إسرائيل وهويتها الممزقة

«إسرائيل وهويتها الممزقة»
كتاب جديد للمفكر العربي عبد الله عبد الدائم
تساؤلات مشروعة حول مستقبل الوجود الصهيوني
مسألة السلام أدت إلى تفاقم الصراعات داخل إسرائيل

«إسرائيل وهويتها الممزقة» عنوان الكتاب الجديد الذي كتبه المفكر العربي الدكتور عبد الله عبد الدائم، صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وعدد صفحاته 140 صفحة من القطع المتوسط. ولقد أراد الدكتور عبد الدائم أن يطرح في هذا الكتاب فكرة جوهرية وهي أن إسرائيل المتفوقة عسكرياً وتقنياً وعلمياً تشكو الوهن والضعف في كيانها، فهي ملتقى لصراعات تليدة وجديدة من كل جنس، تمزق وجودها وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للتفجر من داخله. وهذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي صراعات رافقت اليهودية عبر العصور، وواكبت الصهيونية قبل نشأتها وبعدها. وصبت جميعها في دولة إسرائيل بعد ولادتها القسرية، واستشرت، ولا شفاء منها بالتالي إلا بالعدول عن منطلقات الصهيونية الملفقة، وأهواء النزعات الدينية المزيفة، وأوهام الادعاءات الإثنية والعرقية المصطنعة.
ويتضمن الكتاب أربعة فصول يبحث المؤلف فيها عن جذور هذه الصراعات، ويشير إلى أبرز معالمها، مبيناً انعكاساتها على الكيان الإسرائيلي الحالي الممزق، وعلى ما يتوالد فيه من أحزاب وحركات دينية وسياسية محتربة، متريّثاً عندما يخلفه ذلك كله من تساؤلات حول مستقبل الوجود الصهيوني وما يطرحه من مشكلات جديدة على مسألة السلام في منطقة الشرق الأوسط.
يبدأ الدكتور عبد الدائم الفصل الأول بالحديث عن التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ، إذ أن هذه الديانة خضعت لتفسيرات وتحويرات متناقضة منذ القدم. وهذا التناقض ظل موجوداً عبر حياة اليهود في كل العصور، ثم وجد طريقاً له إلى الصهيونية وإلى دولة إسرائيل مؤكداً أن الديانة اليهودية ومنذ نشأتها وحتى الآن كانت دوماً مسرحاً للتزييف والتناقض والاجتهادات المختلف حولها. إذ لا اتفاق حول أصول ثابتة لها.
ويشير د. عبد الدائم إلى أن اليهودية سادت حتى نهاية العصر الوسيط، حيث أخذت في التغير وسط صراعات وشقاقات دينية عارمة مستشهداً بأنه ظهر في ألمانيا جدل ونقاش حول الإصلاح الديني اليهودي، الذي كان من أهم معالمه إخراج اليهود من عزلتهم، وتغيير إعدادهم التقليدي المستند إلى تعاليم الحاخامات بتربية حديثة بالإضافة إلى إباحة الصلاة بغير العبرية. غير أنه سرعان ما لقيت هذه الدعوة مقاومة عنيفة من الحركات الدينية اليهودية، واضطرت إلى أن تخوض معها صراعات دينية حادة، ثم دخلت في صراعات مع نفسها. وهنا يعرض المؤلف لعدد من الحركات الدينية اليهودية التي قاومت باسم ما سمي الإصلاح الديني، وعلى رأسها الحركة اليهودية الأرثوذكسية، والنزعة اليهودية العلمانية.
أما في الفصل الثاني فيتحدث المؤلف عن أعماق التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية، مشيراً إلى أن ثمة تناقضات فكرية كبيرة في صلب هذه الدعوة: فهنالك التناقض – لدى ولادة هذه الحركة العنصرية – بين الصهيونية الثقافية والصهيونية السياسية، وهناك التناقض بين الصهاينة المنادين بالعودة إلى ما يسمى «أرض إسرائيل» والصهاينة المخالفين لذلك، وهناك التناقض بين الصهيونية القومية والاشتراكية، وكذلك بين الداعين إلى إحياء اللغة العبرية والمعادين لهذه الدعوة.
وهناك التناقض بين الدعوة الصهيونية التي تدعي أنها علمانية عصرية وبين الديانة اليهودية، ولا سيما في اتجاهاتها التقليدية المتطرفة
ولتأكيد ما يذهب إليه د. عبد الدائم يتوقف مطولاً عند التناقضات بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية، مشيراً إلى أن هذه التناقضات تعتبر الأشد فتكاً. الأمر الذي عانته الصهيونية منذ نشأتها. ويتحدث عن التناقضات بين الصهيونية واليمين الصهيوني المتطرف، مؤكداً أن أبرز ما أثار المواقف المتناقضة داخل الحركة الصهيونية هو الحركة الصهيونية اليمينية المنادية بالعنف والقوة. وكان أبرز ممثليها «جابوتنسكي» الذي وصفه بن غوريون بأنه «هتلر» لقرابة أفكاره مع الفاشية.
ثم يخلص د. عبد الدائم إلى نتيجة مفادها أن أفكار «جابوتنسكي» وغيره من المتطرفين الصهاينة كانت حجر الأساس الذي قام عليه تهجير العرب الفلسطينيين من أرضهم، إذ أن أفكار هذا الصهيوني المتطرف هي التي شجعت العمل العسكري الإرهابي لعصابة «الأرغون» بقيادة مناحيم بيغن والتي انشقت عن «الهاغانا».
ويرى المؤلف أن المناداة بالعنف والقوة لم تكن وقفاً على «جابوتنسكي» ومن تبعه بل هي ظاهرة كادت أن تصبح شائعة في السنوات التي تلت ولادة الحركة الصهيونية ولا سيما لدى اليمين الصهيوني. ومن أبرز رواد هذا الاتجاه الروسيان «أبا احيمير» و«أوري غرينبرغ».
وفي الفصل الثالث ينتقل المؤلف للحديث عن التناقضات والصراعات بعد ولادة إسرائيل وحتى يومنا الحاضر، مشيراً إلى أن مجموع هذه التناقضات والصراعات أنتجت واقعاً ممزقاً ووهناً معنوياً بات يهدد وجود إسرائيل في صميمه. ويشير الباحث إلى أهم الصراعات التي تمزق الكيان الإسرائيلي منذ ولادته وحتى يومنا مشيراً إلى أنها تتمحور في صراع اليهودي الشرقي «السفارديم» ضد اليهودي الغربي «الأشكنازيم» وصراع اليهودي المتدين ضد اليهودي العلماني، وصراع اليهودي الذي ولد في فلسطين المحتلة ضد المهاجر اليهودي الجديد إليها، وصراع اليمين الإسرائيلي ضد اليسار الإسرائيلي، وصراع طبقة الأثرياء مع طبقة المحرومين.
ثم ينتقل د. عبد الدائم للحديث عن إسرائيل الممزقة واحتمالات المستقبل، مؤكداً أن قدرة إسرائيل على إقامة سلام حقيقي مع العرب معطلة تماماً بالتناقضات التي تحطم كيانها وتهدد وجودها: وعن تمزيق الهوية الإسرائيلية، يخلص المؤلف إلى أن هذه التناقضات القائمة في إسرائيل، تجلت في مسيرة اليهودية وفي مسيرة الصهيونية وتسللت إلى الحياة الإسرائيلية اليوم، ولعل أول وأخطر تناقض يشير له هو ذاك الذي يتصل بتعريف اليهودي، أي من هو اليهودي؟
والجواب يختلف ويتباين باختلاف المذاهب الدينية والفكرية والسياسية.
ثم يطرح المؤلف سؤالاً مهماً هو: إلى أية يهودية سينتسب المستقبل؟.. مشيراً إلى أن الصراع بدأ يشتد والتناقض يتعاظم بعد مقتل رابين، والعلاقة بين مقتله وبين البحث اليائس عن هوية إسرائيل.
وفي نهاية كتابه يصل الدكتور عبد الله عبد الدائم إلى السؤال التالي: ما شأن السلام في هذا كله وما دوره؟.. فيجيب: إن طرح موضوع السلام زاد في عمق الخلافات والتناقضات داخل إسرائيل، إذ أن هذه التناقضات تؤدي إلى مواقف سياسية مبهمة عن قصد وغير قصد، متعددة الاتجاهات والمعاني، الأمر الذي يزيد من الفرقة والتمزق داخل المجتمع الإسرائيلي. من هنا كان من الصعب كما يقول المؤلف، تلخيص موقف الإسرائيليين من قضية السلام.
ويرى المؤلف أخيراً أنه ينبغي علينا كعرب أن ندرك حقيقة هامة وأساسية وهي أنه من الضروري وضع اليد كاملة على العجز الإسرائيلي، ومن الهام أيضاً ألا نحط من قدراتنا ومن طاقاتنا التي نملكها ونحن نواجه إسرائيل وعلى كل المستويات والصعد.