلمة) إلى وجود بالفعل، إلى حد كبير. وقد تجلّى هذا في حزب البعث بوجه خاص، حين ربط بين «وحدة النضال ونضال الوحدة» أي حين جعل من وحدة النضال العربي الأداة المثلى لتحقيق الوحدة.

(ثالثاً) استراتيجية العمل القومي:
نعني بالاستراتيجية – كما سبق أن ذكرنا منذ البداية – الخطط الإجرائية العملية التي يرسمها المشروع القومي من أجل بلوغ أهدافه.
1- ولا شك أن وضع استراتيجية للعمل القومي كان أمراً ميسّراً بعض الشيء، بعد تحرر العرب من ربقة الأتراك، وأيام الاستعمار الأجنبي، وفي السنوات التي أعقبت زوال ذلك الاستعمار، وبوجه خاص بعد ولادةِ الكيانِ الصهيوني. فالعمل القوميُ العربي في ذلك الحين كاد يكون عملاً مفتوحَ الأبواب، بل بيّنَ السبل. وكانت الاستراتيجية الممكنة والمجدية والفعالة هي استراتيجيةَ وحدةِ النضالِ العربي، وتكوينَ طليعةٍ مؤمنةٍ مناضلة في البلدان العربية جميعها تتولّى تحقيق الوحدة بين أجزاء الأمة العربية. وههنا تكمن قوة التيارات القومية التي ظهرت في ذلك الحين، كما يكمن ضعفها وتقصيرها.
صحيح أن معاهدة سايكس بيكو وما أعقبها من تجزيء الوطن العربي كانت تجعل من الإيمان بمطلب الوحدة أمراً لا جدال فيه، وتجعل من سبل الوصول إليها سبلاً تبدو ميسّرة في ظاهر الأمر. وصحيح أن قيام الكيان الصهيوني مؤيداً بالإمبريالية العالمية كان بمثابة المهماز الذي يدفع الوجود العربي إلى إحكام الوحدة بين أجزائه. فكما قال «نجيب عازوري» منذ عام 1905 في كتابه «يقظة الأمة العربية». «وهنالك حادثان هامان من طبيعة واحدة، و لكنهما يقفان على طرفي نقيض هما: يقظةُ الأمة العربية، وسعيُ اليهود الخفي لاستعادة ما يزعمون أنه مِلكُ إسرائيلَ القديم. ومصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر حتى تتغلب الواحدة منهما على الأخرى. ومصير العالمِ كلِّه منوط بالنتيجة النهائيةِ لهذا الصراع».
وصحيح أن واقع الدول العربية – التي خرجت متخلفةً وضعيفةً وفقيرة بعد حكم عثماني مظلم طويل وبعد استعمار غربي حاقد – كان يعبّر أوضح تعبير عن حاجتها إلى التكافل في شتى مجالات الحياة كي تتجاوز تخلفها وفقرها.
ولكن هذه العوامل كلَّها لا تنقلب إلى عمل إلا إذا وُضعت استراتيجيةٌ عربيةٌ محكمة من أجل القضاء على الكيان الصهيوني، ومن أجل رد مؤامرات الاستعمار القديم والحديث، ومن أجل القضاء على تخلف الجماهير العربية الغفيرة وجهلها ومرضها وفقرها.
ونُجافي الحقيقة إن قلنا إن الحركاتِ القوميةَ الكبرى التي ظهرت منذ أواخر الأربعينيات (كالبعث وحركة القوميين العرب والناصرية) لم تعالج هذا الواقع أو لم تنتبه إليه. فمبادئها الكبرى – وعلى رأسها مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية – كانت جواباً واضحاً على هذا الواقع. ونضالها كان نضالاً عملياً لتغيير هذا الواقع. غير أن عوامل كثيرة – لا مجال لذكرها، وقد لا تكون مسؤولةً عنها كلِّها – جعلتها تتلكأ في رسم خطة العمل القومي واستراتيجيته في تلك المرحلة. وقد تكون الأحداث التي لم تمهلها – وعلى رأسها كارثةُ حزيران 1967 وما تلاها – من أسباب هذا التلكؤ. يضاف إلى هذا كله أن من الخطأ دوماً أن نناقش أحداث الأمس استناداً إلى جدائد اليوم.
2- غير أن ما نقوله شيء وما يقوله المشككون بالقومية العربية بل بعضُ المنادين بما يدعونه بالفكر القوميِ الجديد شيء آخر.
فالمشككون تلقفوا ما آل إليه الوجود العربي بسبب الظروف المختلفةِ التي مرت به، وأرادوا أن يتخذوا من ذلك برهاناً على بطلان الفكر القوميِ أصلاً ومبدءاً.
والإجابة على هذا التشكيك تستغرق سفراً بل أسفاراً. وحسبنا – في حدود هذه الكلمة – أن ندلي بملاحظة واحدة: وهي أن ما نشهد من تردي الوجود العربي، ومن ضعف الترابط القومي، ومن سيطرة القُوى الصُهيونيةِ والأميركيةِ على المنطقة العربية، هو نتيجةٌ لغياب المدّ القومي العربي وليست برهاناً على ضعف الهوية القومية العربية. وبتعبير آخر، إن صورة البلاد العربية كما نشهدها اليوم مرآة واضحة تعكس ما يمكن أن يكون عليه الوجود العربي من عجز وسوء حين تغيب لحمته الأساسية، نعني التكافلَ والتكاملَ والوحدةَ بين أجزائه الممزقة. إنها – كما يقول المناطقة – برهانٌ بالخُلف على أهمية العمل العربي الموحد.
3- وإلى جانب هؤلاء المشككين بالفكرة القومية، نجد فريقاً لا يقل عنهم خطورة، نعني بعض الداعين إلى تجديد الفكر القومي، مضمرين بذلك تجاوزَه وإلغاءه.
ونستدرك منذ البداية فنقول إن ثمة أصحابَ دعوةٍ صادقةٍ ومبررةٍ إلى حد ما لتجديد الفكر القومي، تدفعهم إلى دعوتهم هذه إلى تجديد الفكر القومي والعمل القومي جملةٌ من العوامل أهمها:
1- تغيرُ صورة العالم، ولا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وظهورُ ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، وظهور العولمة بشكل خاص.
2- سيطرة الإمبريالية الجديدة وما رافق ذلك من ادعاء بعض المفكرين في العالم – وعلى رأسهم أمثال «فوكوياما Fukoyama» – أن عصر الإيديولوجيات قد انتهى بل مات، وأن دور الدولة نفسِها قد تضاءل، وأن الحكم أصبح في يد المال وأصحابه الذين تفوق قوتُهم الماليةُ أحياناً الدخلَ القومي لبعض الدول الكبرى.
3- وعلى المستوى العربي، يرى هؤلاء أن الدولة القطرية غدت راسخة الجذور، وأن أي شكل من أشكال الوحدة يتجاوز الدول القطرية ضرب من الخيال، بل ضرب من المحال.
ولا يتسع المجال للتريث طويلاً عند آراء هؤلاء المفكرين القوميين المنادين بفكر قومي جديد. وهم في الواقع فرائق وطرائق شتى. وحسبنا بعضُ الملاحظاتِ العابرة.
1- النظام العالمي الجديد، وعلى رأسه ما يدعى بالعولمة، هو وليد ثورات كبرى وهامة في العصر، على رأسها ثورةُ الاتصال والمعلومات وثورةُ المال (وهو غير الاقتصاد). هذه العولمة قد تكون أفضل حظوظ الإنسان وقد تكون أسوأها. وهذا رهن بما نضعه فيها. فالعولمة ليست إطاراً مفروضاً سلفاً، وما نشهده منها حتى الآن ليس قدراً لا محيد عنه. والعالم كله تقريباً – في دوله المتقدمة والمتخلفة – يرفض على درجات متفاوتة العولمةَ «الوحشية» التي نشهدها اليوم، والتي ليست في حقيقتها نظاماً للعالم كله، بل هي نظام في خدمة الدول الغنية والإمبريالية الكبرى، وعلى رأسها إمبرياليةُ الدولةِ الأقوى، نعني الولاياتِ المتحدة. وقد أخذت بعض الدول الكبرى، وعلى رأسها فرنسة وكثير من دول الاتحاد الأوروبي، تضيق ذرعاً بالعولمة السائدة، وتلفت النظر خاصة إلى أخطارها الثقافية.
2- والحق إن أخطر ما تتعرض له البلدان النامية، وعلى رأسها البلدان العربية، نتيجةً لذيوع العولمة «الوحشية»، هو العدوان على هوياتها الثقافية الخاصة ومحاولةُ توليدِ عالمٍ تزول الفروق فيه بين ثقافات الأمم، وتسوده ثقافة واحدة ووحيدة، هي ثقافة الدولة الأقوى، بحيث يعدّ كل متخلف عن تلك الثقافة متخلفاً عن الركب وعليه أن يلحق به.
3- من هنا – وعلى عكس ما يظن بعض المجددين القوميين وسواهم – تبدو العولمةُ في صيغتها الحالية عدواناً على الهويات الثقافية وتهديداً للكيانات القومية المستندة إلى تلك الهويات. ومن هنا أيضاً يبدو الاتجاه القومي بمثابة درع حصينة تقي الأمة العربية وسواها من مخاطرِ تهديمِ كياناتها الثقافية التي تكوّن – في خاتمة المطاف – الجدار الصلد الذي يحميها من الصهيونية وأنصارها. ألم يتحدث «صموئيل هانتنغتون
S. Huntington» في كتابه عن «صدام الحضارات» عما ستتعرض له الحضارة الإسلامية بأشكالها المختلفة من محاولات العدوان والإذابة؟ أو لم يبيّن أن الصراع مع هذه الهوية الإسلامية سيكون الهدفَ الأول من أهداف الصراع العالمي، ذلك الصراع الذي أخذ شكل الصراع بين الحضارات، بعد أن كان صراعاً بين الإيديولوجيات قبل سقوط الاتحاد السوفياتي؟
4- يضاف إلى هذا أن الأصوات بدأت ترتفع في أوساط المتحدثين عن العولمة، من أجل الدعوة إلى تشجيع الكيانات الإثنية والعرقية والطائفية بدلاً من الكيانات القومية. وهذا ينقلنا تواً إلى فكرة كثيراً ما تغيب عن أذهان المنادين بالفكر القوميِ العربيِ الجديد، والذين يمنحون الكياناتِ القطريةَ في البلاد العربية قدسيّةً مغالىً فيها. وهي أن انحسار الفكرِ القوميِ العربيِ الجامع كثيراً ما يؤدي لدى الدول القطرية إلى انتعاش الهويات الإثنيةِ والمذهبيةِ والطائفيةِ والقبليةِ والعائليةِ وسواها.
5- ومن الهام ألا ننسى أن للإيديولوجية القومية العربية إيديولوجيتها العالمية. فالتراث العربي الإسلامي تراث عالمي بالمعنى السليم لهذه الكلمة. والقومية العربية منذ نشأتها أكدت طابعها العالمي، أي طابَعها الإنسانيَّ الشامل. فهي ليست عدوانية – إلا على من يستعديها – وهي ليست عرقيةَ أو عنصريةَ ولا تدعي تفوقها على سواها. وقد وفرت الدولة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل مبادئ المواطنةِ الكاملة لجميع المنتسبين إليها من أبناء الملل والنحل الأخرى، وعاملتهم على قدم المساواة، بل أشركتهم في الحكم، وشاركتهم أفراحهم وأتراحهم. وحسبنا الأندلس دليلاً على ما حققته الحضارة العربية الإسلامية من تمازج بين الثقافات ومن مساواة بين المواطنين. والدعوة القومية العربية الحديثة منذ الأربعينيات من القرن الماضي انطلقت بدورها من احترام القوميات الأخرى واحترام مشاعرها القومية، ورأت أن القومية تظل ناقصةً ومقصّرة عن مداها إذا لم تلتحم برسالتها الإنسانية، رسالةِ الحق الذي يعلو على العروبة وسواها. فالقومية عندها هي «تربة الإنسانية» والمجالُ الحيّ لإخصابها. ومن هنا كان قوامُ تصورها لمستقبل العالم قيامَ هذا المستقبل على أساس «التعاون الحر بين أمم حرة». والإنسانية عندها، كما جاء في دستور حزب البعث العربي، «مجموعٌ متضامنٌ في مصلحته، مشترك في قيمه وحضاراته. فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذّونها، ويمدّون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام والسموَّ في الخلق والروح».
أما العولمة – وهي منزع ما يزال في طريقه إلى التكوين – فليس من المحتَّم أن تكون مناقضة للقومية، بل إن آفاق التطور العالمي توميء يوماً بعد يوم إلى حتميةِ ولادةِ عولمةٍ قوامها الدول القومية، ما دامت الدولة القومية هي التي تملك وحدها الشرطين الأساسيين اللازمين لحياة المجتمعات، نعني الهوية والشرعية، وهما شرطان
لا يتوافران فيما يتجاوز القومية من بنىً. وهذا ما يفسر لنا ما تلجأ إليه العولمة حتى الآن من فتح المعابر أمام رؤوس الأموال وحدها، وإغلاقها أمام العناصر البشرية وانتقال الأيدي العاملة.
أما إذا أُفسح المجال أمام العولمة الوحشية التي قوامها العدوان على الهويات القومية عن طريق سيطرة «اقتصاد السوق» فإن ذلك سيؤدي في معظم الأحوال – بدلاً من العولمة – إلى نمو الثقافات الفرعية العرقية والإثنية والدينية واللغوية والقبلية وسواها، وإلى قيام صراعات دامية بين هذه الثقافات الفرعية الضيقة داخل كل أمة، على نحو ما بدانا نشهد اليوم، وعلى نحو ما يؤكده لنا نشوبُ نحوِ مائةٍ وخمسة عشر نزاعاً في السنوات العشر الأخيرة. ومن الأمثلة البارزة عليها حروب البلقان وحروب منطقة البحيرات الكبرى في أفريقيا والحروب في آسيا الوسطى أو في أفغانستان بعد انسحاب الجيش السوفياتي، وسواها. وكلها نزاعات لم تقم على أساس إيديولوجي بل قامت على أساس الانتماء العرقي أو القبلي أو اللغوي أو سواها. أي انطلاقاً من ضروب التفتت التي يولّدها غياب الانتماء القومي الجامع أو تفككهُ نتيجةً للعولمة اللاإنسانية التي تتحكم فيها شريعةُ السوق وحدها، والتي يحكمها قانون الربح والنجاح دون سواه.
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة نظرية ذاعت وانتشرت، يتزعمها «ديفيد لانديس David Landis» تربط النمو الاقتصادي بالعنصر الثقافي بالمعنى الضيق لهذه الكلمة.
6- أما تعلل أصحاب الفكر القوميِ العربيِ الجديد بصلابة الكيانات القطرية وتأبّيها على الوحدة، فجوابنا عليه نلخصه في نقطة واحدة:
لا ننكر أن الدولة القطرية غدت (بسبب بطء العمل القوميِ وتقصيرهِ وبسبب ظروف خارجية نعرفها) كياناً لا مجال للتشكيك فيه، بل من الواجب تقويته وتطويرُ مؤسساته. ولكن ذلك ينبغي أن يتم، في نظرنا، جنباً إلى جنب مع العمل الجاد على تقوية الروابط القومية بين الدول العربية أكثر فأكثر، ويوماً بعد يوم، وألا يتمّ على حساب التكامل القومي فيما بينها، أو ضد السيرِ التدريجيِ والحازم نحو صيغٍ وحدويةٍ أبعدَ وأعمق. وهذا يعني:
آ – ألا تتعارض أهداف البناء القطري مع أهداف البناء القومي.
ب – الأخذَ بمبدأ التوحيد التدريجي بين الأقطار العربية في شتى مجالات الحياةِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافيةِ والسياسيةِ وسواها، ولكن شريطة أن يتم هذا العمل التدريجيُ والمرحلي من خلال رؤية شاملة، هدفها الوصول إلى صيغٍ وحدويةٍ أوثقَ وأكمل يوماً بعد يوم.
جـ – أن تخصص كلُ دولة قطرية جانباً من جهودها ومن الإمكانات المالية والبشرية لديها، من أجل تقوية بنية العمل العربي المشترك وإعداده تدريجياً لخطوات وحدوية أوسعَ وأعمق.
ء – ينبغي – في الوقت نفسه – ألا نستبعد – بالإضافة إلى العمل الوحدوي التدريجي بين الأقطار العربية – أن تتوافر على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد ظروفٌ ومناخاتٌ مؤاتية لقيام وحداتٍ فدرالية (أو كونفدرالية أو لا مركزية.. الخ) بين بعض البلدان العربية، بل ينبغي توفير الأجواء المساعدة على ولادة تلك الظروف.
هـ – ينبغي ألا ننسى – ونعيد هذا القول كرة أخرى – أن الدولة القطرية – من دون العمل القومي – تظل هشة، وتصبح كما قلنا ونقول مرتعاً للصراعات الإثنية والطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية، إذا لم تصهر هذه الصراعات الرابطةُ القوميةُ العليا والعملُ على أن يُستبدل بالكيانات القطريةِ المصابةِ بما يشبه الغزوَ السرطانيّ للكيانات المتشرذمة كيانُ قومي متآزر.
و – وهذا يؤكد لنا أهمية التلاحم بين العمل للمشروع القومي وبين مقارعة إسرائيل والصهيونية. لا سيما إذا ذكرنا أن مخطط إسرائيل الثابت والدائم هو العمل الدائب من أجل تفتيت الوجود العربي. وقد عبر عن ذلك أفصح تعبير «أوديد ينون
Oded Yenon» الموظف بوزارة الخارجية (الإسرائيلية) سابقاً في مقال له عام 1982، يقدم فيه وصفاً لخطةِ إسرائيل المنطلقةِ من العمل الدائب من أجل تفتيت الوجود العربي، عن طريق اللعبِ بما يسميه الفسيفساءَ الطائفيةَ والعرقيةَ التي تَسمه، والتي تجعل منه، في زعمه، وجوداً أبعد ما يكون عن الوحدة وأقوى ما يكون استعداداً لعوامل الائتكال والتفتيت، ميسّراً بذلك نجاح المحاولات التي تستهدف إعادة النظر في خارطته السياسية وفي كياناته القائمة، من أجل خلق كيانات طائفية وعرقية جديدة(6).
ز – ويلخص هذا كلَّه أن نقول إن ثمة تلازماً بين القومية والنهضة، وإن القومية هي الوعاء الخصيب الذي يحتضن نهضة أي أمة ويخصبها. والواقع العربي يشير إلى أن أي تفكير في أي مشروع نهضوي في منأى عن مطلب التوحيد القومي تفكير طوباوي ينسى الواقع. فمما لا يختلف فيه اثنان أن شتى ضروب التنمية في الأقطار العربية كادت تصل إلى طريق مسدود. والدولة القطرية أياً كان شأوها – كما يستبين من تحليل الواقع – أعجز من أن تحمل إمكانيةً حقيقيةً للتنميةِ وللأمنِ القومي وللتطور الديمقراطي وسواها من الأهداف النهضوية.
ودروس التاريخ القريب والبعيد تؤكد لنا ذلك. ولا يتسع المجال للوقوف عند
ما تعلمنا إياه بهذا الصدد نهضة اليابان ونهضة الولايات المتحدة بعد أن أقرت ولاياتُها الثلاثةَ عشرةَ الدستور الاتحادي، وتجاربُ القوميات الأوروبية الفرنسية والألمانية والإيطالية، ودروس الاتحاد الأوروبي اليوم.
ومن حسن الطالع أن الدول العربيةَ نفسَها بدأت تعيش هذه الحقيقةَ ونتائجَها، وأخذت تسير بخطوات (متثاقلة دون شك) نحو ضروب من التوحيد، معظمها اقتصادي، قد
لا تكون كاملة، ولكنها قد تكتمل بفعل ضغوط الواقع نفسه. ولعل هذه الضغوط سوف تدفع البلاد العربية يوماً بعد يوم إلى مزيد من التوحيد، لا سيما إذا صاحبها عملٌ شعبي ضاغط.
ح – على أن هذا كله يفرض علينا أن نذكّر المنادين بالفكر القومي الجديد أو المشككين في إمكان العمل القومي في ظروف الأمة الراهنة، بأن البناء القوميّ لا يأتي سهواً رهواً، وأنه يتطلب شعلة من الإيمان نوقدها دوماً وأبداً، وإرادةً لا تلين لتحقيق الكيان العربي القومي المتكامل والمتآخذ، ما دمنا ندرك بأن هذا الكيان المتماسك هو وحدة القادر على تجاوز ما تعاني منه الأمة العربية من تخلّف في شتى ميادين التنمية، وعلى مواجهة الأهداف الصهيونية مواجهةً مجديةً وفعّالة، وعلى بناء المستقبل العربي المتقدم الجدير بالقرن الحادي والعشرين. فمن غير الجائز أن تظل المناداة بالقومية العربية مجرد فكرة، بل لابد أن تكون حقيقة حيّة نعمل لها ونناضل من أجلها بشتى السبل نضالاً يومياً موصولاً. ومن اللازم أن يكون الإيمان بها والعملُ لها تعبيراً عن وعي العرب لحاجات حاضرهم ومستقبلهم وعياً ديناميكياً قادراً على مواجهة شتى التحديات.
وبتعبير آخر، الشرطُ الأول للانطلاق في طريق المشروع القومي العربي، أن يعي العرب بعمق طبيعةَ المرحلةِ التاريخية التي يمرّون بها، وأن يدركوا بالتالي أن هذه المرحلة بالذات تستلزم أكثر من أي مرحلة أخرى جواباً قومياً شاملاً. ولا نغلو إذا قلنا إن على الأمة العربية اليوم – وقد عصفت بها الأعاصير من كل جانب – أن تغالب نفسها بعد غفوة طالت، وأن تعود إلى ذاتها وإمكاناتها الضخمة بعد تخبط وخور.
ولا حاجة إلى القول إن على العمل الوحدي – في مثل هذه الظروف – أن يكون على مستوى فكريٍ وعلميٍ وحضاريٍ وتنظيميٍ وتعبويٍ جديرٍ بالعصر وقادرٍ على السيطرة على ما خلّفه التقاعس والزمن.
وجملة القول، إن العمل لبناء الأمة العربية اليوم ينبغي أن يكون وليد اللقاء بين شرارتين: شرارةِ الواقع العربيِ والعالمي وحاجاتِهما المستقبلية من جانب، وشرارةِ الشحنةِ الانفعالية اللازمة التي إذا افتقدناها غدا أي بحث أو تنظير شجرةً بلا نسغ وجسداً بلا روح.
(رابعاً) الطريق إلى استراتيجية المشروع القومي:
تحدثنا في القسم السابق على نحو خاطف عن أهمية وضع استراتيجية للمشروع القومي تبين خططه وبرامجه وأساليبه، وصولاً إلى أهدافه وغاياته.
ومن المتعذر دون شك في هذه العجالة أن نشير إلى أهم ملامح تلك الخطط والبرامج والأساليب.
ونكتفي بالإشارة – بلغة برقية – إلى أهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في نظرنا من أجل تعبئة الأمة العربية حول المشروع القومي والمشاركةِ في الآليات التي يرسمها لتحقيقه.
1- الوسيلة الأولى للسير نحو تحقيق المشروع القومي العربي في نظرنا هي التعبئةُ الشعبيةَ الرصينةُ والشاملة. فالصراع في عالمنا اليوم هو صراع إرادات وليس مجرد صراع قُوى. والإيمان العميق بأهمية الفكرة القومية هو الذي يقوى على تحريك النضال من أجلها، كما قلنا منذ حين. وشحنة الإيمان، الشحنة الانفعالية، من أهم مقومات العمل القومي. وإيمان الجماهيرِ العربيةِ بالتالي بأن تعبئة الإرادةِ القوميةِ المشتركة هي السبيل الوحيدة للخروج من شتى أنواع التردي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري وسواها، هو رأس الحربة في طريق السير نحو تحقيق المشروع القومي العربي.
وييسّر هذا المطلب أن تتضح في أذهان الجماهير الصلةُ العضويةُ الوثيقة بين العروبة والإسلام، وأن يكون منطلقُ النهضةِ القوميةِ المرجوة التأكيدَ على ما في الدين الإسلامي من قدرة على التجدد وعلى استيعاب كل جديد. لقد كان هذا شأنه أيام الدولة العربية الإسلامية، حين سار التجديد في علوم الدين والفقه جنباً إلى جنب مع التجديد في سائر ميادين العلم والمعرفة، ولا سيما العلم التجريبي الذي نقله العرب إلى العالم. وهذا هو شأنه اليوم، حيث يؤكد الواعون من الفقهاء والمجتهدين في أمور الدين «أن دائرة التشريع والقرارات التي يمكن أن يجري الالتزام بها في إطار النهضة الدينية هي دائرة تسع من إمكانات التجدد الكثير» على حد قول طارق البشري.
2- والحقيقة الثانية التي علينا أن نتوقف عندها عند الحديث عن وسائل تحقيق المشروع القومي العربي، تتلخص في أهمية سلوك طريق شاملة لبلوغ الهدف المنشود. وهذا يعني أن يشمل المشروع الجوانب الثقافية والتربوية بوجه خاص إلى جانب الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وسواها. ألم يُؤْثَر عن ساطع الحصري قولهُ الشهير: «اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم ما تبقى من صور الوحدة»؟
3- ومن الأمور الهامة في رسم سبل تحقيق المشروع القومي، أن يتم الانطلاق من الخَطَوات الوحدوية القائمة، بغية تعميقها وتجديدها والإضافة إليها. ومن غير الجائز أن نأخذ هنا بمبدأ «كل شيء أو لا شيء». ومن الوقائع التي لابد أن نأخذها بعين الاعتبار ونحن نرسم سبل تحقيق المشروع القومي أن ثمة مناخاً سياسياً قائماً في البلاد العربية، يدفع في اتجاه التعاون الاقتصادي التدريجي والقطاعي. كانطلاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والتزايد السريع في اتفاقات التجارة الحرة الثنائية، وهذا ما يطلق عليه عبد الرحمن اليوسُفي رئيسُ وزراء المغرب اسم «عوربة الاقتصاد».
ولا يعني هذا أن هذه الخطوات كافية، وأن عوربة الاقتصاد يمكن أن تعوّض عن غياب سواها. ولكننا نقدمها كمثال على إمكان تفعيل مؤسسات العمل العربي المشترك وتطويرها نحو الأفضل يوماً بعد يوم.
وأياً كان الأمر فينبغي ألا ينسينا عجزُ الجامعة العربية وقعودُها أن في البناء القانوني الذي أنشأته منذ بروتوكول الإسكندرية (1/7/1944) ومنذُ وُضع ميثاق الجامعة العربية (22/3/1945) ما يساعد على قيام المشروع القومي العربي، لا سيما إذا تمت متابعة الاتفاقياتِ الكثيرة والمواثيقِ العديدة والاستراتيجياتِ المتنوعة التي تم وضعها، والتي تلكأ بعضها في الطريق.
ويعني هذا عندنا في خاتمة المطاف ألا نهمل أي سبيل من سبل تحقيق المشروع القومي العربي، وأن البدء بتفعيل المؤسسات القائمة (كما فعل الاتحاد الأوروبي في البداية) مطلب ينبغي ألا يغيب عن الأذهان.
4- وهذا كله يفترض أن تسود لغة الحوار بين شتى القُوى والمؤسساتِ المعنيةِ بالمشروع القومي العربي، وأن تتم بالتالي تعبئةُ قوى النهوض جميعها في الأمة، وأن يتحقق التواصل بينها، وأن يكون رائدنا في نهاية الأمر تراكمَ الجهود المختلفة وتكاملها.
5- غير أن هذا كله يفترض ويشترط – كما قلنا ونقول – إدراكاً واعياً لإمكانية قيام الوحدة، ولما للعمل الوحدوي من شأن أساسي في تطوير الأقطار العربية كلها وبناء مستقبلها. إنه يفترض أن يصحب الدعوة الدائبة إلى الوحدة إيمانٌ متزايد لدى الجماهير بحقائق أساسية ثلاث:
أولاها أو وضع التجزئة لا يمكن أن يوفر للأمة العربية في أي قطر من أقطارها التنمية والأمن.
وثانيها أن ترديَ الأوضاعِ العربية في العقود الأخيرة يرجع في المقام الأول إلى تراجع التضامن القومي الفعّال – لأسباب عديدة لا مجال لذكرها – وليس سبباً، كما يُظن ويُقال، يدعو إلى تنكّب الطريق القومية.
وثالثها أن السير الحازم نحو التكامل العربي والوحدة العربية أفضلُ طريق لكي تعبّر الأمة العربية، في الظروف العالمية الراهنة، عن وعيها لذاتها وعياً معاصراً، وعن إدراكها العميق لمستلزمات مستقبلها في إطار العالم الجديد الذي ترجو أن يكون لها في صنعه وفي تصويب مسيرته شأن ونصيب.

خاتمة

وبعد، هذا قليل من كثير يمكن أن يقال. وهو لا يعدو أن يكون مقدمة لجهود وأبحاث تالية لابد منها.
ولا شك أن الطريق صعبةٌ ووعرة، غير أن المهم أن تكون ممكنة. والأهم من هذا وذاك أن إيمان الإنسان وإرادته كثيراً ما جعلت الصعب ذلولاً والمستحيل ممكناً. وإلا فما البديل؟ هل هو الذلة والمسكنة والخضوع للصهيونية وأعوانِها؟ هل هو العيش الضنك لأبنائنا وأحفادنا؟ هل هو انقلاب أبناء الأمةِ العربية إلى شذاذِ آفاق يتسكعون في أزقة الأمم المتقدمة، كما بدأنا نشهد منذ اليوم؟
سئل الرئيس الفرنسي السابق ميتران عن سبب تعشقه للوحدة الأوروبية، وعن دواعي قولته الشهيرة: فرنسة هي وطني ولكن أوروبا هي مستقبلي. فأجاب: ما البديل؟ هل هو العود إلى صراعات القرن التاسع عشر في أوروبا؟
وقبله بقرون تحدث «ماديسون Madison» وكان من أشهر دعاة الاتحاد بين الولايات الأمريكية الثلاثةَ عشرة آنذاك، فقال: كل من يظن أن الجوار بين الدول يخلق الوئام
لا الخصام إنسان جاهل لحقائق التاريخ. ولا ينقذ الدول المتجاورة من الاحتراب
إلا توافرُ هيئةٍ اتحاديةٍ ناظمةٍ للعلاقات فيما بينها. وكان ما كان، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية.
إن تاريخ الإنسانية كلَّه يحدثنا عن أن الإرادة والعزيمةَ والإيمان هي التي تبني الشعوب. وهل كانت رسالة الإسلام ممكنة لولا ذلك؟ وهل كان في وسع أجدادنا أن يبلغوا أقاصيَ الأرض لولا تشبُعهم بروح الرسالة؟
على أننا في البلاد العربية، في عصر التقدم العلمي والتقاني المتسارع، نحتاج إلى الإرادة الواعيةِ الرشيدةِ المسلحةِ بالعقل والعلم. وإذا كان التقدم لا يمكن إلا أن يكون شاملاً، فإن لحمته لابد أن تنطلق من بناء الإرادة وبناء المعرفة وبناء الإنسان المبدع.
ونعود كرة أخرى إلى «ميتران» فقد سأله أحد الصحفيين يوم غادر قصر الإليزيه: هل تعتقد أن للاشتراكية مستقبلاً في فرنسة (وميتران كما تعلمون رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي قبل توليه رئاسة الدولة)، فأجاب: «سيكون لها مستقبل إذا أردتم ذلك».
وهذا القول يذكّر بقول «هرتزل» مؤسس الصهيونية، حين أجاب سائليه: إن تحقيق الصهيونية ممكن إذا عزمتم أنتم على تحقيقها.
ولعل في وس عنا أن نقول دوماً وأبداً: إن تحقيق المشروع القومي العربي ممكن دوماً إذا تمت تعبئة الجماهير من أجله تعبئةً مؤمنةً واعية، وإذا رُسمت له سُبل الوصول وأُحكمتْ خَطَواتها.

دمشق في 6/3/2002