إسرائيل وهويتها الممزقة

د. عبد الله عبد الدائم. إسرائيل وهويتها الممزقة، سلسلة الثقافة القومية العدد 30، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت مايو 1996
يتحدث هذا الكتاب عن أحوال إسرائيل في الداخل وصلتها بكل من حولها من الدول العربية. ويوضح لنا المؤلف بعض التناقضات التي يموج بها المجتمع الإسرائيلي، والتي علينا نحن العرب أن نستفيد منها.
إن اليهودية التقليدية ظلت سائدة في العهود السابقة تحكمها قواعد مستمدة من التوراة سواء المكتوبة أو الشفوية. والنظام الشرعي في التلمود نظام كلي وشامل، بل سلطوي وجامد. وعلى الرغم من ذلك، فالديانة اليهودية خضعت لتحويرات وتفسيرات منذ القدم تتناقض مع بعضها البعض، وبالتالي ظل هذا التناقض يفرخ في حياة اليهود، حتى أن أحبار اليهود قد ابتكروا نظاماً مخادعاً يتمسك بحرصه على الحكم الشرعي، مع أنه يخالف روحه ومقاصده من أجل إرضاء الطبقة اليهودية الحاكمة.
وتحدث المؤلف عن عصر التنوير فقال: إن هناك جدلاً ونقاشاً طويلاً جرى في ألمانيا بوجه خاص حول الإصلاح الديني اليهودي، وكانت أهم معالمه، إبدال الإعداد التقليدي إلى إعداد حديث وتربية حديثة، مع إباحة الصلاة بغير اللغة العبرية، أي باللغات الوطنية للبلدان التي يقيم فيها اليهود.
وهناك أيضاً تناقض بين الصهيونية كثقافة، والصهيونية كسياسة وبين الداعين لإحياء اللغة العبرية واتخاذها قومية لليهود، مع أن هناك تياراً معادياً لتلك الدعوة.
وقد ظهرت كلمة الصهيونية عام 1890 للكاتب النمساوي ناثان بيرنبادم للدلالة على اليقظة القومية اليهودية في فلسطين التي ارتدت مظهرين في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ونادى الشتات اليهودي بالدعوة القومية. وتم القضاء على هذا الغموض من خلال دعوة نادى بها تيودور هرتزل، حينما أطلق حركة قومية تهدف لبناء دولة قومية يتحقق فيها وجود الأمة كاملاً من خلال دولة مستقلة.
وكان هناك تناقض آخر في اختيار مكان هذه الدولة المزعومة، وكان هناك اقتراح بأن تكون في أستراليا أو أنجولا أو أوغندا التي وافقت بريطانيا على منحها لليهود في عام 1903. ونشب خلاف استقر في النهاية على اختيار فلسطين مقراً للدولة اليهودية مع أن هرتزل نفسه لم يطالب في كتابه الشهير «دولة اليهود» الذي نشر عام 1896 بإنشاء دولة يهودية، بل دعا إلى إنشاء دولة لليهود، ولم تكن الديانة اليهودية هي العنصر الأساسي في دعوته، بل كان الأساس عنده هو الشعب اليهودي.
وأشار المؤلف أن الدعوة الصهيونية دعوة مصطنعة ولدت قسراً وعنوة من خلال مخاض فكري متناقض بسبب زيف المقاصد الصهيونية.
ولا شك أن أشد تلك التناقضات اتجاهات دينية مغالية تمثل اتجاهاً أساسياً في دنيا اليهود وحياتهم، وخاصة في ألمانيا وأوروبا الشرقية.
بينما ظهر تيار ديني آخر أيد الصهيونية الملحدة على نحو غريب نادى به إسحاق يعقوب الذي كان همه الأول أن يوفق بين العقل والوحي الإلهي، بل لقد تبنى اتجاهاً أقرب ما يكون للقول بوحدة الوجود.
وأورد المؤلف موقف فلاديمير جابوتنسكي الذي اختلفت الآراء حوله، وقد حاول أن يضع في كتاباته تصوراً شاملاً يستند لمفهوم فكري مدعم بالحجج عن الإنسان والأمة والقومية. وقد أنشأ جابوتنسكي في باريس «اتحاد الصهاينة المجددين» عام 1925 لمراجعة الصهيونية وتأويلها وكان ممن عارضوا تيودور هرتزل عام 1903 فيما يتصل بمشروع أوغندا وإقامة وطن يهودي فيها. ورأى أن بناء الوطن اليهودي يحتاج لاتباع أساليب العنف والقهر، ولاسيما ضد العرب، ولا تعبأ بمبدأ حق تقرير المصير.
واللجوء للعنف والإرهاب يرجع إلى عام 1907 حيث تم تكوين منظمات سرية منها «هاشومير» بمعنى الحارس. وكان اليمين الصهيوني يتبنى المفهوم السياسي والعقائدي بأن للعنف دوراً حاسماً في التحرير القومي للديار اليهودية، بل تحرير الفرد اليهودي ذاته وانتهى بهم الأمر بأن الصهيونية تعني إرادة الحياة وإرادة القوة على حد تعبير نيتشه، ولا شأن هناك للبحث عن الخير والشر، ولا مجال للأخلاق في ميدان السياسة، بل السياسة معنية بالبحث في الضروري والممكن، وتحديد فاصل بين الصديق والعدو. ولاسيما الصراع بين اليهود والعرب. ولذلك رأوا أن يقيموا جداراً حديدياً، وأن تكون لديهم قوة قادرة في أرض إسرائيل بحيث لا تستطيع أية قوة عربية أن تهدم بنيانها. وبذلك يتم تحقيق الحلم الأبدي بقيام دولة إسرائيل الكبرى «من الفرات إلى النيل» وطرد العرب الغرباء عنها، مع رفض أي دور للأخلاق من أجل الوصول للغاية المرسومة لهم. وبعد قيام الدولة العبرية، ظهر صراع خفي بين اليهود الشرقيين الذين يطلق عليهم «السفارديم» واليهود الأوروبيين ويطلق عليهم «الاشكنازيم». ولطائفة اليهود الشرقيين ميول نحو الاتجاه الديني التقليدي. وبعد حرب أكتوبر 1973 أخذت الهوة تتسع وتتزايد بين هاتين الطائفتين.
وانطلقت أيضاً الصهيونية الدينية من فكرة أساسية تتمثل في معارضة ما يؤمن به عامة اليهود من ترقب لمجيء «المسيح المنتظر» كي يقودهم صوب فلسطين من أجل إقامة مملكة إسرائيل. وبلغت أوجها بعد حرب يونيو 1967 وفي مقابل ذلك نجد جماعة «أنطوري كارتا» بمعنى «حراس المدينة» وهي جماعة دينية انشقت عن حزب أجودات إسرائيل الذي أنشئ عام 1930. ويقدر أتباعها في داخل إسرائيل ببضعة آلاف، وفي الخارج يبلغون نصف مليون. ويلتقون حول معاداة الصهيونية والانعزال عن دولة إسرائيل بوصفها نموذجاً للغطرسة الآثمة، واقترحت هذه الجماعة أيضاً تدويل القدس، وأعربت عن استعداها للعيش في ظل الدولة الفلسطينية وأدانت غزو إسرائيل لجنوب لبنان، واعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
والأكثرية اليهودية العلمانية تنتمي في معظمها للأصول والثقافة الغربية وتقبل الأفكار العلمانية بشكل متزايد بعيداً عن الوصايا الدينية.
حتى لفظة «اليهودية» اختلفت فيها الاجتهادات: من هو اليهودي من وجهة النظر السياسية، ومن هو من الناحية الدينية، ومن هو أيضاً من وجهة النظر القانونية.
لقد تعاظم التناقض في قلب المجتمع الإسرائيلي وطرحت مشكلات تستعصي على الحل بسبب هذا التناقض العميق. وقد قامت صراعات بين هذه الحركات الدينية وداخل كل منها.