الحضارة العربية حولت العقل الإنساني من الدوران حول ذاته الى الدوران حول الأشياء

المفكر القومي والتربوي، الدكتور عبد الله عبد الدائم. كان من بين المفكرين الذين شاركوا في الأسبوع الماضي في الندوة التي نظمتها الـ «الكسو» بالتعاون مع وزارة الثقافة، في
«قصر الأونسكو»، عن «دور بيروت في النهضة الثقافية العربية في القرن العشرين». وقد أجرت «الكفاح العربي» حواراً مختصراً معه في أثناء الاستراحة. حيث رصد عبد الدائم آثار الفكر القومي الممتدة في الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه. معتبراً – في معرض تحليله للمحاولات المتتالية التي تساق تحت عناوين وسبل وأساليب مختلفة، لضرب الثقافة العربية، وخصوصية الأمة
العربية – أن اختراق الثقافة في البلاد العربية عن طريق الوسائل الحديثة الإعلامية والمعلوماتية. وعن طريق السوق الحرة، وعن طريق العولمة، لا يلقى حتى الآن النجاح المنشود. ومن العسير – يقول عبد الدائم- أن ينال هذا الاختراق غايته، لأن الحاجز الثقافي العربي هو الحاجز الأساسي الذي سيقف في وجهه، لاسيما أن الثقافة العربية الإسلامية، هي ثقافة أصيلة وليست مثل الثقافة الإفريقية، التي تفتقد إلى تراث ثقافي.

د. عبد الله عبد الدائم
• لا أجد حلاً للبلاد العربية غير الحل الذي يدعو إليه الفكر القومي، إنه حل عملي متكامل
• الغرب نفسه يقول أن العرب لا مخرج لهم إلا إذا اجتمعت مواردهم البشرية مع مواردهم المالية.

عبد الدائم اعتبر أن العرب عندهم ثقافة وحضارة. وهذا ما يجعلهم دائماً واثقين من أنفسهم، ويجعلهم يأبون أن يسلخوا جلدتهم الأصلية، ويلبسوا جلدة غيرهم. فظهور تيار العولمة الثقافية بشكل خاص، جعلهم أكثر ثقة بأنفسهم، وأكثر تأكيداً على ضرورة الالتفات إلى هويتهم وخصوصيتهم، لأن تيار العولمة إذا تُرك وشأنه، فهو يمحو الثقافات المختلفة، ويسطحها ويجعلها عالماً متشاكلاً. بينما الثقافة العربية بهويتها الذاتية، تقاوم وتحتمي بتراثها ضد هذا الغزو. وهي تؤمن في مقابل ذلك كله، بالحوار الثقافي، بمعنى أنها تؤمن بأن الثقافة العربية مفتوحة للعالم فعلاً، ومفتوحة لحوار الثقافات، ولكنها ليست مفتوحة أبداً لسيطرة نمط واحد من الثقافة على العالم.. نمط مفروض، على الجميع اللحاق به، والذي لا يلحق به، يعتبر من المتخلفين. نحن لا ندعي التفوق.. بمعنى أن الفكر القومي العربي لا يدعي التفوق، عليه أن يصغي، وهو لا يدعي العنصرية زاعماً أنه أفضل من غيره. هو كغيره من الشعوب في نظام تقديم دلالاته ومبادئه وغاياته. أنا أستطيع على سبيل المثال أن أبدع من خلال ثقافتي، والآخر يستطيع أن يبدع من خلال ثقافته. اليابان تقدمت بالدرجة الأولى، بفضل ثقافتها، ولا تزال ثقافتها هي الخزان الذي تلجأ إليه، حتى في اقتصادها. فكل بلد له ثقافته، ونحن لا نقيم منافسة بين الثقافات. وإنما نقيم حواراً. ولا تدعي العروبة هنا تفوقها، ولا عنصريتها. العروبة إنسانية ومنفتحة على العالم. هنالك فرق كبير بين النزعة الإنسانية، ونزعة العولمة. ثمة من يحاول الخلط. فالعولمة لا تؤدي إلى الإنسانية.. إنها تؤدي إلى السيطرة.. والسيطرة كما هو معلوم، نقيض الديمقراطية، ووجه أساسي من وجوه الإمبريالية.
– ألا تعتقد أن بعض نتاج المفكرين العرب المعاصرين، لاسيما في بلاد المغرب العربي، وتحديداً المغرب، يواجه تقاطعات مع بعض نتاج مفكري المشرق العربي، لجهة قراءة الفكر القومي العربي بصورة خاصة؟ لنأخذ مثلاً منحى من كتابات محمد عابد الجابري، وردود جورج طرابيشي عليها. ألسنا بحاجة إلى جهد عربي موحد في سبيل تعزيز خطاب الفكر العربي الحديث؟
ما تذكرينه فيه جانب من الصحة. المغرب العربي في الماضي، في الخمسينيات والستينيات، كان إلى حد ما بعيداً عن أذهان المشرق العربي. كان شبه معزول. وكان أبناء المغرب يأتون إلى المشرق للدراسة أو سواها. ولكن لم تكن هنالك صلات ثقافية واسعة. لقد بدأت الصلات الثقافية تتسع أكثر، أيام المد الناصري، وبعد إنشاء جامعة الدول العربية، وجعل مقرها في تونس. وإنشاء منظمات أخرى للجامعة العربية وجعلها أيضاً في تونس.
ثم، اتسع الحوار بين المشرق والمغرب، وظهر في بلد المغرب تحديداً، فكر ذو مستوى عال، ولحسن الحظ أنه فكر قومي. وهذا الفكر القومي في زخمه وأصالته، يذكرنا بالفكر القومي في الخمسينيات في المشرق. وكأنه عود على بدء. وحتى الجماهير الشعبية في المغرب، نجد فيها اليوم صورة عن الجماهير الشعبية في البلاد العربية، أيام المد الناصري، وبعدها، والخ.
إن دخول المغرب في الحقيقة إلى الحلبة في السنوات الأخيرة، شكل ظاهرة ممتازة جداً ورائعة. ولا نقول بأن التعرف عليه بدأ. بل نقول بأن التفاعل الحقيقي معه قد بدأ من خلال المؤتمرات والندوات والصحف والكتب. خصوصاً بعد بروز مثقفين كبار في المغرب، أمثال الجابري وعبد الإله بلقزيز، والمجموعة التي ظهرت في المغرب. هؤلاء جعلوا الحوار متجدداً، وألبسوه صيغة جديدة.
أما بعض الاختلاف الذي يتحدثون عنه، والذي ذكرتيه في معرض سؤالك، فهو قائم بين الفكر القومي الذي كان سائداً هنا منذ الخمسينيات وما بعدها، والذي ما تزال آثاره باقية، وبين الفكر القومي في المغرب.
أنا أقول أولاً، إن هؤلاء المفكرين المغاربة الذين أشرت إليهم – القائمة طويلة طبعاً، – معظمهم ممن درس في المشرق. الجابري درس في دمشق، وعرفناه فيها. وهناك مجموعة كانوا طلاباً لنا في جامعة دمشق يحتلون الآن مكانة ثقافية مهمة في المغرب. فأثر المشرق أيضاً انعكس عليهم، ولحسن الحظ أنه وُجد أيضاً من يتجاوز ذلك إلى طروحات جديدة. فالجابري اقترح موضوع دراسة البنية الثقافية العربية، الخ.. وتعمّق في هذا المجال. ولن أدخل في العمق الفلسفي، والتجاذب الذي حدث بينه وبين جورج طرابيشي، لأن هذا الدخول يحتاج إلى البحث. فما يهمني هنا هو الموقف القومي. ومن حيث الموقف القومي أنا لا أرى فروقاً أساسية بين التيارين. لقد تحدثت مع محمد عابد الجابري في المناسبات، وألقيت محاضرة في عمان منذ سنوات، بعنوان «القومية العربية بين التجديد والترشيد والردة». وقد نشرت هذه المحاضرة في كتابي الذي صدر منذ سنوات عدة بعنوان «القومية العربية والنظام العالمي الجديد». والملاحظات التي أبديتها على فكر البعض أمثال الجابري – وأنا أريد أن أؤكد أن الجابري صاحب فكر قومي أصيل، ومؤمن بالفكر القومي إيماناً فعلياً وحقيقياً – تكمن تجاه قوله «بأن كل محاولة للسير نحو توحيد الوطن العربي، عن طريق القفز فوق الكيانات القطرية، محاولة واهمة وخيالية». فالشيء الوحيد الذي أختلف فيه مع الجابري، هو هذه الفكرة بالذات: أي أننا لا نستطيع أن نبني فكر الوحدة العربية، إذا قفزنا فوق كيان القومية. وعلينا أن ننتظر، ونعمل من خلال الكيانات القومية نفسها. وكل لبنة نضيفها إلى الكيانات القومية، أو إلى الجامعة العربية، هي خطوة في طريق الوحدة العربية.
أنا أرى في ذلك إشكالاً. فنحن في الفكر القومي، في مرحلة الخمسينيات وغيرها، لم نتجاهل أبداً الكيانات القطرية. نحن نعرف تماماً بأن الكيانات القطرية هي كيانات صلبة وصلدة ومقاومة. في ذلك الحين كنا نتحدث عن التجزئة في البلاد العربية، ونعتبر التجزئة محاولة فرضها الاستعمار على منطقتنا. ولكن في الوقت نفسه نقول أن هذه التجزئة، أصبحت راسخة ولها جذورها لدى الحكام وفي النفوس، وفي الكيانات الاقتصادية. ونقول أن محاربتها عمل دائم وطويل، ويحتاج إلى نضال قومي متصل ويومي. هذا هو الفرق. فالتجزئة هي العقبة الأساسية التي تقف في وجه الوحدة العربية. والكيانات التي أنشأها المستعمر، أصبحت كأنها كيانات أبدية. ولكي نأخذ فكرة عن معنى التجزئة كما نفهمه، وعن إدراكنا لخطر التجزئة، يكفي أن نذكر مثلاً، أن في البلاد العربية وحتى عهد قريب، كان هناك سبع دول في الإمارات العربية المتحدة – هي دول الساحل المصالح – فهل في ذلك كيان قطري؟ جاءت الإمارات العربية المتحدة، وخطت خطوة، ولكن أبقت نوعاً ما على هذه التجزئة رغم أنها خطوة جيدة في إطار اتحاد الإمارات العربية.
كذلك في المشرق والمغرب، التجزئة غير طبيعية – أنا حدثت محمد عابد الجابري عن هذه المسألة. فكان جوابه لي دائماً: «نحن في هذا متأثرون بتجربتنا في المغرب» بمعنى أن دولة المغرب منذ سنين طويلة، كانت دولة لها كيانها المستقل، ولم تخضع لتجزئة ولم تخضع لأحد. بل هي دولة كبيرة ذات كيان، ومستقلة. فقلت له أن هذا ليس مبرراً، وخصوصاً إذا طبقناه على بلدان عربية أخرى. لذلك أرى أن نقطة الخلاف الوحيدة بيننا هي هذه. أما نقطة الخلاف الثانية، فأنا أجدها لفظية، عندما يتحدثون أحياناً عن تجديد الفكر القومي العربي. وحتى الآن أنا لم أر من أمائر التجديد إلا اللفظ. يقال أن الفكر القومي العربي ينبغي أن يجدد. حسناً، هاتوا برهانكم. وماذا تريدون أن تجددوا في الفكر القومي. التجديد في القيم، في الأساليب. ليس هناك من يقوم ضد هذا الأمر. فعصرنا مختلف، والزمن اختلف، والأساليب لا بد من أن تختلف، ولكن هذا ليس تجديداً للفكر القومي.
من جهتي أنا لا أرى أن أهداف هذا الفكر بحاجة إلى تجديد. لذلك أعتبر ذلك كله، نوعاً من التبرير لانحسار المد القومي. نحن كنا نتكلم في أيام المد القومي. وعندما كنا نطرح فكرة القومية العربية، والوحدة العربية، لم نكن نطرحها، كما يطرحها المفكرون اليوم، نظرياً وفكرياً فقط. مشكلة كل هؤلاء الكتّاب – ونحن لا نحمّلهم أكثر مما يحتملون – أن موقفهم هذا قد يؤدي إلى تغيير الأفكار والعقول. بينما نحن نريد أن يكون فكرنا فكراً يؤثر في الكيان العربي، لاسيما أن الوصول إلى الوحدة العربية، يقتضي وحدة النضال العربي، والنضال اليومي العربي. لا شك في أن هذا الفكر الآن جيد، وهو يحلل، ولكنني أخشى من التحليل الذي يصبح غاية في ذاته. أريد أن أستخرج من ذلك اتجاهات حادة وحارة تؤدي إلى موقف. ما هو الموقف؟ يقال أن الفكر العربي تخلّف.. هو فكر غيبي، وفكر كلامي.. والثابت أن ذلك كله غير صحيح، ففي كل عصور الانحطاط، كل الأمم كانت كذلك. ثم أن الفكر العربي كان فكراً عملياً أولاً، والحضارة العربية الإسلامية، ليست حضارة روحية وحضارة كلامية، وحضارة لفظية. هي أولاً حضارة علمية، لاسيما أنها «حوّلت العقل الإنساني من الدوران حول ذاته كما كان عند اليونان، إلى الدوران حول الأشياء، كالملاحظة والمشاهدة».. في النهاية، أنا حتى الآن، لا أجد حلاً آخر لمشكلات البلاد العربية، غير الحل الذي يدعو إليه الفكر القومي العربي. إنه حل عملي متكامل. نحن في أيامنا كنا نحتاج ربما إلى إيديولوجيا. الآن الشباب يعيشون مشكلة البلاد العربية بأعصاب تواكب هاجس لقمة العيش. ويتبين لهم بأنهم لا يستطيعون بالفعل، أن يكونوا شيئاً، وأن تنمو بلادهم وأن تتقدم اقتصادياً واجتماعياً، إلا عن طريق التعاون وتكامل الفكر العربي. والغرب نفسه يقول، إن البلاد العربية لا مخرج لها، إلا إذا اجتمعت الموارد البشرية الموجودة في بعض البلدان العربية، مع الموارد المادية الموجودة في بلدان عربية أخرى، وأنتجت حضارتها الجديدة. لذلك نحن لا ننطلق من الخيال، ولا نفرض شيئاً على الواقع. ناهيك عن الإيمان الذي هو منطلقنا للتعبير عن قوميتنا وخصوصيتنا. خصوصاً أن ما يقلق الغرب، هو هذه الوحدة الفكرية والثقافية الموجودة في الوطن العربي. لذلك تكثر محاولات التفرقة والتجزئة والإضعاف وإقامة الحواجز.. لم يتوافر لأمة من شروط الوحدة، ومقومات الوحدة، مثلما يتوافر للأمة العربية، وهذا ما أغاظ المستعمرين دائماً، ولا يزال يغيظهم حتى اليوم. يبقى أن الثقافة هي عماد الوحدة العربية. وبتوحيد الخطاب الثقافي العربي في أرجاء البلاد العربية، يسهل الوصول إلى أشكال أخرى من الوحدة العربية. إن الوحدة الثقافية قائمة، لكنها بحاجة إلى بُنى تعليمية وتربوية والخ.. لتأييد وجودها.

نبذة عن الدكتور عبد الله عبد الدائم:

– مفكر قومي وتربوي، تولى سابقاً منصب وزير التربية في سوريا، ومنصب وزير الإعلام.
– رئيس قسم مشروعات التربية في البلاد العربية، وفي أوروبا في منظمة «الأونسكو» باريس.
– له حوالي ثلاثين مؤلفاً في الفكر القومي والتربية، ومجموعة من الأبحاث.
– شغل منصب خبير في التخطيط التربوي والإدارة التربوية، في «المركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في الدول العربية في بيروت بين عام 1962 و1970».