في ندوة «فاس» مفكرون عرب يعدون تصوراً لمشروع حضاري نهضوي

عبد الله عبد الدائم: مشروع النهضة مهم جداً.. ونحن في معركة شرسة مع الصهيونية

بقلم محمد مروان مراد

بلغت الأمة العربية بوحدتها عبر مراحل التاريخ، مكانة سامية في موكب الحضارة الإنسانية، واستطاعت بما تملكه من مقومات القوة أن تتصدى لأخطار الغزو الأجنبي، وتحقق الرقي والازدهار في كل الميادين.
واليوم، وفي خضم الانقسام والضعف، والتخاذل عن مجابهة التحديات المعاصرة التي تحدق بنا، تبقى الوحدة العربية جسر الخلاص والإنقاذ، ومطمح أفكار وأنظار الجماهير العربية بكل مستوياتها، ومن هنا كانت الأهمية البالغة لانعقاد الندوة الاستراتيجية التي دعا لها «مركز دراسات الوحدة العربية» في مدينة «فاس» برعاية ملك المغرب محمد السادس، تحت عنوان: «نحو مشروع حضاري نهضوي عربي».
جمعت الندوة أكثر من مئة شخصية فكرية وثقافية وسياسية على مستوى الوطن العربي، وكانت فرصة لالتقاء هذا الحشد، كما سعت لتكون بداية لقيام تصور نهضوي عربي يشكل سداً منيعاً في مواجهة الانهيار. وعلى مدار أربعة أيام ما بين 23-26 من نيسان الماضي، ناقش المفكرون بحوثاً ودراسات ضمن المخطط الذي وضعه «مركز دراسات الوحدة العربية»، وتناولت البحوث مواضيع عديدة دارت حول المحاور الآتية:
1- الوحدة العربية، 2- الديمقراطية، 3- التنمية المستقلة، 4- التجدد الحضاري،
5- البيئة الإقليمية والعربية والعالمية وأثرها على مشروع النهضة العربية، 6- العدالة الاجتماعية، 7- الطليعة الفاعلة والقوى الاجتماعية والسياسية في الأقطار العربية،
8- الاستقلال الوطني والقومي، 9- نظام الأولويات للمشروع الحضاري النهضوي، وتجسيد المشروع في الواقع العربي.
الفكرة، والأسئلة الضرورية:
كانت فكرة هذا المشروع دائرة في أذهان القائمين على إعداده في مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت، منذ سنوات، بل منذ دورة تونس في عام 1988، حول استشراف مستقبل الوطن العربي، والتي استهدفت بشكل خاص تسليط الضوء على واقع الوطن العربي في جوانبه المختلفة، من خلال ثلاث احتمالات ومشاهد ممكنة:
– الأول: كيف يكون حال الأمة العربية، مع استمرار الوضع المتردي على ما هو عليه اليوم؟
– الثاني: ما صورة الواقع العربي فيما لو قام شكل من أشكال الاتحاد بين الأقطار العربية؟
– الثالث: ما هي صورة هذا الواقع فيما لو تحققت الوحدة العربية؟
وقد أكد «الدكتور خير الدين حسيب» المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية في كلمته الختامية أن ندوة «فاس» هي البداية فقط، وأن المركز شكل لجنة لدراسة الأبحاث والمناقشات والتعقبيات التي اشتملت عليها الندوة، واستخلاص الاتجاهات الأساسية للمشروع النهضوي الحضاري العربي، وسوف تعرض النتائج على أكبر عدد من المفكرين والباحثين في الوطن العربي لإبداء ملاحظاتهم عليها، مما يتيح للجنة تثبيت الأذرع والأعمدة الأساسية للمشروع الحضاري، والخروج بوثيقة أساسية، تُطرح على الجماهير العربية والحكومات وتُعبأ من أجلها وسائل الإعلام بشتى صورها، لخلق تيار فكري قادر على الاضطلاع بمهمة بناء نهضة عربية جديدة.
مشروع النهضة.. لماذا؟
شهدت ندوة «فاس» إضافة إلى الدراسات القيمة، مداخلات وتعقيبات هامة أغنت الموضوع، ورفدته بأفكار وتصورات علمية، ومثّلت مداخلة الدكتور«عبد الله عبد الدائم» على موضوع «تحليل الواقع العربي من منظور المشروع الحضاري النهضوي العربي» للباحثين: د. محمد جابر الأنصاري، د. أحمد يوسف أحمد وقفة لوضع النقاط على الحروف حول ما يتصل بالموقف الواجب تبنيه في شأن العلاقة بين الدولة القومية المنشودة وبين الدولة القطرية. وفي حواري مع المفكر والباحث العربي الكبير «د. عبد الدائم» بدأت بالسؤال:
– ما الداعي لهذا المشروع؟ فأجابني:
الواقع العربي، كما لا يخفى، مقصر في وضعه الحالي عن مداه في كل مجال، وبخاصة فيما يتصل بالروابط بين الأقطار العربية.
فهناك هوة واسعة بين الواقع العربي،وبين إمكانات هذا الواقع، فيما لو تجمعت قواه، وبين مستلزمات ذلك الواقع. ويتخذ الموضوع أهمية فائقة، ونحن في معركة شرسة مع العدو الصهيوني تهدد وجودنا القومي بكامله.
ومن الناحية الفكرية والمبدئية، تبز أهمية الموضوع من خلال جملة من الوقائع يمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
1- تغير الوضع العالمي إثر سقوط الاتحاد السوفييتي، مما يستدعي إعادة النظر في الصلات التي يمكن أن تقوم بين الأقطار العربية، من أجل مواجهة الكيان العالمي الجديد.
2- ذيوع أفكار – بعد سقوط الاتحاد السوفييتي – متأثرة بالإمبريالية الأمريكية والصهيونية، تدعي موت الأيديولوجيات، وموت القوميات.. بل وتنادي – مؤخراً – بالانطواء على الأقليات الإثنية والعرقية والمذهبية، وإعطاء هذه الأقليات دور الكيانات القومية.
3- ظهور العولمة بأشكالها المختلفة، وبالذات شكلها الوحشي، وما تمثله من مخاطر على هوية الأمة العربية والوجود العربي.
4- وهنا نعود إلى الواقع العربي، بعدما أشرنا إلى الواقع العالمي.. ونعني ظهور أفكار في الأقطار العربية، تنادي عن حسن نية، أو سوء نية، بالنكوص عن الفكرة القومية، وبدعم الكيانات القطرية. وقد أطلقت على بعض هذه الأفكار صفة «الفكر القومي الجديد» وهو الفكر الذي يروج له عديد من الكتاب والمفكرين، والذي يحمل في طياته في كثير من الأحيان بذور الفكر القطري. ولكن هذا لا يعني أن تجديد الفكر القومي مطلب باطل. تجديد الفكر القومي له وسائله، ولا يجوز أن يكون مبرراً للقعود وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه. ونقول (بين قوسين لئلا يساء فهم ما نقوله): إن الفكر القومي كما نفهمه
لا ينادي أيضاً بالتطويح بالكيانات القطرية، وإنما يدعو إلى أن نستخرج من التكافل والتضامن بين هذه الكيانات، شكلاً من أشكال العمل العربي الموحد، ينمو ويتكامل يوماً بعد يوم. كما أن من مبررات قيام المشروع القومي أن الكيانات القطرية كلها، استنفدت إمكاناتها، وهي بدون التكامل والتضامن العربي، عاجزة حتماً عن تحقيق أغراض التنمية بأشكالها المختلفة، بحيث كادت هذه الكيانات أن تصل في سائر المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية إلى طريق مسدودة والمخرج بالتأكيد هو اجتماع القدرات العربية، والتنسيق بينها، والاستخراج المشترك لإمكاناتها من خلال صيغ توحيدية قد لا نستطيع تصور تفاصيلها، ولكنها تبنى عبر العمل القومي نفسه. ومن هنا كان المشروع النهضوي العربي، الذي بحث في الندوة، والذي سيجري إعداده بشكله النهائي، مشروعاً أهم ما فيه أنه يلامس الواقع العربي ويتعرف على دقائقه لا ليخلّد هذا الواقع بل ليغيره وهو بالتالي مشروع عملي منطلقه مبدئي وهو فكرة الوحدة. ولكن هذا المنطلق ليس صنماً يعبد.. فالوحدة العربية ليست أمنية قومية وثقافية وحضارية فحسب بل هي فوق هذا كله أداة لتفتيح إمكانات الوجود العربي واستخراج كامل طاقاته بفضل الجهد العربي المشترك.
ولكن على من يقع عبء تحقيق هذا المشروع؟
يضع المشروع الحضاري النهضوي العربي التصور الذي يراه قادراً على تحقيق نهضة حقيقية في الأقطار العربية ويدعو إلى تبني هذه الصيغة، ويبشر بها لدى أكبر جمهور من الناس على مختلف مستوياتهم وبأوساط الحكومات والفعاليات المختلفة آملاً أن يساعد ذلك كله على الخروج من الجمود المتمثل في التناقض التالي. أعني التناقض بين الحاجة الفعلية لنهضة عربية جديدة تكون في مستوى العصر، وبين العجز عن القيام بخطوات ولو محدودة في هذا السبيل. وهو ما ينقلنا إلى شيء هام في هذا المشروع: إن المشروع ليس لديه تصور مسبق لما يمكن أن تؤول إليه الصلات الوحدوية بين الأقطار العربية. وهو يؤمن بأن هذه الصلات هي سبيل الحل وبدونها لا يمكن أن يتم تقدم حقيقي. ولكنه لا يريد أن يفرض صيغة محددة بل يريد أن تولد هذه الصيغة من خلال التفاعل بين الصيغة النهائية للمشروع – التي ستنشر على أوسع نطاق – وبين العمل على تحقيقها. وبالطبع فإن المشروع يمكن أن يبين خطوات متنامية ومتصاعدة في السير على طريق الوحدة: يمكن أن يركز مثلاً ولفترة من الفترات على الوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة، دون إهمال للجوانب الأخرى ويمكن أن يركز على تطوير ميثاق الجامعة العربية وجعله أكثر ديناميكية وذا سلطة أقوى إلى حد ما.. فسبل الوصول إلى الوحدة متعددة ومتدرجة.
ونحن نعلم أن الوحدة الأوروبية التي نشأت بعيد الحرب العالمية الثانية، بدأت في المجال الاقتصادي أولاً، ثم تطورت بحكم العمل المستمر، والإيمان بأهميتها إلى الوحدة في كثير من الميادين غير الاقتصادية، وبخاصة في المجالات السياسية والعسكرية. وقد سمعنا جميعاً ما تبديه ألمانيا من رغبة في الوصول إلى حكومة واحدة في أوروبا وسمعنا بالدعوة إلى أن تكون للبرلمان الأوروبي سيطرة على بعض جوانب الاقتصاد والتنمية في دول الاتحاد.
الهدف من هذا أن أقول: أن الباب مفتوح لمن يريد أن يعمل. وأستطيع التأكيد أن قسماً كبيراً من المصاعب التي واجهت فكرة الوحدة العربية في العقود الأخيرة، وحالت دون تطبيقها ولا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، لا يرجع فقط إلى مؤامرات الاستعمار الأجنبي وإلى تصميم إسرائيل على تفتيت الوجود العربي، بل يرجع أيضاً وبوجه خاص إلى أن التصور الواضح والسبل اللازمة لتحقيق هذه الوحدة، لم توضع ولم تدرس دراسة موضوعية وعلمية بحيث يخرج من ذلك تصور حقيقي لشكل بناء الوحدة يلقى صدى لدى الجماهير والشعب العربي بأسره.
المعجزة العربية:
سألت الدكتور عبد الدائم عن مشاركته في الندوة وموضوع مداخلته في أبحاثها فأجاب:
كلفت من «مركز دراسات الوحدة العربية» بالتعقيب على ورقتين حول موضوع: التجدد الحضاري إحداهما للدكتور محمد عابد الجابري والثانية للأستاذ طارق البشري فكتبت بحثاً في الموضوع وعرضته في الندوة، وقد تناولت فيه: كيف يمكن للحضارة العربية أن تتجدد؟..
وفي البداية عرّفت مفهوم الحضارة وشرحت مراحل تجدد الحضارة العربية عبر التاريخ، وبينت أن حضارتنا شهدت عهوداً من التخلف والازدهار، ولكنها – وقبيل وقوع الوطن العربي تحت وطأة الغزو الأجنبي – كانت حضارة مجددة.. بل كانت منطلقاً للحضارة العلمية العالمية.
وأكدت أن التجديد الذي قامت به الحضارة العربية لم يكن في مجالات الدين والفقه والفلسفة والأخلاق والأدب – أي العلوم الإنسانية – وحسب بل كان في سائر الميادين وبالذات في مجال العلوم التجريبية كالفيزياء والطب وسواها، الأمر الذي دعا باحثاً مثل فانتيجو الفرنسي إلى أن يطلق على الحضارة الإسلامية اسم: «المعجزة العربية» تلك التي جعلت العقل يدور حول الأشياء، والتي اعتمدت على المشاهدة العلمية والتجربة واستقراء الظواهر الطبيعية، بعد أن كان ذلك العقل يدور حول نفسه في الحضارات السابقة ولا سيما في اليونان.. إضافة إلى بحثي في تخلف الحضارة العربية الإسلامية وأسبابه. بينت أن التجديد في الحضارة العربية الإسلامية، تناول ميدان الفقه والفكر الديني نفسه. ومن هنا فإن هذا الفكر الديني – بخلاف ما يقال – لم يكن من عوامل تخلف المجتمع العربي، بل العكس هو الصحيح.. فالدين يتجدد حين يتجدد الديّانون، ويتخلف عندما يتخلفون.. وفي الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي من وسائل التجديد ما يكفي لاستيعاب مطالب التجدد الحضاري.
وفي الجلسة الختامية للندوة أوضح الدكتور «خير الدين حسيب» أن انعقاد الندوة هو اعتراف بمساهمة فاس الريادية في تجربة الحضارة العربية – الإسلامية من جهة، واعتراف بمساهمة النخب الفكرية المغربية المعاصرة في التراكم الثقافي النهضوي العربي الراهن، وكذلك كانت كلمة رئيس الوزراء المغربي: «عبد الرحمن اليوسفي» بمثابة اقتراح بخطوط عريضة تبين تصوّره للمشروع النهضوي العربي في مواجهة أخطر التحديات وبالذات ما تفرضه من الدعوة إلى نمو اقتصادي مطرد، ولإنتاج متسارع ولتسويق شمولي عام، مما جعل المجتمعات المتقدمة تتخبط في إشكالية الجمع بين الرغبة في النمو المتزايد، وبين حماية الإنسان من انزلاقات تؤدي إلى الاستخفاف بالبعد الروحي لوجوده.
سألت الدكتور عبد الله عبد الدائم في ختام اللقاء إن كان متفائلاً بإمكان تجدد النهضة العربية؟ فبادرني لفوره، وبرؤية المفكر القومي الصادق:
ولمَ لا؟ إن الإيمان القوي، والإعداد السليم للوسائل الضرورية، كفيلان بتبديد أعتى العقبات، وسيكون الأكثر يسراً عندنا، لأن مقومات الأمة الواحدة متوافرة لدى الأمة العربية، كما لا تتوافر لأية أمة.. هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية الثلاث عشرة التي أقامت الكيان الوحدوي الكبير، أكثر طاقات وإمكانيات وأشد التحاماً من أمتنا؟.. بلى إنني متفائل، وأكاد أرى مشرق الوحدة العربية في الأفق القريب. فكل ما في الوجود العربي من آلام يومئ إلى ذلك بوضوح كبير.
حوار: محمد مروان مراد