صراع اليهودية مع القومية الصهيونية

كتاب من تسعة فصول إضافةً إلى تصدير ومدخل وخاتمة ويحتوي على حوالي مائة صفحة كتبه الدكتور عبد الله عبد الدائم. والدكتور عبد الله عبد الدائم علم تتلمذ على يديه
– مباشرة وغير مباشرة – آلاف طلبة المعرفة، وهو جدير بالإجلال والاحترام..
.. لكن رغم الاحترام ليس بالضرورة تطابق الأفكار والمواقف بين المتلقي والمتلقي عنه، بل ربما يكون التناقض رغم وجود التقدير والاعتراف بالجميل. أعترف أن عنوان الكتاب المقرون باسم أستاذنا الكبير جعلني أتردد في اقتنائه، فللوهلة الأولى شعرت أنه منحول
أو جرى استغلال اسم الكاتب للترويج والدعاية، لكنه ظهر خالياً من أي شبهة في النسب.
البداية والمعايير الموضوعية: «صراع اليهودية مع القومية الصهيونية».
يفترض الكاتب وجود تناقض بين اليهودية والصهيونية: «بل الصراع قائم بين الصهيونية وبين الوجود اليهودي بكامله» (ص 10) ومع هذا الافتراض يقفز التساؤل الملح عن ماهية «التناقض» إذا كان موجوداً وما هي أبعاده وأسبابه ليتسنى للقارئ رؤية الموضوع بشمولية وتجرد وإلا كانت المراوحة حول المفاهيم العامة المطروحة دون «ما صدقات» كما يقول المناطقة.
من المعروف تاريخياً أن الحركة الصهيونية السياسية الرسمية التي انبثقت عن مؤتمر بال 1897 لم يكن لها أن تنجح لولا تبلور الفكرة عن طريق الطروحات الأدبية وقبلها الطروحات الدينية في الأوساط اليهودية.. ألم يكن جوهر الديانة اليهودية قائماً على التمايز اليهودي عن باقي البشر لأنهم «شعب الله المختار» توراتياً وهم شعب نقي الدماء «أدبياً». «وقلعة المدنية الأوروبية في مواجهة البربر» صهيونياً ألم تؤثر رواية ليون أوريس (أكسودس) أضعاف تأثير التوراة في الشارع اليهودي والعالمي ولمصلحة الصهيونية السياسية؟! ألم يقل هيرتزل: لو أنني قرأت رواية بنيامين دزرائيلي (ديفيد الروي) والتي صدرت عام 1833 لما تجشمت عناء كتابة «الدولة اليهودية» لتطابق الأفكار بين الكتابين.
ربما كان الأمر أكثر دقة: استبدال كلمة تناقض بكل مدلولاتها ووضع كلمة «اختلاف» بدلاً منها، والاختلاف محدد بالوسائل ولم يكن يوماً جوهرياً إلا عند مواجهة الموت والصراع الوجودي مع «الجوييم».
«إن مصدر تلك الصراعات كلها هو الدعوة الصهيونية التي أطلقها هيرتزل وصحبه والتي فرضها هؤلاء على اليهود فرضاً وعنوة، ووفروا لها النجاح عن طريق الاعتماد على الإمبريالية الغربية والاستجابة لمصالحها وعلى رأسها بريطانيا في البداية والولايات المتحدة بعد ذلك» (ص 6).
إزاء هذا الطرح لابد من التساؤل أيضاً عن كيفية الضغوطات وفرض الأفكار الصهيونية على اليهود الذين يعيشون في (الدباسبورا) وتحت أنظمة حكم متعددة. إضافة إلى ذلك فإن الحركة الصهيونية لم تكن وليدة أوروبا الغربية وبالتالي الدول الإمبريالية بل وليدة شرق أوروبا وفي أحضان الحركات الاشتراكية والشيوعية، ذلك ما ذكره الكاتب الصهيوني (إسحق جرينفيم) في كتاب «الحركة الصهيونية» باللغة العبرية ثم نظرة ولو سريعة على المؤتمرات الأولى للحركة الصهيونية فسنتبين أن المشاركين في غالبيتهم من تنظيمات اشتراكية وهذا لم يمنع الحركة الصهيونية من تلقي الدعم من الدول الإمبريالية بعد أن تلاقت المصالح بينها.
يؤكد أستاذنا أن الصهيونية: أيديولوجية سياسية هزت الشعب اليهودي بأسره وتصدى لها منذ البداية الوجود اليهودي في الشتات بقواه المختلفة (ص 10).
المؤشرات والمعلومات المؤكدة تدلل أن غالبية اليهود يناصرون الحركة الصهيونية، مع وجود خلافات، حول بعض القضايا، فمعظم اليهود لا يصنفون ضمن الإطار الديني وبمعنى آخر هم يهود بالولادة لكن نشأتهم وتربيتهم العامة علمانية، وبالتالي فالمفاهيم الدينية التوراتية المحضة يجهلونها، بل إن غالبية اليهود في – تلك الفترة – لم يكونوا يعرفون من اليهودية غير الاسم وبعض طقوس الصلاة والختان كما أنهم لا يعرفون اللغة العبرية وربما هي آخر شيء يمكن تعلمه بالنسبة لهم: والدليل على ذلك أن أكبر كتلة بشرية يهودية في أوروبا كانت تعيش في روسيا وبولندا والنمسا ووسط أوروبا عموماً ومعظم هؤلاء كانوا ضمن تنظيمات اشتراكية أو شيوعية، كما أن معظم التنظيمات اليهودية شاركت في المؤتمرات الصهيونية وأعربت عن معارضتها لبعض مواقف هيرتزل لكن ذلك ليس تناقضاً.. التناقض الوحيد المعروف كان يقوده التيار الديني الذي يتمسك بحرفية التوراة والتلمود الذي يرى أن قيام دولة يهودية مخالف للنصوص المقدسة ويسرّع في مجيء المسيح قبل أن تنضح شروط قدومه وهذا التيار وقف منذ البدء ضد الحركة الصهيونية.
ترجع فكرة «الأمة اليهودية» و«القومية» اليهودية إلى فترة الوعي القومي الأوروبي، حيث تبلور الفكر القومي هناك.. وتمايزت القوميات والأمم وهي في غالبيتها مسيحية الديانة، فارتأى اليهود وهم الأعداء التقليديين للمسيحيين أن تكون لهم قومية أيضاً.. ولكن كيف واليهود يفتقدون كل مقومات الأمة؟! فلا أرض ولا لغة ولا شعب واحد ولا اقتصاد فكان رأي فلاسفتهم أنهم «أمة روحية»، ويختلفون عن باقي الأمم ومعاييرهم.. هكذا قال موسى هس، دزرائيلي، بيريتس سمولنسكين وهيرتزل وأحاد هاعام وغيرهم. لكن تظل الحركة الصهيونية حركة سياسية لا يمكن إخضاعها موضوعياً لتعريف القومية.
ويقول الأستاذ عبد الدائم: «إن أصول الصهيونية، أصول لا علاقة لها – في حقيقة الأمر – باليهودية وحاجاتها الواقعية، وأن الأيديولوجية الصهيونية أسطورة أراد صانعوها ومزيفوها من خلالها أن ينشئوا دولة سياسية وقومية واستعمارية» (ص 11).
مما لا شك فيه ولأن جوهر الحركة الصهيونية سياسي لابد أن تكون إحدى مطالبها الاستراتيجية العمل والدعوة لقيام «الدولة» لكن هذه الدولة لمن ستكون ولمصلحة من؟ ألم يكن اليهود أداتها وبإرادتهم ظاهرياً حيناً وجوهرياً أحياناً؟!.
المطالب الصهيونية والمؤامرات كانت تجسد على أرض الواقع ومن خلال حركة هجرة استيطانية وتعبئة إعلامية ودعم مالي ضخم ومساعدات من زعماء العالم، ولم تكن «أساطير» ورؤى فردية أو اجتماعية وبالتالي فإن اليهود قاطبة يتحملون مسؤولية الاغتصاب ويظهر من ذلك عبثية «الفرز» بين يهودي ويهودي، وتبدو المغالطة أكبر وتناولها أكثر سخفاً عندما تقول يهودي صهيوني ويهودي تقدمي أو يهودي مجرد. والحقيقة «على خلاف» مع أطروحة أستاذنا: «إن معظم يهود الشتات معادون للصهاينة باعتبارها حركة سياسية» (ص 12-14). فعدد اليهود مثلاً في فلسطين – في حياة هيرتزل كان محدوداً جداً بينما اليوم يقارب – حسب الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية – 4.5 مليون من أصل 15 مليون في العالم جاؤوا في معظمهم من الهجرة وليس أدل على توافق المواقف لدى اليهود عامة أن 120 ألف يهودي هاجروا من العراق فقط بين الأعوام 1948-1952 وهؤلاء هم الذي أقاموا البنى التحتية للدولة اليهودية رغم أن عدة حكومات عراقية كانت تضم وزراء يهود. والحال نفسه بالنسبة ليهود المغرب.. والقياس على ذلك جائز.
الروافد والمجرى العام: إذا جاز لنا وصف الاتجاه الصهيوني بعد مؤتمر بال 1897 بالمجرى العام فإن هذا المجرى تشكل من مجمل روافد «متخالفة، ومتقاطعة» في آن واحد، فالأحياء اليهودية على مساحة أوروبا شهدت ولادة عدد كبير من التنظيمات السياسية والاقتصادية والدينية، كما برزت على السطح أسماء «أعلام» يهود.. كل هذه التيارات انضوت تحت لواء الحركة الصهيونية وشاركت في المؤتمر التأسيس لتلك الحركة.. ونحن نعرف أن أي مؤتمر عقد أو سيعقد على مستوى شعوب كل الأرض لابد أن يضم المناوئين والمعارضين والمؤيدين.. لكن يستبعد انضمام المتناقضين.
وعليه فقد شارك كل الذين يرى الأستاذ عبد الله عبد الدائم أنهم كانوا في حالة صراع مع هيرتزل في معظم المؤتمرات ومنهم على سبيل المثال: بنسكر، نحمان سركين، بربور خوف والتيار الديني السياسي وأحاد هاعام.
إضافة إلى ذلك فنحن نختلف مع أستاذنا الكبير في عدة نقاط:
أولاً: يقول الدكتور عبد الدائم أن نحمان سيركين كان متناقضاً مع هيرتزل لكن كتاب نحمان سيركين وهو رسالة دكتوراه يحمل عنوان «المسألة اليهودية ودولة اليهود الاشتراكية» وفيه يصر على قيام دولة لليهود – وليس للصهيونيين فقط- على أن تكون مبنية على أسس اشتراكية.
ثانياً: لقد شاركت حركة أحباء صهيون في المؤتمرات الأولى إلى أن ذابت في بنية الحركة الصهيونية مع مرور الوقت بل أن بنسكر وهو أحد مؤسسي حركة أحبّاء صهيون كان أداة طيعة في يد هيرتزل ينفذ من خلاله كل طموحاته السياسية، والخلاف كان بين هيرتزل وأحاد هاعام المؤسس الحقيقي لحركة أحباء صهيون، وربما كان الخلاف شخصياً وثقافياً ذكرته بتوسع صحيفة «دي فولت» والتي كانت لسان حال الحركة الصهيونية. ومع ذلك فقد شارك أحاد هاعام في بعض المؤتمرات الصهيونية.
ثالثاً: يقول الكاتب الصهيوني اسحق جرينفيم أن الديانة اليهودية أفرزت تيارين سياسيين في آن واحد تقريباً بل كان ذلك أحد نتائج مؤتمر بال: الحركة الصهيونية والحزب الشيوعي ليهود روسيا (البوند)، وبالتالي فإن المنطق هذا يؤشر إلى ضلوع اليهود في إطار الحركة الصهيونية التي سعت إلى إنجاز الهدف السياسي، أقصد الدولة.
رابعاً: معظم حالات الهجرة اليهودية كانت تحت سقف الوكالة اليهودية وهي اللجنة التنفيذية للحركة الصهيونية.

وتشير محاضر المؤتمرات الصهيونية الأولى من (1-6) أن المنظمات اليهودية هي التي مارست الاستيطان في فلسطين وليست الحركة الصهيونية السياسية. بل إن تزاوج رأس المال اليهودي الذي كان يمثله البارون روتشيلد مع الحركات الاشتراكية وبالذات حركة أحباء صهيون هي التي استولدت المستوطنات الأولى في فلسطين مثل (بتاح تكفا)، (روش بنا)، بينما كان يعارض جناح هيرتزل هذا العمل بشدة وقام المؤتمر الصهيوني الرابع بتشكيل لجنة لدراسة الوضع وشجبه فهذا العمل – أي الاستيطان – يثير غضب الحكومة العثمانية التي أقام معها قناة سياسية تفاوضية.
رؤى مخالفة: يقول الدكتور عبد الدائم «ثمة حركة من طراز خاص خالفت المقولات الصهيونية وكان لها شأن متميز بين الأربعينيات والخمسينيات ونعني بها الحركة الكنعانية، وهي ترى أن واقعاً إسرائيلياً جديداً لا علاقة له بالواقع اليهودي في الشتات قد ولد على أرض إسرائيل، ودعت إلى خلق أمة موحدة في أرض العبريين على نهر الفرات. (ص 16)، وإلى جانب الحركة الكنعانية ظهرت الحركة الصبارية أو (العبرية) وهي الحركة التي ولدت من طلائع ما يعرف في التاريخ الاستيطاني الصهيوني بالهجرة الثانية خلال الأعوام 1904-1914 والتي استمرت بعد ذلك ولمع نجمها ما بين 1940-1950 وكان معظم أعضائها قد جاؤوا من روسيا بعد فشل الثورات عام 1905 وأعضاؤها عناصر في الحركات الصهيونية الاشتراكية، وابتدعوا في فلسطين فكرة الكيبوتس والأحزاب العمالية» (ص 17).
كانت الوسائل الدعائية الصهيونية المنصبة على الهجرة قائمة على إيهام اليهود أن فلسطين – أرض اللبن والعسل – خالية من السكان، وعندما بدأت جموعهم بالمجيء إلى فلسطين كانت تصطدم بالواقع الفلسطيني، ومع عمليات المواجهة التي كان يتمخض عنها قتلى من الطرفين اتسمت بما يمكن تسميته «الصدمة» التي تنشط الذهن والعقل أحياناً، خاصة أن ذلك خلق حالة من التمييز بين الكذب «الصهيوني» والحقيقة على الأرض. فنما بين هذه الأجواء «وعي ذاتي» أفرز بعض الأفكار والمواقف وبعض الفلسفات والرؤى الخاصة بدافع الخوف والشعور الملح للحفاظ على الحياة أو بنوع شديد من الإخلاص لبقاء «الدولة اليهودية» واستمرارها.
طرح فكرة «الكنعانيين الجدد» الفيلسوف اليهودي (يعقوب كلاتسكن) وهو بالأساس من أشد اليهود إخلاصاً للصهيونية، وإذا استعملت اللفظة بنوع من السخرية عند بعض الكتاب مثل (إبراهام شلونسكي) فهي أشبه بكلمة «سفسطة» اليونانية التي تأخذ المعنيين السلبي والإيجابي.. وقد شاعت اللفظة كوجهة نظر وربما تبناها البعض لكنها لم ترق إلى درجة التنظيم الحركي أو الحزبي. وهذه الفلسفة لاقت هوى عند فئة من اليهود الذين ولدوا في فلسطين هم أو آباؤهم وعرفوا باسم «الصابرا» وهؤلاء يعتقدون أن مثلهم مثل «التين الشوكي» محاط بالشوك من الخارج لكن داخله حلو المذاق.. وهي إشارة إلى الصعوبات التي واجهتهم بداية وجودهم على أرض فلسطين والتي تمخضت بالتالي عن وجود «الدولة». لذا يأخذون على اليهود بقاءهم بالشتات ويرفضون قبولهم الآن لا لسبب إلا لأنهم يريدون قطف الفوائد دون تقديم ضحايا.
أما «الصراع» الذي يظنه الدكتور عبد الله عبد الدائم بين المؤرخين الجدد «والكتاب الجدد من جهة والحكومة الإسرائيلية من جهة أخرى قائماً على أرضية التناقض فأمر لا أعتقد أنه صحيح. حيث يرى كاتبنا الكبير أن مواقف بعض المؤرخين وعلى رأسهم (سمحا بلابان، توم سيجف، أبي شاليم، إيلان باييه، بني موريس» جاءت نتيجة فتح الأرشيفات المتصلة بالسنوات الأولى من قيام دولة إسرائيل ومنها طرد الفلسطينيين. (ص 34).
هذا التفسير السطحي والآلي طرح من قبل اليهود أنفسهم، وهو تفسير ينأى كثيراً عن الواقع، فالمؤرخون اليهود «الموضوعيون» إلى حد ما يرون بوجود إسرائيل خطأ تاريخي أقحم على المنطقة إقحاماً لأغراض سياسية يهودية وإمبريالية لكنه ومن وجهة نظر هؤلاء مكسب بالإمكان ترسيخه إذا تمت معالجته بعقلانية وشيء من الواقعية. ورأى هؤلاء أن إمكانات إسرائيل الديموغرافية والاقتصادية وموقعها الجغرافي والتشكيل الفسيفسائي لمجتمعها (80 قومية، 80 لغة) لا يمكنها الصمود وهي في حالة حرب مع العرب وأنها ستتفكك من الداخل إذا خاضت خمسة حروب أخرى (بعد حرب حزيران) وانتصرت بها، فيكف سيكون حالها إذا انهزمت في إحدى الحروب؟!.
حمل هذه الرؤية كل من البروفسور إسرائيل شاحاك والكاتب الصحفي أوري أفنيري وروجا لهذه الفكرة على صفحات جريدة (هعولام هازيه) التي كان يمتلكها افنيري، وملخص هذه الرؤية تنحصر في محاولة قبول إسرائيل في المنطقة ولا بأس إزاء هذا المكسب من إعطاء الفلسطينيين كياناً مهما كانت سماته حتى لو كان دولة، ولم يخجل أوري أفنيري في عدة مقالات له نشرتها جريدة معاريف الصهيونية من الاعتراف أنه صهيوني نقي وأنه بهذه الصفة فاوض ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لندن (سعيد حمامي) وكان أفنيري يمثل حكومة إسرائيل في تلك المفاوضات عندما كان عضواً في الكنيست الإسرائيلي.
أما «الكتاب الجدد» فأمرهم مختلف – نوعاً ما – فقد كان الأدباء «حملة لواء الهجرة إلى فلسطين قبل عام 1948 ومثلهم في هذه الناحية الشاعران أحاد هاعام، حاييم نحمان بياليك، والروائي شيموئيل يوسف عجنون.. وبعد حرب 1948 وقبيل هذا التاريخ بفترة وجيزة كان الأدب المحرض على التقدم والغزو، فقد وصفه الأديب الصهيوني المعروف «برطوف»: كان الأدب في هذه الفترة يسبق العسكر في أطروحاته، إنه «أدب أمامي» أي أمام العسكر دائماً».
ثم أدى الاغتصاب في مرحلة إلى تجنيد «الأدب» فبعد أن كان محرضاً ثم أمامياً أصبح مجنداً في خدمة الآلة العسكرية فكان دوره الرئيس هو التبرير.. والتبرير هو إحدى آليات الدفاع عن النفس، لكنه قد يجافي التوافق النفسي والاجتماعي.. ومن هنا بدأ يظهر نوع من الشعر يبدو ظاهرياً أنه أدب ناقد أو معارض لكنه في الحقيقة «أدب متأرجح» بين الولاء المطلق «للدولة وأطروحاتها» وبين دافع حب البقاء.. فحيث تخوض القوات الصهيونية المعارك مع الجيوش العربية النظامية – أحياناً – أو يسقط الصهاينة على يد المقاومة العربية تعلو الأصوات الرافضة أو المعارضة وهذا نتاج لمواجهة الموت أو ما أطلقنا عليه اسم «الصدمة» التي تؤدي إلى الوعي الذي ظهر بشكل كبير وواضح أثناء عمل المقاومة الفلسطينية (أعوام 67-80) وبعد الغزو الصهيوني للبنان عام 1982. وربما حالة «الصدمة» شملت عشرات الشعراء والكتاب منهم: الروائية ياعيل دايان، والشعراء: ديدي منوسي، عليزا شنهار وغيرهم العشرات.
ومما لا شك فيه أن قصة «خربة خزعة» التي كتبها (يزهار سميلانسكي) تدخل في هذا السياق لكنها جاءت مبكرة جداً (عام 1949)، وإذا كانت القصة تركز على موضوع طرد العرب من قراهم وتبدو للبعض نقداً للسلطة فعلينا أن نتذكر أن كاتب القصة كان أحد ضباط الاستخبارات الذين ساهموا بارتكاب أشكال متعددة من الجرائم ضد العرب.
يقول الدكتور عبد الدائم: «منذ حرب عام 1948 بادر الحزب الشيوعي الإسرائيلي إلى فضح الوسائل المريعة التي استخدمتها منظمة الهاغاناة ومن بعدها الجيش الإسرائيلي من أجل طرد عشرات الآلاف بل مئات الآلاف. وتولت صحيفتا الحزب (الاتحاد الناطقة بالعربية، وكول هاعام الناطقة بالعبرية) كشف ما جرى (ص 40) لكن كاتبنا لم يذكر أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي تأسس عام 1919 أي بعد نجاح الثورة البلفشية بسنتين وقبل فترة طويلة من قيام الكيان الصهيوني، أي أن هذا الحزب اشترك في حرب العرب وتحت مظلة الحركة الصهيونية ذاتها، بل إن أمينه العام (ميكوتس) أعلن عام 1952 أن حزبه لعب دوراً مهماً في قيام «الدولة» عندما استورد السلاح من تشيكوسلوفاكيا ولصالح قوات الهاغاناة. (كما أورد ذلك حبيب قهوجي في كتابه عرب فلسطين عام 1948)، كما أن مناحيم بيغن اعترف في مذكراته أن عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي (موشيه سنييه) اشترك شخصياً في مذبحة دير ياسين».
وعندما رأى بعض القوميين العرب ضرورة إقامة منظمة سياسية مناوئة للكيان الصهيوني، كانت منظمة الأرض حصيلة ذلك، وعندما اعتقل أعضاؤها.. طلبت منهم أجهزة المخابرات الإسرائيلية الانضمام إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي «ركاح».
وأخيراً نتفق مع أستاذنا الكبير بأن حركة «السلام الآن» في جوهرها صهيونية أكثر إخلاصاً من حزب العمل والليكود. (ص 72).
وبالنتيجة النهائية تكون المعادلة هي: اليهودي = الصهيوني ولا تناقض بينهما فكل الاتجاهات شاركت في طرد العرب من ديارهم وبيوتهم وأقاموا فيها «دولتهم».. فهل نعي ذلك؟!!