القومية درع تقي الأمة من تهديم كيانها الثقافي وتعطيها طابعها العالمي والإنساني

«لأننا نؤمن بأن الفكر هو المحرك الأقوى لكل الفاعليات الإنسانية، وهو القوة التي
لا تغلبها قوة.. لأننا نؤمن بأن العرب أمة ازدهرت بالفكر وازدهر بها، واستطاعت أن تصنع حضارتها الإنسانية والقومية به.. لكل هذا كان المنتدى الفكري الذي أضاء في سماء العروبة، علها أن تعود – كما كانت – سماء الأنوار، والإنسان في تجليه المبدع»..
بهذا النص المضيء، استهلت رابطة الخريجين الجامعيين بحمص (سوريا) دعوتها لحضور المنتدى الفكري الخامس، الذي نظمته أخيراً تحت عنوان: «المشروع القومي العربي.. إلى أين؟»، وقد اشتمل المنتدى على محاضرات قيّمة لعدد من المفكرين المرموقين وهم: د. عبد الله عبد الدائم ود. طيب تيزيني ود. أحمد برقاوي والباحث جمال باروت. وتناولت دراساتهم واقع وآفاق المشروع القومي العربي، وتحدياته في إطار العولمة، والمشروع القومي العربي ومأزق الدولة القطرية، والطريق إلى المشروع القومي العربي.
كانت يقظة الأمة العربية، ونضالها من أجل التحرر وتحقيق الأهداف القومية وبالذات الوحدة العربية، الهاجس الأكثر إلحاحاً على فكر وعمل المفكر القدير الدكتور عبد الله عبد الدائم، فهو المؤرخ والكاتب والمدافع عن الهوية القومية، والمنافح بلا كلل عن قضايا الأمة، والمؤمن بحتمية انتصارها، وهو الحاضر دوماً في المنتديات الفكرية المخصصة لإضاءة دروب الوحدة العربية. وقد كانت محاضرته في المنتدى الفكري بحمص أخيراً، نموذجاً مميزاً يلخص فكر الرجل وإيمانه العميق..
بدأ الدكتور عبد الدائم محاضرته بتحديد ثلاث ركائز (مستويات) تقوم عليها الطريق إلى المشروع القومي العربي:
المستوى الأول: مستوى الشعور بالهوية القومية الواحدة، وهو شعور مستمد من إحساس أبناء الأمة العربية بانتمائهم إلى هوية واحدة، قوامها الثقافة العربية المشتركة وعناصرها الأساسية: «اللغة، التاريخ، التراث الديني، الآداب والفنون والعلوم، وسائر أنماط السلوك»، وهذا الشعور بالهوية قائم وموجود لدى الجماهير بعفوية وعمق، وهو ما ييسر بناء المشروع القومي بمشاركة الجماهير على أوسع نطاق. وأشار الدكتور «عبد الدائم» في هذا المجال، إلى أن الدعوة الإسلامية كانت عالمية وللناس كافة، وعلى الرغم من أن الإسلام لم يدعُ لقومية
أو سيادة عربية، لكن ذلك لم يمنع العرب من اعتزازهم بدورهم في الإسلام، ومفاخرتهم بالقرآن الكريم كتاباً عربياً، وإكبارهم للغته العربية.. وهكذا لم تمنع «لا قومية» الإسلام، عروبة أول كيان إسلامي وعالمي في التاريخ: الكيان الأموي.. ومن جانب آخر لم تصمد طويلاً دعوة الإسلام الإنسانية العالمية، حين أقبلت شعوب من غير العرب على الإسلام. ولما جاء العصر العباسي، وبدأت السيادة العربية بالزوال، ظل الإحساس العربي حياً يناضل فكرياً لقرن من الزمان، وقد أذكاه استشراء الشعوبية بعد وصول العباسيين للحكم. وتبدّى ذلك النضال الفكري بتأكيد الاستمرار والوحدة في الثقافة العربية، من طريق جمع الآثار الأدبية العربية قبل الإسلام وبعده في مؤلفات واحدة، كما فعل «الجاحظ» و«ابن قتيبة» وسواهما، كما تمثل النضال الفكري في ميدان التاريخ، كما في «فتوح البلدان» للبلاذري و«تاريخ العرب قبل الإسلام» للأصمعي.
ثم كان استيلاء الأعاجم على الحكم في البلاد العربية الإسلامية، وركود الحضارة العربية وتخلفها إلى أواخر العهد العثماني، حين أشرق فجر اليقظة العربية التي أعادت اللحمة والترابط العضوي بين العروبة والإسلام على نحو ما نرى عند «الأفغاني» و«محمد عبده» و«رشيد رضا» وسواهم، إضافة إلى دور المثقفين في بلورة الوعي القومي وهو ما قام به «اليازجي» و«البستاني» و«عازوري» وغيرهم، وكذلك الجمعيات العديدة التي بشرت بالرسالة القومية. وتميزت المرحلة السابقة على الحرب العالمية الأولى بالأنشطة الفكرية والسياسية التي شارك فيها المثقفون والضباط والشباب، وكانت موجهة ضد سياسة التتريك بشكل خاص، وتوّج ذلك النضال في سبيل الاستقلال وتأكيد الهوية القومية، بالثورة العربية الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى.. هكذا كانت الرحلة الطويلة منذ صدر الإسلام وحتى زوال الحكم العثماني، مرحلة جلاء الهوية القومية العربية، وتأكد فيها الترابط بين الهويتين العربية والإسلامية، باعتبار أن الإسلام دين وهوية قومية للمسلمين من العرب، وتراث قومي لغير المسلمين من العرب..
المستوى الثاني: الأيديولوجية القومية المستندة إلى مشاعر الهوية المشتركة الموجودة لدى جماهير الأمة العربية، من أجل وضع نظرية شاملة للبناء القومي، أي صوغ قضية الأمة في نظرية تسمح للنهضة العربية بالانطلاق والتقدم على أسس سليمة وراسخة.
وقد مرت الأيديولوجية القومية بمراحل من أهمها:
1- وضع ساطع الحصري أبجدية العمل القومي، عن طريق تحديد مفهوم الأمة ومفهوم القومية، وبيان مقوماته وعناصره. وقد رد مقومات الأمة إلى اللغة والتاريخ، وكان عطاؤه فكرياً، ومعنياً ببيان دور وحدة الثقافة في بناء وحدة الأمة.
2- قسطنطين زريق تحدث عن أهمية بناء مجتمع عربي حضاري حديث تحكمه العقلانية، ويسوده الفكر العلمي ويغذيه الإبداع، واعتبر تحديث المجتمع العربي هو الشرط اللازم لأي عمل قومي فاعل.
3- ظهر «حزب البعث» و«حركة القوميين العرب» و«الناصرية»، فأعطت الفكر القومي مضمونه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المتكامل والشامل، وجعلت من التحام الفكر والنضال، الوسيلة المثلى لنقل الوجود القومي من وجود بالقوة إلى وجود بالفعل.
استراتيجية العمل القومي:
المستوى الثالث: يوضح الدكتور عبد الدائم أن وضع استراتيجية العمل القومي كان أمراً ميسراً في السنوات التي أعقبت زوال الحكم العثماني، وأن تجزئة الوطن العربي، وما أحاق به من تخلف وضعف وفقر، بعد استعمار غربي حاقد، ثم قيام الكيان الصهيوني الغاصب.. عبّر بجلاء عن حاجة الأمة إلى التكافل، وحفز إلى عمل نضاليّ قومي، وحتّم وضع استراتيجية عربية محكمة للقضاء على الجهل والتخلف والمرض، وسحق المشروع الصهيوني الخبيث.
ويرد الدكتور عبد الدائم على مزاعم المشككين بالقومية العربية، الذين يجعلون ما آل إليه الوجود العربي، بسبب الظروف التي مرت بها الأمة العربية، برهاناً على بطلان الفكر القومي أصلاً ومبدأ فيقول:
«إن تردي الوجود العربي وضعف الترابط القومي هو نتيجة لغياب المد القومي العربي. كذلك يشير الباحث إلى فريق آخر أخطر شأناً، وهم الداعون إلى فكر قومي جديد «وإن كان يستثني البعض» ممن يقيمون دعوتهم على جملة عوامل منها ظهور العولمة، وادعاء بعض المفكرين بانتهاء عصر الأيديولوجيات، ورؤية البعض بأن تجاوز «الدولة القطرية» ضرب من المحال»..
بالنسبة إلى العولمة يرى «د. عبد الدائم» أن أخطر ما في العولمة هو العدوان على الهوية الثقافية وتهديدها للكيانات القومية. وبذا يكون الاتجاه القومي بمثابة درع تقي الأمة من مخاطر تهديم كيانها الثقافي. أما الذين يمنحون الكيانات القطرية قدسية مُغالى فيها، فيغيب عنهم أن انحسار الفكر القومي العربي، يؤدي إلى انتعاش الهويات الإثنية والمذهبية والطائفية والقبلية وسواها. في وقت تؤكد فيه الأيديولوجية القومية العربية طابعها العالمي الإنساني الشامل. فلا هي عدوانية ولا عرقية ولا عنصرية.
وأما عن صلابة الكيانات القطرية وتأبيّها على الوحدة. فإن في ذلك – في واقع الأمر – مدعاة لقيام عمل جاد يوائم بين أهداف البناء القطري، وأهداف البناء القومي، من خلال رؤية شاملة هدفها الوصول إلى صيغ وحدوية أوثق وأكمل يوماً بعد يوم. ولابد من أن يظل واضحاً أمام عيوننا، أن مخطط العدو الصهيوني الثابت والدائم، هو العمل على تفتيت الوجود القومي العربي.. لندرك أهمية المشروع القومي العربي باعتباره الرد الوحيد على ذلك المخطط.
ولا ينكر الدكتور عبد الدائم أن الدولة القطرية غدت – لأسباب عديدة – كياناً لا مجال للتشكيك فيه، ومن الواجب تطويره مع العمل الجاد على تقوية الروابط القومية بين الدول العربية أكثر فأكثر، وإلا يتم ذلك على حساب التكامل القومي في ما بينها، أو ضد السير التدريجي نحو صيغ وحدوية أبعد وأعمق، مما يعني:
– ألا تتعارض أهداف البناء القطري مع أهداف البناء القومي.
– الأخذ بمبدأ التوحيد التدريجي بين الأقطار العربية في سائر مجالات الحياة، ومن خلال رؤية شاملة، تهدف للوصول إلى صيغ وحدوية أوثق وأكمل.
– أن تخصص كل دولة قطرية جانباً من جهودها وإمكاناتها المالية والبشرية لتقوية بنية العمل العربي المشترك.
– أن تتوافر ظروف مواتية لقيام وحدات فيدرالية بين بعض البلدان العربية، مع توفير الأجواء المساعدة على ولادة تلك الظروف.
– أن لا ننسى، أن الدولة القطرية، من دون العمل القومي تبقى هشة، ومرتعاً للصراعات الإثنية والطائفية والقبلية.. إذا لم تصهرها الرابطة القومية العليا.
– أهمية التلاحم بين العمل للمشروع القومي، وبين مقارعة العدو الصهيوني الذي يخطط لتفتيت الوجود العربي.
– ولابد من الإشارة إلى التلازم بين القومية والنهضة وأن أي مشروع للنهضة العربية بعيداً عن مطلب التوحيد القومي، تفكير طوباوي ينسى الواقع.
الطريق إلى المشروع القومي:
ينتهي د. عبد الدائم إلى المحطة الرئيسية في محاضرته، والتي يوضح فيها الطريق إلى استراتيجية المشروع القومي، ويلخص مراحلها ووسائلها الرئيسية في:
1- التعبئة الشعبية الرصينة والشاملة باعتبارها السبيل الوحيد للخروج من كل مشكلات التردي في الواقع العربي. وهنا لابد من مشاركة الجماهير الشعبية، مشاركة فاعلة في صوغ المشروع، دون الاقتصار على المثقفين، كما جرت العادة، وأن تتضح في أذهان الجماهير، الصلة العضوية الوثيقة بين العروبة والإسلام.
2- سلوك طريق شاملة لبلوغ الهدف المنشود، أي أن يشمل المشروع الجوانب الفكرية والتربوية، والجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. على أن تكون الثقافة العربية الإسلامية قوام النهضة، وتوليد ثقافة حديثة ذاتية نبنيها بأيدينا.
3- الانطلاق من الخطوات الوحدوية القائمة بهدف تعميقها وتجديدها والإضافة إليها. على سبيل المثال، تفعيل مؤسسات العمل التربوي المشترك، وتطويرها نحو الأفضل.
4- أن تسود لغة الحوار بين مختلف القوى والمؤسسات المعنية بالمشروع القومي العربي، وتتم تعبئة قوى النهوض جميعها في الأمة.
يختتم الدكتور عبد الدائم محاضرته بتأكيده: إن تحقيق المشروع القومي العربي ممكن دوماً، إذا تمت تعبئة الجماهير من أجله، تعبئة مؤمنة واعية، وإذا رُسمت له سبل الوصول وأحكمت خطواتها.