الكلمة التي ألقاها الدكتور عبد الدائم باسم أصدقاء الفقيد في حفل تأبين المرحوم الدكتور أمجد الطرابلسي

من أقول المتصوفة:
«الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»
وأحر بهم أن يقولوا: “الناس نيام، فإذا مات كبراؤهم وعلماؤهم انتبهوا”، انتبهوا إلى ما نقص من أمور زادهم ومعادهم.
على أني، لست ممن يقولون “ما ترك الأول للآخر” ولكني أقول إن لكل عالم أثراً يندّ عن المحاكاة، وإن لكل فارس صولة لا يشبهه فيها سواه.
وفارسنا الذي فقدنا كنز دفين لا يجود بخيره إلا إذا نبهته الذكرى، ذكرى أصدقائه وعارفيه وطلابه، يمتحون منه ويغدقون.
بل هو في حياته ومماته عطاء صامت، فإذا أنت أفلحت في إنطاقه تدفق منه الثراء وفاض. ذلكم أنه عرف محراب العلم حقاً وأوى إليه، ومن جاس سدة العلم تهيبه وخافه ولم يتجرأ عليه.
لن أقول فيه قولة الجاحظ في وصف بليغ:
“وكان يرى صامتاً فإذا قال بذّ القائلين” ولا أعزي صحبي وصحبه بقول الشاعر العربي القديم:
حشاش الطير أكثرها فراخاً
وأم الصقر مقلاة نزور
لا، لا أقول هذا كله في وصفه، فأنا لا أتفق مع من تقالّوا عطاءه، فلقد كان قليله كثيراً، وكان جواداً متخفياً، في صدقه وصداقته، في أحاسيسه ومشاعره ومثله العليا، وفي نتاجه الفكري والأدبي نفسه. وفي مجال هذا النتاج الأدبي، يروي الرواة عنه أن أحد طلاب الدكتوراه عنده سأله يوماً: لماذا لم تؤلف كتباً؟ فأجاب بكلمات ثلاث: “اخترت تأليف الرجال” وفي رواية: «طلابي هم كتبي». ويا له من خيار صعب، يذكّرنا بقول شاعر جاهلي:
يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتان بين قرى وبين رجال
أو لم يشرف فقيدنا أثناء مقامه بالمغرب خلال لواذ ثلاثين عاماً (من عام 1961-1990) على أكثر من ستين رسالة دكتوراه وماجستير، سار ذكرها على الألسن وحملها الركبان، وكونت أجيالاً من الأساتذة والعلماء، دربوا على أساليب البحث العلمي الرفيع، وتمرّسوا بتقديس العلم والاستزادة منه دوماً وأبداً، وتسلحوا بمفاتيحه وأدواته؟ ولعل شأنه في هذا شأن سقراط الذي نقش علمه وحقائقه في صدور تلاميذه، ودربهم على أساليب الكشف عنها وتوليدها بأنفسهم. وقديماً جاء في تراثنا: “العلم ما حوته الصدور لا ما حوته السطور، وما ضمه الصدر لا ما ضمه القمطر”. ألم يكن السابقون من علمائنا “يكرهون تشييخ الصحيفة”؟
لقد كان هم فقدينا أن يعلم طلابه كيف يتعلمون، مستمسكاً بأحدث شعارات التربية الحديثة بل المستقبلية، نعني العمل على إعداد إنسان قادر على أن يعلم نفسه بنفسه، لا إنساناً متعلماً.
وفي تراثنا من أقوال ابن قتيبة: “يظل المرء عالماً ما طلب العلم فإن ظن أنه علم فقد جهل”.
ومما كتبه أحد طلابه القدامى في كلية الآداب بمدينة فاس، وهو بشير القمري، في الملحق الخاص الذي خصت به جريدة الاتحاد الاشتراكي المرحوم أمجد: “تعلمنا (منه) الصبر، وتعلمنا منه المجاهدة، وتعلمنا السفر والإبحار خلف رصيد وكنوز الأدب العربي القديم…
لقد كنا ونحن بين يدي فقيدنا، نحس أننا في طقس احتفالي بالشعر والشعراء في الجاهلية والإسلام وفي العصور الأخرى، طقس يستحضر فيه أستاذنا الغالي النصوص والأخبار والشروح والتعاليق والهوامش، يستنطقها ويمحصها وينخلها ويلقي بها في أفئدتنا ووجداننا”.
على أن ما هو أصدق من هذا كله، في تبين معنى العطاء في مجال الأدب والفكر عند فقيدنا، أن نسلكه في عداد البلغاء الذين يجتبون فضول الكلام وحوشيّه، والذين بلغوا في قدرتهم على مطابقة اللفظ للمعنى حداً جعل كلامهم كالتوقيع على حد قول بلغاء العرب. ولعل خير ما نصفه به أنه مبدع لم يكن لعلمه فضلٌ على عقله، ولم يكن للسانه فضل على علمه.
ومع ذلك، حذار أن نظن أن أمجد الطرابلسي لم يؤلف ولم يكتب. فما وصلنا مما كتب أقل مما لم يصلنا. وما طبع من نتاجه في المغرب يؤكد لنا أن حظه من التآليف المكتوبة لم يكن قليلاً.
ولنذكر فوق هذا وقبل هذا أنه حين يكتب يتخير لمؤلفاته من الموضوعات، في معظم الأحوال، ما يتفق وقناعاته الفكرية ومواقفه، وما يتفق بوجه خاص مع إيمانه بالعروبة، تراثاً وفكراً ولغة. ولهذا وجه جل عنايته إلى اللغة العربية وإعجازها، وإلى التراث العربي ومظانّه، مشيداً دوماً بروعة اللغة العربية ودورها الأول في البناء القومي – فعلةَ المفكر القومي الرائد ساطع الحصري – ومذكراً بما قاله أستاذه: ماسينيون: «إن البعث الدولي للغة العربية عامل أساسي في إشاعة السلام بين الأمم في المستقبل» وليس من قبيل الصدفة أن يختار موضوعاً لأطروحة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة السوربون بباريس عام 1945 «النقد الشعري عند العرب حتى نهاية القرن الخامس الهجري»، ولقد ترجمها إلى العربية الدكتور إدريس بلمليح ونشرت الترجمة دار توبقال بالدار البيضاء. وليس من باب الصدفة أيضاً أن يكون من بواكير كتبه كتاب صغير جِرمه كبير جُرمه، نعني كتابه “نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب” الذي طبع بدمشق عام 1954، ثم أعيدت طباعته بالمغرب.
وقد لا يذكر كثير من الباحثين محاضرة هامة له، تشهد على عمق همه القومي، عنوانها: «الأدب العربي بين الأدب القومي والإنساني» وقد لا يذكرون محاضرة أخرى بهذا الشأن عنوانها «اللغة القومية»، ومحاضرة فذة عن «شعر الشام والفكرة العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين» ومجموعة من المحاضرات ألقاها في معهد الدراسات العربية العليا بالقاهرة عام 1957 حول «شعر الحماسة والعروبة في بلاد الشام».
ولا عجب بعد ذلك أن يقول الدكتور إدريس بلمليح في تقديم الترجمة العربية لأطروحة الفقيد التي تولى ترجمتها إلى العربية:
“علمني الاعتزاز بالتراث العربي والإسلامي” ويوضح ذلك قائلاً:
“لقد كان رائدي في التعلق بهاذ التراث وتذوقه رجلٌ عشق التاريخ العربي إلى حد التصوف، ولكن عشقه ذلك لم يكن انفعالاً متشنجاً أو انكفاءً على الذات التي تجتر الوحدة من سموم ودسائس وأفعال تهدد كيان الوحدة الغضّة الناشئة”. وقد عزمنا أمرنا آنذاك على أن نبوح بهمومنا إلى وزير التربية. وكان الوزير كمال الدين حسين، الذي كنت أعرفه عن كثب منذ عام 1956 يوم عملنا معاً في وضع اتفاق الوحدة الثقافية بين مصر وسورية والأردن. وهكذا كان لنا مع كمال الدين حسين حديث لا كالأحاديث في جرأته وصراحته، ظل يذكره طويلاً، ولعل طيفه راوده بشكل خاص عندما أخذت الوحدة الغالية تتردى وتوأد وهي بعد حيّة.
ومن أفضل ما يفصح عن مشاعر فقيدنا القومية القصيدة التي كتبها عام 1942 عن فوزي القاوقجي. ومما جاء فيها:
أدنى منانا دولةٌ عربية
شماءُ ترأبُ صدعنا وتوحد
يرضى بها شهداؤنا ودماؤنا
وفخارُنا الأسمى الأعزُّ الأتلدُ
كما تفصح عن تلك المشاعر قصائده عن “بور سعيد” و”رصاص فتح” و”عدنان المالكي” وسواها. أوليس هو القائل في قصيدة رائعة ألقاها في 2 آذار 1958، تمجيداً لقيام الجمهورية العربية المتحدة:
عَلمَ الوحدة يا مجدي في يومي الجديدِ
عَلمَ الوحدة يا مجد غدي يا فجر عيدي
عَلمَ الوحدة يا حُلْمَ رغابي وشبابي
إنني أركزك اليوم على شمّ هضابي
ومن أصدق وأعمق ما قاله في تلك الوحدة التي كان يخشى أن يفسدها كيد الكائدين أبيات قالها في الذكرى الثالثة لاستشهاد عدنان المالكي في نيسان 1958، بعد شهرين من قيام الجمهورية العربية المتحدة:
هذه الوحدة كم سال على
حُلْمها الرفّاف من جرح سَخيِّ
برّأ الله لنا جوهرها
ووقاها من شراك الأجنبي
والحق، إن أهم ما يسم طباع الصديق أمجد وفكره، في آن واحد، الإباء والشمم. لقد كان منتصباً في وقفته ومشيته، وتحيته، كما كان أشمّ شامخاً في أفكاره وقناعاته ومبادئه. ولعله في ذلك قد تشيّم أباه الذي كان ضابطاً في الجيش العربي خلال حكم الملك فيصل. وله في هذا الشأن مواقف وأقوال. منها محاضرة عن «الحرية والعبودية في الأدب» بل له في أشعاره القليلة التي كتب معظمها في ميعة الشباب (والتي نشرها في المغرب عام 1993 المجلس القومي للثقافة العربية وعنوانها: كان شاعراً) إشارات بينات إلى طبعه الأدبيّ، وإلى استمساكه بالعزة والشمم والكرامة، وهي من أبرز خصال العرب في جاهليتهم وإسلامهم. ومما ورد في إحدى قصائده آنذاك:
أحب الجبال الشامخات كأنها
على جهة الدنيا تصول عواتيا
وفيها يقول:
واحتقر الكثبان يرعشها الصبا
ويفزعها الإعصار إن مر لاهيا
وتحملها الأرياح أنى توجهت
ألا عيب في أسفارها وألاهيا
ويقول في هذا المعنى في قصيدة أخرى:
وأحتقر الأحرار يجنون هامتهم
وليس عليهم سيّد أو مسيطرُ
إذا كان قلب المرء عبداً ورأيه
فقل لي – هُديتَ الجير – ماذا تحرّرُ
على أن أمجد الأبيَّ الصُّلب الصليب، كان من أكثر من عرفت رقةً في الحواشي، ودماثةً في الطباع. كان سهلاً مَأْلَفاً محبباً ومحبَّاً لمن يأنس لديه الخير، ولاسيما من طلابه. فقد كان أمام محراب العلم جمّ التواضع، بعيداً عن ادعاء الإحاطة، يذكّر بالقول المأثور: «إذا ترك العالم قول لا أدري أُصيبَتْ مقاتلهُ».
ذلكم أن ديدن الفقيد كان دوماً هو العلم والاستزادةَ منه. وما زلت أذكر يوماً زرته فيه بمكتبه يوم كان وزيراً للتربية بالإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة. وحين قرأت في وجهه أمائر الأسى، بادرني قائلاً: إن منصب أستاذ الجامعة يعدل عندي (وصمت قليلاً وأضاف) يعدل مُلْكاً.
وإن أنسَ لا أنسَ أماسيّ جعلناه دُولة بيننا، كانت تضم نخبة من أساتذة الجامعة وسواهم، وكنا نتجاذب فيها أطراف الحديث، ونعرّج على شتى مجالي الفكر والأدب.
كما لا أنسى ليالي جمعتني وإياه وحكمة هاشم بباريس، دارت خلالها أحاديث الفكر كأنها قطع الروض.
ولا أنسى، والغصة تحشرج في صدري، آخر لقاء لي معه بدمشق بمنزل الصديق المشترك شوكة القنواتي قبل وفاته بقليل، حين شدّ أمجد على يديّ وهو يغالب رعش يده، كما يغالب دمعةً تترقرق في مآقيه، وكأنه يعبّر عن سعادته بزياراتي التي غدت مألوفة للدكتور شوكة وهو في أواخر سني حياته.
رحماك الله أبا سامي وأجزل مثوبتك ونفع الأمة بذكراك، ذكرى العالم الفذّ، والأديب المبدع، والشاعر المطبوع «الذي لم يعرف مرحلة البرعمة» على حد قول شكري فيصل، ذكرى الإنسان المؤمن بعلمه وأمته، الصادق في بذله وعطائه لهما، ذكرى الإنسان الخاشع أمام محراب الحقيقة، الشامخ عزةً وكرامة ومجداً كالطود الأشم، ذكرى الخِل الأليف الوفيّ.
وأحر التعازي أقدمها لعائلتك الكريمة ولأصدقائك وسائر أبناء وطنك وأبناء الوطن العربي الكبير، من مشرقه الذي شهد انطلاقتك الرائعة في شتى الميادين، إلى مغربه حيث حطت بك الرحال وحيث أينعت قطوفك وفاضت، إلى شتى مرابعه التي كان لك فيها جميعها غرسات حملت واتأمت.
وأختم كلمتي المتواضعة هذه بأبيات من عيون شعرك أهديتَها إلى أبناء وطنك منذ سنوات بعيدة:
قالوا: سكتَّ عن الغناء فقلتُ لا
في مسمع الأكوان رَجْع غنائي
الكون لحني، كلُّه رتّلتُه
في نشوة الإصباح والإمساء
ألّفتُه من آهتي وتبسُّمي
فاستنشِدوه يُعدْ لكم أصدائي
دمشق في 14/3/2001