نكبة فلسطين عام 1948

نكبة فلسطين عام 1948 أصولها وأسبابها وآثارها السياسية والفكرية والأدبية في الحياة العربية، التحدي العربي للمحنة بين الأمس واليوم (بيروت: دار الطليعة، 1998). 167 ص
(المفكر العربي)
رياض قاسم
أستاذ اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية.
«الحربُ المُقبلة.. نُنْشِئُها.. نُرَبِّيها ما بين حجرات النوم.. وحجرات الأولاد»
يعقوب باسار (شاعر إسرائيلي)
-1-
يعكس هذا الكتاب الموقف من مرحلتين، أو من جيلين، جيل المعاناة للنكبة بالمعاينة والتفاعل مع الوثائق والمشاهدات الحيّة وسخونة الجرح النازف، وجيل التساؤل عن معنى النكبة والبحث عن الدوافع والأسباب والتفاعل النسبي، المتفاوت مع النصوص ليس غير، وما بقي من أفلام الذاكرة وأحاديث تأكّلت بفعل الزمن.
أما الكاتب فشاهد قومي حي على ما جرى. لقد وعى المشهد وما أحاط به من عوامل وإجراءات دولية أنتجت الحدث، ولما تزل تحدث الفعل المنعكس عن دراما ذاك المشهد المأساوي.
وأما القارئ الشاب، اليوم، فهو من جيل يلقن الحدث التاريخي، متسائلاً عن بديهيات المشهد ومسلمات الحدث، مستوضحاً الأسباب والبواعث، مترقباً رصد النتائج، رجاء فهم معنى النكبة وتداعياتها في حياته اليومية.
لذا، انشغل المؤلف كثيراً بمسألة المخاطب وسبيل إيصال «المعلومة» صحيحة، دقيقة، واضحة، إلى ذهن الشاب، إلى جيل اليوم. فاختار الأسلوب المبسط، المفعم بالتقريرية، المشوبة بحرارة الصدق والإيمان بدور الكلمة في نص ثقافي موجه.
-2-
وعبد الله عبد الدائم، صنيعه في سائر ما كتب، يطل على القضية، مدار البحث، بشمولية، ملتقطاً الجوهر والطيف معاً، رابطاً السبب بالنتيجة، كاشفاً ما في النص من عتمة. لذا يخضع المادة السياسية، هنا، في إطارها الفكري العام إلى منهج تحليل النظم، فيرد وقائع الحرب وبواعثها ونتائجها إلى العناصر الأساسية المكونة لها، ثم يبَصِّر بدور كل عنصر من هذه العناصر، بالإضافة إلى تفاعل هذه العناصر فيما بينها.
وهو حين يجري مثل هذا التحليل، يشير في هذا الكتاب إلى عناصر مقومة لأحداث النكبة، ترتد في النهاية إلى عناصر خمسة: بريطانيا ودورها الرئيسي في الحرب؛ الولايا المتحدة ودورها المتكامل مع دور بريطانيا؛ الصهيونية العالمية وقواها في فلسطين وخارجها؛ هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن كعامل مستقل حيناً وكعامل متكامل مع دور بريطانيا والولايات المتحدة والصهيونية في معظم الأحيان؛ العرب ومسؤوليتهم الذاتية (ص 34).
وهو حين يكشف الصلة الدائرية القائمة بين هذه العناصر، في فصل أحادي (الفصل الأول) يكون إزاء فصل تأسيسيّ سيصدر عنه ثلاثة آثار، تأتي تباعاً في ثلاثة فصول متماسكة، باعتبارها متنامية سببياً، حيث يتبدى أثر الحرب في الشعب الفلسطيني تحديداً، ثم الأوضاع السياسية العربية عموماً، فأثر النكبة في الأدب والفكر العربي قبل عام 1967 (الفصول: الثاني والثالث والرابع، ص 76-160).
تلك هي لحمة الكتاب التي تجوز في عمر السنوات نصف قرن، والتي تستغرق في انعكاس الحدث على الفكر العربي تسع عشرة سنة، والتي تجمع المادة التاريخية من المعاينة والنصوص، ثم تترجمها في نص جديد، للقارئ الشاب، تاريخاً وسياسةً وثقافة أدبية.
-3-
في تحليل عناصر التكوين المؤسِّس للنكبة يذكِّر عبد الدائم بالعنصر الأم (ص 35) المتجسد بالحلف الاستعماري – الصهيوني، المكون من بريطانيا والولايات المتحدة والصهيونية. وفي قلب هذا العنصر تحتل بريطانيا الدور الرائد؛ فهذه الأخيرة يسرت عن طريق لعبة الجلاء قيام الدولة اليهودية قبل مغادرتها فلسطين، وهي التي رسمت للقوات العربية حدود عملها في إطار خريطة التقسيم. ثم يشير الكاتب إلى التعاون البريطاني مع الولايات المتحدة، الذي أثمر تقديمات كثيرة لإسرائيل، وكان من أبرز نتائج هذا الحلف الوصول إلى اتفاقيات رودس بين الدول العربية وإسرائيل (ص 44)، تلك التي كرست حدود إسرائيل التي وصلت إليها عند الهدنة الثانية (في 15 تموز/يوليو 1948)، والتي أدت أيضاً إلى ضم أراضي جديدة إلى إسرائيل.
وعلى الرغم من الابتعاد الظاهري للولايات المتحدة عن مسرح الأحداث في فلسطين، وقت ذاك، فإنها كانت وراء الخطوات الأساسية والحاسمة التي مكّنت لليهود وساعدت على خلق دولتهم.
ويتعقّب الكاتب الدور الأمريكي الخطير في أشكاله الأساسية، فهو دور يتسلل إلى سائر أحداث حرب عام 1948، وهو يداخل معظم ما حِيْكَ خلالها من مؤامرات بين الدول الكبرى، وهو يكمن خلف معظم قرارات هيئة الأمم المتحدة ولجان التوفيق وسواها من الجهود الدولية.
وفي العنصر الصهيوني المتضافر والجهود السابقة يبرز الدور الخاص المتمثل بالتنظيمات الإرهابية الصهيونية التي اتخذت العنف الوحشي وسيلة أولى وأساسية لتحقيق مطلب المطالب، نعني به طرد الفلسطينيين من ديارهم، واستلام فلسطين خلوة من أبنائها. لقد أدى تنفيذ هذا المطلب إلى ظهور مذابح وحشية بحق العرب كمذبحة دير ياسين
(9 نيسان/أبريل 1948) (ص 54)، ونسف القرى المحيطة بيافا (عملية شايتز، 27 نيسان/أبريل 1948) (ص 55). وتعاظم الأمر والخطر يوماً فيوماً حتى توجت الصهيونية مطامعها باتفاقيات الهدنة عام 1949(1)، وقد أصبحت تسيطر إسرائيل بموجب هذه الاتفاقيات (في رودس) على 80 بالمائة من مساحات فلسطين (20.850.000 دونم) بدلاً من 56 بالمائة من مساحتها، هي التي خصصها لها قرار التقسيم.
وفي الدور الذي لعبه مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة يتوقف الكاتب أمام الوسائل المخادعة التي مُورست بحق الفلسطينيين والعرب، فقد كان لهاتين «المؤسستين الدوليتين (!)» دور المسهم والساكت عن التجاوز وخرق القرارات الدولية؛ فقد ثبتتا قواعد إسرائيل وكرّستا الوضع غير الشرعي الذي انتهت إليه الأحوال بعد الحرب بالخدعة والمناورة والسطو، وذلك حين طلبتا إلى العرب توقيع اتفاقات الهدنة، التي لم تكن في الحقيقة سوى اعتراف فعلي بالكيان الإسرائيلي (ص 65).
أمّا العرب ومسؤوليتهم في النكبة ونتائجها فمحور اهتمام الكاتب، الذي يرى من واقع الالتزام القومي أن هؤلاء لم يحسنوا التصرف، بل وقعوا، في معظم الأحيان، «في ألاعيب الدول الكبرى والصهيونية ونفذوا إرادتها عن جهل حيناً وعن وعي وتآمر أحياناً. حتى أننا لا نغلو إذا قلنا مع آنيا فرنكوس: إن حرب 1948 كانت سلسلة أخطاء وخيانات»(2).
-4-
ويعرض الكاتب لثلاثة آثار نتجت من الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1948: «أثر الحرب على الشعب الفلسطيني»، و«أثر الحرب على الأوضاع السياسية العربية»، و«أثر الحرب في الأدب والفكر العربي حتى عام 1967».
آ- في الأثر الأول يقارن الكاتب بين نزوح قرابة المليون من فلسطين، وبقاء حوالي 170 ألف فلسطيني داخل الوطن (بحسب آخر إحصاء 1948).
أما النازحون قسراً جراء الإرهاب والمذابح التي اتبعها الصهاينة، فقد أقام معظمهم في مخيمات «العودة»، التي تعني خسارة ممتلكاتهم في أرضهم، ورفض إسرائيل عودتهم إلى ديارهم أو التعويض لهم عن ممتلكاتهم، والتي تعني تحمل ضنك العيش في الشتات، تحت اسم أطلقته وكالة الغوث الدولية: «اللاجئ الفلسطيني».
وأما الفلسطينيون في «إسرائيل» فقد خضعوا، ولما يزل الأمر سارياً، لجملة قوانين تكفل «تذويبهم» وإدراجهم في سجل الأقليات «المشبوهة»، أو أنهم اعتبروا في أحسن الأحوال مواطنين من الدرجة «الثالثة» تمييزاً لهم من «الفالاشا» على أقل تقدير.
ب- في الأثر الثاني تتحول «النكبة» عند الكاتب إلى محرض حي أثار الوجود العربي وأيقظه، ودفعه إلى إنعام النظر في ذاته، ليكشف عن علله وأدوائه، وليعيد بناءه بناءً جديداً. ويرى أن هذه المأساة فجرت طاقات هائلة، انطلقت منها حركات سياسية جديدة، تبحث عن أسس أبقى وأفضل للتنظيم السياسي، وتعمل على بناء كيانات قادرة على مواجهة التحدي الإسرائيلي وما وراءه.
وإذ يرصد الكاتب مظاهر التحولات التي خضعت لها الأوضاع السياسية العربية بعد النكبة، والتي شملت جوانب النظام الاجتماعي والاقتصادي والعسكري، يرى أنها تحولات أربعة: أولها انتزاع السلطة من القيادات التقليدية التي اعتبرت مسؤولة عن النكبة، وظهور أجيال حاكمة جديدة عبرت في معظم الأحيان عن روح ثورية وعن نظرية انقلابية في معالجة مشكلات الحياة السياسية. وثانيها محاربة الاستعمار وإسقاط الأحلاف الاستعمارية في المنطقة. وثالثها تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا كرد مباشر وعملي على شق الكيان الإسرائيلي للوجود العربي، وكأداة فعالة لضرب طوق عسكري منيع حول إسرائيل. ورابعها الاهتمام ببناء الجيوش الوطنية، وبروز دورها في الحياة العربية.
ج- في الأثر الثالث يبرز العطاء الأدبي الذي تولد بعد النكبة، والذي حاول أن يغوص إلى ما وراء النكبة الظاهرة، وأن يحلل بواعثها العميقة وأسبابها البعيدة، والذي حاول أيضاً أن يخلق لدى الإنسان العربي اتجاهات نفسية وفكرية قادرة على تجاوز النكبة.
في هذا الأثر، البالغ الأهمية بانعكاساته الفكرية والأدبية، يشير الكاتب، في إيجاز شديد، إلى أهم ملامح النتاج وأبعاده، فيقسمه إلى نوعين أساسيين: القصة والمسرحية من جهة، والشعر من جهة ثانية. ثم ينتقل إلى الحديث عن بعض الأعمال الفكرية، فيختار أربعة كتب تمحورت حول موضوع البحث المثار.
(1) في القسيم الأدبي نثراً وشعراً، غدت النكبة وما أعقبها من هزيمة ونزوح وتحولات في المجتمع العربي مادة خصبة للأنواع الأدبية، وموضوعاً ساخناً في حلبة الشعر المقيم والمهاجر. لقد اكتفى الكاتب بالإشارة إلى أبرز القضايا التي شكلت «موضوع النكبة»، وأبرز الخصائص التي أرخت بمفاهيمها على اتجاهات الأدب العربي الحديث، والتي تناهت في النقد إلى حد استقلالها في مصطلح «أدب المقاومة».
(2) في القسيم الفكري المقابل نرى ما يتصل بالسمات العامة التي رافقت حياة الفكر بعد النكبة، من ذلك ما لاحظه الكاتب من ازدياد شعور المفكرين بدورهم بعد النكبة. فقد بدا لهؤلاء أن ما حصل لا يعدو نتيجة طبيعية لتخلّف حضاري وثقافي شامل، كما رأوا فيه تعبيراً عن إفلاس النُظُم الفكرية التي سادت الحياة العربية وعن إفلاس الأنظمة السياسية بالتالي. فكأن النكبة كانت في معناها العميق تأكيداً لأولوية الثقافة والفكر. واستوقف الكاتب مسألة صراع المفكرين مع الأيديولوجيات التي استطاعت أن تحتويهم ولم يستطيعوا أن يحتووها، فجاء فكرهم في معظم الأحيان معبراً عن هذه الأيديولوجيات السياسية المختلفة، ولم يستطع أن يرقى إلى مستوى نقدها وتوجيهها. وبملحظ نقدي يسجل عبد الدائم انكماش الفكر في كثير من الأحيان، كما يُرجع ما أصاب الكثير من الأنظمة السياسية والعقائد من تصلب وجمود إلى دوران الفكر، غالباً، في فلك ذلك النظام أو تلك العقيدة، الأمر الذي أدى إلى غياب الفكر النقدي الجريء والنتاج الصادق الأصيل.
(3) لكن كاتبنا المتفائل باجتياز النكبة جراء إيمانه العميق بطاقات الأمة العربية وقدرتها على التغيير، يرى من قبيل التأسيس لهذا التفاؤل أن يعرض لمضمون وأهداف أربعة كتب، تمثل «الصّوى» و«أهم معالم الفكر العربي» (ص 148)؛ وهي:
عبرة فلسطين لموسى العلمي، وهو كتاب أشبه بدستور للحياة العربية الجديدة بعد النكبة. على أن أهم ما فيه دعوة الكاتب إلى الوحدة كشرط أول لمواجهة العدو ولبناء دولة عصرية قوية.
معنى النكبة للدكتور قسطنطين زريق، الذي استنطق أحداث 1948 واستخرج عبرتها، ورأى المعالجة بتقوية الإحساس بالخطر وشحذ إرادة الكفاح والتعبئة المادية في ميادين العمل، وإشراك القوى الشعبية في النضال، وتحقيق أكبر قسط من التوحيد العربي. ولبلوغ ذلك لابد من تنكّب وسائل العلم الحديث واكتساب خير ما حققته الحضارات الإنسانية من قيم أثبت حقها الاختبار الإنساني.
النكبة والبناء للدكتور وليد قمحاوي الذي حاول التأليف المتكامل بين أمرين: أولهما تحليل البنية التاريخية الاجتماعية للحياة العربية، ومعرفة أصول الضعف والقوة في هذه البنية، وثانيهما بناء الحاضر انطلاقاً من وعي للماضي ومن وعي أنفسنا، وإقامة هذا البناء على أُسس عصرية حديثة.
الفعالية الثورية في النكبة للدكتور نديم البيطار الذي يتحدث عن عجز الفكر العربي أمام النكبة، ويرى أنها لم تستطع أن تحدث هزة كافية في الفكر العربي، ولم تؤد إلى ظهور نتاج ذي طابع فلسفي اجتماعي ثوري في تعليلها وتفسيرها. ويحاول أن يصل بعد التحليل لمهمة التصدي، فيجرب دراسة النكبة من منظور اجتماعي، ويخلص إلى أن الانقلاب على العوامل التي أدت إلى قيام النكبة واقع لا محالة، شريطة الاقتران بالوعي لتلك العوامل ومدلولاتها.
وبعد، فالكتاب بما قدم من مادة سياسية وفكرية، وبما عرض له من دراسات تمحورت حول النكبة، كان إسهاماً من الكاتب القومي الملتزم عبد الله عبد الدائم في بناء وعي المواطن العربي، ولا سيما جيل الشباب الذين يفتقرون في المكتبات الثقافية إلى دراسات موجهة، تأخذ بهم إلى واقع الأمة، وتبصرهم بأخطار النكبة التي زلزلت كيانها منذ عام 1948 ولما تزل. وهو إذ يتناول واقعاً مأساوياً لا يغفل عن بيان أثر هذه النكبة في خلق التحولات. فالجهد الفكري الساعي إلى التغيير موصول يأخذ بالنماء والاغتناء شيئاً بعد شيء، ولا يزال هذا الجهد الفكري يدأب لتوليد فكر متجدد، يأخذ الدروس من الأحداث المختلفة، ويساير حركة النضال العربي في مواجهة مأساة فلسطين، وهي حركة متعاظمة نامية. وهذا وجه التفاؤل المؤذن بتجاوز الذات باستمرار، وتجاوز التداعيات السلبية لتلك النكبة.