نحو رؤية مستقبلية للتعليم في الوطن العربي

السياسات المستقبلية للتعليم بوجه عام وللتعليم الأساسي بوجه خاص في البلدان العربية، في ضوء الخبرات العربية والدولية
بحث أعدّ في إطار مشروع المنظمة العربية (أليكسو) لإعداد رؤية مستقبلية للتعليم في الوطن العربي (أولاً) مسيرة التربية في العالم:
رغبة في البسط الميسَّر، وسعياً إلى وضع مسألة التربية في البلاد العربية في إطار جامع منذ البداية، نستطيع أن نجمل مسيرة التربية في العالم بوجه عام وفي البلدان النامية بوجه خاص في مراحل ثلاث (ليست بينها حدود زمنية قاطعة بل بينها تداخل أحياناً): الاستيعاب (الكمي) – والتجويد (النوعي) – والتجديد (المبتكر).
الاستيعاب الكمي:
1- فلقد كان هم العالم المتقدم – ولاسيما بعد الثورة الصناعية الأولى – فتح أبواب المدارس واسعة عريضة لأكبر عدد من الطلاب، سعياً إلى القضاء على الأمية ومحاربة الجهل والفقر والمرض، وإلى توفير الأطر البشرية اللازمة لمسيرة الثورة الصناعية الأولى بأبعادها المتعددة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وظلّ شعار “المدرسة للجميع” في ديار الغرب الشعار الأساسي، وتجلّى واضحاً في مثل “فرنسا” في الدعوة التي أطلقها يعد الحرب العالمية الأولى دعاة “المدرسة الموحدة”.
التجويد النوعي:
2- وبعد فترة لم تطل، من العناية باستيعاب أكبر عدد ممكن من الأطفال في المدرسة (وهو مطلب لم يتحقق على النحو المرجو)، أضيف إلى هذا الشعار – نعني شعار الاستيعاب الكمي – شعارٌ آخر، في الغرب دوماً، هو شعار تجويد النظام التربوي. وقد حمل هذا الشعار معاني متعددة. وهذه المعاني المتعددة كانت تجمعها إلى حد كبير الدعوة إلى تجديد “طرائق التربية”، وتحقيق “انقلاب كوبرنيكي في التربية” (على حد تعبير المربي السويسري الشهير “كلاباريد Claparède”) قوامه أن تدور المدرسة حول الطالب بعد أن كان يدور – ناجحاً أو فاشلاً – حول المدرسة. ومن هنا ظهرت منذ الربع الأول من القرن الحالي التربية التي أطلق عليها اسم “التربية الحديثة”، وظهر معها ما عرف باسم الطرائق الحديثة في التربية (كطريقة “منتسوري” في رياض الأطفال، وكطريقة “دوكرولي” و”مراكز الاهتمام” وطريقة “دالتون” و”التعيينات المدرسية” – ومشروع “ونتكا” ومراحل النمو
النفسي – و “طريقة المشروع” المنبثقة من فلسفة “ديوي” التربوية – و”طريقة كرشنشتاينر” ومدرسة العمل – وطريقة “فرينيه” و”المطبعة المدرسية” – الخ…). وهذه الطرائق
جميعها – شأنها شأن مضمون “التربية الحديثة” كلها كما نرى – كانت تهدف إلى تجويد التربية، دن طريق تجويد أساليبها، وبوجه خاص عن طريق جعل معرفتنا بالطفل وكيانه النفسي وميوله واهتماماته محور العملية التعليمية.
أزمة النظام التربوي:
3- ويعد الحرب العالمية الثانية، ظهر واقع جديد، ولدته ظروف الحرب نفسها، وهو إدراك الاقتصاديين وعلماء الاقتصاد أن تحقيق النمو الاقتصادي على الوجه الأكمل، لا يكون إلا بتنمية رأس المال البشري، وأن المال الذي ننفقه في التربية والإعداد وتكوين الإنسان توظيف مثمر وليس مجرد خدمة استهلاكية، بل هو التوظيف المثمر الحق الذي تفوق عائداته الاقتصادية عائدات سائر العوامل التي توظَّف في الإنتاج، كرأس المال المادي وأدوات الإنتاج والعدد الكمي للقوة العاملة.
وظهرت آنذاك، كما نعلم، أبحاث تترى على يد أمثال “دنيسون Denison” و”شولتز Schultz” و”سميث Smith” و”فيزي Vaisey” و”سولو Solow” و”أوكرست Aukrust” – تبين عن طريق الأبحاث الإحصائية ما للتربية والإعداد من مردود كبير (عائد) على الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة وبريطانيا وسواها.
وهذا يعني أن العناية بالتربية والإعداد والتدريب ينبغي أن تكون في رأس أولويات أي بلد ينشد التقدم الاقتصادي أولاً، فضلاً عن التقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي وسواه.
وهكذا ولدت من رحم هذا المخاض الدعوة إلى التخطيط الشامل، والدعوة إلى تخطيط الموارد البشرية وتخطيط التربية في إطار هذا التخطيط الشامل.
غير أن التخطيط للتربية، في بلدان العالم جميعها وفي بلدان العالم الثالث بوجه خاص، يعني – فيما يعني – استيعاب عدد كبير من الطلاب في شتى مراحل التعليم النظامي، وفي شتى أشكال التعليم غير النظامي. وهذا بدوره يستلزم أموالاً طائلة تنوء بحملها الدول المتقدمة، بل الدول النامية. ومن خلال هذه المشكلة شاع الحديث في العالم – في الستينات بوجه خاص – عن “أزمة التربية في العالم”، التي وصفها الكثير من المربين وكتب عنها المربي الأمريكي “كومز Coombs” كتابه الشهير الذي يتصدى لها مباشرة، كما يستبين من عنوانه “أزمة التربية في العالم”.
وقوام الأزمة بسيط ولكنه معْجز: لا سبيل إلى الوفاء بحاجات التربية – حتى في العالم المتقدم – وفاءً يَحقق أهداف التنمية الشاملة، ما دام ثمة “تفجر مدرسي” مخيف ناجم عن “تفجير سكاني” كبير ومتعاظم. فاستيعاب التكاثر المدرسي المتفجر يستلزم توظيف أموال ضخمة في التعليم، حتى لو اقتصر الأمر على التعليم النظامي، وحتى إذا استهدفنا – في البلدان النامية بوجه خاص – مجرد تعميم التعليم الأساسي. وإذا نحن أضفنا إلى مشكلة الاستيعاب الكمي مشكلة التجويد النوعي، كانت الصعوبات أدهى وأمرّ.
أما إذا نحن أردنا تعميم التعليم الأساسي، والتوسع الكافي في التعليم الثانوي، والعناية الكافية بالتعليم المهني والتقني، والتوسع في التعليم العالي، ومحو الأمية وتعليم الكبار، ونشر الإعداد والتدريب وتجديد الإعداد والتدريب طوال الحياة، وتحقيق تكافؤ الفرص التعليمية، وتحسين الأبنية المدرسية، وتطوير الإدارة التربوية والمدرسية، وتطوير المناهج والطرائق التعليمية، وتجويد أساليب إعداد المعلمين وتدريبهم المتجدد، وتحسين أساليب الامتحان والتقويم، وإجراء البحوث التربوية، الخ… فلن نستطيع تحقيق ذلك إلى يوم الحشر على حد تعبير “غاندي”: إذا نحن لم نغادر مسيرتنا التقليدية وأساليبنا المألوفة.
تجديد النظام التربوي:
4- ومن بين براثين هذه المشكلة، ولدت دعوة جديدة (وإن تكن لها جذور ماضية، شأن الجديد دوماً)، هي الدعوة إلى “تجديد” النظام التربوي، من أجل التجديد الضروري دوماً، ومن أجل ابتكار حلول جديدة تتغلب تدريجياً (ولو بمقدار) على مشكلة الاستيعاب والتفجر المدرسي من جانب، وتتيح رفع المستوى النوعي للنظام التربوي من جانب آخر.
ومنطلق هذا المنزع التجديدي حقيقة تاريخية – بالإضافة إلى ضغوط الحاضر – وهي أن الإنسان كان قادراً دوماً عبر تاريخه، على تجاوز نفاد الإمكانات التي بين يديه، عن طريق ابتكار حلول جديدة وإبداع موارد محدثة (كما حدث مثلاً في تطور استخدام الإنسان للطاقة).
لابد إذن من الخروج من إطار التربية التقليدية (التي سادت بعد الثورة الصناعية والتي قلّدت – عن طريق الصفوف المدرسية – ما كان يجري في المصانع من صف العمال أفواجاً)، ولابد من إعادة النظر إعادة جذرية – لا في مناهج التعليم وطرائقه فحسب – بل في بنية المدرسة وبنية النظام التربوي، بحيث يتم إطلاق سراح التربية من ذلك “الحذاء الصيني” الذي وُضعت فيه، وقوامه “الصف الثابت ذو المساحة المحدودة – والمعلم – وعدد محدود من الطلاب” فهذا الإطار الذي حُبست فيه التربية الحديثة قروناً ليس إطار منزلاً، ولا هو الشكل الأمثل لتربية الأطفال، فضلاً عن كون تعميم التعليم في إطاره أمراً تعجز عنه الدول المتقدمة نفسها.
الاستخدام الأمثل للموارد:
5- وبتعبير موجز، أدت “أزمة التربية” وأدت مطالب التربية الجديدة، وعلى رأسها ربطها بمستلزمات التقدم في عصرنا وجعلها أداةٌ لإعادة صياغة العالم – بالتفاعل بينها وبين سواها من النظم الاقتصادية والاجتماعية – إلى طرح شعار تجديدي هام وهو: البحث عن نظام تربوي يحقق الاستثمار الأمثل للموارد البشرية والمادية المتاحة، كما يقال في عالم الاقتصاد. ومعنى هذا توليد نظام تربوي، قادر في بناه وطرائقه، على أن يعلم عدداً أكبر من الأطفال تعليماً أفضل بنفس الموارد المالية والبشرية المتاحة.
وقد كانت المحركة والرائدة في مجال التجديد التربوي هذا، الدراسات التي ذر قرنها – بعد تعاظم مسيرة الثورة العلمية والتقانية – في ميدان “التقنيات التربوية”. فقد جعل رواد هذه الدراسات همهم الأساسي، منذ الستينات بوجه خاص، مواجهة أزمة التربية في العالم وفي البلدان النامية، عن طريق توليد بنى وأطر وأساليب جديدة تؤدي إلى الاستخدام الأمثل والأفضل للموارد، وعن طريق إعادة النظر في عملية التعليم بكاملها، وعن طريق تجاوز الهدر والضياع بمعانيه المختلفة في النظام التربوي، وعن طريق الاستخدام الكامل والمنسق لجملة المصادر والإمكانات التي يقدمها لنا عصر التقانة، وعلى رأسها الوسائل السمعية البصرية، من راديو وتلفزيون وسواهما، فضلاً عن التقنيات “المنطقية” التي لا تعتمد على الآلة ولكنها تعتمد على “تقنيات عقلانية” (كاللجوء إلى طرائق “البحث الإجرائي” وأسلوب ” تحليل النظم” Systems analysis) والتعليم “المتعدد التقنيات” و”التعليم عن بعد”، فضلاً عن اللجوء إلى الحاسوب وذريته بعد ذلك.
التربية والثورة العلمية التقانية:
6- على أن الثورة العلمية التقانية التي كانت وراء تجديد “تقنيات التربية” وتجديد إطارها ووسائلها، شورة ما لبثت حتى تطور مضمونها وتطورت أشكالها وميادينها، بحيث أصبحنا أمام “ثورات تقانية علمية” متعددة، أبرزها الثورة في “عالم المعلومات والاتصال، والثورة البيولوجية”، وثورة “التقنيات الإلكترونية”، بدءاً بالحاسوب حتى “الإنترنيت”. وقد انضاف هذا كله إلى ما بزغ في العالم، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بوجه خاص، من سيطرة “للسوق الاقتصادية الطليقة”، ومن “عولمة” تتناسب خيراتها طرداً مع مستوى التقدم في كل بلد، وتصيب مخاطرها البلدان النامية بوجه خاص، حين لا تستوعبها وتوجهها وفق حاجاتها، وتهدد “الثقافات” في مختلف بلدان العالم بالإمحاء والتآكل.
وهذا كله فرض على بلدان العالم جميعها، بما فيها البلدان المتقدمة، أن تعيد النظر في نظمها التربوية تحقيقاً لأهداف ثلاثة أساسية:
– أولها المزيد من امتلاك الوسائل العلمية والتقانية.
– وثانيها مواجهة ما أدى إليه نظام السوق الاقتصادية الطليقة من صعوبات في تحقيق التنمية الاقتصادية في معظم البلدان، ومن بطالة واسعة أصابت المتعلمين قبل سواهم، ومن ذيوع للمشكلات الاجتماعية والأخلاقية، لاسيما لدى الفئات الفقيرة، الآخذة بالتكاثر والمهمشة والمعزولة.
– وثالثها تحقيق مبدأ “التنمية الإنسانية”، عن طريق التربية بأشكالها المختلفة بوجه خاص، بعد أن سادت القناعة بأن غاية التنمية ينبغي أن تكون “الإنسان” وليس العكس، وبأن جهود التنمية، على حد قول “بيريز دي كويلار (في تقريره الشهير “تنوّعنا المبدع” Our Creative Diversity)، “فشلت في معظم الأحيان لأن العنصر الإنساني لم يقدر حق قدره، ذلك العنصر الإنساني المكون من شبكة معقدة من المعتقدات والقيم والبواعث الكامنة في قلب الثقافة”.
تعثر النظم التربوية في البلدان المتقدمة:
7- وعلى الرغم من هذه الدعوات التي نادت بها الدول المتقدمة في مجال “تجديد التربية”، فإنها عجزت حتى الآن عن تحقيق تقدم كاف بهذا الشأن، وما يزال القلق والبحران يسودان النظم التربوية، كما يسودان حياة العالم. وعلى الرغم من شعور هذه الدول المتقدمة بخطورة المشكلة، على نحو ما يتجلى ذلك في الجهود التي تبذلها والتقارير التي تنشرها والمقررات التي تتخذها في إطار المؤسسات العالمية والمنظمات التابعة لهيئة الأمم وسواها، ما تزال مشكلات التربية الواقعية حادة تجأر للأعين، بل إنها تزداد تعقيداً وخطراً يوماً بعد يوم. ويكفي لهذه الغاية أن نذكر غيضاً من فيض:
فهناك، في مجال التقارير الخاصة بكل دولة، تقرير “أمة في خطر” في الولايات المتحدة ثم “الاستراتيجية الأمريكية” لتطوير التربية التي وضعت في عهد الرئيس “بوش” الأب والتصريحات التي عبّر فيها الرئيس كلنتون عن مدى الاهتمام الذي يريد أن يوليه للتربية، حين دعا أبناء الولايات المتحدة إلى “حرب جهادية (صليبية حسب تعبيره) من أجل التربية”، وحين قال إن “قضية التربية هي قضية أمن قومي”. وهناك في فرنسا جهود كبيرة، أبرزها التقرير الواسع الشامل الذي وضعته لجنة برئاسة: “روجيه فورو Roger Fauriux” عام 1996.
وهناك التقارير العديدة عن التعليم في اليابان. وهناك التقرير الدولي الهام الذي وضعته لجنة دولية برئاسة “جاك دولور Jacques Delors” (وعنوانه “التربية ذلك الكنز الدفين”) عام 1996. وهنالك تقارير اليونسكو العديدة وسواها من المنظمات الدولية . وهنالك وهنالك.
هنالك إذن بحوث ضافية حول “أزمة التربية” الجديدة، وسط النظام العالمي الحالي، وهي بحوث قيمة تجيد طرح المسألة، وتجيد غالباً طرح الحلول. ولكن الواقع ما يزال بعيداً عن مرتجيات هذا الطرح، حتى في البلدان المتقدمة نفسها. ولعل أبلغ دليل على ذلك تفاقم مشكلة البطالة في معظم بلدان أوروبا، فضلاً عن سواها، وعجز النظم التربوية عن التصدّي لهذا الداء، والفراق الذي مازال قائماً بين المؤسسات التربوية ومؤسسات العمل والإنتاج، والمحاولات المتعددة التي تقوم بها الحكومات المتتالية من أجل إصلاح التربية إصلاحاً جذرياً، دون أن يؤدي ذلك إلى نتائج إيجابية ملموسة (1).
خلاصة:
8- النتيجة التي نخلص إليها من هذا كله تتجلى في أمور أربعة أساسية (إلى جانب أمور أخرى سوف نرجئ الحديث عنها إلى حين الكلام عن التربية في البلاد العربية):
أولها أن أزمة التربية (القديمة والجديدة) أزمة عالمية، وإن اتخذت في العالم المتقدم أبعاداً تختلف عن أبعادها في العالم النامي.
وثانيها أن النظام العالمي الحالي – الذي قوامه العولمة، وحرية السوق الاقتصادية (ولاسيما المالية)، وإهمال الهويات الثقافية وما تشتمل عليه من قيم ومواقف لابد من التعامل معها لاستخراج فضائلها ولتطويرها وتجديدها – نظام يملي على نظم التربية في العالم كله مطالب جديدة، ويفرض عليها أن تلجأ إلى جدائد مبتكرة، ما تزال بذورها في طور الإنتاش ولم تؤت أُكُلها بعد.
وثالثها حقيقة بدهية، كثيراً ما تنسى، وهي أن النظام التربوي جزء من نظام اقتصادي واجتماعي وثقافي شامل، وأن التصدي لمشكلاته بالتالي لا تكون إلا من خلال شبكة تربوية واسعة متفاعلة مع ذلك النظام الشامل ومنبثة في عروقه. وهذه الحقيقة البدهية تعني الكثير في عصرنا المغذ في تطوره وفي تجدد ملامحه وسماته، وفي تعانق مشكلاته الاقتصادية والمالية والإعلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتقانية.
ورابعها، ولعله أهمها، هو أن النظم التربوية، في مثل هذا العالم الحوَّل القُلّب، ينبغي أن تتصف أولاً وقبل كل شيء (وبصرف النظر عن التفاصيل التي نرجئها إلى القسم الثاني من البحث) بالمرونة.
فالمرونة في بنية النظام التربوي، وفي مساراته والانتقال بين فروعه، وفي مناهجه وتخصصاته، وفي زبائنه وأعمار المنتسبين إليه، وفي سنوات الدراسة فيه، وفي وسائل تقويمه، وسوى ذلك كثير، مطلب لازب لمواجهة الحاجات المتجددة لسوق العمل ولمشكلات الاقتصاد ومطالب الحياة الاجتماعية والثقافية. والنظام التربوي الثابت الجامد نظام لابد أن يأخذ طريقه إلى الزوال، إن لم يمت فعلاً في كثير من بلدان العالم.
(ثانياً) مسيرة التربية في البلدان العربية:
تلكم إذن، بإيجاز مخلّ، مسيرة التربية في العالم المتقدم وإلى حد كبير في معظم البلدان النامية وفي البلاد العربية بالتالي، دون أن نغفل تفاوت المراحل الزمنية بين العالم المتقدم والعالم النامي، وبين بلد وآخر داخل كل منهما.
الاستيعاب الكمي في البلاد العربية:
1- وقد بذلت الدول العربية، منذ استقلالها حتى اليوم، جهوداً كبيرة في سبيل نشر التعليم. وكان شعارها في البداية هو “الاستيعاب” استيعاب أكبر عدد ممكن من الأطفال في التعليم الابتدائي ثم في التعليم المتوسط والثانوي ثم في التعليم العالي. ولم تكن تأبه كثيراً لجودة التعليم ونوعه ومستواه، وكان حسبها أن تقضي على الجهل عن طريق فتح أبواب المدارس على مصراعيها. ولعلها كانت تحسب – وما تزال حتى اليوم ولو بمقدار – أن مجرد فتح أبواب التعليم لأكبر عدد من المتعلمين كافِ لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقلما كانت تأبه لحقيقة أساسية، وهي أن التربية التي تؤدي إلى التنمية وإلى التقدم والتي تقضي على التخلف، ليست أي نوع من التربية، بل هي التربية التي نضع سلفاً في بنيتها وأهدافها ومحتواها وطرائقها أهداف التنمية ومستلزماتها.
التجويد النوعي للتربية في البلاد العربية:
2- ثم كان ما كان من تطور التربية في العالم، ومن الاهتمام بجودة التعليم ومحتواه وطرائقه، وما تلا ذلك من ربط بين التعليم وحاجات التنمية الشاملة، بعد الحرب العالمية الثانية، وما يستلزمه ذلك الربط من عناية مزدوجة بالتخطيط للتوسع الكمي وللتجويد النوعي لنظام التربية في آن واحد.
وانتقل شعار “التجويد النوعي” إلى معظم بلدان العالم، وإلى البلاد العربية بالتالي.
وقامت الدول العربية، وما تزال، بجهود واسعة في هذا المجال أيضاً، مجال التجويد النوعي للنظام التربوي. وتعاظمت هذه الجهود منذ الخمسينيات من القرن الحالي. وقد شملت تطوير معظم مقويات النظام التربوي، من مناهج وطرائق وتقنيات تربوية حديثة، ومن عناية بإعداد المعلمين، ومن إشادة للأبنية المدرسية الملائمة، ومن تطوير للإدارة التربوية والإدارة المدرسية، ومن تقويم لنظم الامتحانات والتقويم، ومن عناية بالنشاطات اللاصفية وبالخدمات الاجتماعية والنفسية، ومن اهتمام متزايد بالبحوث التربوية وبإشادة مراكز لها، ومن عناية بتعليم الكبار، وسوى ذلك. وهكذا انضافت إلى أعباء التوسع الكمي في التعليم، أعباء التجويد النوعي التي لا حدّ لها، مما أدى إلى تعاظم نفقات التربية وزاد من صعوبات تمويل النظام التربوي، حتى في البلدان النفطية الغنية نسبياً.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الدول العربية، بالتعاون مع المنظمات العربية والدولية، من أجل تجويد التربية في شتى مقوماتها وأبعادها، فقد ظلّت مطالب التوسع الكمي تطغى على مستلزمات التجويد النوعي، وانصرف الإنفاق على التربية إلى استيعاب الكم على حساب النوع والجودة غالباً.الأمر الذي أدى إلى انخفاض مستوى مخرجات التعليم وهبوط ملاءمتها لحاجات التنمية، بل إلى انخفاض إنتاجه الداخلي نفسه عن طريق الرسوب والتسرب، وإلى الارتفاع حتى في تكاليف التوسع الكمي نفسه نتيجة للهدر الذي يولده هبوط المستوى النوعي.
التخطيط التربوي:
3- وعندما شاع في البلدان المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية، كما سبق أن ذكرنا، الاهتمام بالربط بين تنمية الثروة البشرية وتنمية الثروة المادية، وذاع معه الاهتمام بالتخطيط التربوي رديفاً وصنواً للتخطيط الاقتصادي، أخذت الدول العربية في تبني هذا النهج منذ أوائل الستينات، لاسيما بعد أن قام في بيروت شباط/ فبراير عام 1960 – بالتعاون بين البلدان العربية ومنظمة اليونسكو – “المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإدارتها في البلاد العربية”، الذي عني بإعداد المخططين وبتقديم العون للدول العربية في مجال التخطيط التربوي.
وانتقل التخطيط التربوي في البلاد العربية رويداً رويداً من تخطيط كمي، لا يعدو أن يكون إسقاطات إحصائية لأعداد الطلاب والمعلمين ولنفقات التعليم في سنوات الخطة، إلى تخطيط أشمل وأكمل يعنى بالنوع إلى جانب عنايته بالكم. غير أنه ظل – في معظم الأحوال – مقصراً في أساليبه عن التخطيط العلمي السليم، وعاجزاً بوجه خاص عن تحقيق الربط بين الحاجات التربوية وحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
تجديد التربية في البلاد العربية:
4- ورافقت ولادة التخطيط التربوي وتطوره في البلاد العربية، ولادة الاتجاهات العالمية الحديثة المنادية بتجديد التربية، كما سبق أن ذكرنا. وأدلت البلاد العربية بدلوها في هذا المجال. غير أن المهمة كانت عسيرة.
فتجديد التربية لا يعني مجرد تجويد محتواها وطرائقها، كما سبق أن ذكرنا، يل يعني إعادة نظر جذرية في بنية النظام التربوي كله، من أجل توليد تربية جديدة قادرة، كما سبق أن قلنا، على أن تعلّم أعداداً أكبر تعليماً أفضل بنفس الموارد المتاحة. وهذا يشمل، كما سبق أن ذكرنا، إعادة النظر في إطار الصف المدرسي التقليدي (معلم – حجرة – طلاب) و”تحطيم جدران الصف” كما يقال بل اللجوء إلى “المدرسة بلا صفوف”، واستخدام تقنيات جديدة في التعليم لا تبطل دور المعلم ولكنها تزيد أثره أضعافاً مضاعفة (من مثل التعليم عن بعد، واستخدام الأقمار الصناعية والحاسوب والإنترنيت حديثاً وسواها). كما أن هذا يشمل بوجه خاص جعل التعلّم الذاتي أساس التعليم. وهذا التعليم يعني فيما يعني التركيز على المعارف والعلوم الأساسية التي تكوّن أدوات لأي تعلّم لاحق مستمر. ويشمل كذلك تقديم تعليم مرن في شتى جوانبه، كما سبق أن ذكرنا، (في مراحله وعدد سنواته وزبائنه وفروعه واختصاصاته وشهاداته وأبنيته وسوى ذلك). وسنتريث عند هذا كله وسواه بعد حين.
وهكذا، وعلى الرغم من ذيوع شعارات التجديد في الأدب التربوي العربي، وعلى الرغم من أن هذا الشعار سار على كثير من ألسن المسؤولين، بل وجد سبيله إلى البيانات والتقارير الرسمية التي تقدمها الحكومات العربية، وعلى الرغم من إنشاء “شبكة للتجديد التربوي في البلاد العربية” بالتعاون بين اليونسكو والبلدان العربية (ومقرها الكويت)، وعلى الرغم من جهود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في هذا المجال (ولاسيما في مجال تجديد التقنيات التربوية)، وعلى الرغم من جهود “مكتب التربية العربي لدول الخليج” ما تزال الجدائد التربوية جرعات صغيرة هنا وهناك، ولم تكوّن بعد كياناً متآخذاً متكاملاً يستجيب لحاجات البلدان العربية مجتمعة ومنفردة. بل لم تدرك روحها ومعانيها ومقاصدها حتى الآن إدراكاً واضحاً. ولم تجرؤ البلاد العربية بعد على دخول هذه الحلبة المجهولة بعزم ومضاء، مؤثرة الاحتماء بالقديم، على قدمه، على الخوض في غمار دنيا تربوية جديدة مجهولة، مهما تكن وعودها.
ولا حاجة إلى القول إن النظام التربوي – حيثما كان وفي البلدان النامية بوجه خاص – نظام محافظ لا يقبل التجديد بيسر، بل هو أكثر محافظةً من نظام الزراعة الذي كان يعتبر من أشد النظم الاجتماعية محافظة. أو لم يبين عالم الاجتماع الفرنسي “بورديو Bourdieu” ومعه “باسرون Passeron” منذ أوائل السبعينيات من هذا القرن، أن وظيفة التربية، حتى في البلدان المتقدمة، هي “إعادة التوليد” إعادة توليد النظام الاجتماعي الذي ولّدها؟
ولكن لندع هذا التحليل الذي قد يمضي بنا بعيداً، وحسبنا أن نقول، بالإضافة إلى هذا كله، إن البلاد العربية ما تزال تحسب أن التجديد عبء إضافي على تمويل التعليم وعلى نفقاته (على خلاف ما تنطلق منه دعوة التجديد العالمية، حين تنطلق من قدرته عَلى خفض الإنفاق، مع رفع الجودة، بل عن طريق رفع الجودة والمستوى). ذلك أنها تحسب التجديد غالباً مجرد “إضافات” إلى نظام تربوي قائم يبقى كما هو في صلبه وكيانه، بدلاً من أن ترى فيه إعادة نظر شاملة في أسس النظام التربوي وبنيته ووسائله.
ملخص مسيرة التنمية في البلاد العربية:
5- وجملة القول إن الدول العربية، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها والأموال الضخمة التي أنفقتها على التعليم، عجزت حتى الآن عن الوفاء بمستلزمات الشعارات الثلاثة التي سادت العالم تباعاً، نعني الاستيعاب والتجويد والتجديد. فالاستيعاب ما يزال مقصراً عن مداه حتى في التعليم الابتدائي، كما سنرى، والبلاد العربية – إن تابعت مسيرتها الحالية – سوف تدخل أوائل القرن الحادي والعشرين مثقلة بستة وستين مليون أمي، وبحوالي عشرة ملايين طفل خارج التعليم. هذا على الرغم من أن إنفاقها على التعليم كبير، يكاد لا يدع زيادة لمستزيد (حوالي 5.5% من الناتج الداخلي والمحلي و20% من الإنفاق الحكومي العام، مع تباين واضح دون شك بين الدول العربية في هذا المجال).
وههنا من المفيد أن نفتح معترضة قصيرة، لنقول إذا كان توافر الإنفاق الوفير شرطاً لازماً لتطور التعليم كماً ونوعاً، فإنه ليس شرطاً كافياً. فالتعليم الجيد ليس بالضرورة هو التعليم الأكثر كلفة، كما ان التعليم الأكثر كلفة ليس هو الأجود حكماً. وما ينفق على الطالب، وإن يكن مؤشراً مفيداً يساعد على تقدير جودة التعليم وكفايته، ليس مقياساً دقيقاً وسليماً دوماً. ولا أدل على ذلك من أن ارتفاع مستوى الإنفاق على الطالب في بعض البلدان العربية الغنية لا يرافقه ارتفاع في جودة التعليم، بل حتى في مردوده الكمي. فالهدر الناجم عن الرسوب والتسرب، وفقدان الرغبة في التعليم لدى المتعلم، واضطرار بعض الدول العربية الغنية إلى الهبوط بمقاييس النجاح حرصاً على بقاء الطلاب في الدراسة أو إقبالهم عليها، وارتفاع الحوافز المالية التي تحفز المتعلمين على التعلم وتحفز المعلمين على التعليم، والهدر الناجم عن سوء الإدارة وسوء التخطيط، هذه كلها، وسواها كثير، من العوامل التي تجعل من ارتفاع ما ينفق على الطالب مؤشراً ضعيف الدلالة غالباً على مستوى التعليم وجودته. هذا إذا لم نضف إلى هذا كله أن الإنفاق الكبير على التعليم إذا لم تصاحبه عناية حقيقية وعليمة بتجويد محتوى ذلك التعليم، يؤدي بالضرورة إلى تدني الكفاية الخارجية لنظام التعليم، نعني تدني دوره في التنمية بأبعادها المختلفة.
6- من هنا – وأمام نقص الموارد واستفحال الهدر وشحّ النتائج – لا سبيل أمام البلاد العربية إلا أن تركب مركب التجديد التربوي، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ولقد سبق أن قلنا إن الإنسان قد استطاع دوماً أن يتغلب على شح الموارد في أي مجال عن طريق إبداع موارد بديلة ووسائل جديدة. وتلك هي رسالته دوماً. وما التقنيات الحديثة المتجددة إلا تعبير عن قدرة الإنسان التي لا تُحدّ على تجاوز الإمكانات القائمة إلى إمكانات جديدة أبلغ أثراً وأمضى قدرة.
ومن هنا كان علينا أن نخطو خطوة جديدة فنستخلص من التجربة العالمية الدروس المستفادة فيما يتصل بتجديد التربية تجديداً يرفع من مستواها النوعي ويخفض من كلفتها، ويرفع مستوى مخرجاتها، ويزيد في عائداتها الاقتصادية والاجتماعية، كما يرفع مستوى إنتاجها الداخلي كماً ونوعاً، ويطلق في النهاية قوى الإبداع لدى المتعلّم، وهي القوى القادرة وحدها على مواجهة الصعاب وعلى توليد الحلول وعلى ارتياد آفاق بكر. ولعل تمكين الإنسان من أن يجاوز تفكيُره تفكيرَه، وعلى “أن يفكر تفكيراً مناقضاً لفكره” على حد تعبير الفيلسوف الألماني “هيدجر”، هو الهدف الذي ينبغي أن تطمح إليه التربية حين تجدد ذاتها، بل حين تناقض ذاتها.
(ثالثاً) أهم دروس التجربة العالمية:
1- واضح من كل ما قلناه أننا نود أن نتخير من دروس التجربة العالمية تلك التي تنتمي إلى التجديد التربوي والتي تستجيب في آن واحد لأهداف كبرى عالمية، وعربية بوجه خاص، نوجزها في أهداف ثلاثة متآخذة متكاملة:
أولها الاستخدام الأمثل للموارد، وبوجه خاص خفض الإنفاق وزيادة الإنتاج والإنتاجية دون الافتئات على الجودة والمستوى.
وثانيها الارتفاع بالمستوى النوعي للتربية وتجديد بنيتها ومحتواها وطرائقها تجديداً يؤدي إلى تفتيح طاقات المتعلم كاملة وتفجير قدراته الإبداعية، وإلى امتلاكه المهارات والاتجاهات والقيم والمواقف والمعارف التي يستلزمها تطوير بنية مجتمعه.
وثالثها تحقيق الاتساق بين المخرجات الكمية والنوعية للنظام التربوي وبين حاجات عالم العمل، وتفاعل التعليم تفاعلاً مستمراً مع مؤسسات العمل والإنتاج وتكامل جهوده مع جهودها أخذاً وعطاءً.
ورابعها استجابة النظام التربوي استجابة مستمرة وسريعة لما يجري في العالم من تغير جذري ومتصل، ومن تطور مذهل في التقنيات الحديثة والمتقدمة على اختلاف أنواعها، واستخلاص ما يتوجب على التربية القيام به – بالتعاون مع سائر المؤسسات والنظم – من أجل تصويب مسيرة العالم وبناء مصيره.
وقبل أن نمضي في الحديث عن أهم الاتجاهات التربوية في العالم، كي نتخذ منها العدة اللازمة لمعالجة مشكلات التربية في البلاد العربية ولاسيما في مرحلة التعليم الإلزامي، لا مندوحة من أن نذكر أن هذه الجدائد ما تزال مقصرة عن مداها وبعيدة عن التطبيق الوافي شكلاً ومضموناً، حتى في العالم المتقدم، كما سبق أن ذكرنا. ولكن، علينا أن لا ننسى في الوقت نفسه أن حاجة البلدان النامية، والبلدان العربية إليها بالتالي، حاجة أشد، لاعتبارين على أقل تقدير: أحدهما معالجة مشكلة التمويل الحادة في هذه البلدان، والتي لا تشكو منها البلدان المتقدمة إلا بمقدار. وثانيهما حاجة البلدان العربية إلى أن تلحق سريعاً بركب التقدم العلمي بعد تخلف طويل. ولعل علينا أن نذكر عابرين أن كثيراً من الجدائد التربوية التي ولدت في الغرب المتقدم (وعلى رأسها تقنيات التعليم عن بعد وعن طريق الأقمار الصناعية وعن طريق التلفزيون) وضعت من أجل معالجة مشكلات العالم النامي، وتم تطبيقها وتجريبها (ولاسيما من قبل منظمة اليونسكو) في بعض البلدان النامية، وبوجه خاص في البلدان النامية الأشد فقراً والأكثر سكاناً.
أهم منطلقات التجربة التربوية العالمية:
2- من خلال هذا المنظور، ويعد هذا الاستدراك، يمكننا أن نوجز أهم منطلقات التجربة التربوية العالمية (إيجازاً لابد أن يكون مخلاً) في مجال التجديد التربوي في الأمور الأساسية الآتية:
التربية المستمرة:
2-1- على رأس منطلقات التجديد التربوي، تأتي في نظرنا الدعوة المستمرة إلى “التربية المستمرة” طوال الحياة. وهذه الدعوة كما نعلم ليست جديدة، فقد تم التأكيد عليها من قبل المربين (ومن قبل منظمة اليونسكو بوجه خاص) منذ الستينات من هذا القرن، وما تزال تعتبر حتى اليوم مطلباً أساسياً من مطالب تجديد التربية ومعالجة مشكلاتها. وهذا ما يبدو واضحاً – على سبيل المثال لا الحصر – في ذلك التقرير الشهير الذي سبق أن أشرنا إليه، نعني “تقرير اللجنة الولية حول التربية للقرن الواحد والعشرين” برئاسة” جاك دولور J. Delors” وعنوانه “التربية ذلك الكنز الدفين” وقد صدر عام 1996 وترجم إلى العربية أيضاً.
وههنا نفتح معترضة لنقول إن التربية أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية كانت تربية مستمرة، من المهد إلى اللحد، فضلاً عن أنها كانت تربية تتم في كل مكان (في المساجد وحلقاتها والرُّبُط والخانقاهات والبيمارستانات وحوانيت الوراقين ومنازل العلماء وبلاط الخلفاء والصالونات الأدبية وسواها). وقد سئل عمرو بن العلاء “ما حدُّ العلم” فأجاب “الحياة”. وفي القول المأثور: “يظل المرء عالماً ما طلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل”. وفي الحديث الشريف: “منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال”.
ولنعد إلى التربية المستمرة اليوم. لقد غدا الحديث عنها مبذولاً، بل كادت تصبح من الألفاظ المستهلكة. ومع ذلك، ما يزال استخلاص المعاني التي تحملها مقصّراً عن مداه:
ففي مألوف العادة، يتم التركيز في التربية المستمرة طوال العمر، على ضرورة الاهتمام بالتربية غير النظامية (non-formal) بأشكالها المختلفة عن طريق مراكز التدريب، وعلى التربية العارضة العفوية (in-formal) التي تتم عن طريق دور الثقافة وعن طريق المؤسسات الإعلامية وفي الأسرة والمجتمع بأسره.وتوجَّه عناية خاصة إلى ما ينبغي أن يتم – بعد التخرج من المدرسة النظامية بوجه خاص – من تدريب وإعادة تدريب وتجديد للتدريب، تلبية لحاجات المجتمع المتغيرة ولحاجات مواقع العمل (الاقتصادية والاجتماعية) بوجه خاص. ولاشك أن للتربية المستمرة على هذا النحو وبهذا المفهوم، شأناً كبيراً في الربط بين مخرجات النظام التربوي وبين الحاجات المتغيرة للعمالة ومطالب المجتمع المختلفة المتجددة. وهي بهذا المعنى شرط لازم وضروري لإكمال وإنجاح الخطط التربوية وخطط العمالة حين تصحح ما في نبوءاتها من تقديرات خاطئة أو تجاوزها تطور سوق العمل وتطور المجتمع – وذلك عن طريق التدريب المستمر وتجديد التدريب بل وإعادة التدريب (بمعنى التدريب على مهنة جديدة غير التي أُعد لها العامل أصلاً) – وكلنا يعلم أن التربية المستمرة والإعداد المهني المستمر قد اكتسبا شأناً خاصاً في السنوات الأخيرة في البلدان المتقدمة، لاسيما من اجل معالجة مشكلة البطالة بوجه عام وبطالة المتعلمين بوجه خاص، ومن أجل إعادة صياغة بنية العمل في ضوء المستجدات الثقافية الحديثة.
غير أن إلى جانب هذا المعنى الهام للتربية المستمرة، ثمة معنى آخر لا يقل أهمية عنه بل يفوقه – من المنظور التربوي على أقل تقدير، وحتى من منظور حاجات التنمية الشاملة – وهو معنى قلما يدركه المربون أو قلما يتصدون له، لما يستلزمه الأخذ به من جهد تربوي تجديدي واسع. نعني بذلك أن ننظر إلى التربية المستمرة نظرة معكوسة، إن صح التعبير، فنرى النتائج التي يمكن أن تلزم عنها فيما يتصل بإعادة النظر في التعليم النظامي نفسه.
فالتعليم النظامي (فيما نرى، وفيما إذا أردنا أن ندرك نتائج الأخذ بالتربية المستمرة كاملة) بعد التربية المستمرة لا يمكن أن يكون ويظل هو هو قبلها:
فما دامت هنالك تربية مستمرة طوال العمر خارج أسوار التربية النظامية، وما دام التدريب وتجديده واستبداله وإكماله أموراً ممكنة، وما دامت المعارف والمهارات التي يحصل عليها الذين يرتادون المدارس النظامية بداية للتكوين والإعداد وليست نهاية لهما، فإن المدرسة النظامية لابد أن تتغير وأن تتغير معها عدد سنوات الدراسة فيها ومناهجها، بل حتى روادها. ولقد قامت منذ عقدين ونيف من الزمن – كما نعلم جميعاً – الدعوة إلى “مجتمع بلا مدرسة Deschooling Society” إي إلى إلغاء المدرسة أصلاً، ثم ما لبثت حتى فشلت. وقامت إلى جانبها دعوات أكثر اعتدالاً تطالب بتقليص المدرسة
أو “تحجيمها” كما يقال (على نحو ما تطالب منازع العولمة اليوم بتحجيم دور الدولة). وقامت دعوات قادها أصحاب “المدرسة المؤسسية” (من أمثال “لوبرو Lobrot” ولاباساد Lapassade” وسواهما) تدعو إلى “التسيير الذاتي” للمدرسة من قبل الطلاب وإلى إقامة نظام تربوي جديد، وإلى ما دعاه “لوبرو” باسم “ثورة البيداغوجيا” عن طريق إدخال التسيير الذاتي إلى المدرسة.
ومن العسير ومن مباينة القصد أن نتريث عند الدعوات التي نادت بتغيير النظام التربوي تغييراً جذرياً. وما نريد أن نستوحيه ونستبقيه من هذا كله هو أن الدعوة إلى التربية المستمرة من المهد إلى اللحد، لابد أن تعني بنية المدرسة النظامية ومناهجها، بحيث تركز المدرسة، ولاسيما في مرحلة التعليم الأساسي، على امتلاك المعلومات الأساسية. وتحديد هذه المعلومات الأساسية يختف دون شك من بلد إلى بلد ومن بيئة إلى أخرى. وسنرى تفصيل ذلك عند الحديث عن التربية الأساسية في البلدان العربية.
التعلم الذاتي:
2-2- ومن أهم دروس التجربة التربوية العالمية، الأخذ بمبدأ “التعليم الذاتي”، أي تمكين المتعلم من أن يعلّم نفسه دوماً وامتلاكه بالتالي لأدوات المعرفة التي تزوده بالسلاح اللازم لمزيد من التعلم. وهذا الشعار بدوره ليس شعاراً جديداً. ولئن كان الاهتمام به قد غدا كبيراً ومتزايداً منذ منتصف الستينات من هذا القرن، فإن المربين قد ترّيثوا عند معناه منذ زمن بعيد. وكلنا يذكر قوله “جان جاك روسو” الشهيرة (في كتابه “إميل Emile”)، حين قال إن هدف التربية “ليس تكوين إنسان متعلم بل تكوين إنسان قابل لأن يتعلّم”. ومن قبله جاء في تراثنا “من لم يعلم نفسه لم ينفعه معلم”.
غير أن هذا الشعار اكتسب شأناً متزايداً أيامنا هذه، بفعل عاملين أساسيين: أولهما تزايد التركيز على الطالب من قبل الاتجاهات التربوية الحديثة، والاهتمام بدوره الفعّال وبمشاركته المباشرة في التعليم، وتغير دوره من مستمع سلبي إلى مشارك وباحث وناقد ومصدر أساسي من مصادر المعرفة، بل حتى إلى مقوّم أساسي لنتاج جهده. وثانيهما، وهو الأهم في نظرنا، ذيوع التقنيات التربوية الحديثة، بأشكالها العديدة والمتطورة، الأمر الذي يسّر بل أملى اللجوء إلى الطالب لكي يعلم نفسه بنفسه عن طريق الحاسوب، أو الأفلام أو الفيديو، أو سوى تلك من أدوات المعرفة (وآخرها، وليس أقلها، الإنترنيت). هذا فضلاً عن انتشار المكتبات العامة والمكتبات المدرسية انتشاراً واسعاً، وفضلاً عما يقدمه المذياع والتلفزيون وشتى وسائل الاتصال والمعلومات، وفضلاً عن النشاطات الثقافية المتكاثرة في المعارض والمراكز الثقافية والمسارح، وسواها كثير.
والذي يعنينا من شعار التعلم الذاتي في إطار بحثنا هو أنه الصيغة المفصّلة على مقياس عالمنا المتغير الذي تتقدم فيه المعارف والتقنيات وتتقادم معاً بسرعة مذهلة. ثم إن “أزمة التربية” في البلاد العربية وفي كثير من بلدان العالم (وقوامها العجز عن استيعاب الأعداد الكافية من الأطفال، حتى في التعليم الأساسي، لأسباب أهمها عدم توافر الأموال الكافية للإنفاق على التعليم)، تمنح التعليم الذاتي معنى خاصاً، إذ في وسع القدرة على التعلّم الذاتي أن تخفف الأعباء عن المدرسة النظامية، وأن تجعل الاستمرار في الدارسة والتعلّم ممكناً حتى حين يغادر الطفل المدرسة. ولهذا شأن خاص كبير في الدول العاجزة عن توفير التعليم الأساسي في شكله التقليدي، وفي معالجة مشكلات الحرمان من التعليم لدى أبناء المناطق النائية أو الفقيرة أو سواها. وسنعود إلى هذا أيضاً عند الحديث عن التعليم الأساسي في البلاد العربية.
وقد يكون من المفيد أن نشير بإيجاز شديد إلى الخطوة التي عزمت فرنسا مؤخراً على أن تخطوها في مجال التقنيات الحديثة في المدرسة. فقد أعلن وزير التربية الفرنسي، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أمام “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” عن عزم الحكومة الفرنسية على إنفاذ مشروع مدته ثلاث سنوات يهدف إلى إدخال التقنيات الحديثة في معاهد التعليم، وعن تخصيص 4.5 مليار فرنك لهذه الغاية. وأشار في هذا المجال إلى تدبير يجدر أن تنتبه إليه الدول النامية بوجه خاص، وهو أن أدوات هذه التقنيات سوف يتم استئجارها بدلاً من شرائها، مما يؤدي إلى الإفادة المستمرة مما يطرأ على هذه التقنيات من تجديد، فضلاً عن الاقتصاد في نفقات المشروع. وانطلاقاً من هذا المشروع سوف يتم وصل نظام التربية كله (أي إدارة التربية ومعاهد التعليم) بشبكة “الإنترنيت” عام ألفين. كما سيتم تدريب المعلمين، لا على استخدام التقنيات فحسب، بل على إبداع البرامج الجديدة اللازمة. ويقدم وزير التربية تفصيلات كثيرة حول هذا المشروع وحول أهميته وحول وسائل إعداد المعلمين له، جديرة بالدراسة والتأمل. كما يشير إلى تدبير عملي هام يتمنى تحقيقه÷ وهو “توليد صناعة للذكاء خاصة بالتربية، توجهها وزارة التربية”.
مرونة النظام التعليمي:
2-3- وثمة شعار أساسي ثالث من شعارات التجديد التربوي، تزداد أهميته يوماً بعد يوم، في غمار عالمنا المتغير، وفي إطار سيطرة “العولمة” المتزايدة. ونعني به شعار “المرونة” في النظام التربوي، بنيةً ومناهج وطرائق.
وواضح ان هذا الشعار هو الجواب الأساسي الممكن على “العولمة” وعلى ما يخبئه المستقبل من مفاجآت مستمرة بفعل العولمة وسواها. وإذا كان الحديث عن مستقبل العالم حديثاً قائماً على قدم وساق، وإذا كانت محاولات رسم تصورات المستقبل ومشاهده (سيناريوهاته) الشغل الشاغل للمعنيين بالدارسات المستقبلية وسواهم، فإن ما يتفق عليه معظم الباحثين هو أن المستقبل صعب التحديد، وأن كل ما يمكن القيام به وضع الاحتمالات العديدة الممكنة ووصفها ودراستها وبيان نتائجها، من أجل تخيّر أفضلها، ومن أجل السعي – ما أمكن ذلك – إلى تحقيق الخيار الأفضل أو الخيارات الفضلى قدر المستطاع. وهذا هو الذي دعا الفيلسوف الفرنسي “إدغار موران Edgar Morin” إلى كتابة مجلدات ضخمة حول منهج الاحتمال هذا و”نظرية الاحتمال” بوجه عام.
المرونة إذن شرط لابد منه لمواجهة التغيرات العالمية المفاجئة. ومرونة النظام التعليمي شرط لابد منه لمحافظة هذا النظام على معناه وقدرته على البقاء في عالم متجدد. والنظام التربوي الثابت، كما سبق أن قلنا، نظام مات إلى الأبد. والمرونة تعني أشياء كثيرة، بل تعني كل شئ في النظام التربوي:
– إنها تعني المرونة في عدة سنوات الدراسة وفي محتوى الدراسة بحيث تستجيب لحاجات “الزبائن” المختلفة والمتجددة.
– وإنها تعني انفتاح المدرسة دوماً على العمل وحاجاته، وتطوير بنيتها ومناهجها وأساليبها تبعاً لذلك.
– وإنها تعني تنويع التعليم وتشعيبه، ولاسيما في المرحلة الثانوية وفي التعليم العالي، وتيسير الانتقال بين الاختصاصات والفروع المختلفة.
– وإنها تعني القضاء على الحواجز بين التعليم النظامي وغير النظامي وتحقيق التكامل بينهما.
– وإنها تعني التكامل والتناوب بين الدراسة والعمل، بين النظام التربوي وبين مؤسسات الإنتاج المختلفة.
– وإنها تعني انفتاح المدرسة النظامية على الطلاب من مختلف الأعمار وتنويع الدراسة في شتى مراحل التعليم تبعاً لحاجات “الزبائن” المختلفة. الخ… وسنعود إلى هذا كله بعد حين.
تطوير التقنيات التربوية:
2-4- ومن أهم جدائد التربية العالمية تطوير إطار التربية، ولاسيما عن طريق اللجوء إلى التقنيات الحديثة. ونعني بإطار التربية الإطار التقليدي المؤلف من حجرة صف ثابتة الحجم، ومن عدد محدود من الطلاب، ومن معلم.
وقد سبق أن قلنا إن هذا يعني بوجه خاص اللجوء إلى “تقنيات التربية” التي تطورت تطوراً مذهلاً في السنوات الأخيرة، من اجل توسيع أفق الصف المدرسي ومداه، بحيث يصل التعليم إلى أي بقعة، ويتناول أي عدد نبتغي الوصول إليه. وأهم التقنيات التربوية التي تؤدي إلى “تحطيم جدران الصف” وتجاوزها بغير حدّ، التعليم عن بعد بأشكاله وتقنياته المختلفة، (كالجامعة المفتوحة وكالتعليم بالمراسلة مع استخدام تقنيات حديثة، وكإقامة المؤتمرات والندوات وحلقات البحث من خلال الاتصال الإعلامي) وكالتعليم بالتقنيات المتعددة Multi-media approach. وقد يسّرت هذه التقنياتُ المعلوماتية الحديثة وعلى رأسها الحاسوب بأحجامه وأشكاله المختلفة، و”الاسطوانات المضغوطة Compact discs” إن صح التعبير، والتلفزيون (ولاسيما تلفزيون الأقمار الصناعية)، و”المحاكيات الإلكترونية”، ونظم تبادل المعلومات عن طريق البريد الإلكتروني، والاتصال المباشر بالمكتبات الإلكترونية وبنوك المعلومات، وسواها كثير. وإن لا ننسَ أحدث هذه التقنيات نعني “الإنترنيت” الذي يتطور بدوره يوماً بعد يوم.وقد أعلن رئيس وزراء فرنسا حديثاً أن الدولة تخطط لإدخال الإنترنيت في كل مدرسة ثانوية. وقد وضعت وزارة التربية مشروعاً كبيراً متكاملاً لهذه الغاية، كما ذكرنا. كما أعلن الرئيس كلنتون عزمه على أن يصبح الإنترنيت ميسّراً لكل من بلغ الثانية عشرة من العمر. بل إن كان الكاتب والسياسي الفرنسي “جاك أتالي Jacques Attali” وصف “الإنترنيت” بأنه “القارة العالمية السادسة” ويتساءل المرء بعد هذا كله: أي مكان يبقى لجدران الصف الجامدة ولمعلم الصف البائس. نقول هذا ونحن ندرك حدود “الإنترنيت” ومخاطره، بل لأننا ندرك تلك المخاطر والحدود، ولاسيما فيما يتصل بالبلدان النامية. وليس المقام مقام الحديث عن شأن “الإنترنيت” وسائر التقنيات المتقدمة وعن وعودها وحدودها في آن واحد.وحسبنا أن نقول عابرين إن علينا أن ندرك هذه التقنيات ونعيها ونستوعبها، وأن نقف منها موقفاً انتقائياً بدلاً من الموقف المستسلم أو الموقف السلبي الرافض (دون ان يجدي الرفض في هذا المجال، مجال الغزو الثقافي الذي يخترق السدود والحدود). وفي مجال التربية، لابد من الإفادة (الانتقائية أيضاً) من طاقات الإنترنيت، على أن يكون لنا في توجيه البرامج والموضوعات وخزنها ونشرها شأن ونصيب، وعلى أن يكون دوماً وأبداً رديفاً للمعلم لا بديلاً عنه. ولابد أن يدخل “الإنترنيت” المدرسة العربية. وقد دخل نظامَ التربية فعلاً في بعض البلدان العربية (ولاسيما مصر). ولكن، لابد أن نقول، مع بعض الناقدين الغربيين إن من غير الجائز أن يكون هدف التربية في النهاية تخريج مهرة في استخدام الإنترنيت (Internautes كما يقولون بالفرنسية). بل إن ثمة في الغرب من يصف نظام الإنترنيت بأنه “طوبياء” جديدة.
ولابد أن نذكر التقنيات التربوية الحديثة، إلى جانب ما تؤدي إليه من تعليم عدد اكبر بنفقات أقل (إن أحسن استخدامها)، هي من أفضل الوسائل للتغلب على الرسوب المدرسي، كما دلّت على ذلك بعض التجارب التي جرت في البلدان النامية. ذلك أن التقنيات الحديثة تولّد لدى الطلاب بواعث إيجابية ورغبة ذاتية في التعلم لا توفرها الوسائل التقليدية، وهذا مطلب تشتد الحاجة إليه في بعض البلدان العربية بوجه خاص، حيث يسود عزوف عن التعليم متعدد الأسباب. وفوق هذا وذاك، إن اللجوء إلى التقنيات الحديثة يقرّب المدرسة من المجتمع والحياة الواقعية ويقضي على عزلتها، في عصر لا حياة فيه للمؤسسات المنطوية على نفسها.
المجتمع المتعلم المعلِّم:
2-5- ولعل الجامع للجدائد التربوية الحديثة، المناداة: بالمجتمع المتعلم المعلِّم. فهدف التجديد التربوي في النهاية أن يكون كل فرد في المجتمع متعلماً وساعياً إلى فضلٍ من المعرفة، وأن يكون في الوقت نفسه معلماً لسواه. وهذا يعني فيما يعني أن تكون مؤسسات المجتمع كلها، ولاسيما مؤسسات العمل والإنتاج، مؤسسات تدريبية وتعليمية في الوقت نفسه. كما يعني أيضاً وبوجه خاص مشاركة المجتمع كله في عملية التعليم، عن طريق إنشاء معاهد تعليمية أهلية، وعن طريق إسهام المواطنين في تمويل التعليم ولاسيما في بناء الأبنية المدرسية (كما يجري فعلاً في العديد من الدول العربية). إنه يعني جعل التعليم شأناً اجتماعياً شاملاً. وقد أجمعت التوصيات الدولية على أهمية المشاركة في تمويل التعليم النظامي، ولاسيما في البلدان النامية. على أن الأمر لا يقتصر على التعليم النظامي. فمشاركة المجتمع هامة جداً وأساسية في تعليم الكبار ومحو الأمية وسائر أشكال التعليم غير النظامي. ولمواقع العمل والإنتاج، كما سبق أن ذكرنا أكثر مرة دورٌ أساسي في هذه المشاركة. وأهمية دورها هذا لا يقتصر على ما تؤدي إليه من تخفيف أعباء الإنفاق التربوي الملقاة على عاتق الدولة، بل لهذا الدور شأن خاص في الربط بين حاجات العمالة من جانب ومدخلات النظام التربوي ومخرجاته من جانب آخر. ولا أدل على ذلك من نجاح نظام “التلمذة Apprenticeship” السائد في ألمانيا، والذي تحاول أن تحذو حذوه بعض الدول الصناعية (بل بعض الدول العربية).
ونقول عابرين إن مبدأ المجتمع المتعلم والمعلم كان هو السائد في الحضارة العربية الإسلامية، حيث كانت مؤسسات التعليم منبثة في خلايا المجتمع كلها، كما أن نظام التلمذة كما نعلم، كان سائداً في البلاد العربية قبل دخول التعليم الحديث. وقد ألغاه هذا التعليم الحديث إلى حد كبير، دون أن يُحل محلّه بديلاً أفضل. ولعل منطلق تلك المشاركة الواسعة في عملية التعليم في الحضارة العربية الإسلامية، اعتبار التعليم فرضاً دينياً واجباً على العالم (“من كتم علماً يجيده ألجمه الله بلجام من نار”). بل إن “الإمام الشاطبي”، الفقيه الأندلسي الشهير، يرى في كتاب “الموافقات” أن من فروض الكفاية” أن يوجد في كل مجتمع من يسدّ حاجته من المأكل والمشرب والصناعات المختلفة”. وإلى مثل هذا ذهب الفقيه النَّوَوي حين قال إن تعلم الصنائع، التي هي سبب مصالح الدنيا، كالخياطة والفلاحة، فرض كفاية.
3- تلكم أهم منطلقات التجديد التربوي، على نحو ما نجدها في حصاد التجربة التربوية العالمية. ولاشك أن ثمة منطلقات أخرى لم نتريث عندها، رغبةً منا في الاقتصار على ضروب التجديد التي تستجيب بوجه خاص لحاجات البلدان النامية، ولاسيما تلك التي تعالج مشكلتها الرئيسية:نعني مشكلة العجز عن الإنفاق الكافي على التعليم وما يستلزمه ذلك من توليد نظم تربوية تؤدي إلى تقديم تعليم أفضل بنفقات أقل. على أننا نستدرك لنقول إن دور الجدائد التربوية التي اخترناها ليس مقصوراً على خفض النفقات هذا، بل هو دورُ جوهره وقوامه تجويد العملية التربوية، واستخراج كامل إمكاناتها، وجعلها في خدمة حاجات المجتمع الواقعية والفعلية وآماله وطموحاته المستقبلية. والترابط، على أية حال، إيجابي وقوي، كما قلنا ونقول، بين تخفيض الإنفاق وبين تجويد العملية التربوية وتجديدها. بل لعل أفضل سبيل وأقصر سبيل إلى تخفيض الإنفاق والتوسع في الكم في الوقت نفسه، تجويد النوع وتجديد النظام التربوي. وتلكم، في خاتمة المطاف، هي الأطروحة الأساسية التي ننطلق منها في بحثنا عن سبل توفير التعليم الأساسي (وسواه) في البلاد العربية، كما سنرى.
وما علينا الآن إذن إلا أن نمضي للبحث عما يقدمه التجديد التربوي الذي تعرّفنا على أهم معالمه، من علاج لمسألة تعميم التعليم الأساسي في البلاد العربية، في إطار علاجه لمسائل التربية في شتى مراحل التعليم وأشكاله.
(رابعاً) واقع التعليم الأساسي في البلدان العربية:
ما هو التعليم الأساسي؟
1- في مألوف العادة، يشمل التعليم الأساسي في البلدان النامية وفي البلدان العربية بالتالي التعليم الإلزامي الذي تختلف مدته من بلد إلى بلد، والذي يضم التعليم الابتدائي في معظم الأحوال، ويضم السنوات الثلاث من التعليم المتوسط في أحوال أخرى، وقد يتجاوز ذلك في بعض الأحوال فيشمل في الجملة عشر سنوات من الدراسة.
غير أن “المؤتمر العالمي حول التربية للجميع” (وهو منعطف هام في مجال التعليم الأساسي) الذي انعقد في مدينة “جومتيين Jomtien” في تايلاند”، في آذار/ مارس من عام 1990، وسّع نطاق التعليم الأساسي ليشمل الرعاية المبكرة للطفولة، والتعليم الابتدائي، والتعلّيم غير النظامي (بما في ذلك معرفة القراءة والكتابة وغيرها من المهارات الحياتية) لليافعين والراشدين، والتعلم من خلال وسائل الإعلام والاتصال، وعن طريق العمل الجماعي.
وقد أوصى الدول النامية باتخاذ إجراءات عديدة تستهدف تقويم نظمها التعليمية القائمة، وصوغ سياسات جديدة لتطوير التعليم الأساسي، وتعزيز قدرات الأفراد والمؤسسات على تنظيم التعلم وإدارته، ورسم سياسات أفضل تستجيب لحاجات البيئة، واستكشاف سبل استخدام الأقنية التقليدية والحديثة للمعلومات والاتصال من أجل توفير التعليم الأساسي.
وفي البلاد العربية وضع لهذه الغاية، بالتعاون مع اليونسكو، “برنامج إقليمي لتعميم التعليم الابتدائي و تجديده والقضاء على أمية الكبار في الدول العربية” (عربيوبيل) حتى
عام 2000.
وتكونت لجنة استشارية لهذا البرنامج، عقدت دورتها الأولى بالقاهرة في الفترة من
7 – 10 كانون الأول/ ديسمبر 1992، وقدّمت خلال هذه الدورة عرضاً عن واقع التعليم الأساسي في البلدان العربية وما تم إنجازه، إنفاذاً لتوصيات مؤتمر “جومتيين” العالمي.
وقد تصدى لهذا الموضوع “المؤتمر الخامس لوزراء التربية والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية” الذي نظمته اليونسكو بالتعاون مع أليكسو وإيسيسكو (القاهرة 11 – 14 حزيران/يونيو 1994). وكان عنوان المؤتمر “التربية من أجل التنمية: مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين:. وقد ركّز المؤتمر على العقبات التي تعترض تعميم التعليم الأساسي في البلاد العربية، بالإضافة إلى اهتمامه بنوعيته ومدى ملاءمته لحاجات تلك البلاد.
تطور التعليم الأساسي في البلاد العربية:
2- وفي منتصف العقد الحالي، وبعد مضي ست سنوات على مؤتمر “جومتيين”، عقد في عمّان “المنتدى الاستشاري الدولي بشأن التعليم للجميع”، وذلك من 16 – 19 حزيران/ يونيو 1996.
وقد رصد هذا المنتدى مسيرة التعليم الأساسي في مناطق العالم، بما فيها الدول العربية.
ولما كان هذا المنتدى آخر الجهود الدولية التي تمّت في هذا المجال، وكانت بياناته أحدث من سواها، فإن من المفيد أن نورد فيما يلي ما انتهى إليه فيما يتصل بتطور التعليم الأساسي في الدول العربية بين عام 1990 وعلم 1995 (2):
“بحلول سنة 1995، بلغ المتوسط الإقليمي لنسب التسجيل الصافية 78.6 في المائة للبنين و69.7 للبنات، وإن كانت بعض البلدان قد سجلت هبوطاً في تلك النسبة. ويبدو أن معدلات إعادة الصفوف قد انخفضت بعض الشيء، بينما زادت النسبة المئوية للتلاميذ الذين يبلغون الصف الرابع من 91 إلى 94 في المائة، مما يعكس ما بذلته البلدان من جهود لتحسين نوعية التعليم”.
“ومن جهة أخرى تظل أمية الكبار مشكلة خطيرة في الدول العربية، وإن ظلت معدلات معرفة القراءة والكتابة تتحسن، إذ تقدر الآن بنسبة 68 في المائة للرجال و44 في المائة النساء. ويمكن توقع مزيد من التحسن الشامل مع هبوط عدد أطفال فئة الأعمار 6 – 11 سنة الذين هم خارج المدرسة من 9.1 مليون في سنة 1990 إلى 8.2 مليون في سنة 1995 منهم 6.1 مليون من البنات”.
ومن أهم الوثائق عن التعليم الأساسي في الدول العربية حاضراً ومستقبلاً خطة عمل البرنامج الإقليمي لتعميم التعليم الابتدائي وتجديده، والقضاء على أمية الكبار في الدول العربية” (عربيوبيل) بين عام 1994 وعام 2000(3) وقد تحدثت الخطة عن واقع التعليم الأساسي في الدول العربية. ولجأت – استناداً إلى إحصاءات معدلات التسجيل الابتدائي ونسب محو الأمية بين الكبار في الدول العربية – إلى تقسيم هذه الدول إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: الدول العربية التي قطعت شوطاً متقدماً في مجال تعميم التعليم الابتدائي ومحو أمية الكبار وتتراوح معدلات التسجيل (غير الصافية) في دول هذه المجموعة بين 117% و 93%. أما نسبة غير الأميين بين الكبار فتتراوح بين 80% و60%. والتعليم الابتدائي في هذه المجموعة متطور كماً، غير أنه في حاجة إلى تطور نوعي. والتعليم الإلزامي يتجاوز المرحلة الابتدائية في معظم هذه الدول. إلا أن نسب الرسوب مرتفعة، مما يستلزم مزيداً من العناية بنوعية التعليم. وتدعو الحاجة في هذه الدول إلى طرح برامج لمحو أمية الكبار – وخاصة لدى النساء – ذات طابع تجديدي، والانتقال من الربط بين محو الأمية والتربية المستديمة.
والمجموعة الثانية: تضم دولاً عربية تعاني من صعوبات في قطع المراحل المتبقية لتعميم التعليم الابتدائي ومحو أمية الكبار. وتتركز جهود هذه المجموعة على تخليص بعض الجيوب السكانية التي لا تصل إليها الخدمات الحكومية بشكلٍ كافِ، من آفة الأمية. ومعظم دول هذه المجموعة تعاني من نقص في الوسائل التعليمية وفي الكتب المدرسية ومن ضعف كفاية الأبنية المدرسية واكتظاظ الفصول الدراسية وارتفاع نسبة الرسوب والتسرب. وتتراوح معدلات التسجيل (غير الصافية) في التعليم الابتدائي في هذه المجموعة بين 70% و71%، كما تتراوح نسبة غير الأميين فيها بين 70% و29%.
والمجموعة الثالثة: تضم دولاً عربية يعاني التعليم الابتدائي فيها كثيراً من الصعوبات، كما يلاحظ فيها تعثر الجهود المبذولة لمكافحة أمية الكبار. وتتراوح معدلات التسجيل (غير الصافية) في التعليم الابتدائي في هذه الدول بين 78% و15%، كما تتراوح نسبة غير الأميين بين 49% و14%. ومن العسير تعميم التعليم الابتدائي في هذه الدول عند نهاية القرن الحالي وحتى في بدايات القرن القادم، كما أن أمية الكبار فيها مطلب يصعب تحقيقه حتى على المدى المتوسط (حول بدايات القرن الحادي والعشرين).
وقد وضعت هذه الخطة برامج عمل أربعة، ووضعت تحت كل منها مشروعات البرامج الفرعية اللازمة. وليس المجال مجال الحديث عن هذه الخطة. وهي في الجملة لا تعدو التوصيات التي نجدها في معظم الدراسات التي تتصدى للتعليم الابتدائي. غير أنها تضع هذه التوصيات في إطار خطة تبين – فيما يتصل بكل مشروع – الأهداف المباشرة والفئات المستهدفة والمدة والمدخلات والتنظيم والتمويل والتقويم والمتابعة والنتائج المتوقعة.
الإسقاطات حول التعليم الأساسي في البلدان العربية:
3- على أن من حصاد مؤتمر الوزراء الذي سبقت الإشارة إليه، وثيقة ذات شأن خاص، لما تتضمنه من بيانات مستقبلية حول تطور التربية في البلاد العربية، بالإضافة إلى الإحصاءات المتصلة بمختلف مراحل التعليم (4).
وفيما يلي نستخلص من هذه الوثيقة أهم ما يعنينا منها، ولاسيما الإسقاطات (5) المتصلة بالتعليم الأساسي عامة والتعليم الابتدائي خاصة.
– فيما يتصل بالتعليم الابتدائي تشير الاسقاطات – فيما لو استمرت معدلات الالتحاق بهذا التعليم على ما كانت عليه – إلى أن عدد الملتحقين بهذه المرحلة من التعليم سوف يزيد (بنسبة مقدارها 25%) من 31 مليون تلميذ عام 1991 إلى 39 مليوناً عام 2000 وإلى ما يقارب 53 مليوناً عام 2025. وتعني هذه التقديرات أنه من غير الممكن أن يلتحق بالتعليم الابتدائي كافة من هم في سن هذا التعليم حتى في عام 2025! وفي عام 2000 ستكون نسب الالتحاق الإجمالية (غير الصافية) في هذه المرحلة في خمس من دول المنطقة أقل من 95%.
ومن المتوقع – بالنسبة للفئة العمرية 6 – 11 سنة – أن يزداد عدد غير الملتحقين منها بالمدارس حتى عام 2025 بمقدار 9 – 13 مليون طفل، إلا أن النسبة المئوية ستظل ثابتة نسبياً حول 22%. كما أن من المتوقع أن يزداد عدد اليافعين (12 – 17 سنة) غير الملتحقين بالتعليم من 15 مليوناً عام 1991 إلى 27 مليوناً عام 2025، مع انخفاض تدريجي في نسبتهم يتراوح بين 46 – 49% من نفس الفئة العمرية من السكان.
ولمواجهة النمو المتوقع في عدد الملتحقين بالتعليم كما تظهر الإسقاطات، لابد من زيادة عدد المعلمين في المرحلة الابتدائية بنسبة 24% تقريباً حتى نهاية هذا القرن، وفي المرحلة الثانوية بنسبة 40% تقريباً للمحافظة على نسب المعلمين إلى الطلبة كما كانت عام 1991 (وهي في حد ذاتها مرتفعة).
– وفيما يتصل بالإنفاق العام على التعليم تبين الإحصاءات أن نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج القومي الإجمالي في المنطقة العربية تراوح منذ عام 1975 حتى الآن حول 5.5% (وترتفع هذه النسبة في بلد كالجزائر فتبلغ 8%، وتنخفض في بلدان مثل جيبوتي وعمان وقطر والإمارات العربية المتحدة إلى 4%).
أما الإنفاق العام على التعليم بالقياس إلى إجمالي الإنفاق الحكومي فقد تزايد تزايداً مطرداً منذ عام 1975، غير أنه يختلف اختلافاً بيناً من دولة إلى أخرى.
ملخص لواقع التطور الكمي للتعليم الأساسي في البلاد العربية:
4- ونلخص هذا الوصف السريع للتطور الكمي للتعليم في البلدان العربية، ولاسيما في مرحلة التعليم الأساسي، بالقول إن هذا التعليم قد شهد تطوراً كبيراً بل مذهلاً بين عام 1975 وعام 1991: فقد تزايدت أعداد الطلاب في المرحلة الابتدائية تزايداً ملحوظاً كما تزايدت نسبة المعدلات الإجمالية للمسجلين في هذه المرحلة بالقياس إلى فئة العمر المقابلة. ولئن كان هذا التزايد يتباين من بلد عربي إلى آخر، فإنه في معظم البلاد العربية يشير إلى بلوغ معدلات عالية. ومع ذلك تشير الإسقاطات إلى أن عدداً كبيراً من الأطفال سيبقى خارج المدرسة حتى في عام 2025 (حوالي 9 – 13 مليون طفل)، إن استمرت الاتجاهات الحالية على ما هي عليه.أما في ميدان محو الأمية فتشير التقديرات إلى أن العدد المطلق للأميين (من فئة العمر 15 فما فوق) سيرتفع من 61 مليوناً عام 1990 إلى 66 مليوناً في نهاية هذا القرن، (مع انخفاض نسبة الأميين إلى مجموع السكان من 49% إلى 38 خلال الفترة نفسها)، ثم إلى 70 مليوناً عام 2010 (مع انخفاض النسبة إلى 30%).
الصعوبات التي يواجهها تعميم التعليم الأساسي:
ويشير تأمل هذه البيانات الإحصائية الموجزة إلى نتيجة أساسية نستخلصها من هذا التحليل الكمي:
وهي أن تعميم التعليم الأساسي (حتى في حدود التعليم الابتدائي) بالإضافة إلى محو الأمية (بوصفه جزءاً من التعليم الأساسي) سيواجه صعوبات قاسية، لأسباب أساسية نوجزها فيما يأتي:
4-1- معدل التزايد السكاني السنوي الذي ما يزال مرتفعاً رغم تناقصه في السنوات الأخيرة، وهو معدل سنوي تشير الإحصاءات إلى أنه يبلغ 2.7% بين عامي 1993 و2000، ومن المتوقع حسب الإسقاطات، أن يهبط إلى 2.2% بين عام 2000 وعام 2025. هذا مع العلم أن هذا المعدل وصل اليوم في بعض البلدان العربية (التي سارت فيها الزيادة السكانية جنباً إلى جنب مع تحسن الرعاية الصحية) حوالي 4%! وتلحق بالمعدل السكاني المرتفع ظاهرة فتوة السكان، وارتفاع نسبة من هم في سن التعليم بوجه خاص بالقياس إلى الفئات العمرية الأخرى (ارتفاعاً يعادل تقريباً ضعف هذه النسبة في الدول المتقدمة).
4-2- صعوبة الجهد المطلوب لتعميم التعليم الابتدائي والأساسي حتى في البلدان التي قطعت شوطاً كبيراً في هذا المجال، وذلك لأن هذا الجهد أخذ ينصَب فيها بوجه خاص على نشر التعليم في المناطق الصعبة، سواء كانت نائية، أو بدوية، أو فقيرة محرومة، فضلاً عن المعوقين (الذين يشكلون حوالي 3% من السكان)، وفضلاً عن العقبات الاجتماعية التي يواجهها تعليم الإناث في بعض المناطق، وفضلاً عن المهاجرين والنازحين واللاجئين وسواهم.
4-3- صعوبة توفير الأعداد الكافية والمؤهلة من المعلمين، ولاسيما في المناطق الصعبة، وفي البلدان التي تشهد عزوفاً عن مهنة التعليم.
4-4- صعوبة توفير النفقات اللازمة للتعليم الأساسي وللتعليم بوجه عام في معظم البلدان العربية (ومن بينها بعض البلدان المنتجة للنفط). ذلك أن الإنفاق على التعليم الأساسي لابد أن تحدّ منه حاجات الإنفاق على مراحل التعليم وأنواع التعليم الأخرى (فضلاً عن الإنفاق على محو الأمية وتعليم الكبار وسائر أشكال التعليم غير النظامي)، كما أن الإنفاق على التعليم جملةً لابد أن تحدّ منه حاجات الإنفاق على قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي الأخرى (ولابد أن يتكامل معها في الوقت نفسه).
4-5- صعوبة توفير الأبنية المدرسية اللازمة، بالسرعة الكافية، لاسيما إذا ذكرنا أن معظم الأبنية المدرسية الحالية غير صالحة وينبغي أن تستبدل بأبنية مدرسية “وظيفية”، وأن التجهيزات الدنيا للمدارس الحالية غير متوافرة في كثير من الأحيان، وأن كثيراً من الأطفال في مدارس الأرياف يجلسون على الأرض!
4-6- يضاف إلى هذا كله أن التعليم الإلزامي، على الرغم من القوانين المتوافرة في معظم الدول العربية والتي تلزم الآباء بإرسال أولادهم إلى المدرسة، قد أخذ – منذ بداية فرضه تقريباً – معنى آخر، وهو أن توفر الدولة – ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً – أمكنة في المدرسة لطالبيها فقط، وأن تدع الباقين وشأنهم. بل إن هذا المطلب – نعني توفير أمكنة في المدرسة الإلزامية للراغبين فقط – قصرّت عنه معظم الدول العربية على الرغم من إلحاح المواطنين، وكأن إلزامية التعليم انقلبت من إلزام الدولة للآباء بإرسال أبنائهم إلى المدارس إلى إلزام الآباء للدولة ومطالبتهم بتوفير أماكن لهؤلاء الأبناء، ولاسيما في الأماكن البعيدة والصعبة ولدى الفئات الفقيرة، حيث يسود استخدام الأطفال (بين الخامسة والرابعة عشرة من العمر) كطاقة عاملة ورأسمال مثمر ورخيص، دون أن يحصلوا على أي تعليم.
وظاهرة استخدام الأطفال ظاهرة يجدر أن نتريث عندها قليلاً، لارتباطها الوثيق بالتعليم الأساسي. فمن المعروف أن أعداداً كبيرة من الأطفال في العالم (بين الخامسة والرابعة عشرة من العمر) يعملون (تبلغ نسيتهم في بعض البلدان النامية 70% من فئة العمر المقابلة). ومعظمهم يعمل في ظروف سيئة جداً. ولمعالجة هذه المشكلة العالمية انعقد في مدينة “أوسلو” بالنروج مؤتمر دولي من أجل “وضع استراتيجية لمحاربة عمل الأطفال” بين 27 – 29 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بالتعاون مع حكومة النروج وبين منظمة اليونيسيف ومكتب العمل الدولي.
وفي البلاد العربية عدد كبير من هؤلاء الأطفال الذين يعملون (على الرغم من وجود قوانين تمنع ذلك). وتختلف هذه النسبة دون شك من بلد عربي إلى آخر. غير أن معظم الإحصاءات تشير إلى أن في جملة البلاد العربية يمارس العمل حوالي 35% من الأطفال (ممن تقع أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة، أي ممن في سن التعليم الأساسي تقريباً) ولهذه الظاهرة أسبابها الكثيرة، نكتفي – في حدود بحثنا – إلى أن نشير – بالإضافة إلى انخفاض أجور الأطفال طبعاً – إلى سبب واحد هام منها وهو ارتفاع نسب المتسربين من التعليم الابتدائي والأساسي. وتتراوح نسبة التسرب هذه في البلدان العربية بين 12% و40%. وتلحق بمشكلة عمل الأطفال هذه مشكلة “أطفال الشوارع” وهم الأطفال الذين لا مأوى لهم إطلاقاً أو لا مأوى مستقراً أو عائلياً لهم. ولئن كانت نسبة هؤلاء الأطفال مرتفعة جداً في بعض بلدان شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، فإن البلاد العربية بدورها تضم الكثيرين منهم (ولاسيما في اليمن ومصر والمغرب).
التطور النوعي للتعليم الأساسي في البلاد العربية:
5- على أن الأمر يتجاوز الجانب الكمي وحده الذي توقفنا عنده حتى الآن. والجانب النوعي هو في نهاية الأمر محط الرحال ومقياس التطور الحق للنظام التعليمي. وقد يذهب الجهد والمال هدراً مهما نكثر من المدخلات الكمية للتعليم (الطلاب – المعلمون – الأبنية والتجهيزات) إذا كان مصنع التعليم ضعيف الإنتاج سيئ الأدوات، مضطرب الأهداف مما يؤدي إلى مخرجات تعليمية لا نقول فقط إنها لا تؤدي إلى تنمية المجتمع تنمية شاملة بل نقول – فوق هذا وقبل هذا – إنها قد تؤدي إلى تعطيل التنمية والسير في الطريق المعاكس لأهدافها. لاسيما حين تخرج عاطلين عن العمل أو عاجزين عن متابعة الدراسة والتعلم والتدريب، أو عائدين إلى الأمية بعد حين، أو – بقول موجز – راسبين في الحياة العملية.
والعكس صحيح، بمعنى أنه إذا صلح المستوى النوعي للتعليم، فإن ذلك يؤدي – إذا ما تمّ تجديد هذا المستوى وتجويده وفق أسس علمية ومبتكرة وفعالة – إلى مغالبة مشكلات العجز الكمي وتجاوز الصعوبات الناجمة عن قصور الإمكانات المالية والمادية.
والحديث عن جوانب القصور النوعي في نظم التربية في البلاد العربية (وهو قصور يصدق بنسبة متباينة على معظم البلدان النامية وحتى على البلدان المتقدمة)، وعن وسائل تجاوز هذا القصور هو صلب بحثنا، وسوف نتصدى له في الجزء التالي الخاص بالحلول المقترحة لتطوير التعليم الأساسي في البلدان العربية.
وقد كان لزاماً علينا أن نقدم وصفاً موجزاً للقصور النوعي، كما قدمنا وصفاً موجزاً للقصور الكمي. ولكن مثل هذه المهمة تخرج بنا عن القصد ويستنفد الحديث عنها كتباً ومجلدات.
لذلك آثرنا أن يكون الحديث عن الواقع النوعي للتعليم في الدول العربية وعن قصوره متضمناً بشكل غير مباشر في الجزء التالي الذي نفرده للحلول اللازمة لتعميم التعليم الأساسي، على نحو ما نراها، وعلى نحو ما تستخلص من حصاد الاتجاهات التربوية الحديثة التي تحدثنا عنها فيما سبق ،وعلى نحو ما توحي به التوصيات الكثيرة الصادرة عن المؤتمرات والاجتماعات واللجان الدولية والعربية في هذا المجال.
(خامساً) الحلول المقترحة لتعميم التعليم الأساسي في البلاد العربية:
1- المسألة إذن هي الآتية: يكشف واقع التعليم الأساسي – بالمعنى الواسع للكلمة – في البلاد العربية (شأنه شأن واقع التعليم في سائر مراحل التعليم وأنواعه وأشكاله) عن وجود صعوبات قاهرة تواجه تعميم هذا التعليم وتجويد بناه ومحتواه وطرائقه، وتحول بينه وبين يقدّم ما يرجى منه من أجل تطوير المجتمع العربي تطويراً يؤدي إلى اللحاق السريع بركب التطور العلمي والتقاني المتسارع في العالم.
والمطلوب بالتالي هو الآتي:
البحث عن السبل التي تؤدي إلى تجاوز هذا العجز الكمي والنوعي في التعليم الأساسي (وفي سواه من أنواع التعليم بالتالي)، في بلادٍ عربية كادت تستنفد الكثير من طاقات الإنفاق على التعليم.
2- وقد سبق لنا – عبر هذا البحث كله – أن أو مأنا إلى السبل التي ينبغي ارتيادها، من خلال عرضنا الخاطف لحصاد التجربة العالمية في مجال تجويد التعليم وتجديده. ولعلها تتلخص في عبارة واحدة: جعل التجديد التربوي منطلقاً لرفع القدرة على التوسع في التعليم وتجويد نوعه وخفض كلفته.
ونود الآن أن نخطو خطوات أخرى، فنقدم تصوراً علمياً ومحدداً لما ينبغي أن يقدمه التجديد التربوي في مجال تطوير التعليم الأساسي في البلدان العربية. ونعود فنقول من جديد (انطلاقاً من مقررات مؤتمر “جومتيين” وما تلاه، وانطلاقاً من واقع البلدان العربية) أن التعليم الأساسي الذي نبحث عن سبل تعميمه وتجديده في البلاد العربية يشمل المرحلة الابتدائية (ومدتها ست سنوات في معظم البلدان العربية) والمرحلة المتوسطة (ومدتها ثلاث سنوات) والرعاية المبكرة للطفولة (في رياض الأطفال) والتعليم غير النظامي (الذي يشمل محو الأمية) لليافعين والراشدين، فضلاً عن التعليم العفوي عن طريق وسائل الثقافة والاتصال الجماهيرية والأنشطة الاجتماعية. وفي رأينا أن التعليم الأساسي لا يكتسب كامل معناه ومداه وتأثيره إلا إذا تكاملت عناصره هذه كلها (عناية بالطفولة – تعليم ابتدائي ومتوسط – تعليم وتدريب اليافعين والكبار)، وأن قصر التعليم الأساسي على التعليم الابتدائي – ولو إلى حين – يفقد التعليم الأساسي أهدافه وشأنه.
فهدف التعليم الأساسي – كما يتم التأكيد عليه أيامنا هذه – هو تلبية الحاجات الأساسية لكل فرد (طفلاً كان أو يافعاً أو راشداً) وتشمل هذه الحاجات كما جاء في “الإعلان العالمي حول التربية للجميع” الذي أطلقه مؤتمر “جومتيين” كلاً من أدوات التعلم الأساسية (كالقراءة والكتابة والتعبير الشفوي والحساب وحل المشكلات) والمضامين الأساسية للتعلم (كالمعرفة والمهارات والقيم والاتجاهات)التي يحتاج إليها البشر من أجل البقاء ومن أجل تنمية كافة قدراتهم، ومن أجل العيش والعمل بكرامة، والمساهمة مساهمة فعالة في عملية التنمية، ومن أجل تحسين نوعية حياتهم، ومن أجل امتلاكهم القدرة على اتخاذ قرارات مستنيرة ومواصلة التعلّم.
ونعود فنقول كرة أخرى إننا سنحاول التركيز – في حديثنا عن الحلول المقترحة – على تلك التي يمكن أن تؤدي – إن أُحسن استخدامها – إلى تجويد التعليم الأساسي (والتعليم جملة)، وفي الوقت نفسه على الاستخدام الأمثل للموارد وخفض كلفة التربية بالتالي.
ونجمل هذه الحلول في الحلول الستة الآتية:
التعلّم الذاتي وتعلم التعلم:
2-1- التعلّم الذاتي أو تعلم التعلم. وقد وضعناه في رأس قائمة الحلول لأنه مفتاحها جميعها في نظرنا. وقد سبق أن أشرنا إلى أهم معالمه عبر حديثنا عن الدروس المستقاة من حصاد التجربة العالمية.
وهذا التعلم الذاتي يعني أشياء كثيرة، على رأسها التركيز على أدوات التعلم وأساسياته. وهذا المطلب قد يعني تقليص سنوات الدراسة مع تقديم نتائج تربوية وتعليمية أفضل، فضلاً عن أن من شأنه أن يحسن نوعية حياة الآلاف من الأطفال الذين ينقطعون عن الدراسة قبل الأوان في الدول العربية كل عام، وذلك حين تتم المواءمة بين منهاج التعليم الأساسي وبين مقتضيات الحياة والعمل في المجتمع، ولاسيما في المناطق الريفية.
وتشمل أدوات التعليم الأساسية وأساسياته: تعلم القراءة والكتابة والتعبير الشفوي والحساب وحل المشكلات – والمعارف العلمية والاجتماعية الضرورية – وتكوين الدوافع والمضامين الأساسية للتعلم كالمهارات اليدوية والتقنية – والقيم والاتجاهات الملائمة للعمل والإنتاج (التي تؤكد عليها التربية اليابانية بوجه خاص). ومن الهام أن نذكر أن أساسيات التعليم وأدواته هذه لا تهدف فقط إلى تزويد المتعلم بالقدرة الذاتية على التعلّم، بل تهدف أيضاً وبوجه خاص إلى تزويده بالقدرة على البحث الذاتي عن المعرفة ومظانّها.
ولاشك أن تحديد هذه المعارف الأساسية ووضع تفصيلات مناهجها أمرٌ يختلف من بلد إلى بلد. وتتطلب هذه المهمة جهوداً كبيرة ودراسات اجتماعية واسعة ودراية خاصة بأصول وضع المناهج التربوية وتطويرها، وبوجه خاص تحديداً إجرائياً عملياً لهذه المعارف. كما تتطلب مراقبة مستمرة وتقويماً مستمراً للمناهج أثناء تطبيقها وبعد تطبيقها.
وفي وسعنا مع ذلك وعلى نحو تقريبي أن نجمل هذه المعارف والأدوات الأساسية في زمر سبع، جرياً على ما تأخذ به بعض الدراسات الحديثة في البلدان المتقدمة (6)، وهي الآتية:
– تعلم القراءة والكتابة والحديث؛
– معرفة الحساب وامتلاك معلومات أولية عن الأشكال والحجوم؛
– إدراك المكان والزمان وفهمهما، عن طريق التاريخ والجغرافيا وعلوم الطبيعة وعلوم الحياة؛
– التمرس العقلاني والمنظم بملاحظة الأشياء ومشاهدتها وبالأعمال اليدوية التي تتصل بها، “واستخراج” العقل الذي في اليد الذي يفوق العقل الذي في الرأس على حد تعبير غاندي؛
– تربية الجسد والإحساس والعاطفة، عن طريق جملة من المعارف والنشاطات والأعمال وأنماط السلوك الاجتماعي والسلوك العفوي؛
– اكتساب المعايير والقيم التي تمليها المواطنة والاهتمام بوجه عام بتربية المواقف والاتجاهات الملائمة للعمل في المجتمع، والتي يستلزمها بشكل خاص عصر العلم والتقانة؛
– تعلم لغة أجنبية (وأهمية تعلمها ليست في حاجة إلى بيان في عصر العولمة والمعلومات والاتصال والإنترنيت).
ولا يتسع المجال للدخول في التفاصيل المتصلة بتحديد هذه المعارف والقدرات الأساسية وبيان مضمونها. وحسبنا أن نذكر – على سبيل المثال – ماذا يعني تعلم القراءة في نهاية المرحلة الأساسية:
إنه يعني، مثلاً، معرفة قراءة نص بصوت عال، مؤلف من 1500 كلمة خلال ست دقائق – الإجابة على خمس أسئلة تتعلق بالمعنى العام للنص الذي تمت قراءته – معرفة اختصار نص من 1500 كلمة بصوت عالٍ بعد قراءته قراءة صامتة… – معرفة استخراج النتائج من التعليمات المصطحبة لدواء معين، أو معرفة قراءة التعليمات الخاصة بإحدى الأدوات المنزلية وتطبيقها – الخ… وينسحب هذا على الكتابة والحساب وسائر المعارف الأساسية.
وهكذا يهدف التعلم الذاتي في خاتمة المطاف إلى تزويد المتعلم بالمعارف والقدرات والمواقف والاتجاهات التي تمكنه من أن يعلم نفسه طوال الحياة، ومن أن يجدّد تكوينه دوماً وأبداً. ولا حاجة إلى القول إن مثل هذا الهدف، بالإضافة إلى شأنه الأساسي في ربط التعليم بالحياة، يؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد، عن طريق تركيز الجهد على ما هو أساسي من المعارف والمهارات وتقليص حجم المدرسة ونفقاتها بالتالي(7)، وعن طريق ربطه نتاج التعليم بالحياة، بحيث يكون عبر مراحل عمر الطالب الوقود الذي يزوده بالقدرة على التجدد والابتكار والإنتاج.
وقد اعتمد المؤتمر العام لليونسكو في دورته السابعة والعشرين منهجاً منقحاً للأربعة ألف ساعة الأولى من التعليم لم نظهر نتائجه بعد.
التقنيات التربوية الحديثة:
2-2- على أن التعليم الذاتي لا يكتمل معناه إلا إذا قام معه جنباً إلى جنب الاهتمام بالتقنيات التربوية الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام المتطورة. فلهذه التقنيات دورها الهام في التعليم النظامي، كما أن لها دوراً واسعاً في التعليم غير النظامي والتعليم العفوي.
أما في التعليم الأساسي النظامي فإن إدخال تقنيات المعلومات والاتصال الحديثة، ولاسيما الحاسوب والتعليم المتعدد التقنيات والتعليم المصغر والتعليم المبرمج والفيديو والاسطوانات وأدوات التسجيل الحديثة وسواها، فمن شأنه أن يقود إلى تزويد المتعلم بأدوات قوية قادرة تساعده على أن يكون معلّم نفسه، كما أن من شأنه أن يكون في كثير من الأحيان من الوسائل المفيدة في القضاء على الرسوب المدرسي، وعلى الهدر والضياع في كلفة التعليم بالتالي، فضلاً عن النتائج الإيجابية التي يولدها اللجوء إلى هذه التقنيات فيما يتصل بإقبال الطلاب على التعلم ومحبتهم له وتفتيح طاقاتهم ومواهبهم من خلال ذلك.
أما دور التقنيات التربوية في التعليم غير النظامي (بما في ذلك محو الأمية) فدور عريق ومتجدد. وقد تم اللجوء إليها في كثير من الدول قديماً وحديثاً من اجل مكافحة الأمية وتعليم الكبار. وعنيت بها حديثاً الدول التسع الكثيفة السكان(8) (بنغلادش والبرازيل والصين ومصر والهند وأندونيسيا والمكسيك ونيجيريا وباكستان) وأحرزت تقدماً ملحوظاً في هذا المجال. ففي البرازيل مثلاً يقدم برنامج التلفزيون (Telecursa 2000) البرامج التعليمية الخاصة بالتعليم الابتدائي العام، بالإضافة إلى التدريب على المهارات المتصلة بالمهنة والعمل، إلى الدارسين الذين لا يستطيعون الحضور إلى المدرسة بسبب التحاقهم بالعمل. وتقدّم أندونيسيا المرحلة الأولى من التعليم الثانوي مجاناً لليافعين غير القادرين مالياً الذين يدرسون بطريقة النماذج المرنة للتعليم الذاتي في فترة ما بعد الظهر، كجزء من برنامج (SMP Terbuka). ولا تمثل تكاليف هذا التعليم إلا جزءاً صغيراً من تكاليف إيجاد أماكن في المدارس. وتقوم مصر بتحقيق إنجازات هامة في مجال استخدام التقنيات التربوية الحديثة من أجل تطوير الالتحاق بالتعليم وتحسين نوعيته في آن واحد. وتولي هذه البلدان التسعة جميعها اهتماماً كبيراً برفع مستوى كفاءة العاملين عن طريق التعليم عن بعد. ولمصر تجربة ناجحة في هذا المجال. وفي آسيا تتعاون خمسة بلدان منها معاً، من أجل تحسين الأداء في هذا المجال، مجال تدريب المعلمين، بدعم من بنك التنمية الآسيوي واليونسكو. ويؤكد المشروع الذي تضطلع به هذه الدول على بناء القدرات وتعلم كل فرد من خبرات الآخرين.
أما التقنيات الأحدث التي قوامها ما يعرف باسم وسائل الإعلام أو المعلومات الجديدة، فتحاول كثير من الدول الإفادة منها، على نحو ما يجري في المكسيك والهند وجنوب أفريقيا والمغرب وسواها.
وقد قامت الهند بتجربة ناجحة في مجال استخدام التلفزيون التربوي الحديث الذي يبث بوساطة الأقمار الصناعية (وتعرف التجربة باسم S I T E) وذلك بدءاً من عام 1975. والتجارب كثيرة في هذا الميدان. وتعتمد هذه التقنيات على الاختزال الرقمي وتقنيات وتخزين الكميات الضخمة من المعلومات (مثل أقراص القراءة بالليزر وأقراص الليزر الحوارية) والبث عن طريق توابع الاتصال، واستخدام شبكات الألياف البصرية والاتصال عن طريق الحاسوب، وسوى ذلك.
والحديث عما يمكن أن تقدمه التقنيات التربوية والإعلامية والمعلوماتية الحديثة للتعليم بوجه عام والتعليم الأساسي بوجه خاص يستغرق سفراً بكامله(9) وحسبنا هذه الإشارات العابرة، كي ندرك ما تقدمه هذه التقنيات للتعليم الذاتي، وما تؤدي إليه من توسيع حجم التعليم ومداه وحجم المدرسة والصف توسيعاً لا حدّ له، ومن تقديم “تعليم بلا حدود” وما تحققه – في معظم الأحيان إن أحسن استخدامها – من خفض للنفقات، ومن تقديم تعليم أفضل بإمكانات أقل، وهو ضالّتنا في هذا البحث.
تنويع التعليم وتجديد إطاره:
2-3- ويكمل التعلم الذاتي واللجوء إلى التقنيات التربوية الحديثة، اللجوء إلى تنويع التعليم وتجديد إطاره (أي تحقيق مرونة التعليم بوجه عام). ويعني ذلك أموراً كثيرة. منها توفير فرص التعليم لجميع فئات العمر، وفتح باب التعليم النظامي لمختلف الأعمار على صور وأشكال مختلفة، وإفساح المجال لتعليم العاملين في مواقع الإنتاج عن طريق الدراسة بعض الوقت، وعن طريق مراكز تعليم وتدريب داخل مواقع الإنتاج نفسها. وقد سبق أن أشرنا إلى مشكلة الأطفال الذين يعملون (بين الخامسة والرابعة عشرة من العمر). وقد لجأت بعض الدول إلى تقديم تعليم لهم بعض الوقت بصور وأشكال مختلفة (في انتظار القضاء على هذه الظاهرة، ظاهرة عمل الأطفال). وفي المغرب، حيث نجد عدداً كبيراً من الأطفال واليافعين العاملين لأسباب كثيرة، على رأسها تدني الأجر الذي يتقاضونه (لاسيما في صناعات النسيج اليدوي والسجاد، على نحو ما نجد أيضاً في مصر واليمن وبعض البلدان العربية الأخرى) لجأت الحكومة المغربية منذ نيف وسنتين، بالتعاون بين وزارة التربية ومنظمة اليونيسيف، إلى القيام بمشروع بمدينة فاس، يهدف إلى أن تقدم للأطفال العاملين تعليماً بعض الوقت (مدته ثلاث ساعات في اليوم) في أماكن عملهم نفسها.
على أن أهم أشكال تنويع التعليم ميدانٌ كثيراً ما ينسى، هو تنويع التعليم منذ المرحلة المتوسطة، تمهيداً لتفريعه وتشعيبه في المرحلة الثانوية. والحديث عن هذا المجال يطول.وجملة القول فيه إن المرحلة المتوسطة (وهي جزء من التعليم الأساسي) ينبغي أن تكون مرحلة تعليم ومرحلة كشف عن القابليات وتوجيهها في الوقت نفسه. (هذا بالإضافة إلى أن هذا الكشف ينبغي أن يتم – بشكل غير مباشر – في المرحلة الابتدائية نفسها بل منذ رياض الأطفال).
وموضوع “التوجيه المدرسي” بمعنى توجيه الطلاب نحو الدراسات التي تؤهلهم لها قابلياتهم، موضوع يكاد يكون مهملاً في معظم الدول، ومن بينها الدول العربية. فالنظام المدرسي في معظم البلدان يصطفي ولا يوجه. وليست هنالك حتى الآن – في البلاد العربية – وسائل للكشف عن قابليات الطلاب (التي تبدأ بالتشكل والظهور بشكل واضح بعد الحادية عشرة من العمر، أي بدءاً من مرحلة التعليم المتوسط). وإهمال هذا الموضوع من أهم أسباب انخفاض المستوى النوعي للتعليم، وزهد الطلاب به، ورسوبهم وتسربهم، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض المردود الكمي للتعليم. هذا بالإضافة إلى ما يؤدي إليه هذا الإهمال من طمس للقابليات والقدرات المبدعة التي هي جوهر التعليم ووقود التقدم في أي بلد. ذلك أن هدف التربية العميق هو في نهاية الأمر أن “تيسّر كل إنسان لما خلق له”، أي أن توجهه نحو الدراسات والأعمال التي تهيئه لها فطرته، بحيث يعطي أقصى ما عنده، ويستخرج كل إمكاناته، ويرقى بغير حد، ويجدد ذاته ومجتمعه.
بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول إن المدرسة – حتى اليوم وحتى في كثير من البلدان المتقدمة – كادت تغدو غاية في ذاتها. وعلى الطالب أن يتكيف – شاء أم أبى – مع ما تفرضه من مناهج وطرائق، وإلا كان جزاؤه الرسوب فالتسرب. في حين أن الاتجاهات الحديثة كلها أكدت وتؤكد دوماً أن على المدرسة أن تتكيف مع الطالب وقابلياته وقدراته، لا العكس. وبتعبير آخر إن علينا أن نعكس الأمور، فبدلاً من الحديث عن “نجاح الطالب في المدرسة”، علينا أن نتحدث عن نجاح المدرسة” في تعاملها مع الطالب. ولابد أن يحل محل الاصطفاء العشوائي الذي تقوم به المدرسة، حين ترفع وتخفض، وتعاقب وتكافئ،” التوجيه التربوي” الذي يؤدي إلى تقديم تعليم مفصّل على قدّ قابليات الطلاب وقدراتهم وحاجاتهم، وإلى تزويد المجتمع بالتالي بمروحة متنوعة واسعة وألوان متعددة من أنماط الخريجين الذين يلبون حاجات المجتمع وحاجات العمل المتعددة والمتجددة، ويلبون في الوقت نفسه حاجات نموهم النفسي وانطلاقهم المبدع.
ولا يتسع المجال للحديث عن نتيجة هامة أخرى من نتائج “التوجيه المدرسي” نكتفي بذكرها عابرين. ونعني بها العلاقة بين التوجيه في المدرسة وبين التوجيه المهني خارجها، في مؤسسات العمل والمهن، وهي علاقة حين تتوافر تؤدي إلى ربط عضوي وثيق بين مخرجات التربية وبين النمو الاقتصادي.
كذلك لا يتسع المجال للحديث عما يعنيه تنويع التعليم من إعادة النظر في إيقاع الحياة المدرسية، أي في عدد أيام الدراسة وفي مواعيدها خلال السنة، بحيث تتلاءم مع واقع الحياة في مختلف المناطق، من حضرية إلى ريفية، ومن زراعية إلى صناعية، وبحيث تفسح المجال “للتعليم بعض الوقت” أو للتناوب بين المدرسة والعمل وسوى ذلك.
غير أن علينا ألا ننسى، في غمار هذا التوزيع، أن نشير إشارة عابرة إلى “المدرسة ذات المعلم الوحيد” التي نجدها في كثير من البلدان العربية. ولاشك أن انتشارها يستجيب لحاجات نشر التعليم في المناطق النائية. وفي وسعنا أن نعتبر مثل هذه المدارس ضرباً من ضروب التجديد في النظام التربوي، ولكن شريطة أن تتوافر مستلزمات هذا التجديد، من إعداد جيد للمعلم ومن وسائل تعليمية ملائمة الخ… وكلنا نعلم أن الطريقة التي تعرف باسم “طريقة دالتون “Dalton” والقائمة على أسلوب “التعيينات المدرسية” ابتكرتها معلمة أمريكية، هي “هيلين باركهرست Helen Parkhrust”، التي كانت معلمة وحيدة في مدرسة قرية نائية. فما كان منها إلا أن عوضت هذا النقص عن طريق استخدام فكرها المبدع. مما أدى إلى هذه الطريقة التربوية الهامة التي تستخدم اليوم في شتى المدارس بسبب طابعها التجديدي وما تولده لدى الأطفال من اهتمام ومن قدرة ذاتية على البحث والتعلم بقواهم الخاصة، مكتفين بإرشاد المعلم لهم.
والحديث عن هذا كله وسواه حديث ذو شجون أيضاً، ولا يتسع له المجال، وحسبنا منه أن ندرك كيف أن اللجوء إلى جدائد التربية – ومن بينها تنويع التعليم (الذي يشمل فيما يشمل “التوجيه التربوي” في المدرسة، وتنويع بنية المدرسة وتنوع زبائنها وتعدد نشاطاتها)، محمَّل بإمكانات هائلة تؤدي إلى رفع المستوى النوعي للتعليم وخفض كلفته في آن واحد.
وبدهي أن تنويع التعليم – في مرحلة التعليم الأساسي – ولاسيما في السنوات الثلاث التي تلي التعليم الابتدائي – لا يأخذ كامل معناه ومداه إلا إذا امتد بعد ذلك، ليشمل التعليم الثانوي والتعليم العالي وسائر أنماط التعليم النظامي وغير النظامي. ولا يقتصر الأمر على تفريع التعليم وتشعبيه (ولاسيما في مرحلة التعليم الثانوي)، بل يشمل هذا التنويع (الذي يرتد إلى مرونة النظام التعليمي في خاتمة المطاف، كما سبق أن قلنا) تيسير الانتقال بين فروع التعليم، وربط التعليم المهني والتقني بنظام “التلمذة Apprenticeship”، وسائر ضروب التنويع التي تعني تنويع بنية التعليم تنويعاً لا ينطلق من العناية بتجديد محتواه فحسب، بل ينطلق قبل هذا وفوق هذا من مستلزمات إعداد الطالب للحياة العملية. وقد يعني التنويع بهذا المعنى، فيما يعني، إيلاء الاهتمام لكل ما يؤدي إلى الربط بين التعليم وسوق العمل (كالتعيم المتناوب بين المدرسة ومؤسسات العمل)، ولتقوية ضروب التعليم غير النظامي بوجه خاص، بأشكال وصور مختلفة.
ومن شأن هذا التنويع، بأشكاله المختلفة كما نرى، أن يرفع مستوى العملية التربوية وأن يؤدي بدوره إلى الاستخدام الأمثل للمواد المتاحة. وبدلاً من الإصرار على شكل تعليمي واحد وثابت يجمّد طاقات التعليم ويقطع الصلة بينها وبين حاجات الطلاب وحاجات المجتمع المتجددة، يدعو شعار التنويع إلى استخدام “المبادرة” لمواجهة تلك الحاجات.
ولا نغلو إذا قلنا إن “الجمود” رأس كل داء في التعليم وسواه، وإن المبادرة والتجديد رأس كل دواء. ولكن هذا كله في حاجة إلى إدارة تعليمية مجدِّدة، كما سنرى فيما بعد.
تقويم التعليم وقياس مستوى التحصيل:
2-4- وهذا كله يتطلب تجديداً أساسياً، ما يزال غائباً إلى حد بعيد على الرغم من أهميته الكبرى، نعني تقويم التعليم وقياس مستوى التحصيل التعليمي للدارسين، ولاسيما في عالم اليوم، عالم التقدم العلمي والتقاني. فتجديد التربية تجديداً يستجيب لحاجات نمو المتعلم والمجتمع ومستلزمات التنمية الشاملة يستلزم تقويم حصيلة التجديد. وبوجه عام، لابد من قياس مدى نجاح العمل التربوي لمعرفة مقدار ما اكتسب المتعلم والنظر في الطريقة التي يمكن بها تحقيق التعلم على أكمل وجه، ومعرفة مدى استجابة التعلم لاحتياجات الفرد والمجتمع على السواء. ومثل هذا التقويم هو بدوره منطلق لتجويد جديد أو لتجديد محدث. وكأننا ههنا أمام حلقة متداخلة: فالتجديد يستلزم التقويم، والتقويم بدوره منطلق للتجديد وللتجويد.
وغنيِّ عن القول إن التعليم، كأي مشروع ذي أهداف معينة، لابد من قياس ما قام به وتقدير مدى نجاحه في تحقيق تلك الأهداف، سعياً إلى تصحيح مسيرته وإلى تطوير الأهداف نفسها أحياناً. وهذه العملية لابد أن تكون مستمرة. وقد أجمعت “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية O.E.C.D” على أن تقدير وتقويم الطلاب والمؤسسات والنظم في مجموعها ينبغي أن يكون متمماً لصنع سياسات التربية وتطبيقها. ويتطلب وضع المعايير، لهذه الغاية – كما أشار إلى ذلك اجتماع عام 1990 لوزراء التربية في الدول الأعضاء بهذه المنظمة – بحثاً مستمراً في تحديد مستوى الكفاءات، ليس فقط في مجالات المهارات الأساسية، مثل مهارات القراءة والكتابة والحساب، بل أيضاً في فروع أخرى مثل الدراسات الاجتماعية والدراسات الخاصة بالمواطنة.
ومن اللافت للنظر أن تقويم النظم التربوية، وتقويم مكتسبات التعلم بوجه خاص، على الرغم من الإجماع على أهميته وشأنه، لا يلقى كبير عناية من الوجهة العملية لدى كثير من الدول المتقدمة، فضلاً عن الدول النامية. ولاشك أن أحد أسباب هذا الإهمال صعوبة هذا العمل التقويمي. ومع ذلك، فالأدب التربوي حافل بالدراسات التربوية المعمقة حول أساليب التقويم،بأشكاله المختلفة: تقويم الأهداف الكبرى للتعليم – تقويم الأهداف الخاصة – تقويم البرامج والطرائق – تقويم مكتسبات الطلاب – تقويم الخطط التربوية – تقويم السياسات التربوية، الخ… وقد خَطَت بعض الاتجاهات التربوية الحديثة خطوات واسعة في هذا السبيل، على نحو ما نجد، على سبيل المثال لا الحصر، في الاتجاه التربوي الذي أبدعه “بلوم” ورفاقه، والذي يعرف باسم “التربية بالأهداف”. وقوام هذا الاتجاه “القيام بتخطيط منهجي للإجراءات التنفيذية للأهداف التربوية تبعاً لما يوحي به تحليل متطلباتها”. ويتبع ذلك وضع أدلة تساعد المبرمجين والمدرسين على إدراك وتنفيذ الأنشطة التي تحقق مطالب الأهداف. ويضرب “بلوم” وصحبه الأمثلة على ذلك، ومن بينها مثال يتصل “بتنمية التعليم الذاتي” – الذي طالما تحدثنا عنه – متسائلين: ماذا يعني هذا الهدف؟ ويجيبون: إنه يعني، فيما يعني، تغييراً جوهرياً في أدوار المعلم الوظيفية، يتحول معها إلى: مرشد إلى مصادر المعرفة والتعلم – ومنسق لعمليات التعلم – ومصحح لأخطاء التعلم – ومقوّم لنتائج التعلم – وموجه إلى ما يناسب قدرات كل متعلم وميوله. ثم يستخلصون من هذه المعاني ما يندرج تحتها من أهداف سلوكية كما يقال ومن إجراءات مفصلة لتنفيذها.
وفي البلدان العربية نجد محاولات تقويم كثيرة للنظام التربوي، في جملته أو في بعض جوانبه، يتبع قليلها الأساليب العلمية في التقويم، ويكتفي بعضها بتقويم إجمالي غير دقيق. غير أننا نكاد لا نجد محاولات جادة لتقويم التحصيل التعليمي للطلاب، ولاسيما في نهاية مرحلة التعليم الأساسي، ولقياس مدى ملاءمته للأهداف المرسومة من جانب، ولأهداف تنمية الفرد والمجتمع من جانب آخر. ولا نجد بوجه خاص دراسات تتبعية تقوّم ما حققه الخريجون في حياتهم العملية. كما لا نجد دراسات تقويمية تقارن بين حصاد التعليم في البلاد العربية وبين نتائجه في سائر بلدان العالم، ولاسيما المتقدم. ومن الجدير بالذكر أن الدراسة المقارنة التي قامت بها “المنظمة الدولية للتحصيل العلمي” عام 1996، حول التحصيل في الدراسات العلمية والرياضية، لم تشترك فيها إلا دولة عربية واحدة هي الكويت. وفي الدورة السابقة اشتركت دولة عربية واحدة أيضاً هي الأردن.
وفي الجملة، لا مندوحة من أن يرافق تطوير التربية وتجديدها وتجويدها في البلاد العربية تقويمّ تعليمي يأخذ أشكالاً مختلفة، يعنينا منها بوجه خاص تقويم ما اكتسبه الطلاب من حياتهم التعليمية (ولاسيما في مرحلة التعليم الإلزامي) وتقويم مدى تحقيقه للأهداف المرسومة، والقيام بدراسات تتبعية من أجل معرفة مدى ملاءمة ما اكتسبوه لحاجات تنمية الفرد والمجتمع. وقد يعني هذا من الناحية التنظيمية الإدارية، إنشاء “مديرية تقويم وتطوير” في الإدارة التربوية المركزية، لها فروعها وشبكاتها المنبثة في سائر المناطق التعليمية وفي شتى خلايا مؤسسات التعليم.
المعلم محور العمل التجديدي:
2-5- ولاشك أن محور العمل التجديدي في التعليم أداته الأساسية، نعني المعلم. فشعارات التجديد المختلفة التي أشرنا إلى أهمها (التعلم الذاتي – اللجوء إلى التقنيات التربوية الحديثة – تنويع التعليم ومرونته – تقويم التعليم وتحديد مستوى الكفاءات التعليمية)
لا تلغي دور المعلم الأساسي ولا تقلل من شأنه، بل تمنح هذا الدور – على العكس، أهمية متزايدة وشأناً أكبر. وجل ما في الأمر أنها تستلزم معلماً من طراز جديد، وإعداداً للمعلم ملائماً للأهداف المحدثة، وتدريباً مستمراً له على الجدائد التربوية المتجددة.
وواضح أن التقنيات التربوية الحديثة بوجه خاص تستلزم تغييراً جذرياً في أساليب إعداد المعلم وتدريبه. وبالإضافة إلى تدريب المعلم على استخدام هذه التقنيات، يتم استخدام بعض هذه التقنيات في إطار عملية إعداد المعلمين، كما يجري في “التعليم المصغّر Micro teaching” الذي يستخدم الفيديو. وههنا لابد أن نشير إلى جانب في هذا التعليم المصغّر كثيراً ما يُغفَل، وهو أن أهم ما في هذا التعليم ليس مجرد اللجوء إلى “الفيديو” من أجل أن يقوّم المعلم عمله تقويماً ذاتياً، بل اللجوء إلى تحديد “المهارات التعليمية” التي ينبغي أن يتدرب المعلم على إتقانها، كما يتدرب السائق على قيادة سيارة.
وبعد ظهور التقنيات التربوية والإعلامية المحدثة، وعلى رأسها الحاسوب ومشتقاته، أصبح اللجوء إليها عاملاً ميسراً لتجديد إعداد المعلمين فضلاً عن تخفيض كلفة الإعداد والتدريب. وقد سبق أن ذكرنا أن العديد من الدول لجأت إلى هذا الضرب من الإعداد، ومن بينها مصر التي تقوم بتجربة ناجحة في هذا الشأن. ومن التقنيات التربوية الناجحة في إعداد المعلم إعداداً يصل إلى جمهور كبير من المعلمين بكلفة محدودة، الإعداد والتدريب اللذان يتمان عن طريق “الوسائل والتقنيات المتعددةMulti media approach ” وقد سبقت الإشارة إليها.
على أن تجديد إعداد المعلم وتدريبه لا يقتصر على الاهتمام بالتقنيات التربوية، بل يشمل كل شئ في العملية التعليمية، ويشمل بوجه خاص، إعداده وتدريبه في إطار التغيير الجذري الذي ينبغي أن يتم في بنية التعليم ومناهجه وطرائقه، وفي أهدافه الأساسية، ولاسيما فيما يتصل بربط التعليم الأساسي بحاجات المجتمع وبمواقع العمل والإنتاج. كذلك لابد أن تتم العناية، أثناء إعداده وتدريبه، بتمرسه بأساليب التعلم الذاتي، وبأساليب “التعليم عن طريق فريق من المعلمين Team Teaching”، وبأساليب التعاون مع الآباء ومع المجتمع المحلي. وبوجه خاص لابد من تدريبه على الوسائل الجديدة في تقويم عمل الطلاب، وعلى “التوجيه التربوي” بالتالي، بحيث يدرك أن مهمته هي “نجاح المدرسة” في عملها، وأن هذا النجاح هو الذي يؤدي إلى “نجاح الطالب” وليس العكس، كما سبق أن قلنا.
ولكن هذا كله يستلزم أن يتم إعداد معلم التربية الأساسية في البلاد العربية – وسواها – من قبل مؤسسات التعليم العالي المعنية بذلك (كليات التربية وسواها)، على نحو ما جنحت إليه بعض الدول العربية في الآونة الأخيرة، وعلى نحو ما هو شائع في البلدان المتقدمة وبعض البلدان النامية.
أما إعداد الأساتذة الذين يُعِدون معلمي التعليم الأساسي وسواه، ويضطلعون بهذا العمل ذي الأثر الذي يتضاعف متكاثراً (Multiplier effect) فالحديث عنه يخرج عن أهداف هذا البحث، على الرغم من أهميته البالغة.
ولاشك أن من العسير أن نوفي البحث في تجديد إعداد المعلم حقه. فهو يمس كل مقومات النظام التعليمي والعملية التعليمية وكل ما يتصل بتطويرها وتجديدها. غير أن ما لابد أن نستخلصه من هذا العرض السريع، هو أن إعداد المعلم إعداداً جيداً وتجديد تدريبه أثناء الخدمة بعد ذلك يمكن أن يتم – بفضل التقنيات الحديثة – بتكاليف منخفضة. وبذلك يتحقق مرة أخرى، وفيما يتصل بأهم جانب من جوانب التعليم، المطلب الذي وضعناه نصب أعيننا، مطلب تجويد العملية التعليمية مع خفض نفقاتها، أو بتعبير أدق خفض نفقات التعليم بفضل تجديد بناه ومحتواه وأساليبه وتقنياته. على أن تجويد إعداد المعلم وتدريبه هو في خاتمة المطاف أفضل رافع لإنتاج العملية التعليمية كماً ونوعاً، وأفضل وسيلة لتخفيض كلفتها بالتالي.
إدارة «تطوير» لا إدارة «تسيير»:
2-6- وغني عن البيان أن ما أتينا عليه من مستلزمات تجديد التعليم يفترض ويشترط أولاً وقبل كل شئ وجود إدارة تربوية مجدِّدة، وقادرة على قيادة عملية التجديد.
وههنا أيضاً أمور كثيرة، ومهمات عديدة، يلخصها قولنا إن إدارة التربية في البلاد العربية ينبغي أن تكون “إدارة تطوير” لا “إدارة تسيير”. وليس هذا باليسير بعد أن اتسعت أعباء التربية اتساعاً كبيراً في حجمها، وبعد أن تضاعفت نفقاتها وكادت تصل إلى طريق مسدود، وبعد أن أصبحت التربية فيها، شأنها في مختلف بلدان العالم، صناعة من أكبر الصناعات (سواء في أعداد العاملين فيها، أو بنيتها أو تجهيزاتها، أو المنتسبين إليها)، تحتاج إدارتها بالتالي إلى خبرات فريدة في “التسيير management” وإلى تجديد كبير في الهيكل الإداري، وإلى توصيف لمهماته ووظائفه، وإلى تبسيط لإجراءاته ومعاملاته، وإلى إعداد خاص للعاملين فيه، وإلى سوى ذلك مما تستلزمه “الثورة الإدارية” التي ذرّ قرنها في العالم.
وقد بلغ الاهتمام بالشأن الإداري، كما نعلم جميعاً، حداً دفع بعض المعنيين بالإدارة التربوية إلى القول: إن مشكلة التربية هي مشكلة التنظيم والإدارة قبل أي شئ آخر، وإن الإبداع الحقيقي هو الإبداع في التنظيم. أو ليست الفجوة بين البلدان المتقدمة نفسها، فضلاً عن النامية، “فجوة إدارية” بالدرجة الأولى، كما بين ذلك الكاتب الفرنسي “جان سرفان شريبر Jean Servan Schreiber” في كتابه “التحدي الأمريكي” (لأوربا)، ثم في كتابه الأحدث عن “التحدي العالمي”؟
وتجديد الإدارة التربوية يعني أشياء كثيرة أيضاً. منها اللجوء إلى اللامركزية في الإدارة التربوية عن طريق تحديد المهمات الأساسية لكل من الإدارة المركزية ومن الإدارات التعليمية في المناطق. وفي التعليم الأساسي يستلزم الأمر توسيع سلطات الإدارة في المناطق إلى حد كبير. ومنها إدخال نظم جديدة في إدارة المعلومات والبيانات وجمعها وتخزينها، تستند إلى الحاسوب (وقد أنتجت اليونسكو نماذج منها جربتها ميدانياً). ومنها تطوير أساليب إعداد الميزانية والأخذ بأساليب جديدة في توزيع النفقات توزيعاً يعكس الأولويات الجديدة في التربية، والاعتماد على النماذج المستوحاة من النظام الذي يربط بين الخطط والبرامج والميزانية والأهداف (PLanning Programming Budgeting System P.P.B.S) وإفساح قدر واسع من الحرية التربوية لهم، وإطلاعهم دوماً على جدائد التربية، والعناية بوجه خاص بتدريبهم على الوسائل التي ينبغي أن تلجأ إليها المدرسة من أجل تنمية روح التضامن والعمل المشترك والعمل في فريق، ومن أجل تعميق مفاهيم الديمقراطية والمواطنة، ومن أجل خدمة المجتمع المحلي.
ومن أهم الجوانب التي تحتاج إلى متابعة دقيقة من قبل الإدارة المركزية للتعليم والإدارات في المناطق، ربط التعليم بالعمل ومواقع العمل. فهذا الهدف الذي جعلناه بين أهداف التجديد التربوي، في حاجة إلى متابعة خاصة من قبل الإدارة التربوية.
وبدهي أن رأس مهمات الإدارة التربوية وضع السياسات التربوية والخطط التربوية في إطار خطط التنمية الشاملة. وهذان المطلبان ما يزالان مقصرين عن مداهما في معظم البلدان العربية، على الرغم من شأنهما الكبير. بل إن الفراق بين الخطط والمخططين من جانب، وبين الإدارة والإداريين من جانب آخر، كثيراً ما يعطل الخطط الموضوعة.
ولا حاجة إلى القول، أخيراً، إن الإدارة الجيدة – أنى كانت – هي التي تؤدي إلى زيادة فعالية أي عمل وإلى رفع مستوى الإنتاج والإنتاجية في كل مجال. بل إن من حقنا أن نقول إن فشل كثير من نظم التربية في تحقيق الإصلاح الذي تنشده يرجع بالدرجة الأولى إلى أنها تضع أهدافاً طموحة دون أن تملك الإدارة التربوية اللازمة لقيادة عملية التغيير قيادة متسقة ومتكاملة ومجدية.
3- تلكم، مكثفة موجزة، أهم الجدائد التي يمكن أن ندخلها على التعليم عامة وعلى التعليم الأساسي خاصة في البلدان العربية، والتي من شأنها أن تؤدي إلى رفع المستوى النوعي للتعليم الأساسي وإلى خفض كلفته ونفقاته في الوقت نفسه. ولاشك أن نتائج هذه الجدائد نتائج ليست آنية، ولكها آتية دون شك، على نحو تدريجي، على المدى القريب والمتوسط. ولم نفرد، وسط هذه الجدائد، مكاناً مستقلاً للتربية الدائمة المستمرة، على أهميتها الكبرى، لأنها مضمرة فيها جميعها، لاسيما أننا تحدثنا عنها مطولاً بعض الشئ في معرض البحث في أهم جدائد التربية في العالم وأهم دروس التجربة العالمية.
على أن ثمة تدابير أخرى مباشرة – تهدف إلى خفض كلفة التعليم بوجه خاص، ولا يحتاج قطف ثمارها إلى وقت طويل – لابد أن نعني بالحديث عنها، في إطار بحثنا عن وسائل معالجة أزمة الإنفاق على التعليم في البلاد العربية وما يتبعها من عجز كمي ونوعي. ولئن كان اللجوء إلى التعليم النوعي الجيد وإلى تجديد التعليم هو في خاتمة المطاف الوسيلة الباقية والغاية المنشودة، فإن التدابير المباشرة التي سوف نشير إليها تيسّر مهمة التجويد والتجديد هذه، فضلاً عن أنها تقدم بعض الحلول للخروج من الأزمة الحادة الراهنة التي تعاني منها البلدان العربية، في مجال التعليم الأساسي، فضلاً عن سواه.
وفيما يلي إلى عرض سريع لأهم هذه التدابير المباشرة:
3-1- المشاركة الاجتماعية في توفير حاجات التعليم: وهي مشاركة لابد منها، لا من أجل تحمل بعض أعباء التعليم ونفقاته فحسب، بل أيضاً من أجل أن يصبح التعليم شأناً اجتماعياً، يعني المجتمع بأسره ما دام يعنى بأطفال هذا المجتمع ويافعيه وراشديه، وما دامت نتائجه الحسنة أو السيئة ترتد على المجتمع بأسره.
ومن مظاهر المشاركة – وهي كثيرة – إفساح مجال أوسع للتعليم الأهلي (الخاص) مع مراقبته. ومن مظاهرها بوجه خاص إشراك الأهالي في بناء الأبنية المدرسية، تمويلاً، أو إنشاء، على نحو ما يجري في معظم الدول العربية. وههنا لابد من أن نفتح معترضة قصيرة، لنذكّر بأن تخفيض كلفة الأبنية المدرسية من أكبر العوامل التي تؤدي إلى تخفيض الإنفاق على التعليم.وهذا التخفيض يتم بوسائل متعددة، أهمها إنشاء “الأبنية المدرسية الوظيفية” التي تشتمل في بنائها على الأهداف والوظائف التي سوف تضطلع بها، بدلاً من الأبنية المكلفة ذلت المظهر المعماري الرفيع والتي لا تستجيب غالباً للوظائف التربوية التي ستحل فيها. هذا فضلاً عن الاهتمام بالقاعات ذات الحواجز المتحركة التي تساعد المدرسة على تنويع أساليبها ومرونة مهماتها، وبالإضافة إلى “الأركان” المتنوعة التي تشتمل عليها حجرة الصف، بحيث يمكن القيام فيها بنشاطات مختلفة تبعاً للحاجة، وبالإضافة إلى “الاستخدام الناجع” للبناء المدرسي. وما يقال عن الأبنية يقال عن التجهيزات المدرسية. وحسبنا دليلاً على أهمية تخفيض كلفة بناء المدارس، ما تم في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من بناء المدارس الجديدة أو إعادة بناء المدارس التي خربتها الحرب، عن طريق اللجوء إلى أبنية وظيفية قليلة الكلفة، الأمر الذي حقق وفراً لبريطانيا بلغ في ذلك الحين مائة مليون جنيه إسترليني.
وثمة تجارب مفيدة – يمكن أن تستهدى – تمت في بعض الدول في مجال إشراك الآباء والمجتمعات المحلية في التعليم الأساسي. ومن بينها التجربة التي تمت في “سري لانكا” لمواجهة احتياجات الفئات الفقيرة ولتحسين نوعية التعليم الابتدائي. وتتمثل الأهداف المحددة للبرنامج في زيادة أعداد المقيدين، وتحسين المهارات اللغوية والحسابية، وبناء مرافق مدرسية أحسن مستوى، والحدّ من الفوارق بين المقاطعات. ويعتمد المشروع على سلسلة تعاونية تشرك المسؤولين الحكوميين ومجموعات المدارس والآباء. ويعمل موظفو المشروع المقيمون في الأقاليم المختلفة المحلية من أجل إقامة مركز للموارد. ونتيجة لذلك تحولت المدارس وقاعات الدرس تحولاً جذرياً.
وقد أشارت المادة السابعة من مقررات مؤتمر “جومتيين” إشارة واضحة إلى أهمية المشاركة بين مختلف الفئات المعنية بالتعليم، ولاسيما المشاركة بين الدولة وبين المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية والطوائف الدينية والأسر.
وفي بعض الدول المتقدمة تمّ اللجوء أيضاً إلى مبدأ المشاركة، في مواجهة تناقص الموارد اللازمة لتطوير النظم التعليمية. هذا ما جرى، على سبيل المثال، في السويد التي تسعى منذ عام 1991، إلى وضع سياسة جديدة تشجع التنويع في مصادر التمويل، وذلك بالسماح للمدارس الخاصة بالعمل داخل إطار النظام التعليمي. ومنذ عام 1993 أصبحت البلديات حرة في استخدام الإعانات التي تحصل عليها من الدولة للتعليم، حسب ما تراه مناسباً. وقد عُدل الإطار التشريعي للنظام المدرسي، ووُضع منهج يحدد أهدافاً ومبادئ توجيهية لتقويم التحصيل المدرسي على الصعيد الوطني.
3-2- ويكمل هذه المشاركة الاجتماعية في توفير حاجات التعليم ونفقاته، التعاون الإقليمي والتعاون الدولي بأشكاله المختلفة. ولاشك أن ثمة مجالاً واسعاً للتعاون والتكافل بين البلدان العربية في مجال توفير التعليم الأساسي الجيد (وفي سائر مجالات التعليم). وهذا التعاون قائم منذ سنوات بعيدة. غير أنه في حاجة إلى مزيد من التنسيق والتنظيم، بحيث يصبح تعاوناً ثابت الأسس، بدلاً من أن يكون مبعثراً وخاضعاً للظروف. وتقع على منظمة الأليسكو دون شك أعباء كثيرة في هذا المجال. ولعله قد آن الأوان لإنشاء الصندوق الخاص بتمويل التربية في البلاد العربية، الذي طالما أوصت به المؤتمرات التربوية العربية وسواها. وغني عن القول إن التعاون بين الدول العربية في مجال التعليم (وسواه)يظل أفضل السبل لمعالجة ما يشكو منه هذا التعليم في معظم البلدان العربية من ندرة الموارد المالية اللازمة للإنفاق عليه. وهذا يشترط أن يتم التعاون في إطار خطط مرسومة وجادة لتجديد التعليم، وفي إطار “الإخصاب المتبادل Cross fertilization” للخبرات العربية المتنوعة.
وقد أشار مؤتمر “جومتيين” إلى أهمية الدعم الخارجي للتعليم الأساسي. وبيّن استقصاء أجرته اليونسكو عام 1995 أن التزامات المانحين من أجل التعليم الأساسي قد زادت من الناحيتين المطلقة والنسبية. وإلى جانب السويد التي تبرز بوصفها المساند الدائم للتعليم الأساسي لمدة تقرب من ثلاثة عقود، ظهر مانحون آخرون عززوا نشاطهم في مجال توفير التعليم للجميع، من بينهم ألمانيا والاتحاد الأوروبي جملةً. وبالإضافة إلى الدول ثمة مؤسسات دولية عنيت – بعد مؤتمر “جومتيين” بوجه خاص – بزيادة مساعدتها في مجال التعليم الأساسي من بينها البنك الدولي الذي استرعت انتباهه العائدات المرتفعة للاستثمار في مجال التعليم الأساسي هذا، مما دفع به إلى زيادة القروض التي يقدمها للتعليم عامة وللتعليم الأساسي خاصة.
كذلك التزمت منظمات دولية أخرى بزيادة مساعداتها للتعليم الأساسي. هكذا زادت اليونسكو من وزن التعليم الأساسي في برنامجها الخاص بالتربية من 26% إلى 47%. أما منظمة اليونيسيف فقد استهدفت خطتها المتوسطة الأجل زيادة الإنفاق على التعليم الأساسي إلى 25% من مواردها الحالية (بدلاً من 10%).
وفي “مشروع البرنامج والميزانية” الجديد الذي وضعته اليونسكو للفترة بين عام 1998 وعام 1999، نصّ صريح على عزمها على أن تعمل على “تعزيز شراكاتها مع المؤسسات الأخرى الثنائية والمتعددة الأطراف، بهدف تطوير أنشطتها في ميدان التربية وتنمية الموارد البشرية” مع منح الأولوية للتعليم الأساسي، وذلك بالتعاون مع الشركاء في مؤتمر “جومتيين” (اليونيسيف، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، وبرنامج الأغذية العالمي، ووكالات التعاون الثنائي). وقد خصصت هي نفسها، في برنامجها الجديد الذي أشرنا إليه، الأموال اللازمة (من ميزانيتها العادية ومن الموارد الخارجة عن الميزانية) من أجل تقديم الدعم لتوسيع نظم التعليم الأساسي وتحسين نوعيتها وزيادة كفاءتها الداخلية ونشر الممارسات التجديدية الناجحة في شتى أنحاء العالم. وخصّت بالمساعدة “إعداد المناهج التعليمية التي يكون محورها الدارس، والتي تركز على تعليم القراءة والكتابة والحساب والقيم الإنسانية والمدنية والمهارات العلمية الأساسية، إلى جانب المهارات الإنتاجية والحياتية”. كذلك أفردت المنظمة ميزانية واسعة “لإصلاح التربية من منظور التعليم مدى الحياة”، وبالتالي “لتجديد النظم والبرامج والعمليات وتنويعها وتوسيع نطاقها من منظور التعليم مدى الحياة، وجعلها أقدر على مواجهة التحولات الاجتماعية وتحديات القرن الحادي والعشرين”.
وبوجه عام، وعدت منظمة اليونسكو بمواصلة تعاونها مع طائفة واسعة من الجهات الممولة،من أجل تنفيذ مشروعاتها، “ولاسيما المشروعات ذات الصلة بالأهداف الكبرى للمنظمة والتي تتفق مع سياسات معظم الجهات الممولة، مثل هدف التعليم الأساسي للجميع”.
ولاشك أن المساعدات الدولية التي يمكن أن تحصل عليها البلدان العربية (سواء كانت مالية أو فنية)، تتوقف إلى حد بعيد أولاً وقبل كل شئ، على مبادرة الدول العربية إلى تحديث نظمها التعليمية وعزمها على وضع المشروعات التجديدية التي يمكن أن تحصل على مثل هذه المساعدات الدولية.
4- هذه هي أبرز الوسائل (المباشرة إلى حد كبير) التي تؤدي إلى معالجة مشكلة نقص الموارد المالية اللازمة للتعليم الأساسي (وسواه) في البلدان العربية (وسواها). وقوامها كما نرى أن تصبح التربية حقاً في هذه البلدان “شأناً اجتماعياً” وشأناً عربياً إقليمياً” و”شأناً عالمياً ودولياً”.
ولاشك أن الجهود التي تستطيع أن تقوم بها هذه المصادر الثلاثة الأساسية من مصادر تمويل التعليم (من خارج الإنفاق الحكومي) يمكن استثمارها واستخراج أفضل النتائج منها، بحيث تؤدي إلى معالجة سريعة بعض الشيء للسد القاسي الذي يقف في وجه التعليم الأساسي (والتعليم عامة)، نعني صعوبة توفير الأموال اللازمة عن طريق الجهد الحكومي وحده.
على أنه يظل من الصحيح دوماً وأبداً أن الحل الباقي والراسخ لمشكلة التوسع في التعليم وخفض كلفته، هو تجويد نوعه ومستواه وتجديد بناه ومناهجه وطرائقه كما قلنا ونقول. ولهذا توقفنا وقفات طويلة بعض الشئ عند جانب التجديد هذا، متريثين عند الجدائد التي تؤدي إلى خفض كلفة التعليم مع رفع مستوى ما يعود منه على الأفراد والمجتمع.
(سادساً) خاتمة:
العالم كله على عتبة ولادة مجتمع جديد، في بنيته وحاجاته وتطلعاته. بل لعله كله حتى الآن في مرحلة انتقالية، يقف فيها في منتصف الدرب التي تقوده إلى توليد ذلك المجتمع الجديد. هذا العالم أسهمت التربية دون شك في توليده، ولكنه ما لبث حتى تجاوزها. فالتربية منذ قرون تُعدّ الكفاءات المبدعة التي تغير العالم. ولقد كانت هنالك دوماً بينها وبين التجديد الذي تحدثه في حياة العالم، وشائج متبادلة، يسبقها حيناً وتسبقه أحياناً. أما اليوم فتجد الشقة بينها وبين العالم الذي ولدته وأبدعته شقة تتباعد وتتسع حتى وكأنه عالم يفرّ من بين يديها. وهكذا تجد نفسها، وهي – من الوجهة النظرية والمبدئية على أقل تقدير – رائدة التجديد في المجتمع، عاجزة إلى حد كبير عن تجديد نفسها تجديداً يستجيب لبنية العالم الجديدة ولصورته التي سوف يتمخض عنها، ناهيك عن أن يكون لها – من خلال مهماتها الأساسية وعلى رأسها بناء القيم الإنسانية – دور في توجيه هذه البنية الجديدة وتوجيه مصير العالم بالتالي. وكأن العالم القلق الحائر اليوم يستصرخ التربية، وكأن التقانة (تستصرخ) العقل والوجدان، وكأن المادة تبحث عن المعنى.
وما يجري في العالم كله ينسحب من باب أولى على العالم النامي وعلى البلدان العربية بالتالي. إن مجتمعاً جديداً يأخذ طريقه سرباً إلى البلاد العربية، من خلال المجتمع العالمي المتجدد بوجه خاص. غير أن هذا المجتمع العربي الوليد، الذي تبدو بعض تباشيره، مجتمعٌ هجين، بل مجتمع مجلوب وعتيق في آن واحد، منفعل لا فاعل، لا يدري أين المصير وإلى أين المسير، وسط عالم ضائع لم يعرف الاستقرار بعد، وتفجّر عربي سكاني واسع، وتفجّر مدرسي طاغ، وغزو ثقافي وإعلامي ومعلوماتي جارف، وقدرات مالية محدودة. والنظم التربوية في البلاد العربية، شأنها في معظم بلدان العالم، تقف عاجزة إلى حد كبير عن إعطاء هذا المجتمع الوليد الذي تتقاذفه الرياح، على شكل “وحشي”، المضمون التربوي اللازم لبنائه بناء سليماً معافى، يستجيب لمستلزمات معالجة علله ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية القائمة والقادمة، ويفجّر لدى المتعلمين من أبنائه الطاقات المبدعة القادرة على إنتاج مجتمع جديد حي ومتحرك وواع لذاته ولما يعمل ويريد.
ذلك أن التربية في البلاد العربية – كما استبان لنا من هذا البحث – ما تزال في المرحلة التي كانت عليها قبل انبثاق المجتمع الجديد في العالم وقبل تسربه إلينا على عجره وبجره. وسعيها من أجل تطوير النظام التربوي ما يزال يقتصر على إدخال بعض حصاد التجربة العالمية في ميدان التربية، ولكن على شكل نتف هنا وهناك، أو على شكل أهداف ومهمات توضع على الورق، دون أن تكون هنالك نظرة شاملة متكاملة تَنْظِم مقومات النظام التربوي جميعها في منظومة واحدة تتفاعل أجزاؤها من أجل بلوغ الأهداف والغايات المرسومة، ودون أن يكون هنالك جهاز إداري ناظم فعّال يحول المرتجيات إلى وقائع.
وهكذا لم تنطلق النظم التربوية في البلاد العربية بعد من موقف يجاوز المرحلة التي كانت عليها قبل بزوغ الثورات العالمية الجديدة في كل ميدان، ولم تؤمن بعد إيماناً عميقاً بأن بناء التربية العربية الجديدة من أجل مجتمع عربي جديد، لا يجدي فيه إصلاح هنا وإصلاح هناك (في بنية تربوية في جملتها عتيقة) ولا يفلح معه تجويد بعض مقومات النظام التربوي، بل لا يشفي غليله حتى الإنفاق المالي الكبير حيث يتوافر، بل لابد فيه من تجديد كامل متكامل لبنية التربية ومحتواها وأدواتها. ومنطلق هذا التجديد الكامل، توفير صلة عضوية متلاحمة بين التربية وبين البنى الاجتماعية والمهنية والتقانية والثقافية الجديدة التي يستلزمها بناء مجتمع عربي يحاول أن يتشكل من قلب البحران.
من هنا أكدنا في بحثنا على أهم ضروب التجديد التي تستجيب لبناء مثل هذه التربية الجديدة من أجل بناء مجتمع جديد بل متجدد باستمرار. ومن هنا بالتالي كانت دعوتنا إلى تربية ديناميكية خصيب وولود، تحمل في ثناياها وبنيتها بذور تجددها دوماً وأبداً. ومن هنا أخيراً كانت دعوتنا إلى جدائد تربوية ستة متكاملة تلبي هذا المطمح: التعلّم الذاتي، وإدخال التقنيات التربوية الحديثة، وتنويع التعليم وتجديد إطاره، وتقويم التعليم وقياس مستوى التحصيل التعليمي للدارسين، وتجديد إعداد المعلم وتدريبه، وتجديد الإدارة التربوية. على أن يتم ذلك كله في إطار تربية مستمرة من المهد إلى اللحد، بأشكال مختلفة.
ولئن كانت هذه الجدائد المتكاملة هي السبيل إلى توليد نظام تربوي جديد، نظامياً كان أو غير نظامي، يستجيب لجديد العصر ومفاجآت المستقبل، فإنها في الوقت، نفسه وبسبب تكاملها مع حاجات المجتمع وإمكاناته، خير مطية لتخفيض كلفة التربية ومواجهة أزمة الإنفاق التربوي في البلاد العربية.
ولاشك أن هذه الجدائد التربوية ينبغي أن تفهم بمعناها العميق والحديث، وألا نتخذها مجرد شعارات جديدة نلبسها ثوب القديم. وهذا ما بينا بعض جوانبه في بحثنا.
ثم إن هذه الجدائد لابد أن تكون لها ترجمة مفصلة إجرائية في كل جوانب التعليم ومقوماته، وقد أشرنا إلى بعضها، من قبيل المثال، عبر هذا الحديث. وهذه الترجمة الإجرائية لابد أن تتباين من بلد عربي إلى آخر، بل من منطقة إلى أخرى داخل البلد الواحد.
وما دام بحثنا يدور بشكل أساسي حول التعليم الأساسي، فمن البدهي أن تأخذ هذه التجديدات في هذا التعليم صوراً تتلاءم مع طبيعته وأهدافه، ومع أعمار الطلاب بوجه خاص، (ولاسيما فيما يتصل بالاهتمام بأساسيات المعرفة) دون أن يعني ذلك الفصلَ بين مستلزمات تجديد هذا التعليم الأساسي ومستلزمات تجديد المراحل الأخرى والأشكال الأخرى من التربية. وقد تكون مرحلة رياض الأطفال (وهي جزء من التعليم الأساسي) – بحكم مرونة المناهج فيها وأهمية تفتح طاقات الطفل وقدراته الابتكارية من خلالها – خير بداية نحو الانطلاق شطر تجديد التعليم في سائر المراحل. ذلك أن منطلقاتنا في هذا البحث تصدر عن مبدأ واحد: وهو أن خير علاج لمشكلات التربية في البلاد العربية ولمشكلات المجتمع جملة، سواء كانت كمية أو نوعية، هي التوظيف في “المادة الرمادية”، في العقل الإنساني المبدع الذي لا يقتصر على كونه أداة للتفكير والتدبير “وعقل الأمور” وضبطها، بل يتجاوز ذلك إلى كونه، كما يقول الفيلسوف الفرنسي “برغسون Bergson”، وسيلة لفبركة الأدوات والأشياء، أي توليد التكنولوجيا (التقانة)، فضلاً عن كونه أداة الخلق والابتكار و(التطور المبدع) الذي لا يحده حدّ.
وبعد، نختم بحثنا بقولة شهيرة للجاحظ “من قال ما ترك الأول للآخر، فإنما لا يريد أن يُفلح”. فأمام التجديد دوماً تجديد يتجاوزه، وليس أمام ابتكار الإنسان حدّ، وليس أمام عزمه وسعيه ممتنع. ويشهد له تاريخه كله أنه استطاع دوماً أن يغالب نضوب الإمكانات المادية وسواها، عن طريق طاقته الإبداعية المبدعة لأي طاقة. والتربية في البلاد العربية – ومعها النظام الاجتماعي بكامله – مدعوة إلى تجديد طاقتها المبدعة، تجاوزاً للعقبات وبناءً لغد جديد. إنها مدعوة إلى أن تُجاوز ذاتها عن طريق “ذاتها”.