“المشروع القومي العربي في مواجهة الصهيونيّة”

مدخل:
عندما يقبل المرء على التصدي للصراع بين القومية العربية والقومية الصهيونية، وبالتالي لمقومات المشروع القومي العربي اللازمة لمواجهة المشروع الصهيوني، تزدحم المعاني في صدره – على حد قو الجاحظ – فلا يدري أيها يختار.
ومع ذلك في وسعنا أن نوجز الموقف الذي يفرضه الواقع على الأمة العربية في سطور معدودات:
على القومية العربية – وهي في جوهرها قومية أصيلة المنبت عميقة الجذور مناقضة للمنازع القومية الصهيونية – أن تنطلق في صراعها مع القومية الصهيونية، من حقيقة أساسية هي الآتية:
القومية الصهيونية منذ نشأت، وعبر مراحل تطورها جميعها، قومية أسطورية خرافية مختلقة، وقومية مصطنعة زائفة، وقومية عنصرية إثنية بل عرقية، وقومية عدواني سلاحها العنف والإرهاب.
ومن هنا كان من العبث أن نتوقع من إسرائيل ربيبة الصهيونية أن تتخلى حتى عن جانب من مطامعها العدوانية المرسومة، إلا إذا استطاعت القومية العربية أن تملك من القوة والوحدة والتأثير ما يحمل إسرائيل على إعادة النظر في منطلقاتها الصهيونية، وما يجعلها تدرك من خلال المعاناة الواقعية أن هذه المنطلقات منطلقات مستحيلة التطبيق أصلاً ومبدءاً، وأن إسرائيل عانت وسوف تعاني من جرائر هذه «الخطيئة الأولى» إذا هي لم تتخلّ عنها نهائياً.
غير أن تقرّي الأحداث بالأمس واليوم، يكشف عن أن سلوك إسرائيل كان وما يزال عكس ذلك. إنه يكشف عن أن إسرائيل كلما عصفت بها الأزمات، ازدادت رعباً وخوفاً على مصيرها وازدادت بالتالي عنفاً وعدواناً. ولن يأتي اليوم الذي تتخلى فيه عن عنفها وعدوانها، وتعيد الحق لأصحابه، إلا إذا أدركت إدراكاً عملياً، أن العرب لن يستسلموا وإن غُلبوا على أمرهم إلى حين، وأن الزخم القومي العربيّ في تصاعد، وأن القومية العربية غدت موحدة الكلمة، مدركة إدراكاً علمياً لكل أهدافها ووسائلها، مصممة على التصدي الجاد والمبرمج للأسطورة الصهيونية.
ولعل من البدهي أن نقول إن الذي أوصل القضية الفلسطينية إلى هذا المصير الذي نشهده، كما أوصل الأمة العربية إلى الحيرة والاضطراب، هو أن الحركة القومية العربية لم تكن في شتى مراحل نموها وعملها في المستوى الذي تستلزمه مواجهة ذلك الرزء الكبير الذي حلّ بها، رزء الصهيونية وأغراضها وأطماعها. ومن المؤلم أن نقول إن الصهيونية استطاعت – بدأبها وعملها المنظم – أن تقلب خرافتها، خرافة الكيان الصهيوني، إلى حقيقة، لا سيما في نظر العالم، وأن الأمة العربية – بسبب عجزها وقعودها وتشتت أبنائها – هبطت بحقيقتها إلى مستوى الخرافة. وإذا عجزت القومية العربية عن إعادة بناء أهدافها ووسائلها، وعلى رأسها بناء الإنسان العربي المصمم على النضال، والمالك لوسائله، والقادر على الارتفاع ببنية الأمة العربية إلى مستوى العصر، فلن تفلح محاولات السلام مع إسرائيل. ولا أدلّ على ذلك من أن عقلية العدوان والغلبة والاحتلال، الراسخة في نفوس أبناء إسرائيل، قد فرضت نفسها على عملية السلام على نحو ما ساقتها. بل لا أدل على ذلك من استقراء مسيرة مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إذ تكشف هذه المفاوضات كلما تقدم الزمن، عن نكوصٍ إسرائيلي جديد، وعن عودة ورِدّة مطردة ومتزايدة إلى منطلقات اليمين الصهيوني المتطرف، وعن بروز جديد لأقسى اتجاهات الصهيونية وأكثرها عدوانية منذ نشأتها، نعني الاتجاه الذي مثّله منذ البداية الزعيم الصهيوني «جابوتنسكي»، الذي مثّله وعلى مرّ الزمن، ورثته من أمثال «بيغن» وشامير ونتانياهو وأخيراً وليس آخراً شارون. بل أن الجناح الإسرائيلي الذي يدعي أنه جناح السلام، وعلى رأسه «شيمون بيريس» فضلاً عن «باراك»، يزداد مع الأيام جنوحاً إلى المواقف العدوانية والتصاقاً بمقولات اليمين المتطرف.
ولكي ندرك هذا كله إدراكاً علمياً عميقاً، لابد من العودة إلى الجذور، إلى منطلقات الصهيونية الأولى منذ نشأتها. فلا يدل على معاني الظواهر ويفصح عن حقيقتها مثلُ معرفة ولادتها ونشأتها، ومثل دراستها دراسة توليدية تكوينية (génétique) على حد قول علماء النفس.
(أولاً) عود على بدء: معالم السياسة الإسرائيلية من خلال منطلقاتها الصهيونية:
قلنا منذ البداية إن للقومية الصهيونية معالم أربعة: فهي قومية أسطورية خرافية، وهي قومية مصطنعة زائفة، وهي قومية عنصرية إثنية استغلالية، وهي بعد هذا كله – وقبل هذا
كله – قومية عدوانية شعارها العنف وفرض وجودها بالقوة.
وقبل أن نتحدث عن كل واحد من هذه المعالم، نفتح معترضة موجزة فنقول إن هذه المعالم التي رافقت الحركة الصهيونية قبل ولادة إسرائيل وبعدها، ما كان لها أن توفر النصر للصهيونية وأن تؤدي إلى قيام دولة إسرائيل لولا عون الدول الغربية المادي والمعنوي والعسكري، وعلى رأس هذه الدول بريطانيا والولايات المتحدة.
1- القومية الصهيونية قومية أسطورية خرافية:
لاشك أن من أكثر معالم القومية الصهيونية وضوحاً وبداهة أنها قامت على جملة من الأساطير التي حاولت من خلالها تزوير التاريخ اليهودي، على رأسها أسطورة «الأرض الموعودة». ولا نريد أن نتريث طويلاً عند أسطورة «أرض الميعاد»، ولا سيما بعد أن قتلتها بحثاً الدراسات الحديثة، وقلّبتها على وجوهها المختلفة ولم تدعْ فيها زيادة لمستزيد.
على أننا نحرص – في هذا المجال – حرصاً خاصاً، على الإشارة إلى الحقيقتين اللتين كشفت عنهما أحدث الدراسات التاريخية في هذا المجال. الأولى هي البدهية التي أجمع عليها معظم المؤرخين المحدثين – ومن بينهم مؤرخون يهود – التي تؤكد أن التوراة – على نحو ما صاغها اليهود بعد حوالي خمسمائة عام من نزولها على موسى – لا يمكن أن تعد كتاباً ذا قيمة تاريخية، وأن ما جاء فيها لا يعدو أن يكون أساطير الأولين.
على أن ما هو أهم من هذه الحقيقة الأولى، الحقيقة الثانية المتصلة بما تسميه الصهيونية «أرض إسرائيل». فلقد أثبتت أحدث الدراسات – وعلى رأسها دراسات «توماس طومسون»، ودراسة «كيث وايْتلام» في كتابه «تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني»(1) – تهافت ما ورد في التوراة المزيفة عن دولة اسمها إسرائيل وضعها المؤرخون الصهاينة في مرحلة الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي (أي حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد).
ويشير الكاتب، فوق ذلك، إلى أن «أورشليم» في القرن العاشر قبل الميلاد، لم تكن أكثر من مرتفعات صغيرة، وكانت أبعد ما تكون عن عاصمة لملكية موحدة شاسعة على نحو ما ورد في النصوص التوراتية المزيفة. وهذا يعني، كما يقول بالحرف الواحد «أن ما كان يعتبر تقليدياً أوج التطور السياسي في المنطقة، نعني دولة داود وسليمان القومية، يختفي من الوجود نهائياً»(2).
ويبين الكاتب أيضاً كيف أدى هذا التزييف إلى إقصاء تاريخ فلسطين القديمة وسكانها الأصليين، وكيف تقدم المعطيات الآثارية التي تتصل بفترة الانتقال بين أواخر العصر البرونزي ومطالع العصر الحديدي معلومات قيمة حول الوضع السكاني والتوطن والاقتصاد والتنظيم الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني، أي لدى السكان الأصليين لتلك البلاد، بالإضافة إلى أن هذه المعلومات لا تذكر شيئاً عن كيان اسمه «إسرائيل». ومن هنا يرى الكاتب أن الفلسطينيين اليوم قد تناسوا التاريخ الفلسطيني القديم وتركوه لإسرائيل والغرب، وأن من اللازم استرداد التاريخ الفلسطيني، بعد أن تم إقصاؤه خلال القرنين الماضيين، «نتيجة للقبضة الخانقة التي أظهرها المتخصصون والمؤرخون والآثاريون الكتابيون، والتي تتحكم في دراسة فلسطين والشرق الأدنى القديم»(3). فقد بذل الباحثون الكتابيون (التوراتيون) دائبين عن وجود إسرائيل المادي بين خرائب الأرض وآثارها. «وما عثروا عليه هو ما كانوا قرروا مسبقاً أن يعثروا عليه، نعني إسرائيل شبيهة بالدول القومية اليوم»(4). وهكذا تم تقديم إسرائيل إلى العالم بوصفها دولة قومية بديئة تبحث عن وطن قومي تعبر فيه ع وعيها القومي التليد والجديد.
ويشط بنا القلم إن أردنا أن نسترسل في وصف هذا المقوم الزائف من مقومات القومية الصهيونية. وحسبنا هذا القدر اليسير في الإشارة إلى الطابع الأسطوري والخرافي المقصود للقومية الصهيونية(5)
2- القومية الصهيونية قومية قسرية مصطنعة زائفة:
ولعل أبرز ما تتصف به القومية الصهيونية أنها قومية فرضت على الوجود اليهودي قسراً وعنوةً، وولدت منذ البداية ولادة «قيصرية» بل أكرهت الشعب اليهودي نفسه على غير ما كانت تريده أكثريته الساحقة. بل إن المرء ليعجب ما الذي دعا الفئة الصهيونية القليلة العدد إلى ركوب هذا المركب الذي لم يكن يهود الشتات في حاجة إليه، والذي لا يحمل لهم من البشرى سوى الآلام والصراعات و الحروب.
ومن هنا سنحاول في معالجتنا لهذا الجانب المتصل بما في الصهيونية من قسر ومغالبة لطبائع الأشياء، أن نتقصى كيف تمّ جرّ الشتات اليهودي إلى هذا المصير غير المنطقي، وما هي العوامل التي ساعدت على ذلك.
2-1- ولا شك أن أول تساؤل يخطر على البال في هذا السياق، هو التساؤل عن دور الدين اليهودي في تيسير هذه المهمة، وبالتالي عن مدى الارتباط بين الصهيونية والديانة اليهودية.
ولا حاجة ههنا إلى تكرار أمور قتلها الكتاب بحثاً، وتحدثنا عنها مطولاً في كتابنا «صراع اليهودية مع القومية الصهيونية»(6) وحسبنا أن نقول إن رجال الدين اليهودي – على اختلاف مذاهبهم (باستثناء قلة نادرة) – قد أنكروا الحركة الصهيونية إنكاراً حاسماً يوم ظهرت على يد «هرتزل» عام 1896 – 1897، وأنهم اعتبروا الدعوة إلى عودة اليهود إلى أرض الميعاد، بإرادة بشرية لا إلهية، كفر وهرطقة، ورأوا في الصهيونية ثورة ضد الإله ونفياً لليهودية، واستعجالاً «مسيحانياً» أو (مشيحانياً) قبل أن تظهر الإشارات الإلهية الدالة على ذلك(7). ولا أدل على ذلك من الموقف السلبي الحاسم الذي واجه به اليهود وحاخاماتهم في ألمانيا رغبة «هرتزل» في أن يعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة ميونيخ الألمانية، الأمر الذي اضطره إلى عقده في مدينة بال (بازل) في سويسرا.
يضاف إلى هذا كله أن الصهيونية كانت حركة علمانية لا تتخذ من الدين اليهودي مقوماً لها ومنطلقاً، وأن زعماءها البارزين، من أمثال هرتزل وجابوتنسكي ووايزمان وبن غوريون وسواهم كانوا ملحدين ولم يخفوا إلحادهم. فمما نقرؤه في مذكرات «هرتزل»(8): «لقد قلت للحاخام الأكبر في لندن كما قلت للحاخام الأكبر في باريس إني لا أخضع في مشروعي الصهيوني لأي دافع ديني». ومما يقوله في مكان آخر من تلك المذكرات: «لقد سألني آشر مايرز Asher Myers: ما هي علاقتك بالتوراة؟ فأجبته: إنني مفكر حرّ». على أنه ناقض نفسه بعد ذلك وتبنى مواقف مزدوجة وملتبسة، لأسباب عملية. هكذا نجده في خطابه الذي افتتح به المؤتمر الصهيوني الأول في «بال» عام 1897 يقول بصريح العبارة: «إن الصهيونية تعني العودة إلى الديانة اليهودية حتى قبل العودة إلى أرض اليهود». ومثله وأكثر منه فعله بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل. والقول الفصل في هذا أن الدين، أصبح على يد الحركة الصهيونية، مجرد أداة للحركة القومية، تتلاعب بها وفقاً للظروف والأحداث.
ولا شك أن هذه اللغة المزدوجة قد ساعدت تدريجياً على تكاثر أعداد المؤيدين للصهيونية لدى المتدينين من اليهود.
غير أن علينا أن نضيف إلى هذا العامل الذي ساعد على المزج بين الصهيونية والديانة اليهودية، عاملاً آخر قلما يشير إليه الكتّاب، وهو ظهور محاولات فكرية بل إيديولوجية قومية لدى بعض مفكري اليهود، حاولت أن تفلسف الصلة بين الديانة اليهودية والقومية الصهيونية. ولا يتسع المجال للحديث عنها مفصلاً. وحسبنا منها المحاولة البارعة والزائفة التي قام بها رجل الدين اليهودي الشهير «أبراهام إسحق كوك Abraham Isaac Cook» (1865 – 1935). ونحن إذ نتوقف قليلاً عند أفكار هذا الكاهن، فإنما نفعل ذلك لهدفين متكاملين: الأول أن نبين، من جانب، كيف أدّت أفكاره وأفكار أمثاله من رجال الدين إلى تخفيف العداء الذي نشب في البداية بين دعاة الصهيونية وبين ممثلي المذاهب اليهودية الكبرى (المذهب التقليدي المحافظ – المذهب الأرثوذكسي – المذهب الإصلاحي) وأن نبين من جانب آخر التزييف والتضليل الذي مارسته الصهيونية على اليهود أنفسهم، بحيث ندرك إدراكاً واضحاً الطابع التلفيقي للقومية الصهيونية.
2-2- «كوك» وتزييف العلاقة بين الصهيونية و الديانة اليهودية:
لقد قام «كوك» الذي أصبح أول حاخام أشكنازي في فلسطين بتقديم تفسير جديد جذري وشامل للتاريخ اليهودي، من أجل تحويل الأمل المسيحاني السلبي، الذي كان شائعاً في الديانة اليهودية، إلى أداة فعّالة لتحقيق التعاون بين هذه النزعة الدينية وبين الحركة السياسية المناضلة والعلمانية التي تمثلها الحركة الصهيونية. وقد قام من أجل ذلك بمجازفة كان يدرك أنها خطيرة، لأنه كان يعرف حق المعرفة عمق الكراهية بين الصهاينة وبين اليهود الأرثوذكسيين عندما ظهرت الحركة الصهيونية للوجود. وكان منطلقه في ذلك هو التوحيد بين الديانة اليهودية وبين أرض إسرائيل، وتأكيده على أن أرض إسرائيل جزء جوهري من كيان اليهود القومي ومن رسالتهم الروحية إلى العالم. على أن أهم ما جاء به «كوك» حملته الحاسمة على حملة التقاليد الدينية اليهودية الذين استمرأوا الحياة في المنفى وقبلوا به ونادوا بالحفاظ عليه. ذلك أن شعب إسرائيل والتوراة وأرض إسرائيل كلٌ لا يتجزأ فيما يرى، وقطع الصلة بين اليهودية وبين وطن إسرائيل يعني قطع جذور اليهودية. بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك في نظرة التقديس التي يحملها للصلة بين اليهودية وأرض الميعاد، فيعجب ممن يتهمون ويحتقرون اليهود الذين يضحون بحياتهم من أجل العيش في فلسطين، لا لشيء إلا لأنهم لا يمارسون الطقوس الدينية.
وههنا يلجأ «كوك» إلى حيلة من الحيل الدينية التي يعج بها تاريخ الديانة اليهودية. واللجوء إلى هذه الحيلة يكشف لنا مرة أخرى مدى التزييف الذي نجده لدى كوك ولدى سواه من الصهاينة. وقوام هذه الحيلة العجيبة قوله بأن المعنى الحقيقي لأفعال الإنسان قد يخفى عن فاعلها. فقد يبدو للمرء أن ما يدفعه إلى فعل من الأفعال هو العامل «ألف» بينما الدافع الحقيقي والبعيد قد يكون العامل «باء». وهذا الأمر ينطبق في نظره على الرواد الأوائل للصهيونية. فقد يظنون أنهم مدفوعون بدوافع سياسية علمانية، في حين أنهم في حقيقة الأمر يعملون من خلال الإطار الكوني للإرادة الإلهية، وفي حين أن البواعث التي يحسبونها علمانية بل ملحدة ليست سوى واجهة ظاهرية للمعنى الحقيقي لأعمالهم: فأعمالهم جزء من حركة الخلاص الإلهي. وعنده أن هؤلاء الأشخاص يمكن أن يسهموا في ظهور المسيح، حتى ولو لم يكونوا يؤمنون به.
وهكذا يمضي «كوك» في هذا التزييف والتلفيق المفضوح والساذج أحياناً، على الرغم من أنه يربط بينه وبين بعض أفكار «هيجل» حول «حيل العقل». وذلك كله كي يخلص إلى هذه المقولة الأساسية عنده: وهي أن معارضة القومية الصهيونية، ولو بالقول، والحط من قيمها ومبادئها، أمور غير جائزة، لأن روح الله وروح إسرائيل (يعني القومية الصهيونية) شيء واحد.
وجملة القول عنده أن الصهيونية العلمانية اللادينية هي جزء لا يتجزأ من الديانة اليهودية (وإن جهلت ذلك)، كما أن أرض إسرائيل تعبر عن المعنى الكوني المركزي للوجود اليهودي. والخلاص اليهودي بالتالي جزء من عملية عالمية شاملة. والعالم كله يعاني ما يعاني من الفوضى لأن الشعب اليهودي لا يشغل المكان الذي منحته إياه البنية الغائية للكون. ويمضي كوك في هذا الهذيان المغرور ويقول: «إن الحضارات العالمية كلها سوف تتجدد بفضل انبعاث الروح اليهودية. وسوف تُحَلّ تبعاً لذلك صراعات العالم كلها».
والحديث يطول إن أردنا المضيّ في عرض أفكار «كوك» وتفنيدها. وحسبنا هذه المقتطفات الموجزة من أجل إدراك مدى التزييف الذي رافق ولادة الصهيونية، ولا سيما فيما يتصل بالعلاقة بين أهداف الصهيونية وأهداف الديانة اليهودية. غير أن ما لابد من قوله – ما دمنا قد تحدثنا عن أفكار «كوك» الزائفة – أن هذه الأفكار هي التي تأثرت بها كثير من الحركات الدينية الصهيونية المتطرفة، وعلى رأسها حركة «غوش إيمونيم» الشهيرة التي نشأت عام (1974). وهذه الحركة الدينية – كما نعلم – هي من أشد الحركات الصهيونية تطرفاً وعدوانية، وعلى رأس المنادين والعاملين من أجل توسيع «الاستيطان» بلا حدود وبشتى الوسائل. وأثرها على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة – بما فيها حكومات حزب العمل – أثرٌ يكاد يكون حاسماً.
2-3- الصهيونية المفتعلة:
وأشد ما يفضح ما في الصهيونية من افتعال أن الدعوة إليها جاءت في غير أوانها، أي بعد أن زالت المبررات المتصلة بالمشاعر اللاسامية ضد اليهود في أوروبا وسواها. ومن هنا حقّ للكثير من الباحثين – ومن بينهم باحثون يهود – أن يقولوا إن الصهيونية بُنيت من خلال مفارقة عجيبة.
فالحركة الصهيونية التي تهدف إلى عودة اليهود إلى فلسطين لم تظهر – كما نعلم – قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكانت أوروبا قبل ذلك قد شهدت حركة تحرر بعد الثورة الفرنسية بشكل خاص (عام 1789) أدت إلى معاملة اليهود فيها على قدم المساواة مع سائر المواطنين. وإذا نحن قارنا بوجه خاص بداية القرن التاسع عشر مع بداية القرن العشرين لوجدنا أن حياة اليهود لم تشهد من قبل مثل ما شهدته هذه الفترة من انطلاقة إيجابية في ميدان الاقتصاد أو السياسة أو الفكر. ولا نغلو إذا قلنا إن قرناً من التحرر يبدأ حوالي نهاية القرن التاسع عشر، نقل حياة اليهود من هوامش المجتمع الأوروبي إلى قلبه. ومنذ ذلك الحين أصبح اليهود يسكنون المدن والعواصم الكبرى في أوروبا، بل أصبحوا إلى حد كبير سادتها وأصحاب الحظوة فيها. وبعد أن كان المجتمع اليهودي مجتمعاً هامشياً، غدا المستفيد الأول من عصر التنوير ومن حركات التحرر والثورة.
ومن هنا يسأل المرء: ما الذي دفع إلى ولادة الصهيونية في هذه الفترة بالذات، وما هي المشكلة التي أرادت أن تتصدى لها، بعد أن غابت المشاعر اللاسامية وبعد أن أوشك اليهود على أن يكونوا هم المضطِهدين لسواهم، وكانوا من قبل هم المنبوذين والمضطَهدين (بسبب جشعهم ومراوغتهم وابتزازهم للآخرين في حقيقة الأمر)؟
لا شك أن تحليل هذه المفارقة يحتاج إلى صفحات. وأهم ما في هذا التحليل في نظرنا وفي نظر كثير من الباحثين، هو أن اليهود أنفسهم، وقد فتحت لهم أبواب الاندماج الكامل بالقوميات الوطنية التي كانت سائدة في أوروبا، ظلوا يشعرون أنهم لا ينتمون إليها حقاً وأنهم غريبون عنها، وأن عليهم أن تكون لهم قوميتهم الخاصة. فاليهودي الفرنسي مثلاً راوده الشعور بأنه في خاتمة المطاف يهودي وليس فرنسياً، أو إلى جانب كونه فرنسياً. ومثله اليهودي الألماني والروسي والإيطالي وسواهم.
وهكذا نستطيع أن نقول: إن حركة التحرير والتنوير في أوروبا ولّدت لدى اليهود في تلك الفترة البذور الأولى لوعي جديد، لا يصح أن نعتبره دينياً، وإنما هو وعي مقابل لصعود القوميات الحديثة العلمانية في أوروبا.
من هنا نستخلص بإيجاز أن الصهيونية تمثل ظاهرة أعقبت حركة التحرير (Emancipation) في أوروبا، وأنها حين أكّدت على الصلة التاريخية بينها وبين بلد الأجداد في إسرائيل، حوّلت مشاعر اليهود التي ظلت نائمة طوال قرون، إلى طاقة محركة، وجعلت من القومية اليهودية انعكاساً للأفكار والصيغ الاجتماعية التي ولدتها الثورة الفرنسية وولدتها الحداثة وولدتها النزعة القومية.
ويعنينا من هذا كله أن ندرك كيف كانت الصهيونية حركة مفتعلة، تسير في عكس اتجاه التطور الذي حدث في العصر – ولا سيما بعد الثورة الفرنسية وبوجه خاص بعد نابليون وقوانينه الجديدة التي منح فيها اليهود امتيازات خاصة – وهو تطور فتح الباب واسعاً أمام اليهود للحياة حياة كريمة في المجتمعات الغربية التي كانوا فيها. وهذا شاهد آخر على ما في اليهودية الصهيونية من عنصرية تجعلها عاجزة عن التعايش مع سواها، بل تجعلها تبحث عن السيطرة على سواها وعلى العالم.
ولا حاجة إلى القول إن ما آل إليه وضع اليهود، بعد خلق دولة إسرائيل، يبيّن أن الصهيونية – نتيجة لحلمها هذا – جعلت الشعب اليهودي اليوم في مأزق، سواء في داخل إسرائيل أو خارجها، وأن حلمها لم يتحقق ولن يتحقق، وحلّت محله الكوابيس المنغّصة لحياة اليهود أنّى كانوا.
3- القومية الصهيونية قومية عنصرية إثنية متعالية:
وإلى جانب كون القومية الصهيونية قومية أسطورية، وإلى جانب كونها قومية مصطنعة وزائفة ومفتعلة، على نحو ما رأينا، تميز القومية الصهيونية سمة ثالثة كما سبق أن ذكرنا منذ البداية، نعني كونها قومية عنصرية إثنية بل عرقية استعلائية. وهذا ما نجده واضحاً في الأدب الصهيوني منذ تباشيره الأولى. وقد رافق هذا الشعور الحركة الصهيونية في شتى مراحلها وما يزال ذائعاً حتى اليوم في إسرائيل ولدى الشتات اليهودي. ولا غرابة فالشعب اليهودي عندهم هو شعب الله المختار.
ولا يتسع المجال للحديث عن أهم مظاهر هذه النزعة العنصرية. وحسبنا – على سبيل المثال – أن نشير عابرين إلى أفكار زعيمين صهيونيين شهيرين: أولهما هو الزعيم الصهيوني الرائد الذي يلقب باسم الابن المخيف للصهيونية، نعني «جابوتنسكي Jabotinsky» (الذي سنعود إليه كرة أخرى بعد قليل). وثانيهما الكاتب والشاعر الصهيوني الروسي الذي يمثل اليمين المتطرف في أقصى صوره، نعني «أوري تزيفي غرينبرغ (1897 – 1981)، الذي أقام في فلسطين منذ عام 1924، وأسهم في صحيفة «دافار Davar» التي تمثل اتحاد الهستدروت العمالي».
3-1- أما جابوتنسكي – رأس الفريق الصهيوني اليميني المتطرف وأكبر الدعاة إلى اللجوء إلى القوة من أجل توليد الكيان الصهيوني كما سنرى – فقد كانت نظرته العرقية الإثنية واضحة وصريحة. وقد وضع نظرية متكاملة حول دور العرق في تاريخ الإنسانية. وصدر له أول تحليل مفصّل في هذا المجال في مقالٍ كتبه عام 1913، عنوانه «حول العرق». وفيه يقول: ليس من المهم أن يوجد عرق صاف أو ألا يوجد. والأهم هو الفرق القائم بين مختلف الجماعات الإثنية التي يميزها نَسَبها العرقي. ومن هنا يكتسب مفهوم «العرق» كما يقول، معنى محدداً جداً. فكل أمة تملك مقومات عرقية خاصة بها، توجد لدى كل فرد من أفرادها. وبهذا المعنى وحده يغدو مفهوم الأمة ومفهوم العرق متكاملين. وهكذا يريد «جابوتنسكي» في مقاله هذا أن يضع مكان الحتمية (أو الجبرية) الجدلية التي تُستخلص من أفكار «ماركس» حتمية يحدّدها العرق. ويستخلص جابوتنسكي من ذلك أن جوهر الأمة وقوامها ومقوم وحدتها تكمن كلها في الصفات الجسدية المميزة لها، وفي العناصر المقوّمة لتكوينها العرقي.
ولا حاجة إلى القول إنه يستخلص من ذلك كله القول بتفوق الأمة اليهودية على سواها من الأمم، بسبب تفوقها العرقي وبفضل عوامل أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة.
3-2- أما الكاتب والشاعر الصهيوني الروسي «أوري تزيفي غرينبرغ» فقد كان ينظم القصائد الملتهبة التي تتهم أبناء العقائد الدينية الأخرى، كاتهام المسيحيين بالمعاداة للسامية، واتهام العرب بتعطشهم للحقد، بالإضافة إلى اتهام اليسار الصهيوني نفسه بالاضطراب الخلقي، واتهام النساء بالغرور، واتهام التربية الملحدة، وسوى ذلك كثير. أما جوهر الانتساب إلى اليهود عنده فتحدده صفتان: الدم والأرض. والوحدة البيولوجية الكاملة والثابتة لدى الشعب اليهودي لا تقيم بينه وبين الشعوب غير اليهودية تبايناً نسبياً محدوداً، بل تقيم اختلافاً وفارقاً مطلقاً. ومن هنا فالحوار مع غير اليهود هو قعقعة السلاح. وعن طريق الدم – كما يقول – سوف يكون البحث. واليهود سوف يحققون وجودهم في أرض إسرائيل باللجوء إلى حرب لا ترحم، ولا تبقي ولا تذر، ضد أولئك الذين يقفون في وجه تحقيق مشروعهم. ويبكي شاعرنا بكاءً مراً على ما أصاب القدس، مدينة داوود التي هجرها الأنبياء، والتي ملأها أبناء العمومة العرب بنهيق الحمير، ودنّسوها بروث الأغنام والبشر. ويدعو في خاتمة المطاف إلى تحرير إسرائيل بحدّ السيف، وإلى بناء ملكوت إسرائيل بالقوة، وإلى إقامة دكتاتورية إيديولوجية مهمتها تحقيق الرؤية المسيحانية لملكوت إسرائيل.
4- القومية الصهيونية قومية عدوانية:
لسنا في حاجة إلى البراهين كي نثبت أن القومية الصهيونية قومية عدوانية، تؤمن بمبدأ القوة، وتبيح في سبيل بلوغ غاياتها شتى ضروب العنف والقتل والتدمير. فنحن نعيش مأساة هذا العنف الإسرائيلي اليوم، كما عشناه من قبل، منذ نشأت الصهيونية وعبر مراحل الصراع العربي الإسرائيلي الدامية. ولولا هذا العنف المؤيّد بموقف الدول الكبرى وأغراضها ومطامعها المشتركة مع إسرائيل، لما استطاعت إسرائيل أن تبقى. غير أن ما هو أبلغ من هذا أنها لن تستطيع أن تبقى، وذلك بسبب هذا العنف نفسه.
فالعنف يقتل صاحبه كما يقتل غيره. وسنعود إلى هذا في خاتمة هذه الكلمة.
أما الآن، فنود أن نتابع جولتنا عبر نشأة الحركة الصهيونية وأغراضها البديئة التي لم تتغير حتى اليوم، وعلى رأسها مبدأ العنف. والزعماء الصهاينة الذين أشاروا إلى حتمية استخدام العنف من أجل إقامة دولة اليهود كثيرٌ عددهم، وإن تفاوتوا في مدى تفسيرهم لمبدأ استخدام القوة مع العرب.
4-1- جابوتونسكي و«الجدار الحديدي»:
ولكننا، ضمن حدود كلمتنا، نؤثر أن نمضي تواً إلى أفكار الزعيم الصهيوني «جابوتنسكي Valdimir Jabotinsky» (1880-1940). بوصفه رأس التيار اليميني الإرهابي المتطرف الذي كان له وما يزال الدور الأول في مجرى الحياة السياسية، قبل ولادة إسرائيل وبعدها، وقبل طرح مشروع السلام مع العرب وبعده. يضاف إلى هذا أن جابوتنسكي مفكر ومنظّر يفوق أقرانه من رواد الصهيونية، وصاحب مذهب قومي يهودي شامل ومتكامل.
وقد هزئ منذ البداية بمبادئ الحرية والعدالة، وتهكّم حتى على ما ورد في بعض المواضع في التوراة من دعوة إلى عدم اضطهاد الآخرين. ومن أقواله في معادة الإنسان والإنسانية:
«لا تأمنَنّ لأحد، وكن دوماً فطناً حذراً وسيئ الظن، واحمل دوماً عصاك معك. وبذلك فقط تستطيع أن تعيش في قلب هذه الحرب التي لا هوادة فيها، حرب الإنسان للإنسان أنى كان».
وليس المجال مجال الحديث عن جملة أفكاره وعن مراحل حياته وعن دوره العملي في الحركة الصهيونية، وفي تكوين حزبه المتطرف، وفي تكوينه للفرقة اليهودية في فلسطين أيام الانتداب البريطاني، ثم لحركة «إرغون Irgun» الإرهابية، ونمضي تواً إلى أفكاره التي تعدّ نموذجاً لأفكار الكثيرين من أصحاب النزعات المتطرفة في إسرائيل بالأمس واليوم، من أمثال «بيغن» و«شامير» و«ناتانياهو» و«شارون».
وأفكار جابوتنسكي العدوانية المؤمنة بالقوة، نكاد نجدها مجتمعة في مقالين هامين له نشرهما عام 1923 عنوان أولهما: «الجدار الحديدي والعرب». وفي هذا المقال، ينتهي به تحليله لموقف العرب إلى إصدار حكم قاطع يقول فيه: «الاتفاق الطوعي بيننا وبين عرب فلسطين أمرٌ لا يمكن أن نتصوره اليوم أو في المستقبل المنظور». فكما بيّن معظم الصهيونيين، ليس هنالك ولو حظّ يسير للحصول على موافقة العرب الفلسطينيين على قلب فلسطين دولة أكثريتها من اليهود. وبعد أن يشرح المنطق الذي يدفع العرب الفلسطينيين إلى كراهية الصهيونية، يحدّد «جابوتنسكي» الموقف السياسي الذي يفرضه هذا المنطق، وخلاصته: ليس أمامنا إلا أحد أمرين: أن نوقف حركة الاستيطان أو أن نستمر فيها دون أن نأبه لمزاج أهل البلاد. وليس أمامنا إذن إلا أن نتابع حركة الاستيطان عن طريق القوة، وأن نقيم بيننا وبين أهل البلاد «جداراً حديدياً» لا يستطيعون أن يهدموه. وعندما انتقد بعض من يسمون المعتدلين من الصهاينة موقفه هذا، لأسباب إنسانية وأخلاقية، كتب مقالاً آخر عنوانه «الأخلاق والجدار الحديدي». ومما يقوله بإيجاز في هذا المقال: ثمة أمران ممكنان: أحدهما أن تكون الصهيونية ظاهرة إيجابية، والثاني أن تكون ظاهرة سلبية. والجواب على هذا السؤال كان ينبغي أن يتم قبل ولادة الصهيونية. أمّا وقد ولدت الصهيونية وأقرّ دعاتها كلهم أنها ظاهرة إيجابية، وحركة خلقية وإنسانية، فلم يعد ثمة مجال لطرح هذا السؤال. وعلينا الآن أن نقول: «ما دامت القضية عادلة، فلابد أن تنتصر العدالة، سواء وافق الآخرون على ذلك أو لم يوافقوا. فالحقيقة المقدسة التي يستلزم تحقيقها استخدام القوة، تظل حقيقة مقدسة».
وقد أصبح «الجدار الحديدي» توراة الحركة الصهيونية التي سميت باسم «الصهيونية التصحيحية Revisionist». وتوراة متطرفي الصهاينة من اليمين وسواه، وعلى رأسهم اليوم شارون. وقد حاول أمام الرأي العالمي، كما يحاول شارن اليوم، أن يزيّف الحقائق وأن يقول: إن الجدار الحديدي ليس غاية في حد ذاته بل وسيلة لكسر مقاومة العرب لمسيرة الحركة الصهيونية. وعندما تتحطم هذه المقاومة، كما يقول، من الممكن أن تأتي قيادة فلسطينية معتدلة. وعند ذلك فقط يمكن أن تبدأ المفاوضات الجادة مع الفلسطينيين، وهي مفاوضات يقدّم الإسرائيليون خلالها للفلسطينيين حقوقاً مدنية وقومية. ولم يحدد جابوتنسكي في هذا المقال ما يقصده بعبارة «الحقوق الفلسطينية» ولكنه بيّن في كتابات أخرى أنه يقصد بذلك منح الفلسطينيين بعض الاستقلال السياسي داخل دولة يهودية.
ومن الجدير بالذكر أن «ناتانياهو» قد تأثر بمقالة جابوتنسكي وجداره الحديدي تأثّراً كبيراً. وكتابه «مكان تحت الشمس» فيه أوجه شبه كثيرة مع أفكار ذلك الزعيم – الذي هو من أتباعه بل من أقربائه – لا سيما فيما يتصل بالموقف من العرب.
وهكذا نجد في كتاب «ناتانياهو» هذا «تأكيداً على أن فرص السلام مع العرب تشتد وتقوى كلما بدت إسرائيل أقوى. كما نقرأ فيه أن السلام الحق والباقي هو السلام المبني على الردع الإسرائيلي»(9).
خاتمة:
وبعد، لقد استطاعت القومية الصهيونية التي رأينا أنها قومية خرافية ومصطنعة وعنصرية وعدوانية، أن تحقق بعض أهدافها – ولو إلى حين – على الرغم من هذه العلل والعورات جميعها، بل نقول بفضل هذه العلل والعورات. فلقد لجأت وما تزال إلى تزييف الحقائق أمام العالم ولم توفر أي أسلوب من أساليب الكذب والضغط والعدوان من أجل إنفاذ مآربها. وقد يسّر لها مهمتها هذه إدراكُها الواضح منذ البداية أن كسب تأييد الدول الكبرى بشتى الوسائل هو السبيل الجدد لبلوغ ما تريد، ولو بدا ما تريده أمراً معجزاً في البداية.
ومع ذلك هيهات أن تكون قادرة على الوصول إلى نهاية الدرب، وهيهات أن تستطيع خداع نفسها وخداع العالم طويلاً. فللباطل جولة، والزيف لابد أن ينكشف، والقوة مرتعها وخيم.
ومما يجعلنا نستبشر ببداية نهاية الصهيونية حقيقتان: أولهما أن ما تمّ من لجوء الصهيونية إلى الكذب والخداع والترغيب والترهيب، بدأ يتكشف جلياً أمام الرأي العام العالمي، وسوف يتبدّى أوضح فأوضح يوماً بعد يوم بسبب وسائل الإعلام والاتصال الحديثة بوجه خاص. ولا أدلّ على ذلك من أن كثيراً من يهود العالم – ولا سيما في الشتات – أخذوا ينفضّون عن الصهيونية وآفاتها، ومجانبتها للمبادئ الخلقية والإنسانية. ولا يتسع المجال لسرد بعض ما تواجهه الصهيونية في العالم من نقد وتثريب وتقريع.
وحسبنا مثالاً واحداً من أمثلة كثيرة:
في الخريف المنصرم نشر «جاك أتالي Jacques Attali» الكاتب الفرنسي الشهير (وهو يهودي) والمستشار السابق للرئيس «ميتران F. Mittérand» على أثر أحداث القدس بعد زيارة شارون مقالاً في مجلة الإكسبرس الفرنسية (عدد 12 – 18 تشرين الأول عام 2000) أثار ضجة كبرى عنوانه: «إلى أين تمضي إسرائيل؟» ومما جاء في مطلعه:
«لم تكن إسرائيل معزولة كما هي اليوم. ولم تكن يوماً مهددة بالزوال كما هي اليوم» وفيه يقول:
«وفي الجملة، إن إسرائيل مهددة بالزوال عن طريق الحرب، ومهددة بالزوال عن طريق السلم، أو عن طريق هجرة النخبة منها خوفاً من الحرب والسلم».
أما الحقيقة الثانية التي تبشر بنهاية الصهيونية فواضحة جلية في بنية المجتمع الإسرائيلي المتداعية إلى حد كبير. وقد تحدثنا في كتابنا «إسرائيل وهويتها الممزقة»، وتحدث سوانا كثيرون، عما تشكو منه الهوية الإسرائيلية من اضطراب، وعن تزاحم القوى العديدة المتعارضة والمتصارعة التي تتكون منها بنيتها السكانية والتي تهدد كيانها.
فالصراعات في إسرائيل، كما نعلم، قائمة على قدم وساق بين العرب والإسرائيليين، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين الإشكنازيم والسوفارديم، وبين الصبرا وسواهم، وبين الفلاشا وسواهم، وبين اليهود الروس ومن عداهم، وبين الأحزاب الدينية المتنافرة، وسوى ذلك كثير. وقد كشفت انتخابات الكنيست الخامسة عشرة في 17 أيار 1999 بوجه خاص عن تفتت المجتمع الإسرائيلي الذي بدا خلال تلك الانتخابات – على حد قول الكتاب اليهود أنفسهم – مجموعة من القبائل تبحث كل قبيلة منها عن مصالحها الخاصة غير آبهة بسواها. وقد بدا هذا التشتت واضحاً حين حاول «باراك» جاهداً أن يؤلف وزارته، ولم يصل إلى ذلك إلا بشق الأنفس، ومن خلال صيغة تشل الحياة السياسية، على نحو ما رأينا. وهذا التشتت والتمزق الذي وصلت إليه هوية إسرائيل، وهذا الدرك الذي انحدرت إليه اللعبة البرلمانية فيها، مظاهر لا يمكن أن تفسَّر إلا بكونها نتيجة من نتائج فشل الفكر الصهيوني والإيديولوجية الصهيونية، بعد أربعة أجيال وبعد ستة حروب مع العرب. وهي دون شك مظاهر تعبر عن عجز اللغة العبرية وأساطير التوراة والخروج والسبي والاضطهاد المسيحي الأوروبي والغيت (Ghetto) والمحرقة. ويشهد على هذا العجز بوضوح سقوط «باراك» نفسه، ونتائج الانتخابات الأخيرة التي كشفت عن ذعر سكان إسرائيل أمام زخم الانتفاضة. الفلسطينية، وهو ذعر حملهم على أن يداووا الداء بالداء، وأن يستجيروا من الرمضاء بالنار، وأن يعودوا إلى أقسى أشكال سياسة العنف، على الرغم مما جرّته سياسة العنف عليهم من ويلات.
وإلى جانب التمزق الإسرائيلي الذي يعبّر عن فشل المشروع الصهيوني، ثمة بعض الظواهر الفكرية الجديدة التي تدل على أن الفكرة الصهيونية تواجه اليوم مواقف فكرية جديدة في إسرائيل نفسها وخارج إسرائيل، تدعو إلى إعادة النظر فيها بل إلى النكوص عنها.
هذا ما نجده لدى أصحاب التيار الذي يعرف بتيار «ما بعد الصهيونية» والذي يرى «ناتانياهو» نفسه أنه أشدّ خطراً على إسرائيل من إسرائيل نفسها. وهذا ما نجده على نحو أوضح وأكمل لدى المؤرخين اليهود الذين عرفوا باسم «المؤرخين الجدد» من أمثال: «بابي Ilam Pape» و«بني موريس Benny Moris» و«سمحا فلابون Simha Flapon» و«آفي شليم Avy Shlaim» وسواهم.
وقد ذاع صيت هؤلاء المؤرخين منذ منتصف الثمانينات، بعد أن اطلعوا على وثائق وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في إسرائيل، التي تم الكشف عنها بعد ثلاثين عاماً من ولادة دولة إسرائيل. وهذه الوثائق كشفت لهم عن زيف التاريخ الرسمي المؤدلج الذي قدمته إسرائيل لمواطنيها وللعالم بعد حرب عام 1948. ولقد فنّد هؤلاء المؤرخون بوجه خاص الأكاذيب الرسمية حول أسباب هجرة الفلسطينيين من ديارهم أثناء الحرب وبعدها، وبينوا أن الفلسطينيين لم يهجروا فلسطين طوعاً، كما تقول المصادر الإسرائيلية الرسمية، بل طردوا منها أبشع طردة، وتعرضوا أثناء ذلك لمذابح مذهلة مقصودة (في دير ياسين وسواها) من أجل إكراههم على ترك ديارهم.
وقد لقيت أفكار المؤرخين الجدد – كما نعلم –(10) صدى واسعاً في إسرائيل، كما لقيت تجاوباً كبيراً في الأوساط العالمية.
وليس المجال مجال الحديث عن هؤلاء المؤرخين الجدد وعما لَهم وعما عليهم. وجل قصدنا أن نشير إلى أن صورة إسرائيل الصهيونية بدأت تهتز أمام أعين أبنائها وأمام أعين العالم، وأنها مقبلة لا محالة، بحكم بنيتها الزائفة المصطنعة، على مشكلات داخلية وخارجية جمة، تضع الصهيونية نفسها ومنطلقاتها موضع التساؤل.
ويلخص محمد حسنين هيكل في مقال له نشرته جريدة السفير اللبنانية في عددها الصادر بتاريخ الأول من آذار/مارس الماضي، أزمة إسرائيل اليوم وبالأمس ووصولها إلى طريق مسدود، بسبب الصهيونية، فيقول:
«أزمة المشروع اليهودي أنه حاول اختراع ذاكرة من الأوهام يؤسس عليها مشروع دولة أو مشروع إمبراطورية مستحيلة التحقيق وإن كانت باهظة التكاليف بسبب المحاولة».
ولكن، حذار أن تدفعنا هذه الصورة المهتزة للكيان الإسرائيلي، إلى الاطمئنان على المستقبل، والركون إلى ما تحمله الأيام لإسرائيل من مقاتل وإلى الاعتقاد بأن زوالها سيأتي سهواً رهواً. فجُلُّ هدفنا من وراء الإشارة إلى بعض معالم العجز الإسرائيلي والقصور الصهيوني، أن نبيّن أن أمام العرب فرصة نادرة لتضييق الخناق على إسرائيل وفضح أهدافها الصهيونية التليدة والجديدة. وما ينبغي أن نعيه، هو أن إسرائيل، تستطيع أن تبقى، مهما تتكاثر أزماتها الداخلية، وأن ثمة بلداناً كثيرة في العالم استمرت في البقاء على الرغم من مشكلاتها الداخلية العميقة وضعف بنيتها الذاتية، ما دامت لم تتعرض لخطر خارجي. ولا ييسر انفجار إسرائيل من داخلها إلا توافر قوة خارجية معادية. ولا شك أن تصميم الأمة العربية – ومعها الأمة الإسلامية – على تطويق إسرائيل والتضييق عليها ومنعها من أن تخرج من زنزانتها إلى رحاب الوطن العربي الفسيح، يأتي على رأس العوامل التي تعجّل في تداعيها وانهيارها.
وحتى جيش إسرائيل الذي هو درعها ورمز بقائها، والذي تغذيه القوى الأجنبية وتحميه، لن يستطيع أن يقوم بمهمته في حماية إسرائيل من جيرانها، وسوف يفقد بريقه وشأنه يوماً بعد يوم في أعين الإسرائيليين أنفسهم، لا سيما عندما ينقلب إلى جيش حقير يرابط في المدن العربية المحتلة، ويسهر على منع التجول في مناطق السلطة وفي المستوطنات، ويلاحق الطلاب الفلسطينيين في الشوارع وأطفال الحجارة، ويقتل الأبرياء من الكبار والصغار والأطفال الرضّع. فجيشٌ كهذا، لا يمكن أن يكون محط أنظار أبناء إسرائيل، ولا يمكن بوجه خاص أن يكون قبلة للهوية اليهودية التي يريدها الشتات اليهودي. وها نحن أولاء نرى الكثير من الجنود الإسرائيليين يرفضون الالتحاق بوحداتهم العسكرية أثناء الانتفاضة الأخيرة، كما رفض أترابٌ عديدون لهم من قبلُ الخدمة في صفوف الجيش الإسرائيلي أيام معركة لبنان.
وجملة القول إن إسرائيل التي تملك القوة العسكرية وسواها، لا تملك القوة المعنوية والبواعث الإيديولوجية التي تشد أزر تلك القوة. وما دامت حربها مع الفلسطينيين والعرب حرب المغتصب المعتدي، فلن تستطيع أن تفلّ العزيمة العربية، ولن تقوى قوة الباطل التي تحارب بها على دَحْر قوة الحق، وسوف يظل جيشها المدجج بأحدث الأسلحة مضطرباً قلقاً، وستظل خائفة مذعورة. والأمة العربية – وإلى جانبها الأمة الإسلامية – تملك الإمكانات البشرية والمادية والجغرافية الهائلة. وإذا هي استطاعت أن تجمع أمرها وأن تعزم على أن تمارس بشتى الوسائل حقها في استرداد ما اغتصب منها، وأن تعبئ قوى شعبها تعبئة منظمة ودائمة، فسوف تكون المنتصرة لا محالة، طال الزمن أو قصر.
إن جوهر الموقف الذي يفرضه الواقع على الأمة العربية اليوم هو استمرار وتعميق وتصليب الطوق الذي تضربه حول إسرائيل في شتى المجالات، وإبقاؤها – بحكم موقعها الجغرافي ومطامعها الاستراتيجية – غريبة عن المنطقة، معزولة عنها عزلاً كاملاً. وترجمة هذا الهدف الكبير إلى خطط وبرامج ووسائل ترجمةً علمية مدروسة هي سبيل المواجهة الفعالة مع الصهيونية. ومثل هذا المطلب هو الرسالة المسبقة التي تبعث بها الأجيال العربية القادمة إلى الجيل الحالي، وفيها تدعوه إلى الكف عن جعل مستقبلها مرهوناً منذ اليوم لسواها.
ولا شك أن هذا الموقف يستلزم العمل الدائب من أجل إعادة بناء الهدف والنظرة والأسلوب لدى البلدان العربية جميعها، ومن أجل بناء التعاون العربي بناءً محكماً جديداً على وفاق مع روح العصر، وعلى وفاق مع الأسس المتينة التي ينبغي أن ينطلق منها العمل لبناء كيان عربي مستجيب لهويته القومية الواحدة، ولمصالحه المستقبلية المشتركة. وإلا فما البديل؟ وهل من سبيل آخر لدى العرب لمواجهة الإرادة الصهيونية القديمة والحديثة، وقوامها إكراه العرب على الموافقة على الكيان الصهيوني بالقوة ما داموا لن يقبلوا به طائعين أذلاء؟
وبعد، إن نظام «الأبارتهايد» العنصري لن يدوم طويلاً، ولن يُكتب له البقاء إلا إذا وافق العرب على بقائه. ومن هنا ينبغي أن يكون مفتاح الموقف العربي اليوم «ترك الباب مفتوحاً» وعدم إغلاق «الملف» مهما تكن التسويات المؤقتة. فالأيام حبلى بالأحداث، وإرادة الشعوب لابد أن تنتصر في عالمنا، على الرغم مما يتخبط فيه اليوم من بحران وفوضى وابتعاد عن القيم الخلقية والإنسانية.
ومعركة العرب ضد الصهيونية لها بالإضافة إلى أهدافها المباشرة، أهداف إنسانية وخلقية، طالماً أوقدت شعلتها الحضارةُ العربية الإسلامية في شتى مراحل تاريخها. ومن هنا فمقارعة الصهيونية مقارعة للشر في هذا العصر الذي كاد يطلق عليه اسم العصر الصهيوني.
أو ليست مثل هذه المهمة الكبرى جديرة بأن يعبَّأ لها الوجود العربي كله تعبئة علمية وعملية شاملة ومتكاملة؟ ونختم كلمتنا بقول الشاعر القروي:
حتى يدين بحبه أقوانا أما السلام فإننا أعداؤه
ونذكّر بالبيت الذي تحدث فيه عن الاستعمار الفرنسي آنذاك:
فجاؤونا بآيات الفتوح أتيناهم بإنجيل المسيح
دمشق في 4/4/2001