دور التربية العربية المتغير مع دخول القرن الحادي والعشرين

مجلة شؤون عربية التي تصدرها جامعة الدول العربية – العدد /93/ تاريخ آذار / مارس 1998
دور التربية العربية المتغير مع دخول القرن الحادي والعشرين

د.عبد الله عبد الدائم
مفكر تربوي وقومي- دمشق
مدخل
1- لحاق التربية بالتغير موضوع مطروح دوماً، قديم أبداً. ولعله سيظل كذلك بحكم طبائع الأمور: فالتغير قائم مستمر ما استمرت الحياة. وإن اختلفت وتيرته بين حين وحين. والتربية نظام أقامه المجتمع، وهي بالتالي، كأي مؤسسة اجتماعية، متثاقلة في تطورها، مقصرة دوماً عن مستلزمات تطوير النظام الاجتماعي الكلي، بل كثيراً ما تشد هذا النظام إلى خلف، وتحول دون تجدده. بل أن التربية، كما تبين الدراسات المختلفة، من أكثر النظم الاجتماعية محافظةً، متفوقةً في ذلك حتى على ميدان الزراعة الذي يضرب المثل عادة بنزوعه إلى الإبقاء على تقاليده الموروثة ورفض محدثات الأساليب والوسائل.
ومن هنا كان البحث عن “تحديث التربية” وعن “التربية المتغيرة” وعن “التربية من أجل عالم متغير” وعن “تربية المستقبل” وسوى تلك من الموضوعات المماثلة، بحثاً موصولاً تحفل به المظان المختلفة منذ أوائل هذا القرن على أقل تقدير، بل يدور الحديث حوله منذ أن وجد آباء وأبناء/ ومنذ أن وجدت مدارس نظامية أو غير نظامية.
2- على أن الحديث عن هذا الفراق بين التربية وبين التغير، قد اشتد وغدا صاخبا مدويا منذ منتصف هذا القرن على أقل تقدير(ضاربين صفحاً عن صيحات التربية الحديثة وجدائدها منذ بداية القرن)، أي منذ أن بزغت الثورة العلمية التقانية وكادت تجب ما قبلها.ذلك أن هذه الثورة العلمية التقانية (أو ثورة ما بعد الصناعة كما تسمى أحياناً، أو “الموجة الثالثة” كما يسميها الباحث الأميركي”توفلرToffler” (في كتابه الذي يحمل هذا العنوان نفسه)) تختلف اختلافاً بيناً وبائناً عن الثورة الصناعية الأولى التي عرفها العالم منذ حوالي قرنين من الزمان. أو بتعبير آخر، متأسين ما يقوله بعض الكتاب، إن ثمة فرقاً في الطبيعة لا في الدرجة فحسب بين الثورتين: فقوام الثورة الصناعية الأولى، كما نعلم، منظومة من الآلات تستخدم كتلة من اليد العاملة. ودور كتلة اليد العاملة في ذلك مجرد دور إجرائي عملي، أي مجرد ضبط الآلة وإحكام سيرها. أما الثورة العلمية التقانية فمن أهم ملامحها أنها أخذت تحطم إطار تلك الثورة الصناعية ومقوماتها، لتقيم مكانها بنية جديدة، وديناميكية جديدة للقوى العاملة، أهم مقوماتها ما يأتي:
أ- وسائل العمل والإنتاج فيها تتجاوز حدود الآلات الميكانيكية لتأخذ شكل”الأتمتة” والتحرك الذاتي والسبرانية، ولتصبح بالتالي قادرة على الاضطلاع بوظائف مستقلة تجعل منها مركبات مستقلة للإنتاج.
ب- جميع وظائف الإنتاج المباشر التي كانت تقوم بها اليد العاملة البسيطة غير المؤهلة أخذت تضمحل تدريجياً في هذه الثورة الجديدة، بحيث أخذ الإنسان يتحرر من وظائف الإنتاج التقليدية (المعالجة اليدوية والضبط والإحكام) وبدأ يوكل تلك الوظائف إلى الآلة، ليتولى هو وظائف جديدة أسمى وألصق بطبيعته الإنسانية، وأكثر ارتباطاً بمرحلة “ما قبل الإنتاج” وما”بعده”.
ج- وأهم من هذا كله بين معالم هذه الثورة، أن قوى إنتاجية جديدة أخذت تدخل عملية الإنتاج وتحتل فيها مكانة أساسية، وعلى رأسها قوى العلم وتطبيقاته التقانية، وما وراء ذلك من نمو للقوى البشرية المبدعة والنشاط الإنساني الخلاق. وبعد أن كان التقدم من قبل يتم “مع العلم” على حد تعبير “روجيه غارودي” ، أصبح يتم بعد هذه الثورة “بالعلم”. وأصبحت المعرفة- ووراءها العقل الإنساني-، كما يفصل ذلك “توفلر Toffler ” في كتابه “تحول السلطة” هي العامل الأول في الإنتاج والتقدم والثروة. وسوف نرى أهمية هذه الظاهرة لدى حديثنا عن انعكاسات هذه الثورة على التربية.
وقد نتج عن هذه الثورة العلمية التقانية تسارع التغير في شتى مجالات الحياة تسارعاً مذهلاً ومتزايداً. ولا نغلو أن قلنا إن هذه الثورة تتجاوز ذاتها يوماً بعد يوم. وهي على تخوم لقرن الحادي والعشرين تأخذ ملامح أوضح وأكثر حداثة، تتجلى بوجه خاص في ” ثورة المعلومات والاتصال ” (فضلاً عن ثورة “التقنيات البيولوجية والوراثية” وسواها كما سنرى).
3- ويعنينا من هذا كله أن هذه الثورة العلمية التقانية أحدثت وسوف تحدث تغيراً عميقاً وشاملاً له انعكاساته الكبرى على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعات وعلى مستوى الأمم والشعوب وعلى مستوى الإنسانية ككل. ولابد بالتالي من استخلاص النتائج التي تلزم عن هذه الثورة، ومن رسم السياسات التي تستلزمها في شتى المجالات، بحيث لا يترك التغير وشأنه، يجري على شاكلته، ويقتحم خيره وشره الأمم والجماعات والأفراد، ويقودها إلى حيث لا تدري.
4- ويقول موجز يملي التغير الضخم الذي حل بالعالم منذ بداية الثورة العلمية التقانية، والتغير المذهل الذي يحل بالعالم في أواخر هذا القرن والتغير الذي سوف يزداد حدة في مطالع القرن الحادي والعشرين، مهمات ضخمة على العالم وعلى الدول، قوامها فهم هذا التغير وأدراك طبيعته وتبين وعوده ومخاطره في آن واحد، ورسم سبل استيعابه وتمحيصه وقيادته، بغية التكيف الناقد معه من جانب، وبغية تطويره وتوجيه مسيرته نحو الأفضل من جانب آخر، وذلك كله من أجل بناء عالم جديد قمين بالإنسان وحاجاته وقيمه.
5- والوطن العربي معني بمواجهة هذا التغير مواجهة واعية هادفة، شأنه في ذلك شأن سائر الأمم، بل لعله مدعو إلى هذه المهمة أكثر من سواه، لأنه ما يزال في بداية نهضته الحضارية من جانب، ولأنه ما يزال منفعلاً بآثار هذا التغير دون أن يكون فاعلاً، من جانب ثان، ولأن له فوق ذلك من تراثه الحضاري ومن القيم الإنسانية التي يحملها ذلك التراث ما يتيح له أن يمنح التغير، سواء داخل الوطن العربي أو في العالم، معاني أكثر إنسانية وأدنى إلى الاستجابة لحاجات الإنسان الحقة وتطلعاته العميقة.
6- ومثل هذه المواجهة للتغير تستلزم دون شك مشاركة شاملة من شتى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي. وعلى رأس تلك المؤسسات تأتي التربية، التي لا يمكن لسائر المؤسسات أن تمارس دورها إلا بمشاركتها الفعالة.
ولن نخوض ههنا في ذلك الجدال المستمر- القديم أبداً والجديد دوماً – حول مدى قدرة التربية على تغيير المجتمع وتطويره، ولن نتساءل مع من تساءل: هل التربية قائدة رائدة للمجتمع أم أنها تابعة منقادة له. ولن نقول مع من قال إن مهمة التربية “أن تولد عين النظام الاجتماعي الذي ولدها “، كما أننا لن نذهب مع من ذهب إلى نقيض ذلك، مؤكداً أن المجتمع بل العالم ” إن لم تغيره التربية فلن يغيره شيء “. وحسبنا أن نؤكد، من جانبنا، أن الصلة بين التربية والمجتمع صلة “دائرية ” وليست صلة “خطية” (صلة علة ومعلول) وأن بين التربية والمجتمع تآخذاً وتكاملاً، وأن التربية بالتالي نظام فرعي من نظام كلي شامل (هو النظام الاجتماعي) يؤثر فيه ويتأثر به أخذاً وعطاءً.
7- وقد يعنينا أكثر من هذا أن نقول أن مدى تأثير النظام التربوي في النظام الاجتماعي العام رهن بما يوضع في هذا النظام التربوي من أهداف، ووقف على مقدار ما يحمله هذا النظام من “جدائد” وطاقة ريادية. ومن هنا كان النظام التربوي القادر على تطوير المجتمع وعلى الاستجابة لمستلزمات تغيره وتغييره، نظاماً لابد أن تتوافر في أهدافه ومناهجه وطرائقه وبناه الشروط اللازمة لتكوين الإنسان القادر على الاضطلاع بمهمة التغيير والتحديث. وهذا يقودنا إلى صلب موضوعنا: ما هي التربية القادرة على الاستجابة لمطالب التغير المغذ في سيره على تخوم القرن الحادي والعشرين وفي مطالعه؟
وهذا السؤال الكبير ينقلنا إلى سؤال يصدر عنه: ما هي مهمة التربية في البلاد العربية عند تخوم القرن الجديد، وما هو التجديد والتحديث والتغير الذي ينبغي أن ينال أهدافها وبناها ومناهجها وطرائقها نتيجة لذلك؟
8- هذه الأسئلة الكبرى هي التي سنحاول الإجابة عليها فيما يلي من بحثنا. على أن علينا، قبل أن نمضي في ذلك، أن نتحدث بإيجاز عن المعالم الأساسية للتغير الذي يتم في عصرنا والذي سوف يزداد زخمه عند تباشير القرن القادم. فمن البدهي أن جوهر دراستنا- كما رأينا- البحث عما يتوجب على التربية أن تفعله في مواجهة التغير السريع القائم والقادم. ولابد بالتالي من البدء بالتعرف على طبيعة هذا التغير وأشكاله ونتائجه، كي نمضي مطمئنين في بيان ما يتوجب على التربية القيام به حياله.
أولاً – أهم معالم التغير عند تخوم القرن الحادي والعشرين:
سبق أن قلنا أن عملية التغير عملية دائمة مستمرة، سوى أنها عرفت قفزات سريعة ومذهلة منذ بداية الثورة العلمية التقانية، ثورة ما بعد الصناعة، وأنها تشهد اليوم تفجراً صاخباً في شتى المجالات، وأنها ستتابع خطواتها الجبارة ومفاجأتها عند مطالع القرن القادم.
وعلينا أن نستدرك ههنا فنحذر من الظن بأن ثمة انقطاعاً بين العالم المغذّ في تغيره اليوم وغداً وبين حصاد الحضارة العالمية طوال قرون. فمسيرة الحضارة مسيرة متكاملة وأن تكن متطورة متغيرة. ونحن لا نؤكد هذه الحقيقة البدهية لمجرد تأكيدها، بل نسوقها لندفع منذ البداية وهماً يجعل الكثيرين في أيامنا يظنون أننا أمام ولادة لعالم جديد لا يشيه ما قبله، وأن هذا العالم الجديد من حقه أن يتنكّر لكل ما خلفته مسيرة الحضارة الإنسانية من مبادئ وقيم ومكتسبات حضارية متنوعة. ونسوق هذه الحقيقة أيضاً لنرد على من يظن – كما فعل الكاتب الأميركي الياباني الأصل “فوكوياما” – أن التاريخ توقف وأن الإيديولوجية التي ينشدها الإنسان من أجل سعادته على وجه الأرض قد انتصرت بعد زوال الاتحاد السوفيتي وانتصار الديمقراطية بالتالي، فيما يقول.
ولكن لا بد أن نقفل هذه المعترضة التي قد تذهب بنا بعيداً، ولا بد من العودة إلى موضوعنا، نعني البحث عن أبرز معالم التغير في عصرنا وما تُرهص به من تغيرات في العقود المقبلة.
وههنا لن نخوض في شعاب بحث يستغرق الأسفار الضخمة. ولزام علينا أن نقتصر، في حديثنا عن معالم التغير القائمة والمتوقعة، على أمهات مظاهر هذا التغير من جهة، وأن نعني بوجه خاص بمعالم التغير ذات الانعكاسات المباشرة على التربية من جهة ثانية. وانطلاقاً من هذا يمكننا أن نرد أهم معالم التغير في العصر الحالي والمقبل – بكثير من الاجتزاء والإيجاز المخل – إلى معالم خمسة رئيسة: أولها التغير الكبير في وسائل الاتصال والمعلومات، وثانيها التغير الكبير في عالم الاقتصاد والمال، وثالثها التغير الجذري الذي يتم في عالم المعرفة، ورابعها التغير الاجتماعي المتسارع، وخامسها تغير صورة العالم واتساع نطاق “العولمة”.
ولا حاجة إلى القول إن هذا التقسيم الخماسي لمعالم التغير لا يعدو أن يكون وجهاً من أوجه تبسيط الدراسة وتوطئتها لمن أراد المزيد. فمعالم التغير معالم متكاملة متآخذة، يؤثر بعضها في بعض ويتأثر بعضها ببعض. ولا يمكن فهم أي منها فهماً وافياً إلا من خلال علائقه بسواه.
1 – التغير الكبير في وسائل الاتصال والمعلومات:
لقد بدأنا بهذا الوجه البارز من وجوه التغير في العالم، لأنه يكاد يكون رأس التغير كله وجوهره وأساسه. فمما لا يحتاج إلى بيان أن جوهر التغير السريع الذي حدث والذي سوف يحدث هو التغير المرتبط بالتنظيم السريع لتدفق المعلومات ونطاق استخدامها يوماً بعد يوم. ومن المكرور أن نقول أن التغير الذي تم ويتم وسوف يتم بفضل الثورة العلمية التقانية تغير يعتمد على الإلكترونيات الدقيقة والحواسيب وسواها من التقنيات المغذّة في تطورها، وذلك من أجل توليد المعلومات وتنظيمها واختزانها واستردادها وإيصالها بسرعة متناهية تجاوز الخيال.
هذه الثورة المعلوماتية هي إلى حد كبير وراء سائر التغيرات التي نشهدها كما سنرى. فهي وراء ما يجري من تغير في عالم الاقتصاد والمال، وفي الحياة الاجتماعية والثقافية بوجه خاص، وفي عالم العمل ووسائله، وهي التي تيسر السبيل بعد ذلك لظاهرة “العولمة”.
ومن أبرز خصائص هذه التقنيات المعلوماتية أنها تغير ذاتها تغييراً سريعاً يخطف الأبصار ويصعب اللحاق به. ولا شك أن أهم أهداف هذا التغيير والتطوير الموصول تيسير استعمال هذه التقنيات من قبل أكبر عدد ممكن من الناس. وها هي ذي شبكة “الإنترنت” التي تيسر الحصول على أي نوع من المعلومات من قبل أي فرد، تعاود، فيما تنقله آخر الأنباء العالمية، النظر في تقنياتها وتحاول تجاوز ذاتها من جديد، لتيسر الإبحار على قنواتها. وتشير الأنباء الأخيرة إلى أن هنالك شاغلاً أساسياً يشغل المعنيين بتقنياتها وهو أن الحصول على المعلومات عن طريقها يحتاج، في وضعها الحالي إلى تنقيب طويل وممل يتولاه الراغب في الحصول على المعلومات. ولهذا يضع الباحثون والمهندسون اليوم تقنيات جديدة تتيح لمن يريد الوصول إلى معلومات معينة أن يتلقاها على نحو آلي من الشبكة مباشرة دون أن يحاول البحث عنها. أو بتعبير آخر، يجري البحث اليوم عن تقنيات في هذا المجال “تدفع” نحو المتلقي ما يريد أن يتلقاه من الشبكة بدلاً من أن “يسحب” هو المعلومات من الشبكة كما يجري اليوم. وقد استبان من آخر الأبحاث أن هذا الأمر ممكن بفضل نظام حاسوبي جديد، يعرف باسم “نيتكاستر Netcaster”.
وأهم من هذا – فيما يتصل بموضوعنا- أن هذه الثورة المعلوماتية وما تحدثه من تغيرات، تطرح على التربية مشكلات أساسية تتعلق – فيما تتعلق – بدور المدرسة في تدريب الطلاب على التعامل مع المعلومات، وبموقفها من الغزو الثقافي الذي يحمله ذيوع المعلومات وانتشارها من العالم المتقدم إلى العالم المتخلف، وفيما يتصل بالافادة من هذه التقنية الجديدة في تطوير أساليب التعليم بل بنية التعليم نفسها وفي تجويد ما يعرف باسم ” تقنيات التربية”، وغير ذلك كثير.
وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد، عند الحديث عن العلاقة بين ما يجري من تغيرات وما ترهص به النبوءات من جدائد، وبين التربية ودورها في استيعاب هذا التغير وترشيده.

2 – التغير الكبير في عالم الاقتصاد والمال:
معالم التغير في هذا الميدان كثيرة، لن يتسع المجال للتطرق إليها جميعها. وحسبنا أن نتريث عند صلب المسألة. وصلب المسألة أمور أربعة متداخلة: أولها تعاظم دور الاقتصاد وطغيانه على سواه يوماً بعد يوم.
وثانيها طغيان النزعة الاقتصادية الليبرالية، بحيث غدا الاقتصاد الحر وغدت السوق الحرة عصب الاقتصاد العالمي وقوامه، بل عصب الوجود العالمي كله بأوجهه المختلفة السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية. وثالثها وأهمها خضوع النظم الاقتصادية نفسها في شتى بقاع المعمورة لعالم المال، وغلبة دور التحركات المالية على النشاط الاقتصادي الفعلي (المستند إلى توظيف الأموال في مشروعات منتجة) بحيث غدت النظم الاقتصادية كلها خاضعة وتابعة لتحركات كتلة هائلة من رؤوس الأموال تتضخم يوماً بعد يوم، وتنتقل انتقال البرق (بفضل الاتصال الإلكتروني) من مكان إلى آخر، تبعاًُ للفروق الناجمة عن تغير معدلات الفائدة وتبعاً للمضاربات المالية المستقبلة للأحداث, ويربو ما يتدفق من تبادل العملة يومياً على (3) تريليون دولار، وهو مبلغ يفوق بكثير المبالغ المستخدمة من أجل الاتجار الدولي بالسلع والخدمات أو الاستثمارات. وههنا نسجل عابرين أن هذا الانطلاق في تدفق المال الفائق السرعة ما كان ليتم لولا الثورة الشاملة في ميدان الاتصالات والمعلومات، ولولا التزايد الواسع في طاقات الحاسوب والأقمار الصناعية والأسلاك الفلينية- البصرية والنقل الإلكتروني الفائق السرعة. ورابعها طغيان دور الشركات المتعددة الجنسية التي قلما تعنيها مصالح وقيم البلدان التي تنتمي إليها. ولئن كان مثل هذه الشركات قد وجد منذ أمد بعيد، فإن ضخامتها وسلطانها اليوم لا يقاسان من قريب أو بعيد بتلك البدايات التي عرفتها منذ أوائل القرن العشرين.
ولتزايد هذا السلطان أسباب كثيرة، من أبرزها حرية تبادل النقد التي ساعدت على توسيع التجارة العالمية، وإن تكن قد أدت في الوقت نفسه إلى الانفصال المتزايد، كما ذكرنا منذ حين، بين التدفق المالي( تدفق العملة) وبين الاتجار بالصناعات التحويلية والخدمات، بحيث طغى الأول على الثاني طغياناً فاضحاً كما رأينا.
والحديث عن شؤون هذه الشركات المتعددة الجنسية حديث ذو شجون لا يتسع له المقام، وحسبنا أن نذكر عابرين أن الرقم الذي تتعامل به شركة “جنرال موتورز” أعلى من الناتج القومي للولايات المتحدة، وأن أرقام تعامل مؤسسة “فورد” تفوق الناتج الإجمالي لبلد مثل تركيا، وأن شركة “نيجرنيت” يزيد حجم إنتاجها على حجم إنتاج الدول العربية جميعها ومعها الدول الأفريقية وبعض دول حوض المتوسط كاليونان وإسبانيا.
ولعل القاسم المشترك الأعظم بين مظاهر التغير الاقتصادي الأربعة التي أتينا على ذكرها، هو” حرية السوق”، تلك الحرية التي غدت إلى حد كبير حاكمة العالم، والتي يتضاءل أمامها دور الحكومات، بل دور أقواها.أو لم يقل الرئيس “كلينتون” نفسه بالحرف الواحد، في خطابه إلى الأمة بتاريخ 23 كانون الثاني / يناير/ 1996 :” أن زمن تدخل الدولة قد مضى وانقضى”.
ولا شك أن هذه التغيرات الكبرى في دنيا الاقتصاد العالمي تملي على التربية مهمات جديدة ومتغيرة، سوف نشير إليها في موضعها من هذا البحث، على رأسها أن تتصدى التربية لمواجهة التغيرات التي تحدثها هذه الثورة الاقتصادية الجديدة، وأهمها التغيرات في العلائق بين الدول وبين الجماعات وبين الأفراد، والتغيرات في ميدان القيم الإنسانية وما تمليه من بحث عن قيم إنسانية محدثة قادرة في الوقت نفسه على الحفاظ على العدالة والمساواة والتضامن والحرية وسواها من أسس الحياة الإنسانية الكريمة ومستلزماتها في كل عصر ومصر. هذا بالإضافة إلى ما يفرضه التغير في عالم الاقتصاد من تجديد كامل لدور التربية في إعداد القوى العاملة وفي تدريبها وتأهيلها المتجدد والمستمر، ومن مرونة كاملة في ذلك الإعداد والتدريب، كما سنرى.
3 – التغير الكبير في عالم العلم والمعرفة:
سبق أن قلنا منذ البداية أن الثورة العلمية التقانية ثورة تعتمد أولاً وقبل كل شيء على العقل وعلى العلم وعلى المعرفة العلمية المتقدمة، فضلاً عن الاستخدام الأمثل لتدفق المعلومات. ولا حاجة إلى القول إن حجم المعرفة العلمية قد اتسع اتساعاً هائلاً. ولا شك أن الحديث عن هذا التقدم العلمي والمعرفي بأوجهه المختلفة يتجاوز حدود بحثنا. وحسبنا أن نذكر – من قبيل المثال لا الحصر – أن مواجهة المسألة السكانية نفسها في العالم، ولا سيما عند مطالع القرن الحادي والعشرين، لا يمكن أن تتم إلا عن طريق ” قوة العلم” و”قوة التقانة” وتجديدهما باستمرار بحيث تتغلبان على مشكلة التزايد السكاني وما يلحق بها من تلبية الحاجات الغذائية – وغير الغذائية – لسكان المعمورة (الذين سيبلغ عددهم – حسب بعض التقديرات – (8.5) مليار إنسان عام 2025 وقد يصل إلى (14.5) مليار في منتصف القرن القادم).
ومن هنا يجهد العلم من أجل إيجاد الحلول التي تزيد من إنتاج الأرض ومن إنتاجية الإنسان في شتى الميادين. ولا يكتفي في هذا المجال بالحلول التقليدية، بل يلجأ إلى تقنيات حديثة، ولا سيما تلك التي تقدمها له ثورة ” التقنيات البيولوجية” التي لجأت إلى شتى أساليب ” التلقيح البيولوجي” للنبات، والتي تمضي اليوم نحو تلقيح النيات عن طريق ” المعالجة الوراثية” (الجينية) التي أصبحت الشغل الشاغل لمهندسي المورثات (الجينات). وقد ذاعت في الأشهر الأخيرة الأنباء التي أشارت إلى ما تم في ميدان التلقيح الوراثي (الجيني) لبعض الحيوانات
(كالبقر والأغنام)، فيما أطلق عليه اسم “الاستنساخ الجيني” (Clowning)، وقد بلغ التقدم في ميدان التلقيح الوراثي حداً أثار الجدل الكبير حول احتمال نقل “الاستنساخ” إلى عالم البشر، مما يولد مشكلات خلقية وإنسانية بالغة الخطورة.
وما دمنا قد أشرنا إلى ثورة التقنيات البيولوجية، كمثال من أمثلة التغير الجذري في المعرفة العلمية، لابد أن نشير عابرين إلى الثورة في ميدان قريب منها، هو ميدان “علم النسل” الذي غدونا نعلم عنه وعن نتائجه الشيء الكثير، غير أن ما يخبئه للمستقبل أعظم وأجل، بل أدهى وأمر. وحسبنا أن نذكر عابرين أن الأبحاث الجارية ترشح هذا العلم إلى بلوغ مراحل من التقدم خطيرة، كالتدخل في تحديد جنس الوليد ( من ذكر أو أنثى” أو صفاته الجسدية (بل والنفسية) وكالقدرة على جعل المرأة عقيماً طوال حياتها، أو القدرة على إنتاج نوعين من البشر (متخلف ومتقدم)، والتدخل بالتالي في الطاقة العقلية للإنسان، الخ….
وغني عن القول أن تغيرات علمية تقانية ضخمة تتم في شتى ميادين المعرفة، من أبرز الأمثلة عليها ما يتم في ميدان: علم البحار ودراسة أعماق المحيطات، وفي ميدان ” أبحاث الفضاء” وفي ميدان ” الطاقة” وتحويلها، وفي مجال ” توليد مواد جديدة” عن طريق المعالجة الكيماوية وسواها.
وواضح أن هذه التغيرات الكبرى في عالم العلم والمعرفة والتقانة، تملي على التربية في شتى بلدان العالم، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، نقلة نوعية في مناهجها وفي طرائقها وفي فروعها وتخصصاتها، وتفرض بوجه خاص بناء نظام تربوي مرن، متنوع المسارات، متكاثر الاختصاصات، مرتبط بحاجات البحث العلمي، فضلاً عن ارتباطه بحاجات سوق العمل المتجددة.
4 – التغير الاجتماعي المتسارع:
لاشك أن من أبرز مظاهر التغير التي سوف تتسع وتزداد في بدايات القرن القادم التغير الذي ينال المؤسسات الاجتماعية على اختلاف أشكالها (كالأسرة والزواج ومؤسسات العمل والمؤسسات النقابية والمهنية) والعلاقات الاجتماعية بالتالي، والقيم والأخلاق والإيديولوجيات وسائر أنماط السلوك المادية والمعنوية السائدة في أي مجتمع . ومن هنا فإن الثقافة بوجه عام، بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع للكلمة، تتعرض أكثر فأكثر لهزات كبرى، وهي عرضة للتآكل والامحاء، لا سيما بعد انتشار العولمة، ولسيطرة نمط واحد من الثقافة الطاغية هو النمط السائد لدى الدول المتقدمة، بل لدى أكثرها تقدماً. ومن صفات هذا التغير الاجتماعي السريع إنه مذهل في تحركه وديناميكيته وسرعته (بسبب العولمة الاقتصادية والثقافية والإعلامية بوجه خاص) بحيث يتوقع كثير من الباحثين أن تتم في عمر الجيل الواحد تغيرات متتالية وعديدة.
وبدهي أن هذا التغير المتسارع يملي على الشعوب المختلفة مواقف دقيقة وصعبة هدفها أن تتكيف معه وأن تمسك بزمامه في آن واحد، بحيث تستوعبه وتضبطه وفق حاجاتها ومستلزمات تطورها وبنية ثقافتها الأصيلة.
وللتربية في هذا المجال الشأن الأكبر. ولعل أهم ما يمليه عليها هذا التغير الاجتماعي السريع أن تعد أفراداً قادرين على سرعة التكيف، مالكين لروح المبادرة، قادرين دوماً على تجاوز ذاتهم وعلى الإبقاء على جوهرها في آن واحد. وسنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
5 – العولمة:
لقد جعلنا الحديث عن العولمة خاتمة لبحثنا في أبرز معالم التغير القائمة والمتوقعة، ذلك أن ظاهرة العولمة هذه تكاد تكون وراء التغيرات جميعها، كما أنها في الوقت نفسه نتيجة لتلك التغيرات. فالعولمة نتيجة من نتائج ذيوع الوسائل الإعلامية والمعلوماتية المحدثة، ونتيجة من نتائج انتشار ” اقتصاد السوق” وسيطرة عالم المال وبروز الشركات المتعددة الجنسية. على أنها أيضاً من أهم أسباب البؤس والفقر في المجتمعات النامية بل وفي المجتمعات المتقدمة كما إنها وراء ما يتهدد الثقافات في العالم من تآكل وإمحاء، ووراء الضياع الذي أخذ يعصف بالكثير من الأمم التي تكاد تؤدي العولمة لديها إلى موت القديم وتلكؤ الجديد في الانبثاق. بل أن هذه العولمة تضع كثيراً من القيم التي تؤدي إلى تماسك المجتمعات وبقائها موضع التساؤل، ومن بينها مفهوم الأمة ومفهوم الديمقراطية نفسها ومفهوم الدولة (التي يمحى أثرها يوماً بعد يوم على الرغم من دورها الأساسي كناظم للعلاقات الاجتماعية).
ومع ذلك فالعولمة قدر مفروض على العالم تفرضه تقنيات متطورة تجتاح العالم دون استئذان, ولهذه العولمة دون شك وجه مشرق مضيء حين تربط بين البلدان والحضارات، وتتغلب على العامل الجغرافي، وتجعل من العالم “قربة واحدة” وحين تحرر الإنسان في شتى أنحاء المعمورة من كثير من القيود ومن أنماط التسلط، بفضل ذيوع الإعلام وانكشاف العالم كله أمام كل إنسان فيه، وحين تغذي قوى الخلق والإبداع بفضل ما تحققه من امتزاج الثقافات وتفاعلها والحوار بينها وسوى ذلك كثير. غير أن في قلب الجوانب المشرقة للعولمة جوانب مظلمة، لا سيما عندما تصبح سلماً لسيطرة القوي على الضعيف والغني على الفقير، وسبيلاً لهيمنة قوى عالمية كبرى محدودة، على رأسها الشركات المتعددة الجنسية ومراكز المال التي تتحكم في العالم. والدول النامية مهددة بأن تصبح كبش الفداء في هذا الانفتاح الاقتصادي الثقافي العالمي، إن هي استسلمت له دون حد، وإن هي لم تحقق المزج العضوي السليم والمتوازن بين المستلزمات الذاتية لكيانها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبين مدخلات العولمة، كما فعلت بعض الدول، وعلى رأسها اليابان ودول شرق وجنوب آسيا.
ولا نغلو إن قلنا في خاتمة المطاف أن ظاهرة “العولمة ” تكاد تلخص معالم التغير في عصرنا وفي القرن القادم، فهي الحصيلة الأساسية لانتشار الثورة المعلوماتية، ولسيطرة “اقتصاد السوق” وهي فوق هذا وقبل هذا أصرح تعبير عن السياسة الدولية التي سادت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، نعني سياسة الغزو والهيمنة. وهي تضع الأمم أمام معركة لا هوادة فيها ولا رحمة، ولا مكان فيها للضعفاء. بل هي قبل هذا وذاك تتحدى العقل الإنساني لدى الأمم جميعها، وتدعوه إلى أن يضطلع بدوره المبدع المتجدد، وإلى أن يغني طاقاته إلى أبعد مدى.
وللتربية في هذا المجال أيضاً القدح المعلى. إن عليها أن تكون، في هذا العالم الذي يتجدد بغير حد، تربية لا يحدها إلا “المزيد من التربية” على حد تعبير ” ديوي”.
أما خصائص التربية التي ينبغي أن تستجيب لظاهرة العولمة بشتى جوانبها، فسنتريت عندها فيما بعد. وحسبنا أن نقول الآن أن أهم ما ينبغي أن تتصف به مثل هذه التربية تكوين القدرة على ” التعلم الذاتي”، تعليم الفرد نفسه بنفسه دوماً وأبداً في عالم حُوَّل قُلَّب فضلاً عن ” التربية المستمرة” من المهد إلى اللحد.
وبعد هذه نظرة عجلى إلى أهم معالم التغير الذي يسري سرباً في حياة العالم، مغذاً في سيره، متعاظم الخطى يوماً بعد يوم, وسرعة هذا التغير تفوق في معظم الأحيان قدرة الإنسان على استيعابه وتمثله وقيادته. ومن هنا يمر العالم بمرحلة من ” انعدام الوزن” يسودها الكثير من البحران والقلق والضياع، ويعلو فيها التساؤل عن مصير الإنسان كإنسان في مثل هذا الكون الذي تحكمه ” قوى السوق” (السوق الاقتصادية ) وحدها، تلك القوى التي تنهال كالسيل العرم محطمة في طريقها أي عائق، غير عابئة بأي قيمة سوى عبادة ” العجل الذهبي”. لا سيما أن قوى السوق هذه مؤيدة بثورة إعلامية ومعلوماتية وتقانية ضخمة وجبارة.

وقد بلغ القلق الإنساني في هذه المرحلة القاسية من حياة العالم حداً جعل الكثيرين يشككون في قدرة بني الإنسان على مجاوزة هذا القلق والبحران وعلى الانتقال إلى مرحلة أفضل، يصل فيها العالم إلى توازن أسلم في شتى مجالات الحياة، بعد تيهٍِ قاس أليم.
ولكن تاريخ الإنسان ينبئنا أنه استطاع في أحقاب عديدة أن يستخرج من التغير ” الوحشي” كما يقال تغيراً واعياً، وأن يوظف ” الأزمات” في خدمة التقدم الإنساني الحق. ولكن ذلك يفترض أن تقوم جهود عالمية دولية، على مختلف المستويات وعلى مستوى الفكر والثقافة بوجه خاص، من أجل صياغة التغير صياغة جديدة تؤدي إلى بزوغ عالم تقوده وتطلعات الإنسان إلى مزيد من إنسانيته أو بتعبير آخر إن بناء عالم جديد أكثر إنسانية وعدلاً وحرية، من خلال التغير العشوائي الذي يجري في عصرنا، يفترض أن يفكر الإنسان على نحو جديد، أن ” يغالب فكره فكره” على حد تعبير “هيجل”. وهذه المهمة هي التي تنتظر أبناء القرن الحادي والعشرين.
وأبناء القرن الحادي والعشرين هؤلاء قد ولدوا منذ سنوات عديدة وكثير منهم على مقاعد الدراسة اليوم. فماذا صنعت التربية من أجل إعدادهم لعصر جديد جدير بالإنسان وقيمه، وماذا في وسعها أن تصنع قبل فوات الأوان؟
لا شك أن التربية، ومن ورائها الثقافة بأشكالها المختلفة، مدعوة إلى أن تقود معركة التغيير هذه، وإلى أن تقود إلى حد كبير مسيرة سائر مؤسسات المجتمع وسائر ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية, ولكن التربية القادرة على اصطناع مثل هذه المعجزة تربية ينبغي أن نضع في صلبها، في بناها ومناهجها وطرائقها، هدفاً رائداً أساسياً هو بناء التغير بناء جديداً أو تغيير التغير من أجل بناء عالم جدير بالإنسان.
والوطن العربي الذي ما يزال يعايش التغير ويتأثر به دون أن يؤثر فيه والذي يطمح إلى بناء مشروعه الحضاري الذي يجعل منه قوة عالمية حضارية إنسانية قادرة ومؤثرة، لابد أن يدلي بدلوه بين الدلاء, ولن يتأتى له ذلك إلا إذا أنعم النظر في نظمه التربوية، مسلطاً عليها صورة العالم على نحو ما هو عليه اليوم وعلى نحو ما يرجى أن يكون في الغد، ليعيد بناءها بناء تلتحم فيه ذاته الثقافية بتجارب العصر وتغيراته وبمرتجيات المستقبل ووعوده.
كيف يتأتى له ذلك؟ هذا ما سنتحدث عنه في الجزء التالي من بحثنا.

ثانياً – التربية والتغير:
تجديد التربية وتحديد مهماتها في عصر متغير دوماً وأبداً، مطلب أخذ يحتل مقام الصدارة في البلدان المتقدمة نفسها”1″، وجدير به أن يكون موضع اهتمام أكبر في البلدان النامية, وهو فوق ذلك وقبل ذلك مطلب لن يستطيع الوطن العربي أن يحقق بدونه ما يرجوه من امتصاص إيجابي لمعطيات عالمنا الحاضر والمقبل، ومن تمثل نقدي ذاتي لتلك المعطيات وإدراك واع لنقائصها ولحدودها ووعودها في آن واحد.
ومثل هذا التمثل النقدي الإيجابي شرط لازب (Sine qua non) لبناء الحضارة العربية المستقبلية.
ولقد استبانت لنا في الجزء السابق، إلى حد بعيد، أهم معالم التغير في عصرنا وأبرز مقومات المسيرة العالمية نحو المستقبل، بما فيها من محاسن وأضداد ومثالب, واستبان لنا أكثر من هذا أن التغير القائم في العصر في حاجة هو نفسه إلى تغير جديد يخرجه من البحران ويمنحه المعاني والأهداف الإنسانية التي يفتقدها. ومن هنا فلن نتحدث عن دور التربية في التغير حديث من يحسب أن مهمتها هي اللحاق به لا غير، متناسياً أن مهمة أجل وأعظم تنتظر التربية وترنو إليها الأنظار، هي مهمة تجديد التغيير وتجويده وترشيده إن صح التعبير.
ولهذا سوف يكون حديثنا عن دور التربية في التغير حديثاً مزدوج المعنى، يعني استيعاب التغيير وتمثله تمثلاً انتقائياً من جانب، ويعني من جانب آخر تقديم تربية تحمل بذور القدرة على تغيير التغيير لمصلحة الإنسان، عن طريق بناء الإنسان بناء متكاملاً يجعله قادراً على أن يجعل التقدم يوماً بعد يوم أدنى إلى حاجات الإنسان الحقيقية وقيمه وتطلعاته، وأقدر على انتشاله من اللصوق بحمأة الأرض، حمأة المادة، بحيث يفحّ القيم “المتعالية” (على حد تغيير الفلاسفة) التي هي من صلب طبيعته الإنسانية، بل هي صلبها، وبحيث يطمئن إلى الأرض وعيناه مشرئبتان نحو السماء.
والبحث في معالم التربية المرجوة من أجل التغير والتغيير، يستغرق بدوره مجلدات ضخمة. ونكتفي – في حدود بحثنا – أن نقدم نظرة عجلى إلى أهم تلك المعالم”2″.
وفي وسعنا – تيسيراً للبحث – أن نجمل معالم التربية المرجوة هذه في معالم سبعة، ليست جامعة مانعة، بل هي إشارات وتلميحات إلى معالم تصعب الإحاطة بها، وهده المعالم هي الآتية:
أول هذه المعالم بداهة مرونة النظام التربوي مرونة تستجيب لحاجات التغيير المستمر. وثانيها الأخذ بالتربية المستمرة، التربية من المهد إلى اللحد، وتحطيم الحواجز بالتالي بين التربية النظامية وبين سواها من أشكال التربية غير النظامية. وثالثها بناء القدرة لدى المتعلم على “التعلم الذاتي” (على تعليم نفسه بنفسه باستمرار)، وجعلها محور العملية التربوية وهدفها الأساسي. ورابعها ربط التربية بحاجات العمالة المتغيرة والمتجددة، وبمطالب التنمية الاقتصادية والاجتماعية بوجه عام. وخامسها تجديد “تقنيات التربية” والاهتمام بوجه عام بالربط بين التربية وبين التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة. وسادستها ربط التربية بالتراث الثقافي العربي والعالمي والاهتمام بتجديد التراث العربي من خلال منطلقاته ومن خلال تفاعله مع التراث الثقافي العالمي المتجدد.
فلنتحدث عن كل من هذه المعالم بإيجاز شديد.
1 – مرونة النظام التربوي:
لعل على رأس ما أفرزه التغير المتسارع في عصرنا أن مفهوم النظام التربوي الثابت قد مات. فمراحل التعليم التقليدية غدت موضع تساؤل لاسيما في إطار الأخذ بمبدأ التربية المستمرة طوال الحياة. وأشكال التعليم، لاسيما بعد مرحلة الإلزام، أخذت تلبس أشكالاً متنوعة متعددة، سواء من حيث اختصاصاتها أو من حيث مناهجها ومضمونها أو من حيث عدد سنواتها. و”زبائن” التعليم (الطلاب) أصبحوا شيعاً مختلفة، في المرحلة الثانوية وبوجه خاص في مرحلة التعليم العالي، فقد يدخل التعليم العالي من لا يحمل شهادة التعليم الثانوي بحيث يوفر له هذا التعليم العالي دراسة وتدريباً ملائمين لمستواه وقد تطول سنوات التعليم العالي وتقصر، بحيث قد تمتد سنوات وقد لا تتجاوز أشهراً معدودا من الإعداد والتدريب.
وفي التعليم الثانوي يشتد التنويع والتشعيب ويتكاثران، وينتشر في التعليم الثانوي العام نفسه نظام “المقررات الدراسية الاختيارية” وقد يغلو به بعضهم غلواً يجعل بعض الناقدين يطلقون عليه اسم “تعليم الكافيتيريا”.
وهكذا نغدو يوماً بعد يوم أمام تربية في وسعنا أن نقول إنها تقدم تعليماً خاصاً بكل طالب. ونتيجة لذلك يتنوع محتوى التعليم ويأخذ أشكالاً مرنة وعديدة، وينأى عن التصلب والتشاكل اللذين كان يتصف بهما من قبل. والفواصل التي كانت قاطعة بين التعليم الثانوي العام والتعليم المهني والفني تمحى يوماً بعد يوم، والتقارب بين فروع المعرفة الإنسانية والتضامن والتفاعل بينها يشتد ويمتد إلى التعليم العالي نفسه. يضاف إلى هذا أن قنوات العبور والمرور” بين الاختصاصات المختلفة وفروع التعليم المختلفة غدت مفتوحة ومتاحة سواء في التعليم الثانوي
أو العالي تبعاً لما يتكشف من قابليات الطلاب وحاجاتهم أثناء الدراسة. ولم يعد الهدف، بوجيز العبارة، تفصيل الطلاب على قّد نظام تربوي جامد ثابت بل تفصيل النظام التربوي وفق حاجات الطلاب ومستلزمات تكوينهم من أجل سوق عمل متغيرة، وعالم متغير، ومستقبل لابد أن يكون جديداً. وباب الاجتهاد غدا مفتوحاً على مصراعيه من أجل البحث في أمثل النظم التربوية القادرة فعلاً على أن تكون في خدمة طالب يعيش عالماً متغيراً، تتغير ملامحه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويحتاج إلى طراز جديد من الأفراد المبدعين المتجددين والمجددين.
ولا شك أن أمثل النظم التربوية هو أكثرها مرونة، بحيث يحمل في داخله وفي بنيته ومحتواه بذور تجديد التكوين والإعداد فيه تجديداً لا ينقطع، وبحيث يكون قائداً للتغير وموجهاً له، في مقابل النظام التربوي المألوف الذي يخضع للتغير منفعلاً لا فاعلاً، بل الذي يقاوم التغير وينأى بطبعه عن كل جديد.
ولا تقتصر مرونة النظام التربوي على بنيته ومناهجه وطرائقه وفروعه وأنواعه وسبل المرور والعبور بين أنماطه، بل تتسع لتشمل أيضاً إطار الصف المؤلف من غرفة فيها عدد محدود من الطلاب يقودهم معلم واحد. فهذا الإطار التقليدي الذي كان نتيجة لولادة الثورة الصناعية الأولى (التي ولدت نظاماً أشبه بنظام العمال في المصانع)، ليس إطاراً منزلاً، وقد غدا اليوم، ولا سيما بعد تطور التقنيات التربوية الحديثة، موضع تساؤل وبحث. وهذا ما نجده على سبيل المثال في البناء المدرسي المتعدد الأغراض وفي حجرات الصف المتحركة التي تضيق وتتسع تبعاً للحاجة. وهذا ما نجده في تجارب “المدرسة ذات المعلم الوحيد” (التي بدأتها منذ أوائل هذا القرن المعلمة والمربية الأمريكية “هيلين باركهرست” في طريقتها المعروفة باسم طريقة “دالتون”)، وهذا ما نجده في “المدرسة بلا صفوف Non Graded School”، وفي “التعليم عن بعد Distant Eduation” بأنواعه المختلفة. وسنعود إلى ذلك عند حديثنا عن تقنيات التربية.
ويقول موجز، لقد غدا لزاماً على التربية، في عالمنا المتغير، أن تقيم مؤسسات تعليم وإعداد وتدريب مفتوحة القنوات والمداخل والمخارج، مرنة الأشكال والمحتوى، تلبي حاجات “الزبائن” المتنوعين، تلك الحاجات التي تتغير مع تغير حاجات المجتمع المختلفة. فالعالم المتغير لا تستجيب له إلا تربية مرنة تفسح المجال واسعاً لتحقيق اللحمة بين النظام التربوي، بنيةً ومحتوىً وطرائقَ وأُطراً، وبين حاجات الطلاب المتغيرة وآفاق حياتهم المتجددة.
2 – التربية المستمرة:
ويتكامل مع مطلب “المرونة”، مطلب “التربية المستمرة”. فالتربية التي تتم على مقاعد المدرسة النظامية (بدءاً من رياض الأطفال حتى نهاية مرحلة التعليم العالي) لم تعد في عصرنا إلا جزءاً من شبكة تربوية أوسع وأشمل وأفعل، تضم سائر أشكال الإعداد والتدريب وإعادة التدريب، التي يقدمها المجتمع للذين يتخرجون من مراحل التعليم النظامية، ولمن يتسربون من المدرسة قبل الأوان وحتى للذين ما يزالون على مقاعد الدراسية (عن طريق التعليم المتناوب بين المدرسة ومؤسسات العمل بوجه خاص)، ولم يعد هنالك تعليم يتم مرة واحدة وإلى الأبد، هو الذي يتم على مقاعد الدراسة، بل أصبح التعليم عملية مستمرة، تبدأ قبل الولادة، عن طريق تدريب الأمهات والعناية بهن، وتمتد بعد ولادة الطفل وقبل دخوله الروضة، عن طريق التفاعل وتبادل الخبرة بين رياض الأطفال والآباء، وتأخذ بعد ذلك لدى الذين يغادرون مقاعد الدراسة، صوراً متعددة، من إعادة للتدريب أو تجديد له تبعاً لحاجات المجتمع المتجددة ولحاجات الراشدين المتغيرة، ومن إعداد جديد لوظائف وأعمال جديدة، ومن مكافحة لأشكال الأمية الحضارية المتنوعة، ومن تربية خاصة بسن الشيخوخة سواء فيما يتصل بالوظائف والأعمال الملائمة لتلك السن، أو فيما يتصل بالتربية “من أجل أوقات الفراغ” أو فيما يتصل بالتربية الصحية وسواها.

ولعل أهم حصاد للتربية المستمرة أمران:
أولهما أن التربية التي تقدم على مقاعد الدراسية ليست إلا جانباً واحداً من جوانب التربية والإعداد، وأن المجال واسع وفسيح لإعداد وتدريب مستمرين، من أبرز صفاتهما أنهما أكثر التصاقاً بحاجات سوق العمل وبحاجات المجتمع بوجه عام، وأنهما يصلحان بالتالي من أخطاء التربية النظامية ونقائصها أو مما في الخطط التربوية المقتصرة على مراحل الدراسية النظامية من تنبؤات مسبقة غير دقيقة فيما يتصل بمدى التوافق بين مخرجات النظام التربوي وبين حاجات سوق العمل وحاجات المجتمع المتجددة.
وثاني ما تقدمه التربية المستمرة، أنها تجعلنا قادرين على أن ننظر إلى مدة سنوات الدراسية النظامية وإلى محتوى المناهج – ولا سيما في مرحلة الإلزام – نظرة جديدة. فهي
– إذ تمد التربية والإعداد والتدريب طوال العمر – تجعل المدرسة النظامية – ولا سيما في مرحلة الإلزام – قادرة على أن تعيد النظر إعادة جوهرية في سلمها التعليمي وفي محتوى مناهجها ومقرراتها الدراسية. فالمدرسة النظامية، في ظل التربية المستمرة وأشكال التعليم غير النظامي، تغدو أقدر على إعادة النظر في عدد سنوات الدراسة نفسها، على نحو ما جرى في بعض البلدان المتقدمة، وبوجه خاص في مناهج الدراسية ومقرراتها، بحيث تنأى بها عن الموسوعية العقيمة وعن تلك المحاولة الفاشلة التي طالما قادتها إلى تقديم كل شيء وكل المعارف، في عصر غدت فيه الإحاطة بالمعرفة الإنسانية المتسعة والمتوالدة توالداً سريعاً أمراً مستحيلاً. وقبل هذا وفوق هذا، إن قيام تربية مستمرة من شأنه أن يساعد على تحقيق مطلب أساسي يفرضه العصر وتغير طبيعته وطبيعة المعرفة العلمية فيه، ونعني به العناية أولاً وقبل كل شيء (في مرحلة الإلزام بوجه خاص) بحسن إعداد المواقف والاتجاهات والقدرات الملائمة لعصر العلم والتقانة ولعصر التغير والتجدد، وعلى رأسها الاتجاهات اللازمة لعالم العمل (من إتقان وتنظيم وتخطيط وقدرة على التعاون مع الآخرين ومحبة للعمل المحكم وقدرة على التكيف مع المواقف الجديدة وامتلاك لروح الخلق والإبداع الخ…) واللازمة لعالم العلم (من امتلاك الروح العلمية الحقة، ومن قدرة على فهم المبتكرات العلمية الجديدة والتعامل معها، وعلى رأسها “الحاسوب” والعلوم المعلوماتية والعلوم البيولوجية، فضلاً عم معرفة أساليب البحث العلمي والتمرس بها، وفضلاً عن إدراك الصلة بين حقائق العلم والتقانة وبين ما يجري في المجتمع المحلي بوجه خاص الخ…).
والتربية المستمرة تمكن النظام التربوي، نظاميّه وغير نظاميّه، من أن يحقق مطلبين هامين متكاملين أولهما الاقتصار في ميدان المعرفة على المعارف الأساسية وعلى أدوات المعرفة بوجه خاص وعلى ما يمكن المتعلم من أن يعلم نفسه دوماً وأبداً (وعلى رأس هذه المعارف أساسيات العلوم والرياضيات واللغة الأم واللغات الأجنبية ومعرفة العالم ومعرفة المجتمع القومي والمحلي). وثانيها تكوين المواقف والاتجاهات السليمة التي تمليها طبيعة الحياة ومستلزمات العمل والإنتاج في عصر العلم والتقانة والانفتاح العالمي. وهكذا تطرح التربية المستمرة طرحاً جديداً ذلك الموضوع الذي طالما تنازع حوله المربون، نعني موضوع الاختبار بين “تضخيم” المدرسة أي تحميلها كل أعباء المعرفة، وبين “تقليصها” أي الاقتصار على المعارف الأساسية إلى جانب العناية بتكوين المواقف والاتجاهات.
ومن هنا فإن التربية المستمرة أصبحت تعتبر اليوم، من قبل مختلف الباحثين التربويين، إحدى المفاتيح الأساسية للقرن الحادي والعشرين. فهي، إلى جانب كونها مطلباً ديمقراطياً يحقق عدالة تربوية أفضل ويعوض عن عدم تكافؤ الفرص التربوية في مراحل التعليم النظامية، تجعل التربية في قلب المجتمع ملتحمة به، وتحقق بالتالي مبدأ “المجتمع المتعلم والمعلم” في آن واحد. وهي فوق هذا وذاك، وعن طريق التكامل بينها وبين المدرسة النظامية، تعمل على تحقيق الأهداف الجديدة التي غدا المربون يطلبون من التربية تحقيقها، وفاء بمطالب التغير والتطور، والتي تؤكد على ضرورة عناية التربية بمهمات ثلاث أساسية: أولها تعليم الإنسان أن يعرف، وثانيها تعليمه وتدريبه من أجل أن يعمل، وثالثها تعليمه من أجل أن يكون، أن يكون من هو، كائناً يمتلك نظرته المستقلة وتقديره الذاتي، ويدرك مسئوليته ودوره، نمت لديه المحاكمة والخيال والطاقات الجسدية والفكرية، ونما الإحساس الفني الجمالي، ونمت قدرته على التواصل مع الآخرين.
التربية الدائمة إذن هي بحق أهم سبل الاستجابة لعالم متغير لا تستطيع أن تلحق به التربية إلا إذا هي جددت تربية أبنائها باستمرار. وهي في الوقت نفسه من أهم سبل ترشيد مسيرة التغير، إذ لا نعنى بتكوين الفرد الاجتماعي فحسب، الفرد الذي يصوغه المجتمع على غراره، بل تعنى فوق هذا بتكوين الفرد المستقل المبدع المجدد.
3 – التعليم الذاتي:
قد لا نكون في حاجة إلى القول إن من أهم مقومات التربية من أجل عالم متغير الأخذ بمبدأ التعليم الذاتي. والحق أن أهم مبدأ تربوي يمنح لسائر المبادئ معناها ووسيلتها في عالمنا المتغير هو المبدأ الذي يرى أن هدف التربية ليس أن نكون إنساناً متعلماً، بل إنساناً” قابلاً لأن يتعلم ” دوماً وأبداً على حد تعبير ” روسو” منذ قرون. ومن لم يعلم نفسه لم يفلح في تعليمه معلم، كما جاء في تراثنا العربي.
هذه الحقيقة التي تبدو بسيطة، أهملتها وتهملها النظم التربوية، وطالما نسيتها أو تناستها المدرسة. في حين أن المقياس الحقيقي لنجاح النظام التربوي ولنجاح المدرسة يكمن في مدى نجاحها في أن تمنح الطالب القدرة على التعلم وعلى الاستمرار فيه دوماً. وهذه القدرة على التعلم لا تأتي من تلقاء ذاتها سهواً رهواً، بل لا بد من تكوينها على نحوٍ مقصود وهادف، ولابد من ممارستها والتمرس بها طويلاً. وكثيراً ما تكون المدرسة بسبب مناهجها وطرائقها وبعدها عن حاجات الطلاب وواقع حياتهم، طاردة للقدرة على متابعة التعلم وللرغبة في متابعة التعلم. وهذا الفراق بين المدرسة وبين الرغبة في التعلم والقدرة الذاتية عليه يزداد اتساعاً في عصرنا المتغير حيث يحيا الطلاب في مجتمعهم، ومن خلال وسائل الثقافة والإعلام الذاتية المتطورة عالماً يختلف عن عالم المدرسة الذي لا يستجيب لتساؤلاتهم، ويجعلهم بالتالي يضيقون ذرعاً بالمدرسة أن لم يضيقوا ذرعاً بالمعرفة كلها.
ومن حسن الحظ أن “التقنيات التربوية” الحديثة تقدم عوناً كبيراً في تحقيق التعلم الذاتي. والتعليم بمساعدة الحاسبات الإلكترونية بوجه خاص يفتح باباً واسعاً لإغناء هذا التعليم الذاتي وتطويره. وعالم المعلوماتية بأوجهه المختلفة يفسح مجالاً واسعاً لتعليم الإنسان نفسه بنفسه. ولعل أبرز مثال على ذلك الإمكانات التي تتيحها شبكة “انترنيت” حين يعم استعمالها اللغات المختلفة وحين تذيع في مختلف أنحاء العالم المتقدم والنامي. غير أن انتشار هذه الوسائل المعلوماتية الحديثة المذهلة يفرض على التربية في مقابل ذلك أن تجدد نفسها وتغير مضمونها وطرائقها، بحيث لا تتخلف عن هذا التغير التقاني الجذري، وبحيث تفيد منه على أمثل وجه، وبحيث تغدو فيه قائدة لا منقادة.
وإلى جانب التقنيات الحديثة، وسائل عديدة في وسع المدرسة أن تفيد منها في تكوين القدرة على التعلم الذاتي. ومن بينها “تفريد التعليم” أي توجيه التعليم إلى كل طالب بمفرده تبعاً لقابلياته واهتماماته، بدلاً من توجيهه إلى “طالب مجرد” لا وجود له. ومنها اللجوء إلى طرائق في العمل والنشاط المدرسي تعتمد على مبادرة الطالب نفسه وجهده الشخصي (كما في طريقة “المشروعات” وفي طريقة “العمل الجماعي في فرائق” وسوى ذلك). ومنها تعويد الطالب على الرجوع إلى مظان المعرفة الأساسية كالمعاجم والموسوعات، فضلاً عن تعويده على ارتياد المكتبات العامة ومراكز المعلومات وسواها. وغير ذلك كثير. والمهم في هذا كله أن يتحول دور المعلم تدريجياً من دور الإلقاء والتلقين ونقل المعرفة إلى دور الإرشاد والتوجيه والبحث على تحصيل المعرفة، بحيث يبلغ الطالب في خاتمة المطاف مرحلة يستطيع فيها أن يحصل المعرفة بنفسه وأن يعلم نفسه بنفسه.
على أن التعلم الذاتي لا يتناول تحصيل المعرفة وحدها، بل يمس سائر أنماط السلوك. وعن طريق النشاطات الصفية واللا صفية بوجه خاص، وعن طريق الفنون المختلفة، يستطيع الطالب أن يكون بنفسه ذوقه الفني الجمالي الخاص، وأن يثقف قدرته على التخيل والإبداع، وأن ينمي مواهبه الأدبية والفكرية والجسدية. وعن طريق ممارسة العمل اليدوي وعن طريق العمل في ورشات العمل وحوانيته. يستطيع الطالب منذ نعومة الأظفار أن يكتشف “العقل الذي في اليد الذي يفوق العقل الذي في الرأس” على حد تعبير “غاندي” وأن يتعرف على ما تخبئه الأصابع الخمس واليد الصناع من طاقات وإبداع وفضائل.
وهكذا يستبين لنا أكثر فأكثر أن تربية المستقبل، تربية التغير، تتطلب تفجير الطاقة الذاتية لدى كل فرد وإطلاق العنان لها، وتمكينها من إغناء نفسها بنفسها دون ماحدّ، بحيث تعمل بذاتها وبحيث تكون المعين الذي يروي نفسه بنفسه عبر رحلة الحياة كلها. أو بتعبير موجز، أن آلية التغير في حياة العالم تستلزم آلية لدى الفرد تعمل وتتحرك بقواها الذاتية. وهذه هو المعنى العميق للتعلم الذاتي.
4 – ربط التعليم بحاجات العمالة المتجددة:
لن نخوض ههنا في موضوع مترامي الأطراف، يتطلب تقليبه على وجوهه المختلفة مجلدات ضخمة وحسبنا أن نقتصر على الحديث الخاطف عن دور التربية في بناء العمالة في عالم متغير.
ومن البدهي القول بادئ ذي بداءة إن التربية الملائمة للتغير هي التربية التي تأخذ بعين الاعتبار حاجات السوق الاقتصادية والاجتماعية المتجددة دائماً، بحيث يتم التوافق إلى أقصى حد ممكن بين مخرجات النظام التربوي كماً ونوعاً وبين حاجات قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي وحاجات المهن والأعمال المتجددة.
وهذا يعني، فيما يعني، تجديد نظام التربية بنى ومناهج وطرائق، وتنويع الاختصاصات وتجديدها، ونعدد المسارات والشعب والفروع عبر مراحل الدراسة، وإقامة جسور عبور ومرور بين أنواع التعليم المختلفة والعناية بالتربية المستمرة عناية تحقق مزيداً من الالتحام بين مخرجات النظام التعليمي وبين حاجات المؤسسات الإنتاجية وسواها. وقد رأينا ذلك كله منذ حين، لدى حديثنا عن مرونة التربية ولدى حديثنا عن التربية المستمرة.
وأهم ما يعنيا في هذا الإطار أمران: أوّلهما الاهتمام في التعليم النظامي ولا سيما في التعليم الثانوي والعالي بتقديم معرفة تشتمل على “جذع مشترك” بين الاختصاصات المختلفة، بالإضافة إلى المعرفة التخصيصية. وأهم عناصر هذا الجذع المشترك العلوم المحضة والعلوم الإدارية والرياضيات واللغات والثقافة العامة. أما التمرس بالأساليب المعلوماتية بأشكالها المختلفة وباستخدامات الحاسوب التي لا يحدها حد، فهو مطلب ينبغي أن يتحقق في التعليم في أي اختصاص من الاختصاصات وفي أي فرع من الفروع.
والهدف من هذا الجذع المشترك من المعرفة هو أن يمتلك خريجو التعليم “فرشة” من أساسيات المعرفة تيسر لهم عبر حياتهم التكيف مع أوضاع العمل المتغيرة، والانتقال بيسر من ميدان من ميادين العمل إلى ميدان آخر تبعاً للحاجة، في إطار تربية مستمرة وتكوين وتأهيل مهني متصل.
وثانيها، كما سبق أن رأينا عند حديثنا عن التربية المستمرة، أن يقوم، إلى جانب الاهتمام بالمعارف الأساسية، اهتمام خاص بتكوين الاتجاهات والمواقف الملائمة لعصر العلم والتقانة، وعلى رأسها امتلاك روح المسؤولية والقدرة على الحوار (كما يرى المفكران الألمانيان “هابرماس Habermas”و “جوناس Jonas”) والتعاون وإتقان العمل المشترك، وتنمية روح الاستقلال والقدرة على العطاء الذاتي، وتنمية الروح الجمالية الفنية التي أصبحت من أهم مقومات الإنتاج التقاني، والقدرة على العطاء الذاتي، وتعهد طاقات الإبداع، وامتلاك القدرة على الإدارة والتنظيم والتخطيط والبحث والدراسة في عصر تحتل فيه المرحلة السابقة على الإنتاج (من كشف وتنظيم وتخطيط) والمرحلة التالية على الإنتاج (من إدارة وتسويق ودعاية) أهمية قد تفوق مرحلة الإنتاج نفسه. وغير ذلك كثير.
ويثير ربط التربية بحاجات العمالة المتغيرة مشكلة أساسية تتباين حولها الآراء، ونعني بها حدود هذا الربط ومعناه. فلئن كان من اللازب ربط التربية بحاجات العمالة، تحقيقاً لأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعجيلاً في مسيرة الثورة العلمية التقانية، فإن مهمة التربية
لا يمكن أن تقتصر على تلبية مطالب العمالة، إذ لها مهمات ثقافية وعلمية وأخلاقية عامة، هي الأصل والجوهر فيها. بل أن تلبية حاجات العمال نفسها، وتلبية حاجات التنمية بالتالي، لا يمكن أن تبلغ مداها إلا من خلال تربية تجعل بناء الإنسان، في جوانبه المختلفة، وتفتيح كامل إمكاناته الهدف النهائي لها. و “المدرسة النافعة” على نحو ما شاع في بلدان العالم المتقدم في السنوات الأخيرة، أي المدرسة التي تقتصر مهمتها على إعداد الطلاب إعداداً مباشراً للمهنة، مدرسة يرفضها التكوين السليم للقوى العاملة فضلاً عن تقصيرها عن تحقيق الأهداف الثقافية والإنسانية للتربية، فالتكوين السليم من أجل العمل ومن أجل المهنة يفترض في عصر التغير والتقدم التقاني، أن تتم العناية بتكوين عامل المستقبل تكويناً ثقافياً وتكويناً يؤكد أهمية المواقف والاتجاهات، كما سبق أن ذكرنا، أي تكويناً لا يقتصر على تقديم المعرفة والخبرة الضيقة في مجال الاختصاص، بل يعنى بتقديم أساسيات المعرفة لكل طالب أياً كان اختصاصه، فضلاً عن تقديم الثقافة وبناء الاتجاهات والقيم التي تجعل أي ذي مهنة “إنساناً” أولاً واختصاصياً في مهنته بعد ذلك.
وههنا تبرز أمامنا تواً ظاهرة البطالة التي يتفاقم خطرها في المجتمعات المتقدمة والنامية لأسباب عديدة تتباين من بلد إلى بلد. وغنى عن القول إن ظاهرة البطالة هذه هي أخطر ما يتحدى النظام التربوي في عصرنا، بل النظام الاجتماعي بوجه عام. ولن نسوق حديثاً عن أسباب هذه الظاهرة، وحسبنا أن نقول عابرين أن وراءها ثلاث أسباب متداخلة: ألها عجز النظام الاقتصادي. وثانيها تغير بنية سوق العمل الحديث. في عصر الثورة العلمية التقانية واعتماد هذه البنية على الآلة وعلى مزيد من “الأتمتة” وتراجع الحاجة إلى الأيدي العاملة التي تعمل بقواها الجسدية. وثالثها ضعف الترابط بين النظام التربوي وبين حاجات القوى العاملة. وهذا السبب الأخير هو الذي يعنينا هنا.
ولا شك أن الربط بين حاجات القوى العاملة وبين مخرجات النظام التربوي كماً وكيفاً ما يزال مقصراً عن مداه في شتى دول العالم، مع التباين بينها في هذا المجال. ولذلك الأسباب كثيرة لا مجال لذكرها أيضاً –لا سيما بعد أن تجاوز الزمن التقسيم التقليدي لقطاعات النشاط الاقتصادي، وبعد أن تنوعت الفئات المهنية وتكاثرت وتفتتت ولبست حللاً جديدة- أهمها صعوبات التنبؤ بحاجات القوى العاملة من خريجي النظام التعليمي، لا سيما في عصر سريع التغير. ثم تباين وجهات النظر حول مشكلة التوجيه المدرسي وحول حق المدرسة في أن تكره الطلاب أو أن تحثهم على اختيار اختصاصات معينة (لارتباطها بحاجات السوق). وأخيراً ضعف التفاعل والتكامل بوجه خاص بين النظام التربوي وبين مؤسسات العمل والإنتاج. وهذا الجانب الأخير أهم الجوانب في نظرنا، ولهذا نتريث عنده بعض الشيء.

كثيراً ما يجري الحديث عن ربط المؤسسات التعليمية بمؤسسات العمل والإنتاج وعن ضرورة قيام “شراكة” بينهما في هذا المجال. ويحتل “التعليم المتناوب” (بين المدرسة ومؤسسة العمل) أهمية خاصة في هذا المجال. بل تذهب بعض النظم التربوية إلى أبعد من هذا فتنادي بالدمج الكامل للمؤسسات الإنتاجية في صلب نظام التعليم والإعداد (ولا سيما في مرحلة التعليم العالي). وهذا ما نجده في التجربة الألمانية بوجه خاص وفي التجربة اليابانية. وههنا نصطدم بالحلقة المفرغة (أو الدور الفاسد كما يقول المناطقة العرب) بين التعليم وبين مؤسسات الإنتاج: فالارتباط الضعيف بينهما يرجع من جانب إلى بعد النظام التربوي عن عالم العمل والإنتاج واقتصاره على الدراسات الأكاديمية والنظرية غالباً (حتى في الاختصاصات العملية والمهنية كالطب والهندسة)، كما يرجع من جانب آخر إلى ضعف مؤسسات الإنتاج في كثير من البلدان وإلى عدم اكتراثها غالباً بما يجري داخل نظام التربية. ومن الحق أن نقول إن ضعف الارتباط بين النظام التربوي وبين مؤسسات العمل والإنتاج والاقتصاد جملة، سببه الاقتصاد في معظم الأحيان، لا التربية. كما أن من الحق أن نقرر – في مقابل ذلك – حقيقة هامة وهي أن العامل الأهم في تطوير الإنتاج ليس المستوى التعليمي الذي يبلغه الفرد في المدرسة، بل كثيراً ما يصبح فرط التعليم عقبة في طريق الإنتاج، شأنه شأن التفريط بمستوى التعليم. والذي يحدد مستوى التعليم المطلوب هو الحوار بين مؤسسات التعليم (العالي بوجه خاص) وبين مؤسسات العمل والجهات المسؤولة عن خطط التنمية الشاملة.
وفوق هذا وذاك لابد أن نضيف إن الحوار والتفاعل بين مؤسسات التعليم وبين مؤسسات العمل والإنتاج، لا يعني خضوع مؤسسات التعليم لمطالب مؤسسات العمل، بل يعني أن يكون لمؤسسات التعليم دور الموجه لعملية الإنتاج على وفاق مع نتائج تطور البحث العلمي والتقاني.
ولكن لابد من التوقف عن الاستمرار في عرض جوانب هذا الموضوع الشائك والواسع، موضوع ربط التربية بحاجات سوق العمل بوجه عام وبمؤسسات العمل والإنتاج بوجه خاص. وجملة القول إن هذا الربط هو الطريق الجدد نحو ربط التربية بالتغير ربطاً عضوياً، عن طريق توفير القوى العاملة المؤهلة والقادرة على الاستجابة لهذا التغير من جانب وعلى قيادته من جانب آخر. وهذا يتطلب من المدرسة جهداً فذاً يتناول تطوير مناهج الدراسة والاختصاصات والفروع، ويتناول تجويد وسائل انتقاء الطلاب وتوجيههم نحو فروع الدراسة الملائمة (ولا سيما في التعليم العالي)، ويتطلب أن يحرص النظام التربوي على الجمع بين التكوين من أجل المهنة والتكوين العام، كما يشترط فوق هذا وذاك قيام حوار وتفاعل متصل (قد يبلغ حد الدمج في بعض الحالات) بين النظام التربوي وبين مؤسسات العمل والإنتاج والمؤسسات الاقتصادية بوجه عام. ويشترط ذلك كله ألا ينسى النظام التربوي أن استيعاب التغير في ميدان العمالة وتوجيه هذا التغير وتجويده يفرضان عليه أن تكون عنايته بتكوين مواقف الإنسان واتجاهات وقوى العطاء والخلق لديه لا تقل عن عنايته بتكوين الإنسان العامل المنتج.
5 – تجديد «تقنيات التربية» والربط بين التربية وبين التقنيات المعلوماتية:
لا شك أن أثر التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة أثر يتناول المجتمع بكامله ويتناول التربية بالتالي. وقد طبعت هذه التقنيات المعلوماتية المذهلة القرن العشرين بطابعها الخاص، وأخذت تغزو الدول والمجتمعات، بحيث يصح القول أن المجتمعات الراهنة مجتمعات إعلامية يولِّد فيها تطور التقنيات المعلوماتي بيئة ثقافية وتربوية من شأنها أن تؤدي إلى تنوع مصادر المعرفة.
وتتجلى انعكاسات هذه التقنيات الجديدة على التربية في صورتين: أولاهما ما تفرضه هذه التقنيات على المدرسة من تجديد كامل لمناهجها وطرائقها وأهدافها، كي تستجيب للبيئة الثقافية الجديدة التي تولدها هذه التقنيات، وكي تتفاعل معها تفاعلاً سليماً. وثانيهما أن تستخدم المدرسة هذه التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة في تعليمها وفي تطوير هذا التعليم. وكلنا يعلم أن “التقنيات التربوية” (ولاسيما التقنيات السمعية البصرية) ذاعت في المدارس منذ عقود عديدة. غير أن هذه التقنيات التربوية تلبس اليوم لبوساً جديداً بفضل تطور الوسائل الإعلامية والمعلوماتية، على نحو ما نجد في أشكال “التعليم عن بعد” (كالجامعة المفتوحة والتعليم بالمراسلة مع استخدام تقنيات إعلامية حديثة، وإقامة المؤتمرات والندوات من خلال الاتصال الإعلامي، إلخ…)، وعلى نحو ما نجد في التعليم بمساعدة الحاسب الآلي. وهذا التعليم عن بعد يفتح آفاقاً لا حد لها، بفضل التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة ويحدث في “تقنيات التربية” تغييراً جذرياً لابد أن تأخذه المدرسة بعين الاعتبار. وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن الدورات التدريبية للمعلمين أو سواهم يمكن أن تتم اليوم بيسر عن طريق استخدام الحاسب الآلي لهذا الغرض (كما تم مؤخراً في مصر فيما يتصل بتدريب المعلمين).
وإلى جانب “التعليم عن بعد” بأشكاله المختلفة، يتجلى استخدام التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الحديثة في تقنيات تربوية عديدة من بينها التعليم المبرمج – والتعليم بالتلفزيون والفيديو والأقمار الصناعية – والتعليم بالفيديو التفاعلي -والتعليم المصغر Micro Teaching- والتعليم بالتقنيات المتعددة Multi-media approach-، فضلاً عن التعليم بالحاسوب الذي يحتل مكانة خاصة لكونه أداة لخزن المعلومات واسترجاعها، بالإضافة إلى كونه آلة لعرض المعلومات وأداة مثالية لعملية التعزيز والتصحيح والتقويم الفوري لعمل المتعلم. وواضح ما لهذا كله من أثر هام في تحديث النظم التعليمية، ومن جعلها تنطق بلغة العصر. فتقنيات التعليم هذه تغير أدوات المعلم والمتعلم والبيئة المحيطة بهما، وتطور مفهوم المنهاج المدرسي بحيث
لا يقتصر على المقررات الدراسية، بل يشمل شبكة واسعة من النشاطات المدرسية وغير المدرسية.
غير أن من الهام أن نستدرك فنقول أن تطوير تقنيات التربية لا يعني فقط استخدام الوسائل والتقنيات الآلية الحديثة في النظام التربوي. فهنالك – إلى جانب هذه التقنيات الآلية – تقنيات إدارية وتقنيات عقلية وتنظيمية (كما في طرق “التحليل الإجرائي Operational research” وسواها) وتكنولوجيا التربية تتجاوز مجرد إدخال بعض الآلات والأجهزة والتقنيات الإعلامية والمعلوماتية والوسائل السمعية البصرية والأفلام الثابتة والمتحركة وسوى تلك من الأجهزة الآلية. ويفرق الاختصاصيون منذ زمن بين “تكنولوجيا التربية” (وهي تشمل التقنيات الآلية وغير الآلية) وبين “التكنولوجيا في التربية” (وهي تقتصر على إدخال الآلة إلى التربية). ذلك أن الهدف النهائي لتكنولوجيا التربية هو تجديد النظام التربوي، من خلال إعادة النظر في بنية التربية وإطارها، ومن خلال إعادة النظر في مجال التربية (بحيث يتسع ليتجاوز التربية النظامية، كما رأينا عند الحديث عن التربية المستمرة)، ومن خلال إعادة النظر في طرائق التعليم وفي محتوى التعليم بكامله، ومن خلال تجديد دور أداة التعليم الأساسية، ونعني المعلم، ومن خلال إعادة النظر في الإدارة التربوية والإدارة المدرسية، وسوى ذلك.
على أن إدخال تقنيات الاتصال والمعلومات الحديثة إلى صلب الحياة المدرسية تظل هي المهمة الأولى لتكنولوجيا التربية في هاذ العصر المتغير وفي القرن القادم. ولا شك أن الجهد الذي تقوم به التربية في هذا المجال ما يزال مقصراً عن الشأو المطلوب، يسير على مهل واستحياء. ولم يعن النظام التربوي حتى اليوم، حتى في البلدان المتقدمة، إلا بالنتائج الإجمالية لتطور الثقافة التكنولوجية، الثقافة التي يبثها عالم الاتصال والمعلومات. وقد لا نغالي إن قلنا إن النظام التربوي، في معظم بلدان العالم، ما زال يعنى بالدرجة الأولى ينقل الإرث الثقافي المشترك، من لغات وقيم ومعارف، وقلما يعنى بالإعداد للمستقبل عن طريق تزويد الدارسين بالكفاءات اللازمة للإسهام في التطور العلمي والتقاني، مما يولد خصاماً بين المجتمع الحديث وبين المحتوى التقليدي للتربية. وأبرز مظاهر إهمال المدرسة لنتائج التطور العلمي والتقاني قليل اهتمامها بما تطرحه تقنيات الاتصال والمعلومات على النظام التربوي. ولا شك أن أفضل الوسائل للتقريب بين وظائف المدرسة وبين وظائف تقنيات الاتصال والمعلومات هي تلك التي تعنى بالجهاز التعليمي وبإثارة اهتمامه بهذه التقنيات وبتعويده عليها وألفته لها.
ولا نختم هذا الجانب الخاص بتقنيات التربية دون التريث عند دور أساسي يمكنها أن تضطلع به. ونعني به تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية المتاحة. فكلنا يعلم أن تطوير التربية وتجديدها وتوسيع نطاقها وتحقيق تكافؤ الفرص فيها واستيعابها للكثرة الكاثرة ممن هم في سن التعليم، مطالب يقف في وجهها في كثير من الأحيان نقص الموارد المالية المتاحة. وتأتي “تقنيات التربية” وما يرافقها من تجويد محتوى التعليم فتقدم بعض الحلول لمشكلة نقص الموارد هذه. ومنطلق هذه التقنيات أن في وسعنا، عن طريق تجديد تقنيات التربية بالمعنى الواسع للكلمة (الذي يشمل إطار التربية ومناهجها وطرائقها وأبنيتها وسوى ذلك) أن نعلّم تعليماً أفضل عدداً أكبر من الطلاب بنفس الإمكانات المادية والبشرية المتاحة.
وبتعبير موجز، تود “تقنيات التربية” أن تتجاوز الإطار التقليدي للتربية، نعني إطار الصف الثابت الذي يضم عدداً محدوداً من الطلاب يعلمهم معلم واحد. ونرى أن في وسعنا أن “نحطم جدران الصف” كما يقال، وأن نقيم “مدارس بلا صفوف”، وأن نبني أبنية مدرسية تضم قاعات “متعددة الأغراض”، وأن نلجأ إلى “التعليم عن طريق فريق من المتعلمين Team teaching” وأن نستخدم الوسائل السمعية والبصرية وتقنيات الاتصال والمعلومات، لنقدم تعليماً بوساطة التلفزيون أو عن طريق الأقمار الصناعية، أو لنقدم “تعليماً عن بعد”، كما جرى ويجري في كثير من البلدان المتقدمة والنامية. وبهذا نزيد من طاقة المدرسة وإمكاناتها، ونصل إلى تعليم عدد أكبر من الطلاب بنفس الإمكانات المادية والبشرية المتاحة تعليما يفضل حتى في جودته ومحتواه ونتائجه التعليم بالوسائل التقليدية.
ولنقل عابرين – على الرغم من أهمية هذا الموضوع – إن تجديد التربية وتجويدها عن طريق اللجوء إلى التقنيات المختلفة، من شأنه أن يساعد على مشكلة نقص الموارد والإمكانات المادية والبشرية بشكل غير مباشر، وذلك عن طريق القضاء على الهدر الناجم عن التسرب والرسوب. فشعار التربية الجديد ينتقل اليوم من الشعار القديم الذي يرى أن الطالب ينبغي أن ينجح في المدرسة وأن يتكيف معها، وإلا كان مصيره الرسوب أو التسرب (ترك المدرسة)، إلى شعار جديد هام وهو أن المدرسة هي التي ينبغي أن تنجح لكي ينجح الطلاب. وليس هنالك مبرر لرسوب طالب عادي سوي (غير متخلف) في المدرسة إلا إذا أساءت المدرسة رعايته
أو ساء مستوى مناهجها وطرائقها. والتقنيات التربوية المحدثة تستطيع أن تقدم عوناً كبيراً للدارسين، ولاسيما الذين يشكون من بعض التأخر المدرسي، وذلك عن طريق توطئة المعلومات والمعارف لهم وتوضيحها بفضل تلك التقنيات، فضلاً عما يستطيع المعلم نفسه أن يفعله بهذا الصدد.
وباب الاجتهاد واسع في هذا المجال، والهام في الأمر أن ندرك أن الطاقة المادية حين تنفد أو تقصر عن الحاجة يستطيع الإنسان دوماً أن يستبدل بها طاقة جديدة قوامها العلم والتقانة وتطوير التقانة بوجه خاص.
ومن خلال هذه النتيجة التي وصلنا إليها ندرك الأبعاد الواسعة لتقنيات التربية، وندرك بوجه خاص أنها تقوم بمهمة مزدوجة: أولها أنها تجدد النظام التربوي على وفاق مع تجدد العلم والتقانة. وثانيها أنها حين تجدد تصيب هدفاً آخر هو التغلب على مشكلات التزايد الكمي للطلاب وبالتالي على مشكلات التمويل، عن طريق تجويد الكيف والنوع. وهكذا تفتح آفاق التجديد وآماله أمام البلدان جميعها، وأمام البلدان النامية بشكل خاص التي كثيراً ما تقف مكتوفة الأيدي أمام مشكلات التفجير المدرسي والعجز المالي.
مرة أخرى نرى أن كل شئ مرتبط بكل شئ، لاسيما في ميدان التربية الذي ينظر إليه على أنه ” نظام System” متكامل، وأننا نطوق ميدان التغير الواجب في التربية ونحيط بمقوماته شيئاً بعد شيء، بحيث ندرك أن مواجهة المشكلات التي يطرحها التغير على التربية مهمة ممكنة، إذا عزمت التربية أمرها، وأدركت المداخل اللازمة لمعالجة هذه المشكلة، ووظفت بوجيز العبارة “المادة الرمادية” (نعني الدماغ) في تجديد التربية وتجويدها وتغييرها، وامتطت مركب التجديد والتغيير من أجل الوصول إلى التغيير الواجب ومواصلته (على الرغم مما قد يبدو في ظاهر هذه العبارة من تحصيل حاصل).
6 – ربط التربية بالتراث الثقافي العربي والعالمي:
الصلة بين الثقافة والتنمية الشاملة موضوع شاع الحديث عنه في المحافل الدولية بشكل خاص واتخذ منحى جديداً بعد أن ذاعت تلك الفكرة التي أطلقها مؤتمر اليونسكو في المكسيك عام 1982 حول “السياسة الثقافية” ونعني بها أن الثقافة – بالمعنى الأنثروبولوجي الواسع لهذه الكلمة – ليست وسيلة التنمية الأساسية فحسب بل هي فوق ذلك وقبل ذلك هدف التنمية ومحط رحالها. وهكذا بعد أن تريث الأدب العالمي خلال العقود الماضية عند العلاقة الوثيقة – سلباً وإيجاباً – بين المواقف والاتجاهات الثقافية وبين نجاح مشروعات التنمية التي قامت بها منظمات الأمم المتحدة أو قامت بها الدول المعنية، وبعد أن اهتم الباحثون اهتماماً خاصاً بما يمكن أن نسميه “المعوقات الثقافية والاجتماعية والنفسية” للتنمية، نقول بعد أن تريث الأدب العالمي عند العلاقة بين المواقف والاتجاهات الثقافية وبين التنمية، انتقل في العقود الأخيرة إلى التركيز على جانب آخر هام من جوانب العلاقة بين التربية والتنمية، ونعني به العلاقة بين الثورة العلمية والتقانية وبين الهويات الثقافية، لاسيما بعد التغيرات العالمية الكبرى التي رافقت انهيار الاتحاد السوفياتي وسيطرة “العولمة” بجوانبها المختلفة، من اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية وسوى ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى طرف من هذا عند حديثنا عن معالم التغير في عصرنا، وليس هدفنا أن نعود إلى هذا الموضوع كرة أخرى، وكل ما في الأمر أننا أردنا أن نبين أن العلاقة بين التربية وبين الحضارة العلمية التقانية المتغيرة لابد أن تُبحث من هذه الزاوية، زاوية العلاقة الإيجابية والسلبية معاً بين الثقافية والحضارة بوجه عام.
ومن هنا فان الربط الواجب بين التربية وبين جوانب التغيّر العديدة في عصرنا، كما سبق أن بينا، لا يستقيم ولا يأخذ معناه الصحيح إلا إذا قامت التربية بدورها الثقافي الأساسي، نعني غرس القيم والمبادئ الثقافية التي يحملها تراث أمة من الأمم لدى أبناء هذه الأمة تحقيقاً لأهداف التنمية الفعالة والمتجددة، وحفاظاً على هويتها، وتيسيراً لعملية التقدم والتغيير ذاتها. ولئن كان من مقومات الربط السليم بين التربية والثقافة الانفتاح على الثقافات العالمية وإغناء الثقافة القومية عن طريق الحوار والتفاعل بينها وبين سائر الثقافات فإن هذا يشترط توفير بنية ثقافية ذاتية أصيلة لدى الأمة تتولى التربية دراستها وتحليلها وتجديدها وتجاوزها إلى ما هو أفضل. وهذا المطلب غدا مطلباً حيوياً في عصر “العولمة” وسيطرة الشركات المتعددة الجنسية، تلك العولمة التي سبق أن رأينا جوانبها السلبية أن لم نحكم قيادتها وتحويلها إلى نزعة عالمية إنسانية. وعلى رأس جوانبها السلبية ائتكال الهويات الذاتية للشعوب، و”تسطيح” الثقافة في العالم كله انطلاقاً من هيمنة ثقافة واحدة ووحيدة والسيطرة بالتالي على الخيرات الاقتصادية للشعوب عن طريق “عولمة الاقتصاد” ومن خلال جعل السوق الحرة هي الخصم والحكم في مسيرة العالم.
ودور التربية في هذا كله، هو أن تعنى كما قلنا بتأصيل ثقافة الأمة وتجديدها، وأن تعنى عناية خاصة بالقيم الأخلاقية والإنسانية التي تحملها تلك الثقافة.
وفي الوطن العربي الذي يتعرض وجوده لشتى أنواع الغزو ولأخطرها وأدهاها، نعني الغزو الثقافي، ترنو الأنظار إلى التربية، لتتولى دراسة التراث العربي الإسلامي وتحليله وتجديده من خلال ذاته ومن خلال تفاعله مع الثقافات العالمية ومع حاجات الحاضر والمستقبل. وأهم ما تتولاه التربية في هذا المجال إحياء القيم الإنسانية في ذلك التراث، بحيث تغدو قوة دفع تيسر التمثل الصحيح للحضارة العلمية التقانية، تلك الحضارة التي أسهمت الثقافة العربية الإسلامية في تفجير بواكيرها منذ قرون عديدة. وعلى رأس تلك القيم التي يمكن أن تمثل رأس الحرية في سعي الأمة العربية لتوليد حضارتها، والتي يتوجب على التربية أن تبرزها وتعنى بها عناية خاصة، قيم احترام العلم واحترام العمل والعدل وتكافؤ الفرص والتعاون والتضامن إلى جانب مالا حد له من القيم الأخلاقية والاجتماعية. ولنا في تجربة اليابان منذ أيام الإمبراطور “مئيجي Meiji” عام 1886، وفي التجربة الحديثة للدول التي تعرف باسم النمور الثمانية، قدوة حسنة. فهذه الدول جميعها وصلت إلى ما وصلت إليه من تقدم علمي تقاني ومن ارتباط بتجربة العصر المتجددة بفضل عاملين متكاملين: أولهما نقل العلم الغربي والتقانة الغربية واستيعابهما وإنتاجهما. وثانيهما – وهو الأهم – الاعتماد في هذا كله على ما يولده الارتباط بثقافة الأمة وبتراثها وبقيمها (ولاسيما تلك المستمدة من الكونفوشيوسية) من قدرة ذاتية وتضامن قومي وإيمان بالعلم والعمل، ومن مهاد ثقافي لابد منه لتحقيق نقله علمية تقانية قوية وصامدة.
وغني عن البيان أن العناية باللغة العربية، حاملة التراث وناقلة قيمه ونظرته إلى الكون، وسيلة أساسية من وسائل الحفاظ على التراث وفهمه، وأن تطويرها بالتالي، بحيث تتسع لعلوم العصر، شرط لازم من شروط تجديد التراث العربي الإسلامي ومن شروط التفاعل بينه وبين ثقافات العالم. ولا نغلو إذا قلنا أننا إذا أردنا أن تكون اللغة العربية أداة الثقافة، فلا بد لنا أن “نثقفها” بالمعنى الاشتقاقي الأصلي لكلمة “تثقيف”. غير أن تثقيف اللغة العربية لكي تستوعب حياة العصر ولغة العصر، يستلزم أن يقوم علم عربي وتطور حضاري عربي من شأنهما أن يجعلا من تجديد اللغة العربية مهمة حية تتم من خلال معاناة العلم والحضارة وعبر إنتاجهما. وجملة القول إن الثقافة والتقانة صنوان لا يفترقان. فالثقافة لا تنمو إذا لم يتوافر لها مناخ ثقافي قومي يعبئ الطاقات في سبيل الهدف المشترك، وهو بناء حضارة ذاتية عالمية في آن واحد، ويجعل من مخاطر الغزو العلمي والتقاني والاقتصادي الأجنبي أداة تحريك وتفعيل للإرادة العربية المشتركة العازمة على أن تبني حضارتها الذاتية عن طريق التفاعل بينها وبين العالم، لا عن طريق خضوعها واستسلامها للعالم وذوبانها فيه ونهبه لخيراتها.
ولا نكون مفرطين في القول إن نحن جعلنا من اضطلاع التربية بهذه المهمة، مهمة بناء الثقافة الذاتية العالمية وبث قيمها الحية، رأس الرمح في تجديد التربية وتطويرها من أجل مواجهة مطالب التغير في العصر والتعامل معها تعاملاً واعياً خلاقاً. فالنظام التربوي المرن والأخذ بالتربية المستمرة، والاهتمام بالتعلم الذاتي، وربط التربية بحاجات العمالة المتغيرة، وتجديد تقنيات التربية، هذه وسواها مما سبق أن أشرنا إليه وسائل أساسية دون شك من أجل التكيف مع التغير ومن أجل بناء تربية متجددة وحضارة متجددة. غير أنها جميعها تفقد الأرض التي تعمل عليها والتي تطمئن إليها إن لم يصاحبها ويداخلها وينبث في ثناياها عمل جاهد لتجذير التربية في الثقافة القومية. وقد يكون العمل من أجل هذه الأهداف التربوية كلها إذا لم يستند إلى أرضية ثقافية تحميه وتؤججه وتمنح له معناه، أشبه بعمل جمهور من النحل يعمل جاهداً ليل نهار ليجمع العسل في الخلية، في حين أن الخلية كلها قد تكون مثقوبة.
خاتمة
1- لقد تناولنا في الصفحات السابقة أمهات معالم التغير التي تتم في عصرنا والتي سوف يشهدها القرن القادم، وعلى رأسها التغير النوعي والمتسارع في تقنيات الاتصال والمعلومات، وفي عالم الاقتصاد والمال، وفي عالم المعرفة، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي صورة “القرية العالمية” والصلات بين أحيائها. وحاولنا أن نتبين دور التربية في مواجهة هذه التغيرات بحيث تستوعبها وتقودها في آن واحد. وأوجزنا دور التربية هذا (إيجازاً لا شك أنه مخل) في مهمات أساسية، هي الأخذ بالنظام التربوي المرن بنيةً ومناهج وطرائق وأطراً، وإشاعة التربية المستمرة طوال العمر وتجديد الإعداد والتدريب دوما وأبداً، وبناء القدرة على “التعلم الذاتي” لدى المتعلم بحيث يصبح قادراً على أن يعلم نفسه بنفسه وعلى أن يرقى بمستواه دون حد، وربط التربية بحاجات العمالة المتجددة وتحقيق التواصل والتفاعل بين مؤسسات العمل والإنتاج وبين مؤسسات التربية، واستيعاب التربية للتقنيات الإعلامية والمعلوماتية، والاستعانة بتقنيات التربية من أجل تجديد النظام التربوي وزيادة فعاليته، وأخيراً وليس أخراً الربط بين التربية وبين الثقافة العربية والعالمية وبناء الثقافة العربية الذاتية من داخلها وبالحوار والتفاعل مع سواها.
2- وقد أردنا أن تكون هذه الأهداف التربوية الجديرة بعالمنا المتغير، منطلقاً ترجع إليه النظم التربوية في أي بلد عربي، وترتب عليه النتائج العملية الملموسة، سواء فيما يتصل بأهداف النظام التعليمي وغاياته، أو فيما يتصل بمناهج التعليم وطرائقه وتقنياته، أو ما يتصل بإعداد المعلم فيه، أو بالإدارة التربوية أو المدرسية، أو بالتخطيط التربوي، أو بالنشاطات المدرسية الصفية واللاصفية، أو بالبحث التربوي، أو سوى تلك من مقومات العمل التربوي التي
لا تتسع حدود هذا البحث للحديث عنها.
3- وعلى أية حال، فالرسالة التي أردنا أن ننقلها من خلال هذا البحث تتلخص في أمر أساسي، وهو أن تربية التغير، في خاتمة المطاف، هي التربية التي تقيم في صلب كيانها أساليب تطويرها وتجديدها، وآلية تحركها الدائم وتطلّعها إلى مزيد من الإبداع. ومشكلة التربية الحقة تظل دوماً وأبداً، في مجال التغير أو سواه، مشكلة خروج المدرسة من قوقعة المحافظة والانطواء على نفسها واحتمائها بما ألفت وعرفت، بحيث تقدم على أن تعيد النظر في ذاتها، وأن “تفكر في تفكيرها”، وأن تدرك أن رفضها للتجديد لا يعني أن تراوح في مكانها فحسب بل يعني أن تتخلف وأن تسير إلى وراء.
4- ونحن ندرك ما في الخروج عن المألوف من عنت ومن قسر لطبائع الأشياء، وندرك أن الانطواء على القديم البالي كثيراً ما يبدو لبعض المربين المركب السهل والمطمئن، وكثيراً ما يرون أنه أهون شراً من المغامرة والسير في طريق جديدة مجهولة. كما أننا نعي قول من قال أن مهمة المدرسة أن تولد عين النظام الاجتماعي الذي ولدها. ولكننا اليوم أمام تغير من طراز جديد، أهم ما فيه أنه يزودنا بتقنيات وأساليب للتغير رائعة فعالة، بل مجربة من معظم ميادين الحياة. ومن الخُلف أن نرى المدرسة التي هي إلى حد بعيد وراء ما يحدث من تقدم في العلم والمعرفة، تتخلف عن انطلاقة العلم الذي ولدته والتقانة التي أسهمت في مسيرتها.
5- وهذا التناقض يردنا مرة أخرى إلى الثقافة. فعندما تكون ثقافة المجتمع، نعني اتجاهاته ومواقفه وقيمه وأنماط سلوكه، ثقافة محافظة معادية للتقدم، يغدو من العسير على التربية أن تغير ذاتها. وإذا كان من الثابت أن ثمة معوقات ثقافية تعيق التنمية الشاملة فإن هذه الحقيقة تصدق من باب أولى على التنمية التربوية، فالمعوّقات الثقافية للتربية أدهي وأمر. ومن هنا يأتي اهتمامنا بالربط الوثيق بين تطوير الثقافة وتطوير التربية. والثقافة العربية الإسلامية، في خطوطها ومعالمها الكبرى وفي أصولها، ليست ثقافة متخلفة، وأن تكن قد عرفت التخلف الذريع في العصور الأخيرة. ومن هنا تبرز أهمية تطويرها وتجديدها، من خلال ذاتها ومن خلال تفاعلها مع الثقافات الأخرى. ولا شك أن هذه الثقافة، حين ننظر ‘إليها نظرة واعية ناقدة، تحمل الكثير من الاتجاهات والقيم التي تناهض الجمود والمحافظة على القديم المشوه البالي، والتي تدفع بحرارة وقوة نحو امتطاء الجديد، ونحو بناء العالم بناء محدثاً ونحو الأخذ بأسباب التقدم. وفي مقابل ما ساد في عصور الانحطاط من نزعات الاستسلام والتواكل واعتزال الحياة، ومن اعتقاد بأن العلم يسير من سيئ إلى أسوأ، ومن اتجاهات “جبرية” خانعة ترفض التدخل في مجرى الأحداث، ومن تنكر للعقل، ومن إيمان بالحلول السحرية، ومن تعصب وعصبية، وسوى ذلك كثير، نجد في التراث العربي الإسلامي الأصيل قيماَ حية حارة هي التي ولدت الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها، على رأسها احترام العلم والعلماء، واحترام العمل والعمل المتقن بوجه خاص، وامتلاك أسباب التقدم والقوة في شتى ميادين الحياة العلمية والاجتماعية والحربية، وتوفير حاجات كل بلد من “المأكل والمشرب والصناعات المختلفة” على حد تعبير الأمام الشاطبي الأندلسي، ومجاهدة النفس، والتبصر العقلي، والتكافل الاجتماعي، وسوى ذلك كثير.
6- وجملة القول أن تغيير المدرسة لذاتها من أجل تغير مجتمعاتها ومواكبة العصر المتغير لا يتم إلا إذا نظرت المدرسة نظرة جادة إلى “عائق الثقافة المحافظة” وإلا إذا جعلت من تجديد الثقافة وتطويرها سبيلها الأساسي إلى أي تجديد.