العالم ومستقبل الثقافة العربية

مجلة المستقبل العربي – العدد /222/ – آب 1997

العالم ومستقبل الثقافة العربية(1)
عبد الله عبد الدائم
مفكر وأستاذ جامعي سابق ووزير سابق

مدخل:
مشكلة الثقافة العربية مشكلة عربية وعالمية معاً. ومشكلات العالم – شأنها شأن مشكلات الوطن العربي – يتصدرها البحث في المشكلة الثقافية، وذلك للأسباب الآتية:
1 – تطور مفهوم الثقافة ومعناها:
فالثقافة في الماضي – أو قل الآداب والفنون – لم يكن شأنها يتجاوز إعداد الشبيبة وإمتاع الكبار. ولم يكن ثمة بحث عما قد يتضمنه النتاج الأدبي والفكري والفني من تجسيد للهوية القومية العميقة والراسخة.
أما الآن فقد تغير كل شيء، وأصبحت الثقافات منطلقات لإثبات الذات الجماعية والبحث عن الهويات الخاصة كما غدت موضوعات كبيرة للصراع.
وهكذا حملت الثقافة في المجتمعات الحديثة معنى جديداً، إذ غدت تعنى مجموعة من النشاطات والمشروعات والقيم المشتركة التي تكون الأساس المكين للرغبة في الحياة المشتركة لدى أمة من الأمم، والتي ينبثق منها تراث مشترك من الصلات المادية والروحية يغتنى عبر الزمان ويغدو في الذاكرة الفردية والجماعية، إرثاً ثقافياً بالمعنى الواسع لهذه الكلمة هو الذي تُبنَى على أساسه مشاعر الانتماء والتضامن والمصير الواحد.
2- تطوّر دور الثقافة:
ونتيجةً لتطور مفهوم الثقافة تطور دورها. فبالإضافة إلى دورها في تحديد الهويات القومية، تطور دورها في التنمية الاقتصادية وفي التنمية الشاملة، فأصبحت – منذ مؤتمر المكسيك بوجه خاص عام 1982 – غاية التنمية وليست وسيلتها فحسب.

3- بزوغ الصراعات الثقافية:
فعلى الرغم من الآمال التي عقدها كثيرون على الحوار بين الثقافات وحول إمكان توليد ثقافة عالمية تغتني بما في داخلها من فوارق، فإن مثل هذه الثقافة العالمية لم تر النور حتى اليوم وما تزال الصراعات الثقافية قائمة، بل لعلها تزداد حدة يوماً بعد يوم.
صحيح أن بعض الشعارات الجديدة طرحت ولا سيما بعد الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط النازية. ومن بين هذه الشعارات: تحقيق ديمقراطية الشعوب، وعالمية الحوار الثقافي المشترك، وضرورة إنصات الشعوب بعضها إلى بعض، الخ… ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، ولا نقع إلا على شعارات فارغة في مجال التواصل بين ثقافات الشعوب.
وتعقدت المشكلة ولبست حللاً جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وبعد التبشير بولادة نظام عالمي جديد. إذ سادت «العولمة» بمعناها الضيق والوحشي بدلاً عن النزعة العالمية الإنسانية، وطغت على شتى جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وسارت في طريق يعرّض مصير الثقافات الإنسانية لمخاطر الذوبان أو الإمحاء أو التشاكل، وهذا كله يقودنا إلى الحديث عن بواعث أزمة الثقافة العالمية.
(أولاً) أهم بواعث أزمة الثقافة في العالم:
بكثير من الإيجاز المخل، يمكن رد هذه البواعث إلى ما يأتي:
1- فشل جهود التنمية الاقتصادية والتنمية الشاملة في العقود الأخيرة:
ولا سيما في البلدان النامية حينما أهملت تلك الجهود تلك الشبكة من العلاقات والمعتقدات والقيم والبواعث التي تكمن في قلب الثقافة والتي لا تكون تنمية بدونها.
وكما يقول «بيريزدي كويلار» الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة في تقريره الشهير بعنوان «تنوّعنا المبدع Our creative diversity» «إن جهود التنمية قد فشلت في معظم الأحيان لأن العنصر الإنساني لم يقدّر حق قدره. ذلك العنصر الإنساني المكوّن من شبكة معقدة من المعتقدات والقيم والبواعث التي تثوي في قلب الثقافة». ومن هنا طرحت منظمات الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة شعار «التنمية الإنسانية».
2- في قلب النظام العالمي، كما قلنا، إنكار معلن أو مضمر للثقافة ودورها:
ذلك أن من أهم معالم النظام العالمي الجديد عولمة الاقتصاد والمال والاتصال. وهذه العولمة تزيد في تخبط أزمة الهوية لدى العديد من الشعوب بل توقظ النزعات العصبية والأثنية والدينية (خلافاً لما يظن).
وكما يقول «جاك دولور jacgues Delors» في تقريره الدولي الشهير (L’education: un trésor est caché dedans) عن التربية «إن الشعور بالدُّوار، ينتاب أبناء عصرنا الذين تتجاذبهم «العولمة» من جانب، والبحث عن الجذور وعن مقومات الانتماء من جانب آخر».
3- طغيان النزعة الاقتصادية الليبرالية المفرطة:
التي لا يكبح جماحها أي جهد ثقافي واجتماعي ذي أغراض إنسانية حقاً، وطغيان عالم المال على عالم الاقتصاد نفسه (الاتجار بالمال والمضاربات المالية).
4- عولمة وسائل الاتصال:
وفي إطار هذه العولمة ما يزال التداول العالمي للصور والكلام في أيدي القوى العالمية الكبرى، الأمر الذي يؤدي إلى ائتكال الثقافات وإمحاء الخصوصيات الثقافية وسيطرة ثقافة الأقوى.
ويزيد ضغثاً على إبالة أن الثقافة العالمية التي تبثها وسائل الاتصال هذه ثقافة زائفة وأنها، على الرغم من زيفها، تحمل معها معايير وقيماً ضمنية، من شأنها أن تولد لدى الذين يخضعون لها شعوراً بالاستلاب وفقدان الهوية.
5- خطر العولمة على الثقافات بوجه عام:
فالعولمة بوجه عام – اقتصادية كانت أو إعلامية – تؤدي يوماً بعد يوم إلى «تسطيح الثقافات» وسيطرة ثقافة الأقوى.
وهنا نفتح معترضة صغيرة لنشير إلى بعض الأفكار التي ترى أن ما يسود العالم اليوم ليس الثقافة الأميركية بل ضرب من الثقافة يمكن أن نسميها ثقافة عالمية.
هذا ما يراه مثلاً «لستر ثرو Lester Thurow» أستاذ الاقتصاد في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا: فهو يرى – من الوجهة الاقتصادية – أن ثمة رأسمالية عالمية شاملة تنزع إلى أن تفرض نفسها على العالم، ولكن إلى جانبها أنماطاً أخرى من الرأسمالية (في جنوبي شرقي آسيا حيث تسود المؤسسات الاقتصادية العائلية الكبرى وحتى في أوروبا نفسها). ويرى بوجه أشمل أن العولمة ليست مجرد سيطرة أمريكية على العالم، فسيطرة أمريكا على العالم بعد عام 1945 وبعد عام 1960، ولا سيما سيطرتها الاقتصادية، كانت أكبر بكثير من سيطرتها على العالم اليوم. ويضيف قائلاً إن الاقتصاد الأمريكي، رغم أنه اللاعب الأول في العالم، لا يستطيع أن يفرض قواعد اللعبة.

وفي ميدان الثقافة يرى أيضاً أن الذي يفرض نفسه على العالم هو ضرب من الثقافة العالمية وليست الثقافة الأمريكية. ويضيف: صحيح أن هذه الثقافة إنجليزية اللغة، ولكن الأمريكيين أنفسهم يرون فيها شيئاً جديداً وغريباً. والجمهور في الولايات المتحدة ينتابه القلق لأن التلفزيون والسينما وسواهما تهدم القيم العائلية. هذا فضلاً عن أن للعولمة آثاراً سلبية في الاقتصاد الأمريكي، ولها آثار إيجابية لدى بعض الأمريكيين وسلبية لدى بعضهم الآخر.
نقد عابر:
وفي هذا القول جانب من الصحة، ولا سيما إذا ذكرنا أن الذي يقود العالم هو الشركات الكبرى المتعددة الجنسية وليست الحكومات. ولكن موقف الحكومات مما يجري هو الذي يعنينا. ولا شك أن سياسة الولايات المتحدة سياسة تدفع إلى مزيد من اقتصاد السوق ومن الحرية الاقتصادية والإعلامية التي لا يضبطها ضابط، الأمر الذي ينعكس سلباً على البلدان النامية بوجه خاص ويهدد اقتصادها وثقافتها.
ولن نخوض هنا في الموقف الذي ينبغي أن تقفه الدول النامية في مواجهة هذه الرأسمالية «المتوحشة». وحسبنا أن نقول عابرين: إن انفتاح هذه الدول، اقتصادياً أو ثقافياً على العالم ينبغي أن يكون انتقائياً، على وفاق مع حاجتها ومرحلة نموها ومستلزمات مستقبلها ومقومات ثقافتها.
والحق أن الدول المتقدمة جميعها تأخذ بالحماية والانتقاء، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتليها دول الاتحاد الأوروبي واليابان. وكأن شعارها «مرحى لتخفيف الحماية لدى الآخرين، وتبّاً له عندنا».
يضاف إلى هذا أن النظام العالمي السائد يهدد الثقافات العالمية جميعها بما فيها ثقافات الدول القوية، وبما في ذلك قيم الحياة الأميركية، وأن من واجب الإنسانية أن تقوم بجهد مشترك في هذا الميدان، من أجل اكتشاف وبناء القيم الملائمة لعصر التقدم العلمي والتقاني والمعلوماتي. وقد يكون للثقافة العربية الإسلامية، كما سنرى، دور مهم تضطلع به في هذا المجال. وفوق هذا وذاك، فإن هذه الرأسمالية الوحشية تهدد مبدأ الديمقراطية نفسه، وهو أثمن المبادئ الإنسانية. فكما يقول الكاتب الفرنسي «دوكورنوا Decornoy» متهكماً في مقال له بعنوان «الديمقراطية هي التجارة» «إن الطريق الجديد نحو الديمقراطية قد تم رسمه، وعليه يتدافع الجميع أو سوف يتدافعون. واسم هذا الطريق: السوق الاقتصادية».

6- تقليص دور الدولة:
أمام تعاظم دور الشركات الكبرى المتعددة الجنسية وزوال السلطة الناظمة لاتّساق المجتمع والساعية نحو تحقيق العدالة داخل النسيج الاجتماعي المعقد.
أولم يقل كلينتون في خطابه إلى الأمة بتاريخ 23 يناير 1996: «إن زمن تدخل الدولة قد مضى وانقضى؟».
وهكذا أخذنا نشهد أمام عينينا تكون «الدولة المحجّمة» إن صح التعبير.
وفي هذا يقول الكاتب الفرنسي «فيليب إنغلهارد Engelhard» مستنكراً في كتاب له حديث عنوانه «الإنسان العالمي»: «إن الدول والقوميات لن تكون عما قريب سوى نقاط في فضاء إنتاج الشركات الكبرى».
(ثانياً) منطلقات الحل:
أولها أن ندرك أن الإيديولوجية الليبرالية الظافرة لا تقبل أي ضبط للاقتصاد العالمي،
أو للسيطرة الإعلامية العالمية أو للاجتياح الثقافي. وعالمنا عالم لا يحكمه أحدٌ إلا السوق، ومقاومة هذه الإيديولوجية يستلزم إدراك بعض البدهيات والاقتناع بها:
– عالم الاقتصاد (والعلوم الاجتماعية بوجه عام) لا يقر بوجود قوانين عامة صارمة تحدد مسيرته.
– العولمة الاقتصادية كما تجري (حرية السوق) هي غير حرية المبادرة.
– سيطرة فكرة من الأفكار ليست دليلاً كافياً على صحتها.
– أي دولة في العالم لم تحقق تقدمها عن طريق السوق الليبرالية الحرة. والشعوب التي لم يخضع نظامها الثقافي للغزو والانتهاك العنيف من قبل الحداثة الغربية أو التي انفتحت على هذه الحداثة بشيء من الحذر والحكمة هي التي استطاعت ان تحقق أفضل النتائج الاقتصادية وأن تتقدم (الصين – اليابان – بعض دول جنوبي شرقي آسيا). وعلينا أن نذكر أثر الكونفوشيوسية وثقافتها في هذا التقدم.
– من هنا فإن موقفنا من هذه الإيديولوجية ينبغي أن يكون موقف من يعيها من أجل اجتناب خطرها ومن أجل توجيهها وفق حاجاتنا.

وثاني هذه المنطلقات أنه إذا لم يتغير شيء فإن شطراً من العالم قد يتعرض لخطر التمزق الثقافي من داخله، وأن شطراً آخر قد يعيد تكوين نفسه وثقافته استناداً إلى إيديولوجيات صارمة مغلقة تنفي الحداثة وتنطلق في طريق غوغاتية متخلّفة مغرية.
عالمنا اليوم عالم غير عقلاني يتهدده الفصام. وما تزايد العنف فيه إلا نتيجة من نتائج تحطم الثقافات الخاصة.
وثالث منطلقات الحل أنه لا مناص من إحداث التغير والتغيير في مسيرة العالم، من أجل مزيد من الإنسانية. فالقدرة على التغيير معيار إنسانية الإنسان وتقدمه، ومنطلقها هو الإيمان بأن الإنسان قادر على أن يفكر تفكيراً مناقضاً لفكره على حد تعبير (هيدغر Heidegger).
ورابعها الإدراك الواضح بأن النزعة العالمية غير العولمة:
فالعالمية ليست حقيقة معطاة وجاهزة، بل هي إعادة بناء صبورة، سبيلها التواصل بين الثقافات واحترام بعضها لبعض.
وخامسها أن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الثقافات المختلفة في العالم هي أن تحول الترابط الواقعي المفروض على ثقافات العالم إلى ترابط مراد مقصود، وإلى تضامن متكافئ ومنشود.
وسادسها أن حاجات الإنسان ليست فقط حاجات اقتصادية وتقنية كما يقول المفكر الفرنسي ادغار موران (Ed. Morin) في كتاب له حديث عنوانه «السياسة الحضارية» وإنما هي أيضاً عاطفية وروحية. ولا ينبغي ولا يمكن للنمو الإنساني أن يكون رديفاً للاقتصاد والتنمية.
ومن هنا تولد الحاجة إلى التفكير في أزمة الثقافة سعياً إلى إيجاد سياسة حضارية تشتد الحاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى أمام الكوارث المختلفة التي تحدق بالإنسان وكوكبه.
ويعبر موران Morin عن خشيته، فيما لو استمر وضع العالم على ما هو عليه، من أن يلتحق الجنس البشري قبل الأوان بالديناصورات وبملايين الأجناس التي انقرضت.
هناك إذن مصير إنساني مشترك ينبغي أن تجتمع القوى للبحث فيه (الصفة المجهولة للمغامرة الإنسانية ينبغي أن تدفعنا إلى التفكير فيما هو غير مرتقب وغير منتظر وفي عالم الاحتمالات الخ…) فنحن الآن كمن يستقل مركباً يلفه الضباب وتحيط به المياه الداكنة. ولا أحد على الإطلاق يستطيع ادعاء معرفة ماذا سيحدث في الغد. والعالم اليوم مدفوع إلى معارك بين قوى الانفصال والتفكك والردع وتدمير الذات من جانب وبين قوى التحالف والاتحاد من جانب آخر.
وسابعها أن علينا في معالجتنا هذه للأزمة الثقافية العالمية، أن نرفض الطوباوية الخيالية والواقعية المستسلمة الخائرة في آن واحد. فقد يقول بعضهم إن كل مالا يمكن تحقيقه في الوقت الراهن هو ضرب من المثالية. ولكن لا بد أن ندرك أن كل ما يبدو مستحيلاً الآن قد يتحقق في أحوال وظروف أخرى. وهذا كله رهن بوعي الإنسان وجهده وتجاوزه لذاته.
(ثالثاًَ) العالم وأزمة الثقافة العربية الإسلامية:
(I) معالم الأزمة
– الثقافة العربية الإسلامية لم تنجح منذ أكثر من قرن حتى اليوم في صنع حداثتها. والصراع بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية، صراع أخذ صوراً عديدة ولم يحسم حتى اليوم.
– الثقافة العربية الإسلامية ثقافة عريقة. هذه العراقة تمنحها القوة والقدرة على البقاء. ولكنها كثيراً ما تكون عبئاً ثقيلاً ومعرقلاً للتجديد والتجويد. ذلك أن ثقافة أي أمة معطىً، علينا أن نتجاوزه لكي نمده بالحياة ونمد في حياته.
– ازدهار الثقافة العربية الإسلامية ينتسب إلى ماضيها البعيد، وأوج تفتحها مضت عليه خمسة قرون على أقل تقدير (بما في ذلك حضارة الأندلس). وهذا يخلق نوعاً من الانتماء الماضوي والنزعة الماضوية.
– المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجوة ما تزال محدودة جداً (من هنا فشل بعض الاتجاهات القومية التقدمية المجددة).
– محاولات تحديث هذه الثقافة لم تتم في معظم الأحيان انطلاقاً من داخلها، بل تمت غالباً بحكم الاصطدام بالثقافة الغربية ولا سيما منذ حملة نابليون، وكانت بالتالي رد فعل. وهذا أدى إلى موقف ثقافي يحمل طابع «الفصام»، بدلاً من أن يأخذ طابع الدمج العضوي بين الجسم الأصيل والجسم الدخيل. وتكونت منذ ذلك الحين ثقافتان منفصمتان لا تلتقيان: ثقافة تخشى على التليد وتلتف حوله وتتقوقع في داخله، وثقافة تؤثر الجديد ولوضحت من أجله بالتليد. أما الثقافة التي حاولت التوفيق فلم تفلح في مهمتها حتى اليوم، وكثيراً ما لجأت إلى التلفيق أو اللصق بدلاً من الدمج العضوي.
– النظام العالمي الجديد – كما وصفناه – كثيراً ما يتحدى الثقافة العربية الإسلامية تحدياً سافراً، الأمر الذي يخلق بالضرورة ردود فعل مغالية.
– عولمة الاقتصاد والمال والاتصال تؤدي إلى هجمة شرسة على الخصوصيات الذاتية للشعوب وعلى الأمة العربية الإسلامية بوجه خاص، التي لا يكتمل عقد العولمة إلا بالسيطرة على مواردها الغنية.
الثقافة العربية المنشودة:
لا بد من دراسة واستخلاص وجلاء مقومات الثقافة العربية الإسلامية، من خلال ذاتها، ومن خلال تفاعلها مع الثقافات العالمية.
يمكن تلخيص الهوية الثقافية العربية بكلمة موجزة: وهي أن خصائص هذه الثقافة تتجلى في القيم العربية الإسلامية بعد جلائها وتجديد فهمها وإحياء دورها.
هذه القيم ذات أبعاد ثلاثة: بعد أخلاقي، وبعد علمي تقاني، وبعد اقتصادي اجتماعي.
أ- فيما يتصل بالبعد الأخلاقي، تجمع الثقافة العربية الإسلامية بين قيم ثلاث تعتبر في نظر الباحثين اليوم (وعلى رأسهم هابرماس وجوناس الألمانيان و«راولز» الأمريكي) هي القيم المستحدثة اللازمة لعصر العلم والثقافة، نعني: الحوار والمسؤولية والعدالة. هذا بالإضافة إلى قيم أخلاقية عديدة غنية لا مجال للتفصيل فيها.
ب- وفيما يتصل بالبعد العلمي التقاني أهم سمات ثقافتنا العربية الإسلامية، بل معجزتها على حد قول «فانتيجو»، أنها لم تكن ثقافة تعنى بالدراسات الإنسانية وحدها، بل كانت أولاً وقبل كل شيء ثقافة علمية تجريبية هي التي انطلقت منها حضارة الغرب كما نعلم (بضاعتنا ردت إلينا). والانغماس في الحضارة العلمية الثقافية الحديثة تحقيق لقيمة هامة من قيم تراثنا، بل لفرض من فروض الدين الإسلامي، كما يبيّن الإمام الشاطبي الأندلسي في حديثه عن واجب الكفاية في كتابه «الموافقات».
جـ- وفيما يتصل بالبعد الاقتصادي والاجتماعي نجد في الثقافة العربية الإسلامية قيماً أساسية، كالآتية: تكافؤ الفرص – العدل – المساواة – الدعوة إلى العمل – إكبار العلم – إرادة التقدم والتغيير – إنكار التقليد والسير على سنن الأولين – رعاية الآخرين – التكافل الاجتماعي بأوسع معاني هذه الكلمة، من أجل خلق مجتمع متماسك يشد بعضه بعضاً.

1- المهم في هذا كله الانطلاق فيما يتصل بالثقافة العربية الإسلامية والقيم الثقافية العربية الإسلامية من منهج قوامه: أن نبحث في تراثنا بحثاً علمياً جاداً عن القيم والمبادئ القادرة على بث الحياة في وجودنا الحالي وعلى تجديده وتطويره. ويطيب لنا أحياناً أن نطلق على هذه المبادئ اسم المبادئ الإيجابية الحارة أو الحادة التي تكون رأس الرمح في معركة تحديث الثقافة العربية.
2- التعامل مع العالم والانفتاح على ثقافاته يستلزم أولاً وقبل كل شيء تحقيق التضامن والتكامل داخل المجتمع العربي، وتحديد معالم ثقافتنا الذاتية، لنكون من نحن، ولنعتني بثقافات الآخرين من خلال ذاتنا وحاجاتنا ومستلزمات مستقبلنا، على نحو ما حدث في ماضيات الثقافة العربية الإسلامية، ولا سيما في القرنين الرابع والخامس الهجريين وفي الأندلس.
3- ولزام علينا أن نذكر عابرين أن من أهم مقومات الثقافة العربية المرجوة ومن أهم مكوناتها النظام التربوي.
والحديث عما يتوجب على النظام التربوي العربي أن يضطلع به في عصر الاتصال والمعلومات وفي عصر التغير المذهل يحتاج إلى مجلدات عديدة. وقد تحدثنا عن ذلك في مناسبات عديدة ولا سيما في كتابنا «مراجعة استراتيجية تطوير التربية العربية» الذي أصدرته الألكسو عام 1995.
وحسبنا أن نشير إشارات برقية إلى أبرز معالم التربية المرجوة من أجل تجديد الثقافة العربية والتفاعل الخصيب بينها وبين ثقافات العالم. حسبنا أن نشير إلى أن تحقيق هذه المعالم يستلزم نظاماً عربياً يعنى عناية خاصة بالجوانب الآتية:
– تحقيق مرونة النظام التربوي، بنية ومناهج وطرائق، ومجاوزة إطار التربية التقليدي، وهجر النظام التربوي الثابت والجامد.
– العناية بالتربية المستمرة، من المهد إلى اللحد، وبما تمليه من نتائج تتصل ببنية النظام التربوي ومناهجه وطرائقه وزبائنه.
– الاهتمام بالتعلم الذاتي وبإعداد الطالب لكي يعلم نفسه بنفسه لا سيما بعد انتشار الحاسبات الإلكترونية وشتى التقنيات التربوية الحديثة.
– ربط التربية بعالم العمل ومؤسساته.
– تجديد تقنيات التربية، والربط بين التربية والتقنيات المعلوماتية.
– وأخيراً وليس آخراً ربط التربية بالتراث الثقافي العربي والعالمي.
4- تنمية الثقافة العربية الإسلامية تستلزم جهداً عربياً مشتركاً، ولا سيما في مواجهة الهجمة الشرسة للثقافة العالمية وللعولمة بشتى أشكالها، وبوجه أخص في إطار مخاطر الغزو الثقافي الصهيوني، وفي إطار المشروعات السياسية التي تريد إسرائيل ويريد الغرب فرضها على الكيان العربي (من مشروعات شرق أوسطية أو متوسطية أو سوى ذلك). وكلها مشروعات يتجاوز خطرها الاقتصاد والدفاع إلى الثقافة بوجه خاص.
وهنا لا بد من التأكيد أن إسرائيل الصهيونية لن يطيب لها المقام والتوسع فيه إلا إذا فتتت الثقافة العربية، ومحت معالمها الأصيلة تدريجياً، وأحلت محلها الثقافة القومية اليهودية التي تنادي بها الصهيونية والتي ولدت من خلالها.
ومحط رحال السلام الأمني والسياسي والاقتصادي، على نحو ما تريده إسرائيل، كسر الطوق الثقافي الذي يحول دون سيطرتها على المنطقة العربية ودون محو معالم الثقافة العربية الإسلامية، التي كانت وما تزال الحاجز المنيع دون تغلغلها في المنطقة العربية، ودون إبادة مقومات وجودها ولا سيما مقومات وجودها الموحد.
وعلى الرغم من إيماننا بأن محو هذه الثقافة العربية الإسلامية مطلب دونه أهوال، فإن من الحق أن نذكر أن تطور وسائل الاتصال والإعلام والعولمة الاقتصادية والثقافية عامل جديد وخطير يجعل حفاظ العرب على ثقافتهم أمراً يستلزم جهوداً فذة.
وأهم ما ينبغي أن تطرحه الثقافة العربية الإسلامية في مواجهة الغزو الثقافي الصهيوني وامتداداته العالمية هو أن أي حوار ثقافي مع الدولة الصهيونية أو مع أبنائها حوار مرفوض، ما دامت هذه الدولة مستمرة في منطلقاتها الصهيونية الشوفينية الممجّدة لشعب الله المختار والمؤمنة بتفوق ثقافته على سواها والداعية إلى سيطرة هذه الثقافة على العالم كله، وما دامت تدين بمبادئ التسلط والتوسع والتفوق التي تنفي أصلاً ومبدءاً أي حوار، ولا تؤمن إلا بفرض سلطانها الثقافي والعسكري والاقتصادي عن طريق القوة وحدها.
5- يكتسب هذا الجهد الثقافي العربي المشترك شأناً خاصاً في إطار محادثات السلام، تلك المحادثات التي ينبغي أن يحتل فيها «الأمن الثقافي العربي» والأمن الاقتصادي العربي مقام الصدارة، لا سيما أن إسرائيل ستكون في حال تحقق السلام الجسر الذي يعبر عليه النظام العالمي إلى البلدان العربية والبلدان الآسيوية والإفريقية. ولا شك أن مخاطر السلام مع إسرائيل عديدة، من أبرزها مخاطر غزو الثقافة الصهيونية التي حاول زعماء الصهيونية منذ البداية توضيح معالمها ودورها، والتي تقوم على العنصرية والتفرد العرقي، بل على الدم المتميز، وعلى التفوق الفكري وعداء الغرباء، واحتلال الأرض بالقوة.
خاتمة:
لم تكن عوامل التضامن العالمي في يوم من الأيام أقوى منها الآن، ولم تكن عوامل التفرقة والصدام يوماً أعنف منها في عالمنا الجديد.
والتحول السريع الذي نشهده في المجتمعات الإنسانية، تحول يتّجه اتجاهاً مزدوجاً: اتجاهاً نحو العالمية واتجاهاً معاكساً نحو البحث عن الجذور القريبة الخاصة.
والطابع الذي ترتديه العالمية، في شكلها الزائف اليوم، يزيد من تقوقع كثير من الثقافات على نفسها اتقاءً للتآكل والإمحاء، ويزيد بالتالي من عوامل الصدام والصراع بين الحضارات، وبوجه خاص بين الحضارات في البلدان المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبين الحضارات في سائر بلدان العالم.
والثقافة وسط هذا الخضمّ مدعوة إلى بناء نزعة إنسانية جديدة، لها مقوماتها الخلقية الأساسية، تفسح مجالاً واسعاً لمعرفة القيم الثقافية للحضارات المختلفة، وتحترم هذه القيم. ومثل هذه المهمة هي المقابل الضروري لعولمة لا تعنى إلا بالجوانب الاقتصادية والتقنية.
والشعور بالمشاركة في قيم مشتركة ومصير مشترك هو في خاتمة المطاف أساس أي مشروع يتصل بالتعاون الدولي وهو الذي يساعد على القضاء على ذلك التشكيك السائد في قدرة العالم على أن يغير ذاته. وهو تشكيك قد يقود العالم إلى كارثة.
من خلال مثل هذه النظرة ينبغي أن ينطلق المشروع الثقافي العربي المستقبلي المشترك. فعن طريق التحاك المتبادل بين الثقافات العالمية وبين الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن تعي ذاتها، نستطيع أن نفكر في أنفسنا تفكيراً مبدعاً، حين نفكر في غيرنا، ونستطيع أن نسمو إلى ما هو إنساني شامل من خلال إدراكنا لثقافتنا ورسالتنا.