مداخلة الدكتور عبد الله عبد الدائم في المؤتمر القومي الإسلامي

أثنّي على ما ذكره الصديق الدكتور محمد المسعود الشابي، حين طلب أن نوجّه اهتمامنا إلى البحث في المستقبل، أي إلى ما ينبغي عمله من أجل مواجهة نتائج التسوية، أو نتائج السلام الشامل (وأضيفً وغير العادل).
وعندي أن أهم ما ينبغي أن نعنى به، لمواجهة نتائج التسوية الممكنة محاربة التطبيع الثقافي بشتى صوره وأبعاده (بما في ذلك التطبيع العلمي والتكنولوجي)، بشتى الوسائل والأساليب الممكنة. الأمر الذي يستلزم إقامة شبكة من المؤسسات في الوطن العربي تدرس هذا الموضوع وتعنى بإيجاد السبل لتطبيق نتائجه.
ذلك أن التطبيع الثقافي (ومعه التطبيع الاقتصادي) أخطر أنواع التطبيع. وإسرائيل تراهن في الواقع على السلام الثقافي قبل أي شيء آخر. ولا حاجة إلى فتح أبواب مفتوحة في هذا المجال، وحسبنا أن نقول إن الحروب في عالمنا الجديد (ولاسيما في إطار العولمة الوحشية السائبة وانعكاساتها على الحضارات والثقافات، ودورها في محوها أو في إكراهها على التقوقع) هي حروب ثقافية أولاً وقبل كل شيء. والصراعات القائمة والقادمة في عالمنا صراعات بين الثقافات كما بيّن كثيرون، وعلى رأسهم، هانتينغتون Huntington في كتابه عن «صدام الثقافات». وقد دلّ تاريخ انحدار الحضارات الكبرى واندثارها (كالحضارة اليونانية والرومانية والصينية والمغولية وسواها) أن سقوطها كان دوماً نتيجة لسقوط ثقافاتها، كما بيّن برزنسكي نفسه مستشار الأمن القومي للرئيس «كارتر». وبلادنا العربية ما كانت تستطيع أن تصمد أمام مؤامرات الاستعمار الغربي ولاسيما في مغرب الوطن العربي لولا المقاومة العنيدة التي تولّتها الجماهير بفضل استمساكها بتراثها العربي الإسلامي ورفضها لتزييف هويتها ومحو قوامها وجوهر وجودها.
ومن الوسائل الهامة لمقاومة التطبيع مع إسرائيل توجيه الاهتمام إلى اختراق إسرائيل ذاتها، عن طريق العمل على إذكاء التفتت والتمزق الذي تعاني منه بنيتها الداخلية، بسبب الصراع القديم الحديث بين اليهودية والصهيونية، وبسبب بنيتها غير المتجانسة المؤلفة من إثنيات وثقافات متعارضة. لاسيما أن ثمة حركات في إسرائيل نفسها بدأت تحمل على ما فعلته الصهيونية في فلسطين ومع أهل فلسطين وطردهم من ديارهم، وعلى نحو ما نجد بوجه خاص لدى من يدعون بالمؤرخين الجدد ولدى اتباع تيار «ما بعد الصهيونية» وإن كان هؤلاء وأولئك لم يستخرجوا من موقفهم الناقد لبلاء الصهيونية وجرائمها النتائج العملية التي تلزم عن ذلك.
وما دمنا نتحدث عن التطبيع، أود أن أنبه إلى نقطة لم تلق الاهتمام الكافي، وهي أن التطبيع مطلب ينبغي أن يطلبه العرب من إسرائيل لا العكس.
فهي الآن التي تطلب من العرب إفساح المجال لها كي تسرح وتمرح دون قيد، وإلغاء كل ما يشير إلى معاداة إسرائيل سواء في مناهج التربية العربية أو في الثقافة أو الفكر أو حتى في الاقتصاد. وهي تطلب ذلك بينما تتمسك هي بقوة بمنطلقاتها الصهيونية وأهدافها العدوانية. ولعل مما يقوي موقف المفاوض العربي أن يطلب من إسرائيل أن تطبّع كيانها وأن تتنكر لمبادئها الصهيونية ولمطامعها التوسعية. ونحن نؤمن أن أي سلام حقيقي ودائم مع العدو الصهيوني لا يمكن أن يقوم ويستمر إلا إذا تخلّت إسرائيل عن مبادئها الصهيونية، وإلا إذا أدركت أن الجاني – لا الضحية – هو الذي يجب عليه أن يكفّر عن جنايته، وأن يتجاوز منطلقاته الصهيونية، وأن يعيد الحق المغتصب إلى أصحابه ويعيد أهل البلاد إلى ديارهم. أي أن عليه أن يبادر إلى التطبيع ويعلن عنه قبل أن يطلب التطبيع من سواه.
نضيف إلى هذا أن أهم جوانب مقاومة التطبيع الثقافي مقاومة التطبيع العلمي والتقاني مع العدو الصهيوني، والحيلولة دون اندساس هذا التطبيع من خلال العولمة. وهذا لا يعني إغلاق الأبواب أمام الاتصال العلمي والتكنولوجي مع الدول المتقدمة بسبب ذلك ولكنه يعني أن يكون الشعار في هذا المجال التأكيد على ضرورة الأخذ بالتحديث في أقصى صوره وأشكاله، ولكن في إطار التفريق الواضح بين «التحديث مع الحضارات الأصيلة وعلى رأسها اليابان والصين» وهذا يعني فيما يعني ألا يكون التحديث مركباً للغزو الإسرائيلي للبلاد العربية، بطرق مباشرة أو غير مباشرة.