الثقافة اللبنانية بين الانتماء إلى فضاء العروبة والعودة إلى نفق “الجذور” – نتاج مبعثر سمته الاحتراب بين أفكار معاندة وأخرى مرتدة

مجلة الكفاح العربي – 9 كانون الثاني/ يناير 2001

الثقافة اللبنانية بين الانتماء إلى فضاء العروبة والعودة إلى نفق الجذور نتاج مبعثر سمته الاحتراب بين أفكار معاندة وأخرى مرتدة إذا كانت الظروف السياسية وسواها قد حالت في السابق دون الخروج بمركب عقلاني سليم يحدد المعالم المرجوة لحركة الثورة العربية في الخمسينيات. فما لا شك فيه أن لبنان بدأ يجد نفسه على نحو أفضل ويحدد دوره ووجوده تحديداً أوضح في إطار الوجود العربي المتكامل.
ولعلنا نستطيع القول إن مجمل الخطاب الذي وجهته الثقافة اللبنانية آنذاك للمد القومي العربي يمكن إيجازه في جملة واحدة وهي: إن لبنان العربي يزداد التحاماً بالعروبة بمقدار ما تثبت الحركة القومية العربية تقدميتها.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك الوجه الثاني للعملة فنقول: إن لبنان يستطيع أن يلعب دوراً تقدمياً أساسياً يدفع الوطن العربي إلى المزيد من التحرر، حين يأبى إلا أن يكون عربي الوجه واليد واللسان، وحين يرفض – وهو من أبلى خير بلاء في التاريخ العربي العريق كله قبل الإسلام وبعده – أن يكون انتماؤه إلى العروبة دون انتماء سواه.
ذلك هو الدرس الكبير الذي قدمه لنا تفاعل الثقافة اللبنانية مع الثقافة العربية خلال الخمسينيات والستينيات بوجه خاص.
غير أننا نصل في الربع الأخير من الستينيات إلى مفترق خطر ومهم يهز الثقافة اللبنانية والثقافة العربية كلها، ويوكل إليها دوراً جديداً.
ذلك أن نكسة الخامس من حزيران (يونيو) العام 1967، لم تكن زلزالاً عسكرياً فحسب، بل كانت أيضاً براكين تفجرت من عقول المثقفين بوجه خاص.
فقد بدت هذه النكسة لأعين المثقفين على أنها برهان حاسم على حقيقتين: أولاهما ضعف البنية الحضارية العربية في شتى أوجهها وفي وجهها الثقافي بوجه خاص بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة. وثانيهما إفلاس القيادات السياسية التي تولت قيادة الصراع العربي – الإسرائيلي بعد نكبة العام 1948، والتي أبعدت المثقفين عن هذه المعركة، في معظم الأحوال، بل أنزلت بهم الخسف والهوان أحياناً.
الدكتور عبد الله عبد الدائم يقرأ في الثقافات اللبنانية المتحفزة بعد الخامس من حزيران (يونيو) العام 1967. كذلك يقرأ في مسار هذه الثقافة وتحولاتها بعد الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة.
جاءت نكسة العام 1967 فأعادت إلى المثقفين دورهم السليب، ومثلت ظفراً للمثقفين على الساسة. بل إن بعض الساسة اتجهوا بملء إراداتهم إلى المثقفين يلتمسون لديهم الحلول، على نحو ما نجد ذلك جلياً في تلك الندوة الفكرية المهمة التي دعت ليبيا إلى عقدها في مدينة بنغازي في العام 1967، والتي حضرتها كوكبة بارزة من السياسيين وحسبنا أن نذكر سلسلة المحاضرات المهمة التي نظمتها الندوة اللبنانية بإشراف ميشيل أسمر العام 1968، وشارك فيها مفكرون بارزون ومتعددو الاتجاهات، من بينهم أدونيس وجورج خضر وصادق جلال العظم وإيلي سالم وهشام نشابة ومحمد عطا الله وغسان كنفاني وبهيج طبارة وسواهم، كما كان لي شرف الإسهام فيها بإلقاء محاضرة تريثت عند «اليقظة الشعبية الشاملة» ودورها في المعركة. وقد نشرت الندوة هذه المحاضرات في سفر يضم (340) صفحة يحمل عنوان: «بعد الخامس من حزيران (يونيو) 1967، أي لبنان»؟
كذلك نشرت مجلة «الآداب» اللبنانية، في عددها الممتاز الصادر بتاريخ أيار (مايو) 1974، وقائع تلك الندوة المهمة والفذة التي عقدت بالكويت من 7 – 11 نيسان (أبريل) 1974، والتي أسهم فيها كتاب من مختلف البلدان العربية، وأسهم فيها من لبنان قسطنطين زريق وأدونيس وسهيل إدريس وحسن صعب، وقد كان لي أيضاً حظ المشاركة في هذه الندوة، وقدمت خلالها بحثاً حول «دور التربية في مواجهة الأزمة»، وقد تناولت محاضرات الندوة ومناقشاتها مختلف العوامل التي تؤدي إلى تخلف الوجود العربي في شتى الميادين.
وإلى جانب هاتين الندوتين الكبيرتين المهمتين حول دور الثقافة في الكشف عن آفات الوجود العربي وسبل معالجتها، ظهر أدب واسع الأرجاء حول النكسة، ناقداً أيضاً ومعرياً، أو مشخصاً وهادياً إلى الطريق، نجده متناثراً في عدد واسع من المجلات والصحف اللبنانية، ومن العسير الإحاطة به. منه على سبيل المثال لا الحصر، العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة «الآداب» (عن شهري تموز /يوليو – آب/ أغسطس 1967)، والذي حمل ذلك العنوان المهم: «طريقنا الجديد»، والمقصود بذلك «طريقنا الجديد إلى النصر» كما ورد في مقال لي ضمن هذا العدد. ومن هذا النتاج المبعثر أيضاً العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة «الآداب» في أيار (مايو) 1970 والذي اختارت له هذا العنوان المعبر »نحو ثورة ثقافية عربية«، ومن مزايا هذا العدد أنه تريث – بالإضافة إلى المشكلة الثقافية الحضارية العامة – عند بعض جوانب الإبداع الثقافي المهمة في معركة الحضارة أنّى كانت، كالفلسفة والمسرح والأقصوصة والشعر.
ومن هذا النتاج المبعثر المتصل بنكسة الخامس من حزيران (يونيو) مقال نشره هشام شرابي في مجلة »القضايا« المعاصرة الصادرة عن دار النهار (عدد تموز/يوليو 1969) حول »هزيمة حزيران (يونيو): عبرها وذيولها«.
تنوع الثقافة اللبنانية وغناها بعد الخامس من حزيران (يونيو)
على أن ثمة جوانب أخرى مهمة للثقافة اللبنانية الناقدة والبناءة بعد الخامس من حزيران (يونيو) تشهد على أن الثقافة اللبنانية – إلى جانب تفاعلها مع الأحداث العربية الكبرى – تعمل دوماً وفي شتى الظروف على تنمية أعمدة الثقافة وأركانها الأساسية وتحرص على جعلها الأساس المكين لأي تغيير اجتماعي أو سياسي.
ومن تجليات هذه الثقافة المؤسسة للثقافة إن صح التعبير الدراسات التي بدأت تعالج للمرة الأولى معالجة علمية رصينة متكاملة مسائل التنمية المختلفة في لبنان من اقتصادية وسياسية واجتماعية وتربوية وإعلامية وغير ذلك من الجوانب، منطلقة من حقيقة غدت بدهية وهي أن التنمية إما أن تكون شاملة متكاملة أو لا تكون، مؤكدة أن الصلة بين الثقافة والتنمية بوجه خاص صلة عضوية راسخة، وأن الثقافة ليست وسيلة التنمية فحسب بل هي غايتها وهدفها الأول (كما ورد في مقررات المؤتمر الثقافي الدولي الذي عقدته اليونسكو في المكسيك العام 1982).
وقد عبرت عن هذا المنطلق الجديد أفضل تعبير »ندوة الدراسات الإنمائية« التي أسسها حسن صعب العام 1964 والتي انتسبت إليها وشاركت في نشاطاتها المتوالدة نخبة بارزة من رجال الثقافة في لبنان. ومن بين النشاطات المهمة التي قامت بها الندوة تلك الحلقة التي نظمتها بين السادس والعشرين والثلاثين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1970، وعنوانها »الإنسان هو الرأسمال«. وقد قدمت فيها دراسات مهمة حول شتى جوانب تنمية الموارد الإنسانية في لبنان، تولت الندوة طباعتها في سفر ناهز السبعمائة صفحة. كذلك أسهم في هذا المنطلق الإنمائي المهم إسهاماً مؤثراً وموصولاً »معهد الإنماء العربي« الذي تم تأسيسه في لبنان في أواخر السبعينيات.
وهذا الميدان الجديد الذي انطلق فيه لبنان، ميدان تنمية الموارد الإنسانية في تكامل وتفاعل مع الموارد المادية والمالية، رافقه جهد جديد أيضاً من أجل بناء نظام تعليمي لبناني متطور لصيق بحاجات المجتمع اللبناني وبمطالب سوق العمل ومستلزمات التنمية الشاملة، وعلى رأسها التنمية الثقافية. والحديث عن لبنان التربوي لا يتسع له المقام، على الرغم من اهتمامي الخاص بالشأن التربوي بحكم اختصاصي، وعلى الرغم من مواكبتي لتطوره ونشاطه من خلال عملي في بيروت، بين العام 1962 والعام 1970، وحسبي أن أقول إن هذا النظام التربوي – وقد أصابه تطور كبير لاسيما بعد إنشاء »مركز البحوث التربوية« وتأليف لجنة لتخطيط التربية في لبنان شاركت في اجتماعاتها المحدودة بوصفي مستشاراً – كان بمثابة الخصم والحكم في معادلة التنمية اللبنانية بوجه عام، وفي معادلة التنمية الثقافية بوجه خاص وفي معادلة حياته السياسية بوجه أخص. ولا أدل على ذلك من أن بوادر الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة قد أرهصت بها إلى حد بعيد الحركات الطلابية العنيفة التي قامت في لبنان في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، والتي كانت واضحة ومعبرة في دلالاتها في الجامعة اللبنانية بوجه خاص، والتي قدمت دليلاً واضحاً على أن وراء الانهيار السياسي دائماً انهياراً ثقافياً.
غنى الحركة الثقافية بعد الخامس من حزيران (يونيو)
وهكذا يتبين لنا أن أثر نكسة الخامس من حزيران (يونيو) على الثقافة في لبنان لم يقتصر على ما أملته من مراجعة شاملة وكاملة لمنطلقات الثقافة اللبنانية والثقافة العربية بوجه عام، ولم يكن مجرد استجابة مرحلية للواقع السياسي العربي الجديد. فالثقافة في لبنان – مهما تكن الظروف – هي بمثابة اللحم والدم في بنيانه، وهي خبزه اليومي بالمعنى المادي والروحي لهذه الكلمة. ومن هنا عرفت مرحلة ما بعد الخامس من حزيران (يونيو) نهضة ثقافية محضة، فكرية وأدبية وفنية، لم تعرفها من قبل، في شتى مجالات الإبداع الثقافي. ويشهد على ذلك ما قذفت به دور النشر الكبرى في تلك الفترة من نتاج نادر في كمّه ونوعه. وهكذا شهدنا – في ما شهدنا – ولادة موسوعات كبرى في مختلف الميادين: من مثل الموسوعة الفذة عن دول العالم الإسلامي ورجالها، وكالموسوعة السياسية والموسوعة الفلسفية وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية وموسوعة تاريخ الفن وموسوعة المصطلح النقدي وموسوعة تاريخ الطب والموسوعة الفلسطينية، والموسوعة العسكرية وسواها، كما شهدنا عناية خاصة بنشر الأعمال الكاملة.
الثقافة اللبنانية بعد حرب تشرين 1973
بعد هذه الحرب جاءت الثقافة لتدلي دلوها بين الدلاء. لقد نجح سعيها إلى حد كبير، وتحطمت أوهام راسخة كانت تؤمن بعصمة دولة إسرائيل وتفوقها تفوقاً لا يقهر، وصفق الكتاب والأدباء والفنانون والمفكرون لهذا الحدث الجديد، وتبارى القوم في الإشادة بالنصر، غير أنه أعقب ذلك رويداً رويداً ارتخاء في الأقلام ولين في الأفكار ودعوات إلى واقعية انهزامية استسلامية.
وليس المقام مقام تحليل بعض الردة الفكرية التي أعقبت هذا النصر لدى طائفة من المثقفين. وما يعنينا أن الكثرة الكاثرة من مثقفي البلاد العربية بوجه عام، ومن مثقفي لبنان بوجه خاص، ظلوا أوفياء لرسالة الثقافة، فلم يهنوا ولم يستكينوا، وحاولوا أن يجعلوا من حرب تشرين منطلقاً لمزيد من الجهد في سبيل تعزيز الكيان العربي، وهذا ما نجده، على سبيل المثال لا الحصر، لدى تلك الطائفة الكبيرة من الأدباء العرب الذين أدلوا بدلوهم في معركة تشرين، والذين ضمهم ذلك العدد الممتاز الرائع الذي أصدرته مجلة »الآداب«، (عدد تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 1973) تحت عنوان: »أدباؤنا في المعركة«. وقد توج ذلك العدد بيان للمثقفين العرب باسم اتحاد الكتاب اللبنانيين. وضم العدد – بالإضافة إلى شهادات الكثير من كبار الكتاب والأدباء العرب – شهادات ومقالات مهمة لنيف واثني عشر كاتباً ومفكراً وأديباً لبنانياً، من بينهم منح الصلح وأنسي الحاج وأدونيس ومنير البعلبكي وليلى البعلبكي وسواهم، وقد بدا لنا آنذاك – في مقال نشرته مجلة »الديار« الأسبوعية (بتاريخ 15-31كانون الأول/ديسمبر 1973) – أن نلخص مهمة الفكر العربي والثقافة العربية بعد حرب تشرين، على النحو الآتي:

»من غير الجائز أن يعطل الطاقات الفكرية تمزق عقيم بين اليأس والأمل، وأن تريحها البوادر المطمئنة وتهددها الأحلام الناعمة السهلة. إن مهمتها منذ اليوم ألا تفوت لحظة من لحظات الجهد والبناء، وأن تدرك أن الفجر العربي الذي يبشر بالانبلاج هو رهن عملها السريع والمتوتر والموصول في سبيل بناء حضارة عربية عصرية…».
الثقافة والحرب الأهلية
على الرغم من هذا الغنى والتفجر الثقافي الفريد الذي عرفه لبنان بعد نكسة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 والذي استمر حيناً من الزمن بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، تردى الوضع اللبناني العام كأبشع ما يكون التردي، وتفجرت صراعات عنيفة بدت فيها الثقافة اللبنانية بكل تراثها وتجاربها أشبه ما تكون بصورة »دوريان غري« المزدوجة. ذلك أن الثقافة، مهما يكن شأوها، تظل نظاماً فرعياً من نظام اجتماعي وسياسي شامل، يؤثر فيها وتؤثر فيه، ولا يكون صلاحها وصلاحه إلا عن طريق الحوار بينهما من أجل إحكام الوصل والتكامل داخلهما، سعياً للوصول إلى خطة عمل أشبه ما تكون بشبكة متآخذة.
بل لعل من حقنا أن نقول – انطلاقاً من التجربة اللبنانية – إن على الثقافة أن تحقق التفاعل والتكامل في داخلها، إذا هي أرادت أن تحقق الحوار والتفاعل مع سواها من مقومات النظام الاجتماعي.
ومن النُّصف للمثقفين في لبنان أن نقول إن معظمهم لم يوفروا جهداً في هذا السبيل، ولعل خير هذا الجهد هو ما جاء بعد الكارثة، كارثة الحرب الأهلية.
فلقد طرحت الحرب الأهلية اللبنانية – بفظاظتها ولا معقوليتها – مشكلات جذرية تمس أعماق الكيان اللبناني، تصدى لها معظم المثقفين بجرأة وبسالة. واتجه الجهد الثقافي نحو البحث عن الجذور، وعن جذور الجذور، التي فجرت الحرب الأهلية، سواء أكانت طائفية أم عائلية أم تاريخية، وسواء أكانت أصيلة أم دخيلة، وظهرت المؤلفات اللبنانية تترى، في أثناء الحرب، في لبنان وخارج لبنان، تحفز وتكشف وتفضح وتفسر.
غير أن هذه المعركة التي خاضها المخلصون من المثقفين اللبنانيين – وهم الكثرة – كشفت عن نقطة ضعف أخرى في الثقافة اللبنانية، إلى جانب نقطة الضعف الأولى المتصلة بضعف الحوار بينهم وبين القيمين على المكونات الأخرى للمجتمع. ونقطة الضعف الثانية والمهمة هذه، التي كشفت عنها الحرب الأهلية، هي ضعف التواصل وضعف التأثر والتأثير بين النخبة الثقافية النزيهة وبين جماهير الشعب الخاضعة لغرائز متأصلة أو لتهييج فئوي ذميم.
وليس المجال مجال الإفاضة في هذا الميدان، فلقد طرقته أقلام لبنانية أكثر علماً وأدرى بحقائق الأشياء.
لقد استطاعت بيروت منذ زمن أن تفرض نفسها عاصمة ثقافية. وحسبها في ذلك أن الثقافة عندها كانت دوماً ولا تزال تعني التثاقف والحوار الثقافي بينها وبين سائر البلدان العربية، ثم بينها وبين ثقافات العالم في مرحلة يشتد فيها المد والجذب بين صراع الثقافات من جانب وحوار الثقافات من جانب آخر. حسبها أن ثقافتها كانت دوماً ثقافة من أجل الإنسان، الإنسان اللبناني الذي لا يزكو إلا من طريق انغماسه في تربة لبنان الواحد، والإنسان العربي الذي لا يتفتح إلا في هوائه القومي المشترك، والإنسان أنى كان الذي لا يكتمل إلا عن طريق حواره مع سواه من أبناء العالم.