الأوضاع العربية الراهنة وسبل تجاوز الأزمة: آراء نخبة عربية

رد الدكتور عبد الله عبد الدائم على الاستفتاء الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت

وقد نشرته مجلة المستقبل العربي في عددها رقم /224/ تاريخ تشرين أول / أكتوبر 1997

الأوضاع العربية الراهنة وسبل تجاوز الأزمة
آراء نخبة عربية
مقدمة
تمر الأمة العربية بواحد من أصعب المراحل التي مرت بها. فإضافة إلى التمزق والتبعثر الداخلي، وزيادة الخلل في ميزان القوى بين العرب وإسرائيل، مما عكس نفسه على طبيعة التسوية ابتداء ومسيرتها المتعثرة ثم المتوقفة بعد ذلك؛ وانفراد الولايات المتحدة في التحكم بشكل أساسي في الموارد الطبيعية للأمة، والنفط منها بشكل خاص، إضافة إلى تواجدها المسلح على الأرض العربية؛ فإن الأمة العربية تبدو في حالة من الذهول وتتطلع إلى نخبها الفكرية والسياسية لتوضيح الرؤية ولتدلها إلى الطريق الذي يجب أن تسلكه لوقف التدهور من جهة،
ولم الشمل العربي واستعادة المبادرة من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار، ومن أجل هذا الهدف، ارتأى مركز دراسات الوحدة العربية أن يتوجه إلى عدد من المفكرين والدارسين والسياسيين العرب بعدد من الأسئلة الرئيسية حول الأوضاع العربية الراهنة وسبل تجاوزها للإجابة عنها ونشرها تباعاً في المستقبل العربي إلا إذا لم
يرغب المجيب في ذلك.
وفيما يلي الأسئلة التي تم توجيهها:
الأسئلة المطلوبة الإجابة عنها
1- منذ مؤتمر مدريد (خريف 1991) وانطلاق مفاوضات التسوية بين العرب وإسرائيل، كيف ترون رصيد مسيرة التفاوض على المصلحة العربية؟ (يرجى تحديد النقاط الإيجابية، السلبية، الملتبسة، أو التطورات غير المتحكم فيها).
2- ما هي المواقف التي تقترحون على الأطراف العربية المتفاوضة اتخاذها من عملية التفاوض بعد مرور ستة أعوام على مدريد؟ (يرجى تفسير هذه المواقف التي يمكن أن تكون على المثال التالي: التوقف الفوري عن التفاوض، قبول التفاوض بأي ثمن، العودة إلى التفاوض إنما وفق معايير وشروط محددة، وبالتالي توضيح هذه الشروط… الخ.).
3- ما هو الحل الواقعي والمقبول الذي على العرب أن يتطلعوا إليه في موضوع فلسطين: تحرير كامل فلسطين، دولتان على أرض واحدة، دولة متعددة الأديان يقطنها اليهود والمسلمون والمسيحيون مع حقوق مماثلة، حكم ذاتي فلسطيني داخل إطار إسرائيلي، سعي لإدماج أكبر عدد ممكن من العرب داخل الكيان الإسرائيلي للحصول على حقوق المواطنة فيه…الخ؟
4- أياً تكن إجاباتكم عن الأسئلة الثلاثة السابقة، ماذا تقترحون عملياً على الحكومات العربية لمعالجة المرحلة الراهنة (على مدى ستة أشهر إلى سنة): وقف عمليات التطبيع تماماً مع إسرائيل، الاتصال بـ “العناصر المتنورة” داخل المجتمع الإسرائيلي وإطلاق حوار معها، السعي لربط مصلحة رجال الأعمال الإسرائيليين بالاقتصاد العربي لتشجيعهم على قبول التسوية، تركيز الجهد على الولايات المتحدة بوصفها راعياً منحازاً للخصم وبالتالي مقاطعة الولايات المتحدة أو ابتداع وسائل جديدة للضغط عليها، التركيز على “البيت الداخلي العربي” من خلال قمة أو مصالحة أو خرق للحصار المضروب على بعض البلدان العربية…. الخ؟ (يتوقع عن هذا السؤال إجابات متعددة، تعدد المقترحات العملية.)
5- ما الذي تقترحونه على المدى المتوسط (2-3سنوات) لإعادة ترتيب البيت العربي بما يساعد على تحقيق الأهداف الرئيسية للأمة؟
6- أية ملاحظات أو اقتراحات أخرى ترون إبداءها.
7- هل توافق على نشر إجابتك في المستقبل العربي؟  نعم  لا

عبد الله عبد الدائم
مفكر من سوريا ووزير سابق

الإجابة عن السؤال الأول:
يؤكد رصيد مسيرة التفاوض بين الدول العربية وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد عام 1991 حقيقة أساسية: وهي أن السلام بين العرب وإسرائيل هو أصلاً ومبدأ مطلب يناقض نفسه بنفسه، ما دامت إسرائيل تصطنعه من أجل تثبيت كيانها وتحقيق أهدافها التوسعية باللجوء إلى عين الأساليب التي قامت عليها منذ البداية، نعني العدوان والإرهاب والمراوغة وتضليل المجتمع الدولي. وقد دلت تجربة ما بعد مدريد على أن السلام الذي تزعمه إسرائيل ليس في نظرها وأعماق تفكيرها، وعلى نحو ما يتجلى في سلوكها منذ مدريد حتى اليوم، سوى “مركب” ومتكأ دولي جديد لتحقيق منطلقاتها التوسعية، بأشكالها المختلفة، أرضاً واقتصاداً، ماءً وسماءً، تراباً ونفطاً وغازاً، وليس أكثر من محاولة جديدة لانتزاع موافقة المجتمع الدولي بشتى السبل على توسيع الكيان الإسرائيلي ومد سلطانه وتثبيت كيانه.
ومن هنا فإن الحديث عما حققته مسيرة التفاوض من خطوات تصب في “المصلحة العربية” حديث باطل ولا يتوافر أي دليل عليه. والعكس هو الصحيح. فما تحقق حتى الآن يصب كله في الخانة المعادية للمصلحة العربية.
أ- فالأرض العربية لم تعد إلى أصحابها، والجرم الضئيل الذليل الذي أعيد نظرياً عبر اتفاقية “أوسلو” (تملصاً منه بوصفه وكراً بشرياً يهدد إسرائيل، ورغبة في لجم المقاومة الفلسطينية عن طريقه) يقدم نموذجاً لما يعنيه السلام عند إسرائيل. إنه يعنى عندها شل المقاومة الفلسطينية وتعطيل دور منظمة التحرير، والتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، وإلغاء الدور المركزي للقضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب الأولى، وضمان الأمن والاستقرار لإسرائيل، وذلك كله مقابل ثمن خمس مؤقت، بل مقابل ما هو أسوأ من الاحتلال. وهكذا فإن هذه الاتفاقية – في أحسن الأحوال – اتفاقية جمدت القضية الفلسطينية وعطلتها وكادت تفقدها زخمها وجوهرها وقوامها، فضلاً عن السهام المسمومة التي أصابت الكرامة العربية بسببها.

ب- والعلاقات العربية – العربية لم يزدها مشروع السلام التحاماً، بل زادها فرقة وتباعداً. فقد يسرت أوهام السلام، إلى حد بعيد، ما سعت إليه إسرائيل منذ البداية، وما تسعى إليه اليوم، من تفريق الكيان العربي ومن التعامل معه لا بوصفه وجوداً ملتحماً، بل بوصفه دويلات (كدويلات الطوائف في الأندلس)، ومن فصم عرى الطوق العربي المتضامن الذي تدرك إسرائيل أعمق الإدراك وأعرقه أن رسوخ وجودها لا يكون إلا بكسره. زد على ذلك أن ما يسّرته أوهام السلام من تمزيق إسرائيل لوحدة الموقف العربي والوجود العربي لم يقتصر أمره على الشؤون السياسية والاقتصادية، بل تجاوزها إلى الشأن الثقافي، وهذا أدهى وأمر. وعلى الرغم من فشل جهود إسرائيل حتى اليوم في تفكيك اللحمة الصامدة للثقافة العربية الإسلامية، بسبب متانة هذه اللحمة وتمرسها بمقاومة الدخلاء قروناً طويلة، فإن من الخطأ مع ذلك أن نقلل من احتمالات نجاح الاختراق الثقافي الذي نشهد بعض بوادره منذ الآن، ولاسيما بعد التطور المذهل للتقنيات الإعلامية.
ج- وهذا كله جعل من وهم السلام بعد مدريد الذي أثبت عقمه – بسبب رسوخ النيات الإسرائيلية والفهم الإسرائيلي لمعنى السلام – عاملاً أساسياً في زرع مشاعر اليأس والقنوط لدى أبناء الأمة العربية، وأداة ماضية في إشاعة الاضطراب والضياع والقلق في النفوس، ولاسيما أن محاولات السلام الوهمي هذا تؤيده قوة عالمية تتصدى لقيادة العالم وفق مشيئتها وأهدافها، كما يؤيده كثير من دول العالم تواطؤاً أو جهلاً أو أملاً. وكأن العرب فوجئوا بعد مدريد – ولم يكن من حقهم أن يفاجأوا بعد كل ما عرفوا وخبروا – بما تحمله دعاوى السلام الإسرائيلي ومواقف الدول التي تقف وراءها من تضليل ونيات ومقاصد، بينها وبين معنى السلام الحق تناقض ذاتي راسخ مقيم.
د- وهكذا فإن رصيد مسيرة التسوية منذ مدريد حتى اليوم رصيد سلبي كامل، إلا إذا وضعنا في عداد النتائج الإيجابية ما يتم لدى العرب –ولدى بعض دول العالم- من وعي يتزايد يوماً بعد يوم بعقم الاستمرار في المسيرة على نحو ما جرت حتى اليوم، وبضرورة الانطلاق من جديد في طريق مجدية وصادقة، بدلاً من قبول صيغة السلام الكاذب وغير المعمر الذي تحاول أن تفرضه إسرائيل ومن وراءها، وبدلاً من الاعتقاد بأن السلام المفروض شر لا بد منه، مهما تكن كوارثه وظلاماته ومهما يكن عمره ومصيره. أجل، إنها حصيلة إيجابية أن يتزايد وعي العرب بأنهم هم الذين يؤكدون معاني السلام الحقيقي ومستلزماته حين يرفضون السلام الزائف والزائل، وإنها نتيجة إيجابية أيضاً أن يخرج العرب، بسبب تعنت إسرائيل، من دائرة اليقين، اليقين بعقم مسيرة السلام على نحو ما تمت. وليس ثمة أقوى من اليقين الذي يعقب الشك.
الإجابة عن السؤال الثاني:
النتيجة التي خلصنا إليها في الإجابة عن السؤال السابق هي التي تحدد إجابتنا عن هذا السؤال الخاص بالمواقف التي يجدر بالأطراف العربية المتفاوضة أن تتخذها بعد مرور ستة أعوام على مدريد. ونجمل هذه المواقف في الأمور الآتية:
أ- لا بد من البدء بنقطة البداية، أي لا بد من أن تكون هنالك بداية جديدة للمفاوضات، لا بد من مدريد جديدة، وفق شروط ومعايير محددة تحديداً واضحاً، ولا بد بالتالي من الخروج من الدوران الفاسد داخل دائرة المفاوضات الحالية العقيمة والمعطلة.
ب- والمعيار الأول والأساسي الذي ينبغي أن تنطلق منه المفاوضات الجديدة هو أن تعبر إسرائيل تعبيراً واضحاً صريحاً تلتزم به دولياً عن تخليها عن نزعاتها التوسعية والعدوانية والإرهابية، وأن يكون منطلق تفاوضها مع العرب رغبتها في إنشاء دولة ديمقراطية شأنها شأن سائر الدول الديمقراطية في العالم، تتعايش فيها الأقوام والأديان واللغات على قدم المساواة.
ج- ويتبع هذا أن تبنى المفاوضات على ركائز ثلاث أساسية لا تقبل أي تأويل أو تحريف.
– أولاها: انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة بعد حرب حزيران/يونيو 1967، بما فيها الجولان حتى خط الرابع من حزيران/يونيو 1967 وجنوب لبنان والأراضي الفلسطينية جميعها وفي مقدمتها القدس، أنفاذاً لقرارات مجلس الأمن ومبدأ الأمن مقابل السلام. وهذا، كما نعلم، ما أكدته الحكومات العربية كلها، وما أكده مؤتمر القمة العربي الذي تم عقده في القاهرة (21-33/6/1996).
– وثانيتها: الوفاء بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة، ولاسيما حقه في إقامة دولته المستقلة (بكل ما في الاستقلال من معنى) بعاصمتها القدس، وحق أبنائه في العودة، وفي الحصول على التعويضات المشروعة وسوى ذلك. وتحقيق مثل هذا المطلب هو أقل ما يجب أن يطالب به الفلسطينيون (والعرب) لقاء تنازلهم (القسري فيما يقال) عن أرضهم التي احتلت عام 1948.
– وثالثتها: ألا يكون للسلام المبني على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة وعلى ضمان حقوق الشعب الفلسطيني أي ثمن يقابله سوى السلام، أي عقد علاقات حسن جوار مابين الدول العربية وإسرائيل. فليس عند العرب والفلسطينيين ما يقدمونه، بعد أن قدموا كارهين أثمن تضحية على مذبح السلام الموعود، نعني الأرض الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1948. ولعل هذه الأضحية (التي لم يقدمها شعب من قبل ولم تفرض على أي أمة) هي في الوقت نفسه أبلغ دليل على رغبة العرب في الوصول إلى سلام حقيقي يجنب المنطقة والعالم كوارث الحروب، ولاسيما أن إسرائيل تعلم حق العلم أن في وسع العرب، أن هم عزموا على إعادة أرضهم المحتلة عام 1948، أن يحققوا مطلبهم هذا مهما يطُل الزمن ومهما تكن التضحيات. وقد كانت وما توال مؤمنة – منذ انطلق المشروع الصهيوني حتى اليوم – بأنها لن تبقى – عاجلاً أو آجلاً – إلا إذا وافق العرب على بقائها، رغبة أو رهبة.
د- ومن المهم أًن نذكر أن هذه البداية الجديدة لمفاوضات السلام ينبغي أن تقوم بها الدول العربية هذه المرة مجتمعة لا فرادى، وذلك عن طريق لجنة مفاوضات مشتركة، كما ورد في المقررات الدولية السابقة، وكما قر الرأي لدى البلدان العربية منذ أمد بعيد. وغنى عن القول أن كثيراً مما أصاب مسيرة التسوية بعد مدريد من تعثر، وما وقعت فيه من أخطاء قاتلة، وما وصلت إليه من طريق عقيم مسدود، يرجع –فيما يرجع- إلى إهمال هذا الشرط الأساسي الذي لا تكون بدونه تسوية حقيقية وناجحة وباقية، ما دامت قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية. ومن هنا ينبغي أن يكون توفير هذا الشرط الذي يؤدي وحده إلى نجاح المفاوضات مطلباً دولياً إلى جانب كونه مطلباً عربياً.
الإجابة عن السؤال الثالث:
وينجم عن هذا كله:
أ- إن الحل الواقعي الوحيد الذي يتطلع إليه معظم العرب اليوم فيما يتصل بفلسطين هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على كامل الأرض الفلسطينية التي تم احتلالها بعد الخامس من حزيران/يونيو 1967، بعاصمتها القدس، تملك جميع مقومات الدولة المستقلة وتقيم مع إسرائيل صلات جوار طيبة وعلاقات ودية وطبيعية.
ب- وهذا المطلب ليس مطلباً مثالياً، بل هو المطلب الواقعي الوحيد الذي يوفر لإسرائيل السلام الباقي، وييسر لها التعاون المجدي والمنتج مع سائر الدول العربية والإسلامية.
ج- سائر الحلول الأخرى التي يطرحها السؤال (تحرير كامل فلسطين – إقامة دولتين على أرض واحدة – إقامة دولة متعددة الأديان مع حقوق مماثلة – حكم ذاتي فلسطيني داخل إطار إسرائيلي – السعي لإدماج أكبر عدد ممكن من العرب داخل الكيان الإسرائيلي للحصول على حقوق المواطنة فيه) حلول غير واقعية في المرحلة الحالية. والحل الواقعي في هذه المرحلة هو الانطلاق مرة أخرى ومن جديد من منطلقات مؤتمر مدريد التي وافقت عليها الدول العظمى وسائر الدول، بعد توضيح معانيها ونتائجها ورسم شروط الانطلاق منها.
وإذا كان الحل – على نقائصه وعلى ما فيه من تنازلات – لا يبدو مقبولاً من إسرائيل
أو ممن وراءها، فهذا يعني أن السلام غير ممكن في هذه المرحلة وأن إسرائيل ورعاتها غير جادين في طرحه، ولا بد بالتالي مما ليس منه بد نعني الخروج من مركب المفاوضات الحالية المشرف على الغرق ورسم خطط جديدة على المدى القريب والمتوسط والبعيد. وعند ذلك فقط لا بد للعرب من أن يرددوا مع الشاعر القروي:
أمـا السـلام فـإنـنـا أعـداؤه حـتـى يـديـن بـحـبـه أقـوانـا
ويحسن أن نذكر بأن هذا الموقف يقترب مما أوصى به مؤتمر القمة العربي الذي عقد بالقاهرة (في حزيران / يونيو 1996) حين أشار إلى ما يؤدي إليه الابتعاد عن المبادئ التي تم الاتفاق عليها في مدريد من انتكاسة في عملية السلام ومن عودة بالمنطقة إلى دوامة التوتر، “الأمر الذي يضطر الدول العربية إلى إعادة النظر في الخطوات المتخذة تجاه إسرائيل وبعزمهم على وضع خطة جديدة بديلة، يستعيدون بها زمام المبادرة، بدلاً من انتظار “الغيث” من إسرائيل ومن وراءها، ويعيدون إلى السلام معناه الحقيقي، معنى انتزاع الحق السليب بدلاً من الكبرياء والتجبر والمن والصدقة.
الإجابة عن السؤال الرابع:
الجواب عن هذا السؤال كامن في جوابنا عن السؤال السابق.
فالحل العملي الذي يمكن أن يقترح على الدول العربية لمعالجة المرحلة الراهنة (على مدى ستة أشهر إلى سنة كما ورد في السؤال) هو البدء السريع بالتشاور فيما بينها من أجل التخلي عن المسيرة الحالية، ورسم الخطوات اللازمة لطرح موضوع العودة من جديد إلى منطلقات مدريد الأساسية، مع التحديد الواضح لمضمون تلك المنطلقات وبيان الشروط التي يستلزم تطبيقها تطبيقاً سليماً وصادقاً. ويستلزم هذا جملة من النشاطات المسبقة والمصاحبة، من أهمها:
أ- تمتين وحدة الصف العربي، وإعادة الوئام إلى الأسرة العربية، ورفض الحصار المضروب على بعض أعضائها.
ب- القيام بنشاط واسع مع الدول الإسلامية، ولاسيما إيران، من أجل تعميق التواصل معها والحصول على تأييدها الفعال للموقف الجديد الذي تعتزم الدول العربية اتخاذه.
ج- الالتفاف حول الموقف السوري الصلب في مفاوضات السلام وحمايته بشتى الوسائل، ودعم المواقف المبدئية التي يُنادي بها، وتوفير الشروط التي تضمن له ما يصبو إليه من صمود متزايد يوماً بعد يوم، ومن عدة مادية ومعنوية متعاظمة في معركة السلام العادل والشامل والصادق.
د- الاضطلاع بنشاط دبلوماسي وإعلامي واسع من أجل توضيح وجهة النظر العربية لدول العالم، ولا سيما دول الوحدة الأوروبية والصين وروسيا واليابان، بالإضافة إلى البلدان النامية، وكذلك مواطني إسرائيل أنفسهم، ولا سيما المؤيدين منهم للسلام الحقيقي.
هـ- القيام بجهود دبلوماسية إعلامية وثقافية متنوعة وبتدابير اقتصادية وسياسية ملموسة مع الولايات المتحدة من أجل توضيح الخسائر التي تتعرض لها، بسبب مواقفها المنحازة،
ولا سيما في العالم العربي والإسلامي، وبيان المخاطر التي تواجه السلام العالمي والأمن الدولي إذا هي أصرّت على السير في الطريق المسدود الذي ترسمه إسرائيل. ومن أهم منطلقات تلك الجهود التأكيد على ما يصيب النظام العالمي – بسبب التعنت الأمريكي والانحياز المفضوح – من تصدع معنوي يجعله عرضه للانهيار وبؤرة للصراعات المتنوعة، ومرتعاً لشريعة الغاب، حين يجعل من معيار القوة والتسلط والكسب قوام التعامل الدولي ومعياراً تلجأ إليه دول العالم في منأى عن أي ضابط قانوني أو أخلاقي أو إنساني.
و- الاتفاق الواضح والحاسم بين البلدان العربية على خطة العمل في إطار المشروع الجديد بعد الموافقة عليه، نعني مشروع العودة إلى منطلقات مدريد على أسس واضح وأكثر تحديداً ووفق شروط محددة صارمة لا يجوز التراجع عنها. وأهم ما تتضمنه هذه الشروط (بالإضافة إلى مبدأ الأرض كاملة مقابل السلام الحقيقي) شرطان:
– تكوين وفد عربي مفاوض مشترك.
– الحصول على تأكيد واضح تضمنه الدول الكبرى، تؤكد فيه إسرائيل حرصها على السلام من أجل السلام، وتخليها النهائي عن غاياتها التوسعية المضمرة والمعلنة، وعن جعل مناخ السلام مطيّة لبلوغ تلك الغايات، وعن اتخاذ العدوان والإرهاب وسيلة لتحقيق مآربها سلماً وحرباً مجتمعين أو متناوبين.

الإجابة عن السؤال الخامس:
يتطلب العمل على المدى المتوسط (2-3 سنوات كما ورد في السؤال) الاستعداد لشتى الاحتمالات، بما فيها التخلي عن مفاوضات السلام تخلياً نهائياً في حال رفض البديل العربي الجديد لمفاوضات السلام الحالية، على نحو ما فصلنا الحديث عنه في الإجابة السابقة. وهذا الإعداد للاحتمالات الشتى ينبغي أن تتم متابعته متابعة موصولة جادة، غير أن الإعداد الجاد – ولا سيما في حال توقف مفاوضات السلام – يستلزم “إعادة ترتيب البيت العربي”. ووحدة المصير العربي هي أثمن “حقيقة” وأجزل “توظيف” يملكه العرب، وهي بالتالي أمضى سلاح في أي معركة يعتزمون خوضها.
ومن هنا يستلزم الإعداد المتوسط المدى التأكيد على تمتين تماسك الصف العربي بحيث يعمل كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً. ويتم ذلك بوسائل عديدة أهمها:
أ- الانطلاق في بناء التضامن العربي، كما جاء في مقررات مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في القاهرة (حزيران/ يونيو 1996)، من “مبادئ احترام السيادة والاستقلال والسلامة الإقليمية لكل دولة وسيادتها على مواردها الطبيعية والاقتصادية، والالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة”.
ب- فك الحصار المضروب على العراق وليبيا والسعي لدى الدول الأجنبية ومجلس الأمن لإنهاء هذه المحنة اللاإنسانية الشائنة والقاتلة.
ج- تمتين الروابط الثقافية بين البلدان العربية، والإفادة في هذا المجال من الطاقات الكبرى للتقنيات الإعلامية الجديدة، والعمل على توحيد الجبهة الثقافية في مواجهة الأخطار وفي فضح المآرب الإسرائيلية الحقيقية.
د- إدخال تعديلات أساسية على ميثاق جامعة الدول العربية ونشاطاتها ودورها، على رأسها أن يتم اتخاذ القرارات في القضايا المصيرية الكبرى بأكثرية الأصوات بدلاً من الإجماع، ومن بينها إنشاء محكمة عدل عربية ووضع ميثاق الشرف للأمن والتعاون العربي، وقد تمت الموافقة المبدئية عليهما في مؤتمر القمة (القاهرة من 21 إلى 23 حزيران / يونيو 1996). ومنها أيضاً تفعيل دور مؤسسات “العمل الاقتصادي العربي المشترك”، ووضع وتنفيذ استراتيجيات وخطط عمل اقتصادية واجتماعية متكاملة (كما جاء أيضاً في مقررات المؤتمر المشار إليه)، والاهتمام بوجه خاص بإدخال تعديلات جذرية على أهداف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم وعلى مهماتها ونشاطاتها – لدورها الأساسي في بناء الكيان العربي المتطور – بحيث تغدو أداة فعّالة في تطوير الثقافة العربية تطويراً يمكنّها من التصدي لمخاطر الغزو الإعلامي (بوجه خاص عن طريق توفير المناعة اللازمة للجسم العربي) ومن الاضطلاع بدورها في إغناء الهوية العربية، وبحيث تقوى على تجديد التربية العربية وتجويدها على مشارف القرن الحادي والعشرين، وبحيث تعمل على غرس العلم والتقانة وروحهما وأساليبهما في خلايا الجسم العربي بمؤسساته المختلفة.
هـ- توعية الجماهير العربية الواسعة، وبناء رؤية موحدة لديها، لما تتعرض له من مخاطر، ولما يقع عليها من أعباء، سعياً إلى توليد مجتمع كامل التعبئة، متفاعل الوعي، يضطلع كل فرد منه بدور محدد واضح في المعركة مع الأعداء، وفي درء الأخطار التي تكاد تعرّض أمته للفناء، وهي في مهد انبعاثها وفي بواكير بناء كيانها القومي الحضاري المتقدم.
و- القيام بجهود إعلامية وثقافية جادة واستثنائية من أجل إطلاع العالم ـ ولا سيما المتقدم ـ على حقيقة القضية العربية، وكسب تأييده لها. وقد يستلزم ذلك ـ فيما يستلزم ـ إنشاء مركز ثقافي عربي شامل لهذه الغاية، يوجه نشاطه كله شطر هذا الهدف، هدف إطلاع العالم على أبعاد المسألة العربية وعلى الأهداف الإنسانية التي ينطلق منها العرب في معالجتها، وعلى ما أصاب الرؤية العالمية للقضية الفلسطينية، والعربية بالتالي، من تزييف أو غموض بسبب الأكاذيب الصهيونية التي كادت تفلح في تلبيس “خرافتها” لبوس الحقيقة.
الإجابة عن السؤال السادس:
نلخص إجاباتنا ومقترحاتنا بالقول بأن جوهر الأمر أن يكون للبلدان العربية مجتمعة مشروع واضح المعالم مؤيد بإرادة صلبة، ينطلق من حقوقها القومية والدولية المعترف بها،
ولا يقبل التنازل قيد أنملة عما أجمع عليه العرب دوماً، وعما تؤكده الوثائق الدولية بما في ذلك الوثيقة التي انطلق منها مؤتمر مدريد. وهذا يعني ببساطة ووضوح العودة من جديد إلى الأسس التي قام عليها ذلك المؤتمر، وعلى رأسها مبادلة الأرض بالسلام وتطبيق قرارات الأمم المتحدة (أرقام 242 و338 و450) دون ما تصحيف أو تحريف، كما يعني هذا ألا يكون للسلام ثمن سوى السلام، أي إقامة علاقات طبيعية عادية مع إسرائيل، بعد أن تعلن على الملأ تراجعها عن المنطلقات التوسعية والعدوانية والإرهابية التي قامت على أساسها.
وواجب العرب في هذه المرحلة أن يثبتوا حقاً – بمواقفهم الصلبة الموحدة – إصرارهم على رفض أي تنازل يتصل بهذه الحقوق المشروعة، وأن يبينوا للملأ أنهم يأبون ويرفضون أي تنازل عن حقوقهم بعد أن قدموا قرباناً للسلام مالا يحق لهم أن يقدموه، نعني اعترافهم بإسرائيل ضمن حدود السلام عام 1948، بينما لم تقدم إسرائيل بعد ست سنوات من مفاوضات السلام
إلا نتفاً ملغومة من الأرض الفلسطينية وإلا المزيد من ترسيخ احتلال أراضي الضفة الغربية المحتلة.
وبعد ذلك. وبعد أن يطرح العرب مشروعهم الموحد، مشروع البدء بمدريد جديدة، وبعد أن يبينوا للعالم أنهم لن يفرطوا بأي عنصر من عناصره، يبقى على العالم، وعلى الدول الكبرى، وعلى الدولة العظمى، وعلى إسرائيل، أن تؤيد هذا المشروع أو أن تتحمل جميعها وزر رفضه ووزر المخاطر المحلية والعالمية التي تنجم عن ذلك.
إن أي دولة عربية وأي دولة في العالم لا يحق لها ولا تستطيع التصرف فيما لا تملكه، وفيما هو ملك الشعب العربي وحده بأجياله الحالية والمقبلة، نعني الأرض العربية والحقوق العربية. تلك حقيقة ينبغي أن يدركها العالم ويفكر فيها ملياً، ويستخلص منها النتائج التي تلزم عنها، ليوفر على نفسه وسواه سنين محملة بالمآسي، وليجعل من إحقاق الحق في هذه المنطقة بعضاً من الضياء الذي تتوق إليه مسيرة العالم المظلمة.
الإجابة عن السؤال السابع:
نعم أوافق على نشر هذه الإجابة في مجلة المستقبل العربي.