دور التعليم الخاص في تجديد التعليم العالي

نتحدث في هذا المؤتمر عن التعليم العالي الخاص، وأمامنا واقعان ينبغي أن نضعهما نصب أعيننا منذ البداية:
أولهما: هو صورة العالم اليوم وآفاقه المستقبلية، وهي صورة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا:
1- ولقد سال الكثير من المداد وامتلأت الصحف بالحديث عن معالم عالمنا وعن مستقبله المحتمل (الذي يندّ عن التنبؤ). وليس المجال مجال تكرار الحديث بهذا الشأن، غير أن
ما لابد من قوله – ونحن نتحدث عن التعليم العالي في البلاد العربية ومستقبله – أن أهم سمة من سمات عصرنا هي التغير، وعلى رأسه التغير المذهل في العلم والمعرفة والتقانة.
وتشير الإحصاءات – كما بين تقرير جامعة (MIT ماساشوستش) الأمريكية – إلى
أن المعلومات والمعارف تتضاعف الآن خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و24 شهراً. غير أن هذه الفترة سوف تتضاءل في نهاية العقد الحالي إلى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.
ومن هنا حقِّ لباحث شهير هو “ألفن توفلر Alvin Toffler” أن يقول في كتابه الأخير عن “تحول السلطة Power shift” : “أن الأميين في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، بل هم أولئك الذين لا يعرفون التعلم، ثم نسيان
ما تعلموه، ثم التعلم من جديد”.
2- وهذا يوصلنا إلى حقيقة أولى أساسية وهي أن تغير المعرفة ينبغي أن تقابله تربية من أجل التغيير”.
ما السبيل إلى ذلك؟
السبيل أن نستخلص من طبيعة السؤال ومبرراته أهم صفات هذه التربية. ونجملها في أربع صفات:
2-1 التعليم المرن ونظام التربية المرن:
– نظام التربية الثابت الجامد قد مات إلى الأبد.
– ولابد من المرونة في إطار التعليم، وفي مراحله، وفي زبائنه، وفي مناهجه وطرائقه وتقنياته… الخ.
– وفي التعليم العالي أهم مظاهر المرونة المرجوة:
* المرونة في زبائن التعليم وفي سياسة الالتحاق به.
* المرونة في الاختصاصات والاهتمام بتضامن المعرفة، والعناية بالدراسات المشتركة بين اختصاصات عديدة.
* المرونة في سنوات الدراسة.
* بل المرونة في أبنية التعليم (بحيث تكون قادرة على استيعاب مختلف النشاطات، وعلى استيعاب أدوات التقانة المتجددة).
وتشمل هذه المرونة اللجوء إلى الجامعة المفتوحة والتعليم عن بعد.
2-2 التربية المستمرة من المهد إلى اللحد:
– لم يعد هناك تعليم مرة وإلى الأبد.
– ما يقدم على مقاعد الدراسة جزء من تربية أوسع تستمر من المهد إلى اللحد.
– ويتبع ذلك أن محتوى التعليم في شتى مراحل التعليم، لابد أن يتغير نتيجة للتربية المستمرة.
– وتعني هذه التربية المستمرة أيضاً مزيداً من العناية بتكوين الاتجاهات النفسية والمواقف الفكرية الملائمة للتغير ولعصر العلم والتقانة، وتجديد الأعداد والتدريب تجديداً مستمراً وموصولاً، وفق حاجات سوق العمل المتغيرة.
– الاهتمام بتربية الإبداع والخيال المبدع وبتكوين الذكاء المجانف أو المباعد Divergent” بدلاً من تكوين الذكاء المقارب Convergent”.
– توجيه عناية خاصة، ولاسيما في التعليم العالي – للتعليم المتناوب Recurrent بين المدرسة ومؤسسات العمل.
– وقد أكد تراثنا على أهمية التعليم المستمر طوال الحياة، من المهد إلى اللحد، وكانت أماكن التربية في الإسلام – كما نعلم – مبثوثة في نسيج المجتمع كله (المساجد – الرّبط – الخانقاهات – بلاط الخلفاء – دور الوراقين.. الخ) يقصدها المتعلمون من مختلف الأعمار بحيث يتكون من ذلك كله “مجتمع متعلم ومعلم” في آن واحد. ومما ورد في الحديث الشريف: “منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال”، وفي القول المأثور: إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله، وسئل عمرو بن العلاء عن حد العلم فأجاب: الحياة. فما دامت الحياة دام العلم.
2-3 التعلم الذاتي:
وقوامه أن الهدف من التعليم ليس تكوين إنسان متعلم، بل إنسان قابل لأن يتعلم دوماً وأبداً وقادر على أن يعلم نفسه بنفسه، بفضل ما اكتسب من أدوات المعرفة ومن أساليب التعلم الذاتي.
والتقنيات التربوية الحديثة (وعلى رأسها الحاسوب والإنترنت) تساعد على مثل هذا التعلم الذاتي. وفي تراثنا “من لم يعلّم نفسه فلن يعلّمه معلّم”.
2-4 العناية بتكوين الاتجاهات والمواقف النفسية والمهارات العقلية والجسدية الملائمة لعصر العلم والتقانة:
ومن أمثلة ذلك: العناية بما يأتي:
– تكوين روح المسؤولية (التي تريث عند أهميتها المفكر الألماني جوناس Jonas).
– تنمية روح الحوار (التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني هابرماس Habermas).
– العناية بتكوين روح التعاون والعمل المشترك (تنمية النحنية على حد تعبير ساطع الحصري).
– تعويد الطلاب على العمل المتقن.
– تنمية روح الاستقلال الفكري وروح النقد، بل روح الشك (الشك من أجل اليقين الذي أبان شأنه الإمام الغزالي، قبل ديكارت).
3- من هنا جعل المؤتمر العالمي للتعليم العالي في القرن الحادي والعشرين الذي عقدته منظمة اليونسكو بباريس بين 5-9 تشرين الأول، أكتوبر 1998، على رأس توصياته:
3-1 تحويل مؤسسات التعليم العالي إلى مؤسسات تعليم مستمر، والأخذ بمبدأ التربية المستمرة فيما يتصل بسياسة الالتحاق بهذا التعليم (بحيث يفتح أبوابه لجميع الأعمار ولجميع الراغبين فيه، على صور وأشكال متنوعة).
3-2 الاهتمام بإشاعة التعلم عن بعد بأشكاله المختلفة. وبإدخال أنماط التعليم التي يضمها ما يعرف باسم “الجامعة المجازية”.
3-3 مساهمة جميع المعنيين بالتعليم العالي في تطويره وتجديده وتمويله، وتحقيق مبدأ “المشاركة” فيما بين الدول وسائر المؤسسات الاجتماعية.
3-4 إعادة النظر في التعليم الثانوي (وفي سائر مراحل التعليم وأنواعه).
3-5 توفير الإمكانات اللازمة للبحوث، ولاسيما عن طريق المشاركة بين مؤسسات التعليم العالي ومؤسسات العمل، وسائر قطاعات النشاط في المجتمع.
ثانياً: أزمة التعليم العالي في البلاد العربية:
هذا عن الصورة الواقعية الأولى التي تجأر أمام الأعين عند الحديث عن التعليم العالي
أو سواه، صورة عالم متغير متجدد، وما تستلزمه هذه الصورة من تعليم من أجل التغير والتجديد والابتكار.
أما الصورة الواقعية الثانية التي تبرز أمامنا عند الحديث عن خصخصة التعليم العالي فهي واقع التعليم العالي في البلاد العربية. والحديث عن ذلك يطول، وهو ذو شجون. وحسبنا منه إشارات خاطفة إلى أهم مفاصله:
1- منذ مئات السنين قامت في البلدان العربية مؤسسات التعليم العالي بتمويل أهلي من الهبات والأوقاف، على رأسها: جامعة القرويين في فاس (وهي من أقدم الجامعات في العالم)، وجامعة الأزهر في مصر، بل جامعة فؤاد الأول نفسها (جامعة القاهرة حالياً) في بداية إنشائها عام 1908 والتي تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925. هذا إذ لم نذكر الجامعات التي أنشئت في لبنان منذ وقت مبكر (الكلية الإنجيلية السورية عام 1864 وجامعة القديس يوسف عام 1875).
أما الجامعات الحديثة فحديثة العهد، وقد اقتصرت على عشر جامعات في منتصف القرن العشرين، وبلغ عددها (152) جامعة عام 1995.
وقد حدثت طفرة في إنشاء الجامعات في السبعينيات والثمانينيات. بل إن ثلاثة أرباع الجامعات العربية أنشئت في الربع الأخير من القرن المنصرم، ولا يتعدى عمر معظمها خمسة عشر عاماً.
2- ويقدر عدد الملتحقين بالتعليم العالي في جملة البلاد العربية (حوالي منتصف التسعينيات) حسب إحصاءات اليونسكو بقرابة ثلاثة ملايين طالب (وهذا الرقم يمثل ضعف عدد طلاب هذا التعليم عام 1980).
ويبلغ عدد الطلاب الراغبين في الالتحاق بالتعليم العالي عام 2000 حوالي 6.2 مليون طالب.
3- ومع ذلك فنسبة الالتحاق الإجمالية بالتعليم العالي في البلاد العربية تعادل ربع نسبتها في البلدان المتقدمة، إذ بلغت نسبة التسجيل هذه في جملة البلاد العربية 12.5%، بينما تصل في أكثر مناطق العالم تقدماً إلى 60%.
4- أما عدد طلبة التعليم العالي لكل مائة ألف من السكان فيبلغ – عام 1995 – في أكثر بلدان العالم تقدماً (4410) طالباً، وفي أقلها تقدماً (824) طالباً، وفي البلدان العربية (1227) طالباً.
5- وعلى الرغم من ضآلة نسبة الملتحقين بالتعليم العالي في البلدان العربية، فإن تمويل هذا التعليم يطرح مشكلات كأداء تواجه البلاد العربية جميعها، غنيهّا وفقيرها.
– فهذا التمويل مقصر عن مداه، وعاجز عن تلبية الحاجات الدنيا لهذا التعليم.
– وقد تدهورت نسبة إنفاق التعليم العالي على الفرد الواحد تدهوراً خطيراً في السنوات الأخيرة.
– كما أن معدل ما يصيب التعليم العالي من الناتج القومي الإجمالي ما يزال ضئيلاً على الرغم مما لهذا التعليم من شأن متميز في مجال التنمية.
– يضاف إلى هذا أن الالتحاق بالتعليم العالي في معظم الدول العربية انتقائي، ينال خيره الفئات الاجتماعية الأغنى قبل سواها.
6- وتشير الإحصاءات – من جانب آخر – إلى أن الدول العربية تحتاج الآن إلى حوالي (250) ألف عضو هيئة تدريس في التعليم العالي لتلبية حاجات الأعداد المتزايدة من الراغبين في دخول هذا التعليم.
ولا شك أن ميزانية معظم الدول تعجز عن تلبية هذه الحاجة.
7- على أن ما هو أدهى وأمرّ، تدني المستوى النوعي للتعليم العالي إلى جانب تدني مستواه الكمي.
– وأهم أسباب هذا التدني النوعي دون شك التوسع السريع في أعداد الملتحقين بهذا التعليم كما رأينا.
– ولكن إلى جانب ذلك أسباب أخرى دون شك: منها ضعف الموارد المالية المخصصة لهذا التعليم.
– وليست هنالك دراسات حول نوعية التعليم العالي في البلاد العربية وحول أسباب تدهورها.
وثمة أسباب عديدة دون شك، منها:
* مستوى أعضاء الهيئة التدريسية
* محتوى المناهج والمقررات.
* الطابع التقليدي لأساليب التدريس.
* ازدحام قاعات التدريس.
* ضعف اهتمام الطلاب وقلة دافعيتهم، لأسباب عديدة، على رأسها ضعف عائداته الاقتصادية (حتى لكأن التعليم العالي أصبح مجرد وسيلة لتأجيل البطالة).
– ومهما يكن من أمر فثمة سمات بارزة تكشف عن تردي المستوى النوعي للتعليم وأهمها:
* تدني التحصيل المعرفي لدى خريجي هذا التعليم.
* ضعف القدرات التحليلية والابتكارية لديهم.
* ضمور روح المبادرة.
* ضعف الكفاءات العملية والتقانية.
* عدم ملاءمتهم لسوق العمل، وعدم قدرة سوق العمل على امتصاصهم بالتالي.
– ولعل وراء هذه الأسباب جميعها سبباً ينقلنا إلى الحديث عن التعليم العالي الخاص، وهو تحكم الحكومات في هذا التعليم، على الرغم من أن خزائنها ضاقت عن تمويله تمويلاً مجدياً، وعلى الرغم من عجزها عن الوفاء بحاجاته الكمية والنوعية. وهو أمر يؤدي إلى سيطرة البيروقراطية الإدارية، فضلاً عن نتائجه العديدة الأخرى.
– ويفند الدكتور علي فخرو هذه الظاهرة ويقول:
إن المنطلق الأول لتطوير التعليم العالي في البلاد العربية وفي العالم يتمثل في (إخراج مؤسسة التعليم العالي من قبضة يد الدولة وحدها أو من يد مؤسسة واحدة في الدولة، إلى دفء أحضان المجتمع كله(1).
ثالثاً: التعليم العالي الخاص في البلاد العربية.
1- وسط هذا الواقع العالمي الذي تحدثنا عنه، المغّذ في سيره، الحُول القُلّب، ووسط مطالبه الجديدة من التعليم العالي، ووسط هذا العجز والقصور الذي يعاني منه التعليم العالي الحكومي كماً ونوعاً في البلدان العربية، ظهرت تباشير التعليم العالي الخاص (جامعات أو معاهد عليا أو كليات أو سوى ذلك)، منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وبداية التسعينات. وقد أخذ بالتكاثر سريعاً في بعض البلدان العربية.
2- وقد كان نموه عشوائياً إلى حد كبير في البداية، ثم بدأت الحكومات في كثير من البلاد العربية ترسم له التشريعات والقوانين وتضع له الضوابط.
3- وقد نما هذا التعليم العالي الخاص نمواً متبايناً بين الدول العربية:
3-1- فظهر مبكراً في الأردن منذ عام 1989. وهو اليوم يضم تسع جامعات.
3-2- وتكاثرت أعداد مؤسسات التعليم العالي الخاص في المغرب منذ صدور قانون التعليم الخاص عام 1984م، وأصبحت تضم خمسين مؤسسة في العام الدراسي 1994 – 1995.
3-3- كذلك تكاثرت مؤسسات التعليم العالي في اليمن وقامت بين عام 1993م وعام 1996م ثماني جامعات أهلية (في مقابل سبع جامعات حكومية).
3-4- أما في لبنان فالتعليم الخاص قديم النشأة، منذ تأسيس الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1864 (وكانت تسمى آنذاك “الكلية الإنجيلية السورية” تم إنشاء جامعة القديس يوسف عام 1875).
وفي لبنان اليوم 25 جامعة وكلية ومعهد عال (من بينها 12 جامعة)
3-5- وفي مصر استحدثت في العقدين الأخيرين صيغ جامعية جديدة بعضها يمثل تزاوجاً بين التعليم الخاص والحكومي، إلى جانب مشروعات تعليمية شبه خاصة داخل الجامعات الحكومية:
* فهناك التعليم المفتوح.
* وهناك نظام الانتساب الموجه من قبل المجلس الأعلى للجامعات.
* وهناك نظام التعليم الموازي.
* وهناك المعاهد العليا الخاصة.
* وهنالك الجامعات التي تم الترخيص لها (وعددها أربع)
3-6- وفي الإمارات العربية المتحدة جامعتان:
* جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا التي أنشئت عام 1988
* وجامعة البيان التي أنشئت عام 1998.
3-7- وفي فلسطين ثلاث جامعات خاصة:
اثنتان قديمتان: وهما جامعة بيرزيت، وجامعة النجاح الوطنية، والثالثة (وهي جمعة الخليل) تأسست عام 1974.
3-8- وفي الصومال أنشئت أول جامعة أهلية عام 1997 في مقديشو.
3-9- وأخيراً وليس آخراً، في سلطنة عمان التي نحن في رحابها، صدر في فبراير/ شباط عام 1996 مرسوم أميري إلحاقاً بمرسوم إنشاء وزارة التعليم العالي.
* ويتصل هذا المرسوم بإنشاء الكليات والمعاهد الخاصة التي تتولى القيام بتدريس نوع أو أكثر من التخصصات العلمية والفنية بعد المرحلة الثانوية، بما يخدم احتياجات خطط التنمية وسوق العمل.
* ومن الكليات الخاصة التي أحدثت كلية مسقط للعلوم الإدارية والتكنولوجيا.
* وقد بدأت الدراسة فيها في العام الدراسي 96 – 97 وهي مرتبطة أكاديمياً بكلية “بيرت” في أسكتلندا.
* وتسعى الكلية إلى أن تتحول إلى جامعة أهلية خاصة (حسب معلوماتنا عام 1999).
4- نظرة تقويمية إلى التعليم العالي الخاص في البلاد العربية:
والآن، بعد هذا العرض الخاطف لواقع التعليم العالي الخاص في البلدان العربية، لابد من إلقاء نظرة تقويمية على هذه التجربة.
4-1 غنيّ عن البيان أن هذه النظرة التقويمية تختلف من بلد عربي إلى آخر وإن تكن ثمة ملامح عامة مشتركة لنشأة التعليم الخاص ولمشكلاته.
4-2 وأهم سمة مشتركة تسم التعليم العالي الخاص في البلدان العربية أن على رأس أسباب نشأته عجز التعليم العالي الحكومي عن استيعاب جميع الراغبين في الانتساب إليه. لاسيما بعد تزايد الطلب على التعليم العالي الخاص في السنوات الأخيرة، كما رأينا. ويتبع هذا اضطرار العديد من الراغبين فيه إلى الالتحاق بالتعليم العالي في غير بلدهم، بما في ذلك البلدان الأجنبية.
4-3 على أن ثمة أسباباً أخرى لنشوء التعليم الخاص، إيجابيةً هذه المرة.
وهي الرغبة في اجتناب التدني النوعي في مستوى التعليم العالي الحكومي، وفي إنشاء مؤسسات تعمل على تطوير التعليم العالي تطويراً علمياً وتقانياً وإدارياً يجعلها أشد ارتباطاً بحاجات المجتمع المتجددة وأقدر على تلبية حاجات سوق العمل وحاجات التنمية بوجه عام. ولكن مثل هذا الدافع لإنشاء مثل هذه المؤسسات الخاصة ذات المستوى الرفيع، لا يتوافر إلا في القليل منها، كبعض مؤسسات التعليم العالي الخاص في لبنان، وكجامعة “الأخوين” في المغرب، وكجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا في الإمارات العربية المتحدة، وكجامعة “الملكة أروى” في اليمن، وكجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا في جمهورية مصر العربية، وكجامعة “بيرزيت” في فلسطين.
4-4 وتشكو معظم مؤسسات التعليم الخاصة في البلدان العربية، نقائض ومشكلات كثيرة أهمها:
* عدم توافر الأبنية الجامعية الملائمة، ونقص التجهيزات والمختبرات والمكتبات وسواها من هياكل الجامعة الأساسية.
* عدم توافر هيئة تدريسية متفرغة في معظم الأحوال، والاعتماد على الأساتذة المتنقلين بينها وبين الجامعات الحكومية (أساتذة التكسي كما يسمون أحياناً).
* تبنى معظمها – في أنواع كلياتها وأقسامها وفي مناهجها وتخصصاتها وطرائقها – الأنماط التقليدية المألوفة، بحيث لا تعدو أن تكون تكراراً للجامعات الحكومية القائمة، في معظم الأحوال. في حين أن من أهم مبررات نشأتها أن تلبي – في هياكلها ومضمونها – حاجات التطور العلمي المتجدد، ومطالب سوق العمل المتغيرة.
* على أن من أخطر نقائص هذا التعليم العالي الخاص أنه، في معظم الأحوال، تعليم ربحي، هدفه الأول تحقيق أكبر قدر من الأرباح للقائمين عليه، ولو تمّ ذلك على حساب الجودة، وعلى حساب الرسوم الجامعية الباهظة التي يدفعها أبناء الموسرين غالباً.
* وهذا ينقلنا إلى صلب الموضوع،وإلى أهم مشكلة يواجهها التعليم العالي الخاص في البلاد العربية، نعني:
– مدى سلامة اعتماده على الربح.
– وما السبيل إلى قيام جامعات خاصة غير مربحة.
5- التعليم العالي الخاص وتمويله:
5-1 معظم مؤسسات التعليم العالي الخاص التي قامت في البلاد العربية مؤسسات ربحية.
هدفها الأول استثمار الأموال في التعليم العالي، على غرار ما يجري في جميع قطاعات العمل والنشاط.
* هكذا نرى أن جميع الجامعات الأهلية الحالية في الأردن قد أنشئت كشركات تجارية استثمارية. يحكمها قانون الشركات الأردني.
* وهكذا نرى أن الجامعات الخاصة في المغرب تخضع للقانون الخاص التجاري، أي أن المؤسسات تابعة لشركات إما مغفلة وإما محدودة رأس المال.
* وفي الإمارات العربية المتحدة نرى أن مؤسسات التعليم العالي مؤسسات تستند في تمويلها إلى شركات ووحدات استثمارية.
* ومثل هذا يقال إلى حدّ ما عن الجامعات الأهلية في اليمن.
* أما في مصر، فمعظم الجامعات والمعاهد والكليات العليا ربحية، وإن يكن القانون قد وضع سقفاً لأرباح أصحاب رؤوس الأموال (4%) وما يزال الأمر كله في مصر موضوع أخذ وردّ وتجديد وتطوير.
5-2 ويطول بنا المقام إن أردنا أن نتحدث حديثاً مفصلاً عن الآثار السيئة للتعليم الربحي، وحسبنا إشارات وتلميحات عابرة:
* بدهيّ أن عامل الربح يؤدي غالباً إلى هبوط المستوى النوعي للتعليم العالي الخاص، ويحول دون تطويره وتجديده. وبوجه خاصّ، يقود عامل الربح غالباً إلى اعتماد الجامعات الخاصة على الدراسات النظرية بسبب كلفتها الأقل، وإلى إهمال التخصصات العلمية والتقانية، ولاسيما تلك التي تستلزم تجهيزات تقنية متطورة.
* ويتبع ذلك أن تهمل الجامعات الخاصة البحث العلمي، سواء كان أساسياً أو تطبيقياً.
ولهذا نجد معظم الجامعات الخاصة في البلدان العربية (عدا لبنان) لا تشتمل على مراكز للأبحاث.
* ومن مخاطر التعليم العالي الخاص، ولاسيما الربحي، أن من الممكن أن تتلون الجامعات بلون أصحاب رؤوس الأموال المرتبطين بفئة اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو طائفية معينة.
* عدم توافر الأمن الوظيفي لأعضاء هيئة التدريس، والنزيف الذي يمكن أن يصيب الجامعة نتيجة لمغادرتهم لها.
* تدخّل أصحاب رؤوس الأموال في الشؤون الأكاديمية، وتدخّل المحسوبيات والوساطات في تعيين الإداريين والأكاديمين.
* وفي الجملة، تنقل الجامعات الخاصة في معظم الأحوال عيوب الجامعات الحكومية، وتضيف إليها عيوباً جديدة، بدلاً من أن تكون عاملاً فعّالاً في تطوير التعليم العالي، ودماً جديداً يغذي هذا التعليم ويجعله أقدر على الاستجابة لمستلزمات التطور العالمي وحاجات البلاد العربية المستقبلية.
رابعاً: نحو صيغة سليمة للتعليم العالي الخاص:
ما ذكرناه عن مثالب التعليم العالي الخاص الربحي، القائم في معظم البلدان العربية، لا يعني أن تجربة التعليم العالي الخاص في هذه البلدان تجربة مرفوضة…
إنها تجربة مفيدة وضرورية ولا مندوحة عنها إن توافرت بعض الشروط:
1- ذلك أن أهم مقوم للإصلاح الجذري في ميدان التعليم العالي هو كما سبق أن ذكرنا – تحرير مؤسسات التعليم العالي كافة من سلطان الدولة.
2- وهذا لا يعني أن تنأى الدولة عن ميدان التعليم العالي، حكومياً كان أو خاصاً. بل على العكس، يظل التعليم العالي – شأن التعليم كله – مسؤولية الدولة. فالدولة هي المسؤولية عن بناء رأس المال الإنساني بأشكاله المختلفة.
3- وتدل تجارب الدول المتقدمة أن مهمتي نشر التعليم العالي وتطويره، أثقل وأخطر مما يحتمل القطاع الخاص وحده. وأن مسؤولية هذا التعليم مسؤولية تاريخية للدولة التي تقود عملية التقدم، تزداد أهميتها في عصر المعلوماتية، وفي عصر الثورات العالمية الكبرى، وتكتسب شأناً خاصاً في عالم تتعرض فيه الهويات الثقافية لأخطار كبيرة.
4- وهذا يعني أن يكون التعليم العالي الحكومي أو الخاص شأن المجتمع كله وهمَّه المشترك وأن تقوم مشاركة فعّالة بين الدولة ومشروعات قطاع الأعمال ومنظمات المجتمع الأهلي.
5- ويتبع هذا أن يقوم حوار سليم بين العام والخاص في التعليم العالي يدور حول قضايا ثلاث أساسية:
* ملكية مؤسسات التعليم العالي.
* تمويل هذه المؤسسات.
* التحكم في هذه المؤسسات.
لاسيما أننا لا نأمل أن يؤدي إطلاق حافز الربح على قمة النسق التعليمي إلى حل أي مشكلة من مشكلات التعليم العالي.
6- وتقدم لنا تجربة الولايات المتحدة في هذا الميدان بعض الأفكار التي تساعد على توليد بعض الحلول الممكنة:
– إن حوالي 60% (من أصل 3000) من مؤسسات التعليم العالي في مطلع التسعينيات في الولايات المتحدة كانت خاصة. ومع ذلك لا تستوعب هذه المؤسسات إلا ربع طلبة التعليم العالي.
– إن كلا العام والخاص من مؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة يشترك في الأهداف والأساليب والقيم التي تحكمها، وذلك نتيجة لتطور تاريخي طويل.
– مؤسسات التعليم العالي الخاصة في الولايات المتحدة – وكلها غير ربحية – تلعب دوراً أهم نسبياً من أدوار المؤسسات الحكومية في مجالات البحث المتقدم والحفاظ على المعايير الأكاديمية الراقية.
وهي تعتمد في تمويل نشاطاتها هذه على الدولة، ولاسيما من أجل تمويل الدراسات العليا والبحث عامة والبحث الأساسي خاصة. (وهذا بالإضافة طبعاً إلى ما يقدمه قطاع الأعمال لقاء الأبحاث والخدمات التي يوكلها إلى الجامعة).
– تبذل الجامعة الخاصة جهوداً كبيرة للحفاظ على قاعدة اجتماعية عريضة من الطلاب، وعلى مستوى مرتفع من الأداء الدراسي لدى طلابها، وذلك من خلال برامج المساعدة المالية.
– ويقدر أن أكثر من 60% من طلبة التعليم العالي الخاص يتلقون مساعدة مالية، ويتخرج نصفهم وعليهم دفع ديون تعليمهم.
7- لابد أن نذكر – بالإضافة إلى ذلك كله – الضوابط التي تقوم في المجتمعات المتقدمة، من خلال آليات الضبط (Regulation) العام للمؤسسات الخاصة والربحية تحديداً.
8- من هنا يتضمن أي حل سليم لمشكلة التعليم العالي الخاص في البلاد العربية، ولمعالجة مشكلات التعليم العام الحكومي في الوقت نفسه، ولتحقيق التعاون بين الجانبين، قيام مجالس إدارة مستقلة رباعية التمثيل، تضم: الدولة – وقطاع الأعمال – والمجتمع
الأهلي – والأكاديمين.
– ويتكامل مع هذا الحل استبعاد حافز الربح من ميدان التعليم العالي (أو ضبطه على أقل تقدير) وتشجيع قيم مؤسسات التعليم العالي غير الهادفة للربح، ونفخ الروح في العمل الأهلي، واللجوء – حسب مقتضى الحال – إلى المساعدات الوقفية (Endowment أو Foundation).
– ولاشك أن الحلول الممكنة لتيسير قيام تعليم عال خاص في البلاد العربية كثيرة، تتجاوز ما ذكرناه من أمثلة، وتتلون بلون أوضاع كل بلد. ففي الأردن – على سبيل المثال – تفرض الحكومة رسوماً متنوعة (على الهاتف – أو الجمارك – أو عقود البيع/ أو معاملات الحجز… الخ…) من أجل تمويل التعليم العالي. وفي مصر صور متعددة للتعليم العالي الخاص وحلول متنوعة لتمويله.
خاتمة:
وننتهي من حيث بدأنا لنقول: إن مهمة التعليم العالي الخاص لا يجوز أن تكون مجرد الاستجابة لحاجة كمية لتوفير أماكن للطلاب الذين لا يجدون في التعليم العالي الحكومي مكاناً لهم، لسبب أو لآخر، وإنما هي مهمة الاستجابة لحاجات المجتمعات العربية المستقبلية في مجالات التنمية بوجه عام وتلبية حاجات سوق العمل المتجددة، وبناء الهوية الثقافية الأصيلة والمبدعة.
ومعنى هذا أننا ننتظر من التعليم العالي الخاص أن يكون المحرك والمهماز للتعليم العالي الحكومي وللتعليم في مراحله المختلفة، وأن يكون بذرة جديدة تنتش وتحمل وتتئم.
ولا نغلو إذا قلنا إن إنشاء تعليم عال خاص جديد محملٌ بإمكانيات التقدم والتطوير، مدخل قد يكون أفضل وأقرب متناولاً في بعض الأحوال من تجديد عال حكومي أنهكه الزمن، بحيث أصبح من الشاق رفع أثقاله التي تحول بينه وبين الحركة.
وقد يكون الحل الأمثل الجمع بن الحُسنيين، بين التعليم العالي الحكومي والتعليم العالي الخاص، على مائدة الحوار المشترك من أجل تجديد التعليم العالي بوجه خاص والتعليم بوجه عام، تجاوباً مع حاجات بناء مجتمع عربي حديث، يشق طريقه نحو التقدم وسط الزحام العالمي.
في 20/ 10/ 2000
عبد الله عبد الدائم
ورقة مقدمة إلى المؤتمر التربوي الثاني الذي عقدته كلية التربية بجامعة السلطان قابوس حول “خصخصة التعليم العالي والجامعي”. من 23 – 25 أكتوبر 2000