مداخلة الدكتور عبد الله عبد الدائم في ندوة “نحو مشروع حضاري نهضوي عربي”

أولاً: تعريفات لابد منها:
لنبدأ بتعريفات لابد منها:
حضارة أمة من الأمم – في عرف الدراسات الحديثة – نتاج لثقافتها بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع لكلمة ثقافة.
فقد اتسع مفهوم الثقافة في العقود الأخيرة كما نعلم، ولم تعد تعني فقط النتاج الأدبي والفكري والفني، بل أصبحت تعني جملة النشاطات والمشروعات وأنماط السلوك والقيم المشتركة التي تكوّن أساس الرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم، والتي ينبثق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية يغتني عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، هو الذي تبنى على أساسه مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد.
وهذا المعنى الواسع لمفهوم الثقافة، يكاد يندمج مع مفهوم الحضارة إذ تصبح الحضارة “نتاج الثقافة”.
وهكذا أصبح كل من اللفظين يضم القيم والمعايير والمؤسسات وأنماط التفكير والسلوك التي أولتها أجيال متتالية، في مجتمع أو أمة معينة، أهميةً حاسمة. ومن هنا يرى باحثون من أمثال “داوسون Dawson” أن الحضارة عملية مبتكرة من الإبداع الثقافي الذي قدمه شعب معين.
والحضارات تتطور، وهي ديناميكية تولد وتموت، وتمتزج وتنفصل. أما أسباب نشوء الحضارات وأفولها فالحديث عنها يطول ويلتهم المؤلفات الطوال. وقد كتب في ذلك الشيء الكثير.
ثانياً: تجدّد الحضارة العربية الإسلامية عبر التاريخ:
1- والحضارة العربية الإسلامية عرفت التجدد كما عرفت الجمود والتراجع. ولا حاجة إلى القول أن الحضارة العربية الإسلامية في العصر الإسلامي الأول وفي أيام الدولة الأموية والدولة العباسية تجددت تجدداً متصاعداً، وبلغت أوجهاً في القرن الرابع الهجري، وعرفت قفزة حضارية في الأندلس. ثم خبت أيام السلطنة العثمانية، واستفاقت منذ أيام محمد علي بمصر، وناضلت في سبيل التجدد والانبعاث من جديد منذ القرن التاسع عشر، على يد كبار المجددين أمثال خير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق ومحمد عبده ورشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان ونجيب عازوري وسواهم. وقد أكدوا جميعهم على أهمية دخول البلاد العربية والإسلامية عصر التحديث.
2- ومن الهام أن نذكر أن تجدد الحضارة العربية عند ظهور الإسلام وأيام الدولة الأموية والعباسية لم يفصل التجدد في ميدان الفقه والدين، عن التجدد في ميدان الفلسفة والفكر والأدب والأخلاق، وعن التجدد في مجال العلوم الرياضية والفيزيائية والكيماوية والطبية، بل عن التجدد الرائع في ميدان البحث التجريبي بأشكاله المختلفة. الأمر الذي جعل الباحث الفرنسي “فانتجو Ventejou” يطلق على الحضارة العربية الإسلامية اسم “”المعجزة العربية” تلك المعجزة التي جعلت العقل يدور حول الأشياء أي حول الملاحظة والمشاهدة العلمية والتجربة بأشكالها المختلفة وحول استقراء الظواهر الطبيعية، بعد أن كان يدور “حول نفسه” في الحضارة اليونانية. ومثل ذلك قاله “راندال Randall” في كتابه “تكوين العقل الحديث”.
أما في الأندلس، فمن تحصيل الحاصل أن نتحدث عما ولده التمازج الثقافي بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الثقافات القوطية وسواها التي كانت سائدة، من تجدد حضاري فذ ورائع، اتحد فيه على نحو أكمل تجديد علوم الدنيا وعلوم الدين معاً. وحسبنا أن نشير هنا إلى – ابن رشد – الذي توقف عنده الدكتور محمد عابد الجابري في بحثه الوقفة التي هو جدير بها، لا سيما في مجال التوفيق بين العقل والنقل وأن نشير كذلك إلى الإمام الشاطبي الأندلسي، ولا سيما في كتابه “الموافقات”.
3- نقول هذه الأمور البدهية كلَّها لنخلص إلى ما نريد إليه بشأن التجدد الحضاري اليوم.وخلاصة ما نود أن نقوله إن الحضارة العربية الإسلامية في تجددها في عصور ازدهارها سلكت المسلك الحضاري الطبيعي والخصيب: وهو التجديد في شتى مجالات الحياة وفي شتى ميادين الثقافة والتواقت والتفاعل الخصيب بين التجديد في علوم الدين والفقه والتجديد في شتى ميادين العلوم الأخرى، ولا سيما العلوم المحضة والعلوم التجريبية.

ثالثاً: أسباب تخلف الحضارة العربية الإسلامية:
1- أما تخلف الحضارة العربية الإسلامية فأسبابه كثيرة كما نعلم. على رأسها ما عرفته الدولة العثمانية من تخلف هو امتداد لتخلف الدولة العربية منذ أن غزتها وسيطرت عليها أخلاط المغول والتتر والترك وغيرهم من الفئات الشعوبية التي كادت للعروبة والإسلام معاً. وهكذا بدأت الحضارة العربية الإسلامية تتراجع، لا سيما بعد سقوط بغداد على يد “هولاكو” عام 1258 م.
2- غير أن علينا ألا نحمّل الدولة العثمانية وحدها أوزار التخلف الحضاري العربي. فالعامل الرئيس في نظرنا في هذا التخلف كان وما يزال القوى الاستعمارية والامبريالية، منذ أيام الرجل المريض، وبعد الحرب العالمية الأولى بوجه خاص، وحتى اليوم.
3- ومن هنا نظلم أنفسنا إن قلنا إن ما عرفته البلاد العربية من عجز عن اللحاق بركب العالم، يعود بالدرجة الأولى إلى البِنى الثقافية العتيقة التي سادت حياة شعوبها وإلى الإرث التاريخي المتخلف الذي تأخذ به العامة. إننا لا ننكر وجود إرث ثقافي متخلف له دوره في تعطيل تجددنا الحضاري. غير أن علينا ألا ننسى أن جهود التجدد الحضاري لم تتوقف يوماً في عالمنا العربي، منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم، وإن قصّرت عن مداها المرجو. والعامل الأساسيُ والحاسم في التخلف الحضاري العربي هو الغرب ومطامعه الاستعمارية التي تحالفت معها الصهيونية العالمية وخلقت من ذلك التحالف دولة إسرائيل التي كادت تعطل معظم إمكانيات التجدد الحضاري لدى العرب.
فمنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 والسيطرةِ البريطانيةِ والفرنسيةِ الكاملة على الوطن العربي بعد معاهدة سايكس بيكو عام 1918، وبروز الصراع العربي الصهيوني منذ الربع الأول من القرن الماضي وإقامة دولة إسرائيل عام 1948، ضاقت فسحة الأمل أمام الوطن العربي ولا سيما بعد أن مُزقت بنيته، وأصبح مطلب التجديد الحضاري مطلباً يحتاج إلى جهود موصولة وكبيرة واستثنائية.
وأهم ما جاء به الاستعمار الحيلولة دون نشوء كيانٍ عربيٍ جماعي، بديلٍ عن الكيان العثماني، يتولى أمر النهضة الحضارية فيه، لاسيما عندما نكث بالوعود التي أعطاها للشريف حسين. وقد حارب بعد ذاك أي عمل وحدوي، بل لم يسمح بأي نهضة جدية في البلاد العربية التي خضعت له، وحال دون التصنيع والتقدم العلمي وسائر ضروب التجديد، على الرغم من أن رسالته التي تذرع بها لاحتلال البلدان العربية كانت رسالة التحديث.
4- وخلاصة ما نريد أن نخلص إليه من هذا كله، أن من الخطأ أن ننسب آفات التخلف في البلدان العربية، إلى خلل في فهم العلاقة بيت التراث والمعاصرة، أو إلى علةٍ مقيمة في قلب التراث العربي الإسلامي قديمه وحديثه.
فالتراث العربي الإسلامي – كما قلنا – كان تراثاً مجدداً عبر العصور. وقد شمل التجديد فيه ميدان الفقه والفكر الديني نفسه. والدين الإسلامي – في أصوله ودلالاته وأساليب الاجتهاد فيه – لم يكن عاملاً من عوامل تخلف المجتمع العربي، ومن بواعث التخلف الحضاري فيه. بل العكس هو الصحيح. فالدين يتجدد عندما يتجدد الديّانون ويتخلّف عندما يتخلف الديّانون. وفي الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي من وسائل التجديد كما نعلم ما يكفي لاستيعاب مطالب التجدد الحضاري. ولا حاجة بنا إلى أن نذكّر بأهم وسائل التجديد في الدين الإسلامي كالإجماع والمصالح المرسلة والاستحسان وسوى ذلك. وقد أكد فقهاء كبار أمثال ابن تيمية وابن القيم الجوزية وسواهما على أن كل ما فيه مصلحةُ الأمة فهو من الدين، وإن لم ينزل به الكتاب ولم تقله السنة. أما الإمام الشاطبي الأندلسي فيستخرج من فروض الإسلام ما يحث على العمل والصناعات المختلفة، ويعتبر من فروض الكفاية أن يتوافر في كل بلد من يسد حاجته من المأكل والمشرب والملبس والصناعات المختلفة. ومما يقوله المستشرق الفرنسي “ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson” في كتابه الشهير عن “الإسلام والرأسمالية”: “ليس هنالك ما يبيّن على نحوٍ مقنع أن الدين الإسلامي قد منع العالم الإسلامي من أن يتطور على الطريقة المؤدية إلى الرأسمالية الحديثة”. وهو يرى بحق أنه في معظم المسائل غير الاقتصادية أيضاً ليس هنالك صراع بين الإسلام والتحديث”.
من هنا نلتقي مع الأستاذ طارق البشري حين يقول في بحثه “إن دائرة التشريع والقرارات التي يمكن أن يجري الالتزام بها في إطار النصوص – بعد الضبط والتجديد بما يلائم أوضاع الواقع ومصالح الجماعة – هي دائرة تسع من إمكانات التجدد الكثير”. لاسيما إذا أضفنا إلى هذا القول ضرورة الاتفاق بين “العقل والنقل” على نحو ما يبين ابن رشد بوجه خاص.
رابعاً: التخلف الحضاري بين التحديث والتغريب:
1- مشكلة التجدد الحضاري إذن ليس جوهرها تعذر التجديد أو صعوبته في إطار الفهم المختلف للدين. فالدين كما قلنا تتجدد معانيه ويتسع مداها بمقدار ما يتجدد المجتمع نفسُه أو قل أن بين الجانبين صلة دائرية لا خطية. سوى أن ثمة عائقاً ثقافياً أهم وأجدر بالعناية، نعني الخلط بين التجديد (أو التحديث) وبين التغريب. فالتجديد لا يعني حكماً تقليد الغرب. وهنالك شعوب كثيرة جددت كيانها من خلال ذاتها – مستعينة بالغرب من دون شك – منها اليابان (منذ أيام عصر ميجي Meiji عام 1868) والصين وبعض دول شرقي آسيا والهند وسواها. إن هذه البلدان استطاعت أن تتقدم بفعل عاملين: عامل الاتصال بالغرب من جانب، وعامل الإفادة من ثقافاتها ومبادئ دياناتها من أجل حث مواطنيها على العمل والعلم والتقدم، تأسياً بمبادئ القونفوشوسية والبوذية وسواها من الثقافات الخاصة، وهي ثقافات تفخر تلك الدول بتفوقها على الثقافة الغربية ولاسيما في ميدان القيم. هكذا انطلقت في تجديدها من منطلق أساسي وهو تحريض إرادة العمل المشترك لدى أبنائها، والدمجُ العضويُ بين ثقافتها وحضارة الغرب. ومن هنا نلتقي مع الدكتور عابد الجابري الذي يبين في بحثه، وفي كثير من كتاباته وكتبه، بأن محاولات تحديث الثقافة العربية الإسلامية لم تتم في معظم الأحيان من داخلها. بل تمت غالباً بحكم الاصطدام بالثقافة الغربية ومحاولة تقليدها حيناً ونبذها أحياناً أخرى.
2- وقد بينا (منذ عام 1982) في كتابنا “في سبيل ثقافة عربية ذاتية”، أن الثقافة العربية المنشودة بناء وليست اكتشافاً لصيغة ماضية وليست تقليداً للآخرين، وأنها ينبغي أن تكون ثقافية تستمد نسغها وحرارتها من منطلقاتها وقيمها، وأن تكون أعمدتها أربعة: الماضي وقد فهم فهماً حياً وجديداً – والحاضر العربي ومشكلاته – والحاضر العالمي وخصائصه واتجاهاته – والمستقبل العربي ومطالبه. ومعنى هذا أن الصيغة التي نسعى إلى بنائها لابد أن تكون حضارةً جديدة، حضارة أخرى، ولكنها حضارة أصيلة في الوقت نفسه. فالأصالة ليست في الماضي وحده. ولكنها في توليد حضارةٍ مستقبلية ذاتية من خلال الماضي والحاضر ومن أجل المستقبل.
وعندما يتخذ التجدد الحضاري هذا المنحى الذاتي النابع من تراث الأمة ومن حاجات المجتمع العربي ومشكلاته الحالية والمستقبلية، يتم اللقاء على نحو أيسر مع الجماهير العربية، وتضمحل الهوة بين الطليعة المثقفة وسواها. وبالإضافة إلى ذلك تحتل مسألةُ القيم الخلقية والإنسانية مكانها الصحيح، في عالم يشكو بحران القيم ووحشيةَ الوسائل ويزداد بعداً عن الأهداف الإنسانية لأي حضارة سليمة. فغني عن البيان أن الحضارة العربية الإسلامية حضارة إنسانية المنازع، وأن قيم التراث العربي الإسلامي محملة بالدينامية الحضارية. وعلى رأس هذه القيم “المسؤولية الفردية” و”التضامن والتكافل الاجتماعي” والحرية، و”العدالة” و”المساواة” و”تقديس العلم” و”تقديس العمل” وهذه القيم التراثية إذا أحسن غرسها وتوضيحها يمكن أن تكون رأس الحربة في معركة التجدد الحضاري، ولاسيما أنها عميقة الجذور لدى الجماهير العربية الواسعة.
خامساً: التجدد الحضاري والوحدة العربية:
1- ودور الاستعمار الغربي (ثم الصهيونية) في تعطيل التجدد الحضاري العربي ذو شقين: أولهما الحيلولةُ دون التقدم العلمي والتكنولوجي الفعلي في البلاد العربية، على الرغم من رسالة التحديث التي ادعاها. فالغرب – كما جاء في مقدمة كتب “قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر” الذي نشره مركز دراسات الوحدة العربية عام 1999 – يعارض فكرة التقدم العربي حتى “إذا اتخذ الغربَ نفسَه نموذجاً لذلك التقدم”. وثانيهما – وهو الأهم في نظرنا – الحيلولة دون وحدة البلدان العربية.. بل الإمعان في تمزيق كياناتها القطرية نفسها. وقد ظل هذا الدور دوراً أساسياً تحرص عليه الإمبريالية والصهيونية حرصاً خاصاً.
2- ذلك أن العروبة، كما يقول الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، حضارة قبل أن تكون أي شئ آخر. وصلة أبناء الأمة العربية بعضِهم ببعض صلةً حضارية أولاً وصلة ثقافية كما كان يقول رائد ” الفكر القومي العربي ساطع الحصري” ومفهوم النهضة – على حد قوله أيضاً – لا يمكن أن يكون مفهوماً قطرياً بالتالي، لأن الأمة العربية إما أن تنهض كلها وإما ألا تنهض البتة.
ومن هنا نلتقي مع الدكتور عابد الجابري حين لخص أهداف المشروع النهضوي العربي في هدفين رئيسيين هما الوحدة والتقدم، وحين قال إن الوحدة والتقدم هدفان لا يمكن الاستغناء عنهما في أي تفكير أو عمل عربي تحركه إرادة المستقبل. غير أن لنا ملاحظات حول ما جاء في ورقته حول “الدولة القطرية” لا يتسع المجال لها، وسبق لنا أن توقفنا عندها في بعض كتاباتنا.
سادساً: التجدد الحضاري والجهد الموصول:
وغني عن القول إن العمل من أجل التجدد الحضاري يستلزم جهداً دائباً ونضالاً موصولاً ووعياً علمياً وفكرياً رفيعاً.
وأهم ما فيه وضع الخطط المفصلة التي تؤدي إليه، في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والتربوية وسواها. وهذه الخطط لابد أن تكون وليدة عمل عربي مشترك، تسهم فيه شتى الفعاليات ويضم ممثلي شتى ميادين العلم والمعرفة. ونعتقد أن مجرد الإقبال على وضع مثل هذه الخطة التجديدية الشاملة سوف يكشف عن الترابط العميق بين مشكلات الأقطار العربية المختلفة وعن وسائل معالجتها معالجة مشتركة متضامنة.
سابعاً: التجدد الحضاري والإبداع:
1- وضع نظام للأولويات من أجل مشروع التجدد الحضاري لا تتسع له هذه الوريقة، فضلاً عن أنه لا يمكن وضعه إلا بعد أن يكون المشروع الحضاري النهضوي العربي قد أخذ كامل أبعاده.
غير أن ما يمكن التأكيد عليه منذ الآن – في ضوء الواقع العربي والواقع العالمي – ما لتنمية القدرة على الإبداع من شأن كبير في هذا المجال. فعصرنا، عصر الثورات الكبرى (ثورةِ المعلوماتية وثورةِ المال والثورة البيولوجية والجينية والثورة الروبوتية وسواها) هو عصر التغير السريع المذهل في المعرفة، تتقدم فيه المعلومات سراعاً وتتقادم سراعاً. وقد بيّن تقرير نشرته جامعة MJT (معهد ماساشوستس للتكنولوجيا) أن المعلومات الآن تتضاعف خلال فترة تتراوح بين 18 شهراً و 24 شهراً. غير أن هذه الفترة سوف تتضاءل في نهاية العقد الأول من القرن الحالي فتبلغ حوالي أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وهكذا فالأميون (في القرن الحادي والعشرين) كما يقول “توفلر Toffler” في كتابه الأخير “تحول السلطة Power Shift” لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، بل هم أولئك الذين لا يعرفون التعلم ثم نسيان ما تعلّموه ثم التعلم من جديد”. وهكذا تغدو شعارات “التربية المرنة” و”التعلم الذاتي” و”التربية المستمرة طوال العمر من المهد إلى اللحد” هي الشعارات الملائمة لعصرنا المتغير، وهي وحدها القادرة على تكوين الإنسان المبدع والمجدد والقادر على التكيف مع العصر وجدائده، بفضل ما يملك من مرونة وقدرة ذاتية على التعلم ومن امتلاكٍ للمواقف والاتجاهاتِ اللازمة للنجاح في عصر التغير السريع، وللتلاؤم مع الأوضاع الجديدة دوماً وأبداً.
وهذا يتطلب أولاً وقبل كل شئ تحقيق مرونة واسعة في بنى التربية وهياكلها ومناهجها وطرائقها، وفي الزبائن (الطلاب) الذين يرتادونها (من حيث العمرُ والمستوى التعليمي وسوى ذلك).
وهكذا فالتغير الدائم في المعرفة والتقانة يستلزم إعداد المواطن العربي من أجل التغير، ويتطلب تكوين إنسان عربيٍ “قادر على أن يعلّم نفسه بنفسه” دوماً وأبداً بعد تزويده بأدوات المعرفة الأساسية وبالمواقف الفكرية والاتجاهات السلوكية التي تحقق له النجاح في عالم التغير المغذّ في سيره. ولعل رأس هذه المواقف الفكرية والاتجاهات السلوكية أن يكون قادراً على التفكير تفكيراً مغايراً لفكره على حد قول الفيلسوف “هايدجر Heidegger”.
ولا يتسع المجال للحديث عن وسائل تكوين مثل هذا التفكير المبدع الملائم للتغير، سواء في ميدان التربية أو سواها. وقد تحدثنا عنه في أكثر من موضع وفي أكثر من كتاب.
والذي يعنينا هنا هو أن الاستجابة لمطالب التجديد الحضاري في البلاد العربية تستلزم أولاً وقبل كل شئ نظاماً تربوياً مرناً وجديداً، رائده توليد إنسانٍ عربيٍ قادرٍ على التجدد والتجديد.