تيار العولمة يسعى إلى محو الثقافات

لم تستطع الهجمة الثقافية الأجنبية اختراق جدار الثقافة في الوطن العربي على الرغم من شراستها
لبنان ملتقى الفكر والحضارات وموئل أهل الكلمة ورواد الحريات. عاصمته بيروت التي توجت عاصمة ثقافية للعالم العربي تفتح قلبها لكل مفكر عربي جاءها للمشاركة في احتفالاتها بهذه السنة الثقافية.
الدكتور عبد الله عبد الدائم أحد رجالات الكلمة والفكر في سوريا الذي قصد بيروت للمشاركة في ندوة «دور بيروت في النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين» التي استضافها قصر الأونيسكو، التقته «اللواء» وكان الحديث التالي:
* إلى أي مدى تتأثر البلاد العربية بالهجمة الثقافية الأجنبية. وكيف تتصدى ثقافتها لهذه الهجمة؟
رغم قوة وشراسة الهجمة الثقافية الأجنبية على البلاد العربية والعالم في محاولة لتسطيحه وجعله نمطاً واحداً من الثقافة، أعني الثقافة الأميركية باسم العولمة وسواها وعن طريق حرية السوق الاقتصادية والمالية، ورغم ضخامة هذه الهجمة وإمكانياتها لم تستطع بعد أن تخترق جدار الثقافة في الوطن العربي.
هذا لا يعني بأن هذه الهجمة لم تجد بعض الأصوات المؤيدة هنا وهناك في بعض البلدان العربية. من جهة ثانية هناك جداران يقاومان بشكل واضح هذه الهجمة الثقافية وبينهما شيء من التعاون إلى حد كبير:
الجدار الأول هو جدار الفكر القومي الذي تكون خلال سنوات طويلة منذ الخمسينيات وثورة تموز في مصر وكل أيام المد القومي التي عرفتها البلاد العربية. ولحسن الحظ أن هذه الوثبة القومية التي تحققت في الخمسينات لم تنطفئ، بل نستطيع أن نقول بأنها عادت في بعض البلاد العربية أشد مما كانت، وأعني بذلك بشكل خاص مصر.
لقد كنا نخشى بشكل خاص على المد القومي في مصر بعد زوال عهد عبد الناصر وكان البعض يحسب بأن هذا المد القومي العربي قد يتضاءل في مصر وكأنه من صنع عبد الناصر، لا سيما أن هذا المد لم يثبت وجوده على النحو الكامل ثقافياً في مصر وأيام عبد الناصر نفسه. لذلك كنا نخشى على المد القومي بعد ذلك. ولحسن طالع الأمة العربية أن بروز القومية العربية التي غرسها عبد الناصر والتي أزكتها الأحزاب القومية في مختلف البلدان العربية آتت أكلها لدى الأجيال الجديدة في مصر وسواها. لحسن الحظ أن التجربة الناصرية القومية آتت أكلها بعد حين والآن نجد جيلاً من المثقفين المصريين أصبحوا رواداً في مجال الثقافة. وفي بعض البلدان العربية كان المد القومي سباقاً وقائماً. ومن حسن الحظ أنه بفضل عبد الناصر ولد التيار القومي في مصر، وعندما يولد تيار ثقافي في مصر من هذا النوع يمكن أن يتفاءل الإنسان إلى حد كبير. خصوصاً وأنها تضم كفاءات أدبية ومفكرين على مستويات عالية استطاعوا تغذية الفكر القومي الذي ظهر في الخمسينيات برافد جديد ودم جديد وما يزالون.
هذا هو الجدار الذي ما يزال يقاوم تشويه الثقافة العربية والغزو الثقافي الأجنبي ومحاولة تطويع الثقافة وجعلها نمطاً على شاكلة الأنماط الثقافية الخاضعة للإمبريالية الثقافية.
أما الجدار الثاني الذي ينبغي أن نذكره فهو الجدار الإسلامي، ولا أعني بذلك الحركات الإسلامية كما يقال عنها أعني التراث الإسلامي العربي الذي هو في نهاية الأمر ثقافة الشعب العربي كله أنى كان والذي هو هوية المواطن العربي شئنا أم أبينا وما ينطبع عليه منذ طفولته من آثار وخبرة آبائه وأجداده وهذا التراث العربي الإسلامي هو تراث بالنسبة لكل العرب مسلمين ومسيحيين.
ومن هنا فإن الجدار الثاني ليس بعيداً عن الجدار الأول بل هما مترابطان، فلا يكتمل الجدار الأول إلا إذا تفاعل مع الثاني الذي تكمن فيه القوة الحقيقية للأمة العربية لأنه تيار الشعب. صحيح أن الحركة الثقافية القومية والأيديولوجية القومية هي حركة طبيعية في نفوس الناس يقرون بها بشكل عفوي.
ولكن التراث العربي الإسلامي يظل التراث الدائم ذا الشأن الخاص لأنه وقف دوماً في وجه استعمار الدول الأجنبية للبلاد العربية من أيام الحملات الإيبرية إلى الحملات الفرنسية على المغرب العربي إلى الحملات على المشرق العربي. وهذا التراث تراث للمسلمين والمسيحيين على حد سواء. وكلنا يعرف إن الحركات القومية العربية التي قامت في لبنان إبان الحكم العثماني ظهر فيها الكثير من القادة المسيحيين وغيرهم في هذا التيار وكانوا يؤكدون انتماءهم إلى الإسلام كتراث. فالتراث الإسلامي هو كنز وثروة، ونحن ما نزال لحسن الحظ مطمئنين إلى هذا التيار وإن كانت الأيدي بدأت تعبث به، بسبب ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة التي يتم الخلط بينها وبين التراث العربي الإسلامي والتي أساءت إلى هذا التيار وأظهرت الإسلام على غير حقيقته.
ولهذا أعتقد أن الاختراق الثقافي للبلدان العربية بشتى الوسائل الحديثة وعن طريق العولمة لا يلقى حتى الآن النجاح الذي يريده ومن العسير أن يلقاه لأن حاجز الثقافة سيظل الحاجز الأساسي الذي سيقف في وجه هذه المحاولة، محاولة الاختراق الثقافي الغربي، ولأن الثقافة العربية هي ثقافة أصيلة والعرب أصحاب حضارة وثقافة مما يجعلهم واثقين من أنفسهم ويأبون سلخ جلدتهم الأصلية ليلبسوا غيرها. ومخاطر العولمة الثقافية بشكل خاص جعلتهم أكثر ثقة بأنفسهم وبضرورة الالتفات إلى هويتهم وإلى خصوصيتهم.
فتيار العولمة إذا ترك وشأنه يسعى إلى محو الثقافات وتسطيحها وجعل العالم متشاكلاً. بينما الثقافة العربية بهويتها الذاتية تقاوم وتهتدي بتراثها ضد هذا الغزو وهي مفتوحة لحوار الثقافات وليست مفتوحة لسيطرة نمط واحد من الثقافة على العالم على الجميع أن يلحقوا به ومن لم يلحق به يعد متخلفاً.
ونحن لا ندعي أن ثقافتنا هي أفضل الصور والفكر القومي العربي لا يدعي ذلك ولا يدعي العنصرية وكل ما في الأمر أنه كغيره من الشعوب مخلص لذاته. كما أن العروبة ليست متقوقعة على ذاتها بل هي إنسانية ومنفتحة على العالم. هناك فرق كبير بين الإنسانية والعولمة وهناك محاولة للخلط بينهما. والعولمة لا تؤدي إلى الإنسانية بل تؤدي إلى السيطرة.
* كيف تنظرون إلى الوضع الثقافي في لبنان في الوقت الحالي؟
– رغم كل شيء أعتقد أن لبنان قادر دوماً على الإبداع الثقافي لأنه صاحب تربة نادرة غير متوافرة في البلدان العربية الأخرى مما يسهل ولادة الإبداع الثقافي، سواء كان مصدر تلك التربة تكوينه الحضاري المنوع وانفتاحه على الحضارات العالمية أو الحرية الفكرية الموجودة فيه فضلاً عن تراثه.
وأشعر دوماً بأن مناخ لبنان صالح للإبداع الثقافي في خدمة الأمة العربية. ولحسن الحظ نقول بأن إبداع لبنان الثقافي أصبح إلى حد كبير غير منغلق ولا منكمش على نفسه. وخلال مداخلتي التي ألقيتها في المؤتمر تحدثت عن حرب 67 وما كتبه المثقفون بعدها لنقد الفكر الذي أوصلنا إلى النكسة. وقلت أن حصيلة ذلك كله بالنسبة للبنان أنه اصبح أكثر وعياً لذاته ولسواه من الأقطار العربية.
وأستطيع أن ألخص نظرتي للبنان بهذه الكلمات: «لبنان يكون أكثر قرباً من العروبة بمقدار ما تثبت العروبة تقدميتها» ويكمل هذا الكلام أن يؤكد لبنان أنه لا يقل تمسكاً بالعروبة من سواه وعند ذلك يستطيع أن يلعب دوره التقدمي في حركة القومية العربية.