إسرائيل و هويتها الممزقة

صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية حديثاً كتيب إسرائيل وهويتها الممزقة تأليف عبد الله عبد الدائم، وهو من المفكرين العرب المعروفين، وله عطاء واسع في ميادين الفكر القومي والتربية.
ويأتي صدور الكتيب في وقت مناسب، حيث تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات خطيرة منذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية نتيجة انتخابات أظهرت بشكل واضح مدى انقسام الشعب الإسرائيلي، وكشفت عن التناقضات التي يعيشها مجتمع الدولة العبرية. تلك الانقسامات والتناقضات تصاحب الحركة الصهيونية منذ نشأتها في الشتات اليهودي، وتطبع الحياة في إسرائيل منذ نشأتها، ولا تزال تحدد العلاقات بين الدولة العبرية ودول العالم من جهة أخرى.
وقد تناول المؤلف موضوع الهوية الإسرائيلية الممزقة في فصول عدة. فاستعرض التناقضات في صلب الديانة اليهودية، وفي الدعوة الصهيونية، ثم بعد ولادة دولة إسرائيل، وانتهى بفصل خصصه لمستقبل إسرائيل في إطار النظام العالمي، وموقفها من السلام مع العرب، وآثار هويتها الممزقة في اتجاهاتها على المستويين الدولي والإقليمي.
ومن الواضح أن الكتيب يعالج في صفحات محدودة موضوعاً واسعاً كثير العناصر، وقد بذل عبد الدائم جهداً ملحوظاً للإحاطة بجوانب الموضوع كلها والتطرق إلى عناصره المختلفة، وإن ضاق الحيز المتاح للكتيب، في مواضع عدة منه، عن استطراده في الكلام بمزيد من التفصيل. ولذا فإن المؤلف يعتذر للقارئ في كثير من الصفحات عن ضيق المجال عن ضرب أمثلة لظاهرة التناقضات في الفكر والممارسة اليهوديين، أو لعرضه الخاطف لبعض الجوانب، مثل تلك المتعلقة بالمذاهب الدينية اليهودية، وتاريخ الجاليات اليهودية في الشتات، وموقف دولة إسرائيل من الأحزاب والحركات الدينية. لكنه – وبحس الكاتب القدير – ركز بما فيه الكفاية على التناقضات الأساسية، بما يعطي قراءه فكرة واضحة عما يمزق الهوية الإسرائيلية إلى حد العجز عن وضع تعريف متفق عليه لليهودي. فعند مناقشة التناقضات في صلب الديانة اليهودية، أوضح عبد الدائم مصادر التشريع وطبيعة التلمود وأثر الإصلاح الديني والصراع بين الحلين الأرثوذكسي والعلماني، ثم عاد في فصل آخر فتناول التناقضات بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية. والواضح أن هذا التناقض الأخير يرجع إلى ما ادعته الحركة الصهيونية من طابع علماني في الوقت الذي كان سندها الأساسي فيه هو المعتقدات اليهودية الدينية بإعلائها الارتباط الديني يما يعتبره اليهود أرض إسرائيل التي منحها الله لهم وعاهدهم على أن يعيدهم إليها بعد شتاتهم، ويصفح عنهم، ويرسل إليهم المسيح الذي يخلصهم ويعلي من شأن إسرائيل فوق الأمم.
كذلك يتعرض المؤلف إلى التناقضات الأخرى داخل الحركة الصهيونية سواء بين الصهيونية الثقافية والصهيونية السياسية، أو في ما يتعلق بأرض الدولة اليهودية، أو ما يتصل بالعلاقة بين الصهيونية والاشتراكية، أو ما يرتبط منها باللغة. ويفرد عبد الدائم صفحات كثيرة للحديث عن اليمين الصهيوني المتطرف. ولاشك في أنه قدر أن هذا هو موضوع الساعة الذي يهم القارئ العربي الذي يثير وصول الليكود إلى السلطة مخاوفه على مستقبل السلام في الشرق الأوسط نتيجة سياسة بنيامين نتنياهو وتحالفه مع الأصولية والأحزاب الدينية المتطرفة من أجل فرض إسرائيل الكبرى وبسط سيادتها على الأراضي العربية المحتلة.
وعندما يعرض المؤلف للتناقضات القائمة في إسرائيل منذ ولادتها، فإنه يتناول الصراعات المتعددة سواء بين اليهود الشرقيين والأوروبيين أو بين الحركات الدينية والاتجاهات العلمانية – مورداً نبذات عن الأحزاب الدينية ومذاهبها المختلفة – أو ما أعقب حَربيْ 1967 و1973 من ظهور الحركات اليمينية السياسية والدينية مثل غوش إيمونيم.
– 2 –
أما الفصل الختامي الذي خصصه عبد الدائم لمستقبل إسرائيل، فقد تضمن ما استخلصه من نتائج للتناقضات التي عرضها في الفصول السابقة. والنتيجة الرئيسية التي توصل إليها المؤلف هي أن قدرة إسرائيل على إقامة سلام حقيقي مع العرب هي قدرة معطلة تعطيلاً شبه كامل بالتناقضات التي تحطم كيانها وتهدد وجودها منذ القدم. وقد يختلف بعض قراء عبد الدائم مع هذه النتيجة، إذ يرى بعضهم أن عملية السلام التي بدأت بعقد مؤتمر مدريد قد آتت بعض الثمار، وكان من المحتمل أن تؤدي في نهاية الأمر إلى تسويات معقولة بين إسرائيل والأطراف العربية لولا أن خسرت حكومة العمل الانتخابات. ولكن المؤلف يردّ سلفاً على أصحاب هذا الرأي بأن ما يقصده هو السلام الحقيقي والمطمئن والدائم. فهذا السلام يستلزم التخلي الجريء عن أوهام سابقة، وأن السلام القابل للبقاء والنمو والعطاء هو ذلك الذي تصنعه النفوس والذي يشترط معه أن يشعر العرب والإسرائيليون، على حد سواء، بأن دولة إسرائيل قد حزمت أمرها فعلاً على أن تكون دولة كدول المنطقة الأخرى وتخلت عن رواسب القرون المختلفة. ولا يعتقد عبد الدائم أن قادة إسرائيل الحاليين – بحكم ماضيهم وتكوينهم ومطامعهم – قادرون على أن ينزعوا إلى ذلك.
الكتيب إذاً قد صدر في وقته المناسب لكي يلقي كثيراً من الضوء على طبيعة شعب إسرائيل والتناقضات التي تنخر في المجتمع الإسرائيلي والتي تؤثر سلباً في اتجاهات الدولة العبرية وربما في مصيرها. وهو، على الرغم من إيجازه، يعد مدخلاً للقارئ العربي للتعرف إلى تلك التناقضات. ويستشهد المؤلف في عرض الموضوع بكثير من آراء رجال الفكر والسياسة بما يهدي القرّاء الذين يطلبون المزيد من المعرفة حول اليهودية والصهيونية والأوضاع داخل إسرائيل وتطوراتها منذ نشأتها، إلى المراجع الكثيرة التي تتناول هذه الموضوعات. وعسى أن يتبع عبد الدائم مؤلفه القيم بكتب أخرى أكثر تفصيلاً لهذا الموضوع بما يفيد قراءه من خبرته الواسعة في هذا المجال.