إسرائيل وهويتها الممزقة

يناقش هذا الكتاب فرضيتين أساسيتين:
الأولى حقيقة الإيديولوجيا الصهيونية: هل هي عقيدة جامعة مانعة، واضحة المعالم والأفكار يلتف حولها معظم يهود العالم – أم أنها تحمل في جعبتها جملة من التناقضات في النظرية والتطبيق؟
والثانية الهوية: فمن هو اليهودي؟ وما هي هوية دولة «إسرائيل» وهما سؤالان، أجاب عنهما اليهود: على الأول بطمسه، وعلى الثاني «إسرائيل» بالهروب منه أو تزييف النقاش حوله، وتلقي من الأجوبة المتكاثرة والمتناقضة ما يند عن الحصر، وما يزال السؤال بلا جواب حتى اليوم لأن الجواب الحق قمين بأن يضع موضع التساؤل الصهيونية وتعدد منطلقاتها وتناقض أصولها، فضلاً عما صاحبها من تزييف ومراوغة وكذب على الواقع، وأن يفضح بالتالي التهافت المعنوي للوجود «الإسرائيلي»، وهو تهافت كفيل بأن يقضي على ذلك الوجود في وقت عاجل أو آجل.
ويخلص المؤلف إلى أن دولة «إسرائيل» ملتقى لصراعات قديمة وحديثة من كل نوع، تمزق وجودها وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للانفجار الداخلي، وإن هذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي كما يقول الفلاسفة «محايثة» لليهودية والصهيونية، ودولة «إسرائيل» تقيم في صلبها جميعها.
ومن ثم فإن حل المسألة اليهودية لا يكون إلا بالنكوص عن محاولة اعتبارها نمطاً فريداً «نسيج وحدة بين ديانات العالم» والانخراط بالتالي في مسيرة التطور الإنساني الذي يرفض أن تكون الديانات أساس حياة الشعوب وكياناتهم، وأن تتخلص الصهيونية من آفاتها وتناقضاتها. وتخليص الإنسانية بالتالي من شرورها، يشترط أولاً، التخلي عن الشعارات الشوفينية والعرقية «شعب الله المختار».
وإذا كانت الديانة اليهودية قد عانت من التناقضات العقيدية والمذهبية عبر التاريخ وما شهدته من صراع بين اليهودية التقليدية واليهودية التنويرية، حتى بزوغ الصهيونية، التي عانت هي الأخرى بالتالي من تناقضات في صلب الدعوة ومخاضها وولادتها، فضلاً عن الغموض والإبهام. وشهد التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر أشكالاً ومسميات متباينة من الصهيونية: صهيونية ثقافية وأخرى سياسية وثالثة قومية ورابعة اشتراكية… الخ.
ومما لا شك فيه أن هذه التناقضات في الديانة اليهودية والإيديولوجية الصهيونية كان لها تأثيرها الأكيد والمباشر على التجمع اليهودي في فلسطين، قبل وبعد الإعلان عن قيام الكيان اليهودي، والذي انتقلت إليه آثار كل ما حملته قرون الشتات المختلفة، وصاغتها المذاهب الدينية والفكرية المتعارضة التي استوحت من هذا الواقع المتباين والمواقف المختلفة في المجتمعات التي عاشوا فيها، وزادت في ضياعها وتخبطها الفلسفات والإيديولوجيات المتنافرة حول الدين والقومية واللغة التي طرحها مفكرو أوروبا من اليهود وغيرهم.
وزادت ضغثاً بظهور الحركة الصهيونية، تلك الحركة المصطنعة التي تكاد لا ترتبط بواقع اليهود وحاجاتهم الفعلية وآفاق مستقبلهم، إلا في جانب واحد هو رد الفعل ضد النزعات المعادية لليهودية الصهيونية، وقد تركت هذه الأخيرة لدولة «إسرائيل» تركة تشبه القنبلة الموقوتة،ـ فهي تعاني من الصراع الطائفي الاثني بين الاشكنار والسفرديم، إلى جانب الصراع بين قوى اليمين واليسار. وفوق كل ذلك الصراع العربي – الصهيوني داخل حدود فلسطين 1948. وإلى حد كبير تواجه سياسات التكامل الاجتماعي/ القومي، والصهر القسري الذي تمارسه النخبة الاشكنازية الحاكمة والمتنفذة، صعوبات كثيرة، وكلما حققت بعض النجاحات، تراجعت خطوات إلى الوراء بسبب التباين الاثني والمذهبي والإيديولوجي لدى الجماعات اليهودية بفلسطين.
ولعل من التطورات الأخيرة في الكيان الصهيوني التي تعكس جلياً مظاهر التباين والصراع الطائفي، اغتيال السفاح اسحق رابين ونتائج انتخابات الكنيست 14، وفضيحة باريمون، وأخيراً فضيحة دفن أحد قتلة العملية الاستشهادية الأخيرة في القدس، لأنه مولود من أم مسيحية والأب يهودي روسي. ورغم المكاسب الأخيرة التي حصل عليها المهاجرون الروس، وتولي قائدهم منصب وزير الهجرة والاستيعاب في الكيان، إلا أنه فشل في الحصول لمواطنه – الروسي/ «الإسرائيلي»، على حفرة تؤوي جثته في مقابر اليهود أو حتى المسيحيين. ولعل الإشكالية الأخيرة التي يوليها المؤلف اهتمامه، مدى انعكاس أزمة التكامل الاجتماعي هذه على عملية التسوية الجارية، ويرصد المؤشرات الرئيسية في هذا الصدد:
أ- هناك شعور واسع الانتشار بين الصهاينة بأن كيانهم سيدفع الثمن غالياً وأنه غير قادر – بحكم بنيته الممزقة – على دفع هذا الثمن ويحذرون من اشتعال حرب أهلية بين الجماعات اليهودية كثمن لهذا السلام – على أساس أن الخطر الخارجي يعد بمثابة الإسمنت الذي يؤدي إلى تماسك الجبهة الداخلية لأي مجتمع، ويخشى أصحاب هذا التصور أن يؤدي السلام إلى تحلل اليهودية الصهيونية وذوبانها في المحيط العربي كما حدث في زمن الشتات.
ب- فريق آخر – وإن كان قليل العدد – يرى أن الوقت قد حان للتخلص من ويلات الحروب ولبناء دولة ديمقراطية لتلاشي براثن التمزق والصراع الداخلي إلى جانب العداء العربي.
ج- أما الفريق الثالث الذي يرى أن الكيان الصهيوني يعاني من الازدواجية والثنائية – ليست ثنائية القومية عرب ويهود – ولكن ثنائية بين اليهود والصهاينة، فالصهاينة «الإسرائيليون» هم أغيار في نظر اليهود، يتكلمون العبرية لا أكثر وقد أنهكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية ولم يعرفوا اليهودية يوماً ما. وبعد تسليم الأراضي الفلسطينية لأصحابها لا يبقى شيء سوى الفراغ المطلق، الذي لن تستطيع العلمانية أو الديمقراطية أن تسده، فكلتاهما لا تعتبران من القيم البنيوية الأساسية للشعب اليهودي. وعند الاقتراب من تنفيذ اتفاقات أوسلو كان يبدو للفريق الثاني «الصهاينة» أن الأرض قد غدت عقبة في طريق التطبيع، بينما يرى الفريق الأول «اليهود» أن التطبيع خطر على الهوية «الإسرائيلية».
د- ثمة فريق رابع يرى أن التسوية ستوفر للكيان الصهيوني الغلبة الاقتصادية في المنطقة «الشرق الأوسطية» وأن الازدهار الاقتصادي الذي قد ينجم عن هذه الغلبة من شأنه أن يذيب أو يخفف من حدة الصراع الطائفي «الإسرائيلي».
غير أن المؤلف يرى أن السلام العادل والشامل والدائم لا يمكن أن يتحقق من دون التصدي لتناقضات ومؤامرات داخل اليهودية والصهيونية والكيان «الإسرائيلي». فالسلام لا معنى له ولا بقاء – أياً كانت الظروف الاقتصادية والسياسية – إذا لم تتخلّ اليهودية الصهيونية عن دعاوى التفوق والعنصرية والحقوق التاريخية المزعومة في فلسطين، كذلك نوازع التوسع والهيمنة على حساب الأمة العربية.
وفي الوقت ذاته إذا نظرنا للمستقبل العربي من خلال حقيقة الكيان الصهيوني ووهنه المعنوي المتزايد وإفرازاته المستقبلية، ومن خلال الأمة العربية وطاقاتها المعنوية والمادية، واستخرجنا من كل ذلك النتائج، وطرقنا السلام بالتالي من أبوابه الحقيقية عبر واهمين أو مضللين، فإن مستقبلنا سوف يبدو مشرقاً أكثر مما نظن.