“في سبيل ثقافة عربيّة مستقبلية”

مدخل:
عندما اخترنا الثقافة العربية المستقبلية موضوعاً لمحاضرتنا، كنَّا نضمر وراء ذلك أن بناء الثقافة بناء جديداً، هو السبيل إلى بناء المستقبل العربي، بل المستقبل العالمي كله، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة نوجزها فيما يأتي:
1 – الثقافة، بمعناها الواسع الذي يرى فيها جملة النشاطات والمشروعات والقيم وسائر أنماط العيش المادية والمعنوية المشتركة التي تميّز أية أمة، والتي تكون إرادة الحياة المشتركة لدى أبنائها، نقول: إنّ الثقافة، بمعناها الواسع هذا، هي وسيلة التقدم والنمو، وهي فوق هذا وقبل هذا غاية هذا التقدم والنمو، على نحو ما انتهت إليه الدراسات العالمية الحديثة جميعها، ما دامت الغاية الأخيرة للتنمية هي توفير الحياة الطيبة والكريمة، جسدياً وفكرياً واجتماعياً لكل كائن إنساني.
2 – هذه المكانة الرائدة التي تحتلها الثقافة في التقدم والتنمية تناقض الاتجاه الاقتصادي الضيق الذي ذاع وشاع في العقود الماضية، والذي يشتد زخماً وعتوّاً في ما عرف بالنظام العالمي الجديد. ونعني به النظرة إلى الثقافة وكأنها الخادمة للنمو الاقتصادي، بدلاً من النظر إلى النمو الاقتصادي على أنه جزء من التنمية الثقافية الشاملة.
3 – وعدم الالتفات إلى هذه الحقيقة هو الذي أدى إلى فشل جهود التنمية الاقتصادية والتنمية الشاملة في العقود الأخيرة، حين أهملت هذه الجهود تلك الشبكة من العلاقات والمعتقدات والقيم. والبواعث التي تكمن في قلب الثقافة والتي لا تكون بدونها أية تنمية اقتصادية حقة. فضلاً عن أن تنميتها تعني تنمية الإنسان ككلّ. وهذا ما دعا بعض الاقتصاديين وبعض منظمات الأمم المتحدة، في العقدين الأخيرين، وعلى رأسها «منظمة الأمم المتحدة من أجل التنمية UNDP» إلى طرح شعار «التنمية الإنسانية».
4 – وفوق هذا وذاك، بل قبل هذا وذاك، يثوي في قلب مشكلات النظام العالمي الجديد المزعوم، وفي قلب مسيرته الفذّة نحو المستقبل، وفي قلب بحرانه ومخاطره، انكار مضمر ومعلن للثقافة ودورها. وهذا ما سنتريث عنده بعد حين. وحسبنا أن نقول موجزين في هذا المدخل أن من أهم سمات ذلك النظام عولمة الاقتصاد وعولمة المعلومات، وتعريض معظم ثقافات العالم في الشمال والجنوب، نتيجة لذلك، للتآكل بل للتمزق والفناء أحيانا. بل نذهب إلى أبعد من هذا فنقول: إن عولمة الاقتصاد والمال والاتصال، كما سنرى، تزيد في تخبط أزمة الهوية لدى العديد من الشعوب، وتوقظ في كثير من الأحيان النزعات العصبية والاثنية الدينية، ومنازع التقوقع والانكماش. ومردّ هذا إلى أن النظام العالمي الجديد، الذي يسيطر عليه الاقتصاد والمال وتقوده ايديولوجية السوق، يؤدي لا محالة إلى أزمة ثقافية عميقة، قوامها اهتزاز أركان القديم اهتزازاً يزيد في خطره تلكؤ الجديد في الظهور والانبثاق وحيرته وشكوكه.
5 – إن طغيان النزعة الاقتصادية الليبرالية المفرطة التي لا يكبح جماحها أي جهد ثقافي واجتماعي ذي أغراض إنسانية حقة لا يجر فقط إلى كوارث اقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة، بل يؤدّي إلى بحران عالمي شامل، أخطر ما فيه التشكيك في قدرة بني الإنسان على مجاوزة هذا الطوفان وعلى تغيير العالم. وأخطر من هذا الخطر وأدهى أن هذا العجز عن التغيير أو التشكيك في إمكانه، من شأنه أن يقود العالم إلى كارثة تكاد تكون محققة.
6 – إن الأمة العربية، التي ما تزال تمسكها ثقافتها العربية الإسلامية إلى حد بعيد، معرّضة كسواها، إلى مخاطر العولمة بوجه عام سواء في الاقتصاد أَوْ المال أو الاتصال، وعليها بالتالي أن تعي ذاتها وعياً أعمق، وسط هذا البحر العالمي اللجِّي المتلاطم، بحيث تحيل ثقافتها، على نحو متلازم متعانق، درعاً ووقاية، من جانب، وإبداعاً وجدة، من جانب آخر. فالأمواج العالمية عاتية، والثقافات العالمية جميعها في خطر، ومعها مستقبل العالم كله، والثقافة العربية الإسلامية العريقة في خطر أكبر، ولا ينقذها تجاهل ما يحدث، أو تجاهل الثقافة الغازية وأخطارها، أو التقوقع على نفسها وتغليق الأبواب دون سواها، كما
لا يجديها أن تكون ثقافة تنكر الحداثة رغم غرقها في خيرها وشرها حتى الأذقان. إن الذي ينقذها هو أن تفكر على نحو جديد، أن تمسك بزمام مستقبلها، أن يغالب فكرها فكرها، ان صحّ التعبير، أن تصنع حداثتها بأيديها ومن خلال ذاتها، وأن تكون هويتها الثقافية مع سواها لا ضد سواها.
(أولاً) الثقافة وأزمة الواقع والمستقبل العالمي
ولا شك أنكم تدركون أن التوقف عند كل بند من البنود الستة السالفة يستلزم أسفاراً برأسها. ولذلك سنحاول، في حدود المجال المتاح لنا، أن نكتفي بالحديث حديثاً خاطفاً لا يخلو من خلل عن أهم الجوانب العالمية المتصلة بمستقبل الثقافة في وطننا العربي.
وسترون أن تحليل الواقع العالمي، في صلته بمستقل الثقافة العربية، سوف يحتل المكان الأكبر من بحثنا. ذلك أن من العسير ومن قصر النظر أن نتحدث اليوم عن أية ثقافة في معزل عن الوضع العالمي الشامل لا سيما بعد أن أصبحت «العولمة» السِمَة الغالبة لهذا الوضع. وههنا أيضاً سوف نقول قليلاً من كثير، وسوف نتريث عند أبرز المعالم بادئين بالحديث عن أبرز سمات هذا الوضع العالمي، لا سيما فيما يتصل بالثقافة:
1– نستطيع أن نقول بوجه عام أننا نشهد في عالم اليوم انفصاماً مقلقاً بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، وبين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي وثقافي، وأخيراً، ونتيجة لذلك، بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي. ويرجع هذا بوجه خاص إلى ذيوع أنماط ثلاثة من التفكير:
أولها: عولمة الاقتصاد. وثانيها، ونتيجة لتلك العولمة، تقليص دور الدولة (الدولة القومية كما يقال) بوصفها راعية للاتساق الاجتماعي والعدالة والصالح العام. وثالثها انحسار الثقافات مع ما تحمله من قيَم حامية وحاملة لكيان المجتمعات، وتآكلها بل تهديمها تهديماً فظاً في معظم بلدان العالم، شماله وجنوبه.
2– ولا شك أن عولمة الاقتصاد هي الفكرة الرائدة والمولدة لسواها. وقوامها – كما نعلم – أن علينا أن نركن إلى ما تصنعه اليد الخفية للسوق، وأن تدخلنا في المسيرة الحرة للسوق الاقتصادية هو أسوأ من تركنا الأمور تجري على غاربها.
ونخف إلى القول إن ما يدعونه اليوم بالسوق لا ينتسب إلى مفهوم «السوق التنافسية» التي يشير إليها الاقتصاديون عادة. بل هي سوق تحتكرها إلى حد بعيد، في شتى أنحاء العالم، بعض المؤسسات الكبرى التي تمثل دوراً يفوق وزنه دور الحكومات. هكذا نجد على سبيل المثال أن الرقم الذي تتعامل به شركة «جنرال موتورز General Motors» أعلى من الناتج القومي الخام لبلد مثل إندونيسيا، وأن أرقام التعامل لمؤسسة «أيكسون Exxon» تفوق الناتج الإجمالي لأفريقيا الجنوبية، بينما تفوق أرقام تعامل مؤسسة «فورد» الناتج الإجمالي لبلد مثل تركيا.
والحق أن أهم ما يميّز هذه العولمة الاقتصادية أنها عولمة المال أولاً قبل الاقتصاد، وأن النظم الاقتصادية، في إطارها، غدت جميعها في شتى بقاع العالم، خاضعة وتابعة لتحركات كتلة من رؤوس الأموال تتضخم يوماً بعد يوم، وتنتقل انتقال البرق (أو قل انتقال الإلكترون) من مكان إلى آخر، تبعاً للفروق الناجمة عن تغير معدلات الفائدة وتبعاً للمضاربات المالية المستبقة للأحداث.
3– وإلى جانب عولمة الاقتصاد ومن ورائها وفي خدمتها، عولمة وسائل الاتصال، فلقد قادت التقنيات الجديدة إلى زجِّ الإنسانية في عصر الاتصالات الشاملة، عصر «الطرق الفسيحة Auto routes» التي تسلكها المعلومات. وهكذا هدمت هذه الوسائل المسافات، وأسهمت بالتالي إسهاماً كبيراً في محاولة صياغة مجتمعات الغد وثقافاتها وفق نمط يكاد يكون واحداً ووحيداً، لا يحاول التكيف مع أي نمط من أنماط الماضي، إلاّ الذماء. وغني عن البيان أن هذا التداول العالمي للصور والكلام عامل هام من عوامل العولمة الشاملة. غير أنه ما يزال – وقد يظل إلى سنوات بعيدة – في أيدي القوى العالمية الكبرى، لأسباب كثيرة. منها الغلاء النسبي لأجهزة الاتصال وعجز العديد من الدول عن الوصول إليها. ومنها احتكار الصناعات الإعلامية والثقافية من قبل عدد محدود من الدول التي تنشر ما تنتجه تلك الصناعات في العالم كله، الأمر الذي يكوّن عاملاً هاماً من عوامل ائتكال الخصوصيات الثقافية. وهذا كله يمنح تلك القوى العالمية الكبرى سلطة ثقافية وسياسية واسعة على سواها.
يضاف إلى هذا أن هذه «الثقافة العالمية» الزائفة التي تبثها وسائل الاتصال الحديثة تحمل معها، على الرغم من تفاهتها وفقر محتواها، معايير وقيماً منبثّة فيها يمكن أن تولّد لدى الذين يخضعون لآثارها شعوراً بالاستسلام والعجز وضياع الهوية.
4– وهكذا نرى أن التحولات السريعة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية تقود إلى العولمة، سواء اقتصادية أو ثقافية. وهذه العولمة تولّد ضربين من المشاعر المتناقضة مزدوجة المعنى: أنها، من جهة، تشعر أبناء الإنسانية بأن العالم لم يكن في يوم من الأيام أشد منه تضامناً اليوم، وتشعرهم في الوقت نفسه بأن فرص الانقسام والصراع والنزاع لم تكن يوماً أكثر منها اليوم. الأمر الذي يجعل مجتمعات اليوم تعاني من ظاهرة مزدوجة: ظاهرة السير نحو العولمة من جانب، وظاهرة البحث عن مختلف الجذور الثقافية والاجتماعية الخاصة التي تميّز المجتمعات المختلفة، من جانب آخر.
5– وقد يبدو للوهلة الأولى أن عولمة الاقتصاد (واضعاف الدولة القومية بالتالي) ظاهرة تناقض تصاعد التقوقع الاثني والصراعات القبلية التي نشهدها اليوم. والواقع عكس ذلك. فبين الظاهرتين. ظاهرة العولمة وظاهرة التقوقع والتشرذم، وشائج حميمة، وهما بالتالي متضامنتان. فعولمة القرارات الاقتصادية والمالية (والثقافية) تثير النزعات الانكماشية وردود الفعل الاثنية والقبلية.
6– وهذا كله يقود يوماً بعد يوم إلى تقلّص دور الدولة، وبالتالي إلى زوال الضابط الأساسي الذي يضبط التآلف الاجتماعي والعدالة ويحقق العمل للصالح العام، ويرعى القيم الخلقية والثقافية.
ذلكم أن حرية السوق ترفض حكماً تدخل الدولة. ولقد لخّص ذلك الرئيس الأميركي «كلينتون» حين قال في خطابه إلى الأمة بتاريخ 23 كانون الثاني/يناير 1996، «ان زمن تدخل الدولة قد مضى وانقضى». وهكذا أخذنا نشهد أمام ناظرينا تكون «الدولة المحجّمة» إن صحّ التعبير، وما يرافق ذلك من تصدّع اجتماعي وتمزّق خلقي وثقافي، فنظام العولمة الجديد لا يرى أن التقدم هو الذي يولّد الاتساق الاجتماعي، بل يرى أن الذي يولّد الانسجام الاجتماعي والتقدّم هو الاتصال والإعلام وتبادل المعلومات. وعنده أنه كلما ازداد المواطنون تواصلاً فيما بينهم، وكلما ازدادت الرسائل الإعلامية التي يتبادلونها، ازدادوا حرية واستقلالاً وطمأنينة. وليس المجال مجال الحديث عن خطأ مثل هذا الزعم. وحسبنا أن نقول عابرين: إن عالم الاتصال يفتح الباب مشرعاً في أي مجتمع وفي المجتمع العالمي لجميع ضروب التلاعب بالعقول واقتناصها، ولشتى أنواع الخداع والتضليل. ويعنينا أكثر من ذلك أن نتريّث عند فكرة «تقليص الدولة» أو موتها، ولا سيما الدولة الراعية الحامية. وحسبنا في تفنيد هذه الفكرة أن نذكر أن بلداً كبيراً وغنياً كالولايات المتحدة، يضم اليوم 41 مليوناً من المواطنين الذين لا يتمتعون بأي ضمان صحي، وأن 15 بالمئة من مواطني الولايات المتحدة يعيشون تحت خط الفقر، وأن ثمة قي مدن الولايات المتحدة جميعها مناطق معزولة يعشش فيها الفقر والعنف، وإلى جانبها أحياء غنية تحميها الأسوار والحراس. حسبنا أن نذكر أن الدخل المتوسط الفعلي للأُسر المفرطة في الغنى التي تمثل 20 بالمئة من جملة الأسر، قد نما بين عام 1979 وعام 1993 في الولايات المتحدة بمقدار 15 بالمئة بينما تراجع هذا الدخل المتوسط بمقدار 18 بالمئة لدى الأسر المفرطة في الفقر التي يبلغ عددها 20 بالمئة من سائر الأسر. والأمثلة عديدة على ذلك، سواء في الولايات المتحدة وفي كثير من بلدان العالم المتقدّم. وإذا كان من الصحيح أن الملايين من الناس في العالم يغادرون البؤس والفقر كل عام، فإن من الصحيح أيضاً أن العدد المطلق للفقراء في العالم يتزايد تزايداً يعادل معدل تزايد سكان العالم. هذا فضلاً عن تفاقم البطالة في العالم المتقدّم والنامي تفاقماً ينذر بكوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية ظهرت نذرها وتباشيرها منذ اليوم.
(ثانياً) نظرة نقدية إلى أزمة العالم في صلتها بالثقافة
على أننا لسنا في معرض محاكمة النظام العالمي، فمثل هذا المطلب يذهب بنا بعيداً ويخرج بنا عن القصد. وهمنا أولاً وآخراً أن نبحث عن المخرج من التصدّع الثقافي الذي تولّده الأزمة العالمية الشاملة. ولا شك أن هذا البحث شاق وطويل. حسبنا منه بعض التلميح والإشارة:
منطلقات الحل:
1– وأوّل منطلقات الحل أن ندرك أن الايديولوجية الليبرالية الظافرة لا تقبل أي ضبط للاقتصاد العلمي، الأمر الذي يحملنا على القول أن العالم لا يحكمه أحد، اللهم إلاّ السوق.
والخلاص من مثل هذه النظرة اليقينية الدوغماتية الصارمة يستلزم توضيح بعض الأمور، أو لنقل إدراك بعض الحقائق بل البديهيات والإقتناع بها:
– من هذه الحقائق أن عالم الاقتصاد (وعالم العلوم الاجتماعية بوجه عام) لا يقر بوجود قوانين عامة صارمة تحدّد مسيرته.
– ومنها أن سيطرة فكرة من الأفكار لا يقدّم دليلاً كافياً على صحتها ومتانتها.
– ومنها أن أية دولة في العالم لم تحقّق تقدمها عن طريق قوانين السوق الليبرالية الحرة.
– ومنها، ولعله أهمها فيما يعنينا من أمر الثقافة، أن الشعوب التي لم يخضع نظامها الثقافي للغزو والانتهاك العنيف عن طريق الحداثة الغربية، أو التي انفتحت على هذه الحداثة في شيء من الحذر والحكمة، هي التي استطاعت أن تحقّق أفضل النتائج الاقتصادية، على نحو ما نجد في اليابان والصين وبعض دول جنوبي شرقي آسيا.
2 – وثاني منطلقات الحل أن ندرك أنه إذا لم يتغيّر شيء، فإن شطراً من العالم قد يتعرّض لخطر التمزّق الثقافي من داخله، وإن شطراً آخر قد يعيد تكوين نفسه وثقافته استناداً إلى ايديولوجيات صارمة مغلقة، يناقض من خلالها الحداثة، أي حداثة، أو ينطلق في طريق غوغائية متخلفة مغرية. ولا نغلو إن قلنا أن عالمنا اليوم عالم مريض، بل عالم غير عقلاني يتهدده «الفصام». وما تزايد العنف فيه إلاّ نتيجة من نتائج تحطيم الثقافات الخاصة، تلك الثقافات التي كانت تمنح الحياة معناها.
3 – وثالثها أن لا مناص من إحداث التغير والتغيير في مسيرة العالم، ما دامت القدرة على التغيير هي معيار إنسانية الإنسان ومعيار تقدمه نحو مزيد من الإنسانية، وما دام الفكر الخلاق المبدع هو الفكر القادر على أن يفكر تفكيراً مناقضاً لفكره، على حد تعبير الفيلسوف الألماني «هيدجر Heidegger ».
4 – ورابع منطلقات هذا الحل أن البحث عنه من شأنه أن ينقذ العالم المتقدّم نفسه، فضلاً عن العالم النامي. ذلكم أن سيطرة الغرب على العالم، على النحو الذي يسود، سوف يؤدي إلى بيع قيم من شأنها أن تضع الغرب في النهاية موضع المساءلة والإنكار. لا سيما أن كمال المجتمع الليبرالي على نحو ما يريده النظام العالمي السائد لا يحتمل وجود مخلفات ثقافية قومية، أو الإبقاء على بعض ضروب القربى الثقافية والاجتماعية. فالبرنامج الليبرالي في حدوده القصوى يهدف إلى محو الفوارق من أي طبيعة كانت، لأنها عقبة في وجه الحرية الكاملة للسوق وفي وجه السلم الاجتماعي كما يراه. ومثل هذا النهج لا بد أن يؤدي في خاتمة المطاف إلى ردة تضع النظام العالمي الليبرالي موضع التساؤل، وتنكر قيمه ومبادئه.
معالم الحل المرجو:
من خلال مثل هذه المنطلقات يمكن أن تستبين لنا بعض معالم الحلّ المرجو. فهذه المنطلقات لا تعدو أن تؤكّد حقيقة قوامها أن الحرية الفردية المطلقة وديمقراطية السوق ليست عوامل كافية أو ضرورية من أجل الانتعاش الاقتصادي والتقدّم الاجتماعي والتنمية بوجه عام، وليست الطريق المؤدية إلى التنمية الثقافية التي لا تكون بدونها أية تنمية. وهذا يقودنا إلى إيجاز معالم الحلّ المرجو في الأمور الآتية:
1 – تدل التجربة، كما استبان لنا على نحو مضمر، إن أهم العوامل الحاسمة في تحقيق التنمية الإنسانية والتقدّم في شتّى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تكمن – إلى جانب توفير حرية المبادرة وهي غير حرية السوق – في تحقيق التماسك والاتساق الاجتماعي الثقافي، الذي يولد الثقة والطمأنينة، ويحفز على الإبداع والتجديد، ويرعى القيَم الحافظة لتكامل المجتمع وتضامنه. وإذا ما توخينا حظاً أكبر من التوضيح قلنا أن الاتساق والتماسك الاجتماعي، الذي يبقي على كيان الأمم وعلى قدرة العطاء الجماعي عندها، يولد من خلال التقاء متغيرات عديدة، أهمها حرية المبادرة في شتى المجالات، والرغبة في التقدم والنجاح، اقتصادياً كان أو اجتماعياً أو ثقافياً، وبوجه خاص توافر وحدة ثقافية تمنح الحياة معناها، والعمل والسعي أهدافه ومبرراته. وهذا «المركّب»، تتباين نسبه ومقاديره دون شك تبايناً كبيراً بين مجتمع وآخر.
2 – إن ما قلناه حتى الآن ينتهي بنا إلى نتيجة أساسية، وهي أن «العالمية» (وهي غير العولمة) ليست حقيقية معطاة وجاهزة، بل هي إعادة بناء صبورة، جوهرها التعاون الثقافي والتلاقح الثقافي. وعالمية الثقافة (ومعها عالمية الاقتصاد) ليست أمراً يتم سهواً رهواً، وتوليدها ليس أيسر من توليد لغة «الاسبرانتو». والظن أو التظاهر بوجود ثقافة عالمية جاهزة معطاة مسبقاً، من شأنهما أن يعرضا العالم لمستقبل متفجّر. والتواصل بين الثقافات والحوار بينها هما وحدهما اللذان يجعلاننا قادرين على أن ندرك ذاتنا من خلال إدراكنا لسوانا. ذلكم هو الطريق الدائم، والشائك، نحو «العالمية» بالمعنى الإنساني السليم لهذه الكلمة.
3 – وبتعبير آخر إن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الثقافات المختلفة هي أن تحوّل الترابط الواقعي المفروض بين ثقافات العالم إلى ترابط مراد ومقصود، وإلى تضامن متكافئ ومنشود.
ولا حاجة إلى القول بعد هذا أن الثقافة الذاتية الخاصة بكل أمة لا تحمل حكماً ولا يجوز أن تحمل معنى الخصام والصراع مع ثقافات الآخرين، كما لا تعني رفض الآخر، وأن التنكر لهذه الثقافة أو تداعيها هما اللذان يؤديان إلى الشقاق والكوارث، لا سيما حين تحاول «ثقافة» تعد نفسها متميزة أن تفرض هيمنتها على سواها وأن تعمل على «تسطيح» الثقافات كما يقال، وأن تدفعها إلى السير في ركاب ثقافة واحدة ووحيدة، ترى أن على سائر الثقافات أن تعدو للحاق بها، وإلاّ كانت متخلفة عن الركب. ونستدرك قائلين: أن «الصراع الثقافي» كما نعلم قائم في قلب كثير من ثقافات المجتمعات المتقدمة، ولا سيما الثقافة الأميركية، حيث يعجز شعار «الفردية» الذي تأخذ به هذه الثقافة عن التوفيق بين «الثقافات المصغرة» العديدة التي تضمّها، وعن تحقيق اللحمة في نسيج الهوية الأميركية، بل يؤدي إلى زيادة تمزّق هذا النسيج، لا سيما حين ترتد هذه الفردية إلى مدلول «جسدي» خالص، لا تسعفه أية قيمة ثقافية ولا ترعاه أيّة سياسة اجتماعية من شأنها أن تؤدّي إلى التماسك والاتساق والسعي المشترك.
4 – وهذا كله يقودنا إلى القول بأن الدولة القومية، مهما تكن نقائصها، تظل في المرحلة الحالية الأساس الوحيد للاتساق الاجتماعي. ولا يعني هذا العودة إلى ذلك النمط من الدول المسيطرة المتحكمة في مصائر الناس، بل يعني قيام سلطة سياسية قادرة في آن واحد على الاضطلاع بأعباء الدولة، وعلى الانفتاح العقلاني على المبادلات الاقتصادية والمالية والإعلامية العالمية، وعلى معالجة مشكلات البيئة والمشكلات الاجتماعية بوجه خاص. وأهم من هذا كله أن تضطلع الدولة القومية بمهمة أساسية، هي الدفاع عن المصالح المشتركة لأبنائها في وجه المصالح الخاصة.
5 – وبتعبير موجز، نستطيع أن نجمل بلغة أخرى ما انتهينا إليه بشأن معالجة الأزمة الثقافية في إطار الأزمة العالمية الشاملة، فنقول:
إن تخبط عالمنا الحالي يرتد إلى هزات، بل زلازل أربعة: أولها محو الثقافات التقليدية
أو إضعافها، الأمر الذي يؤدي إلى تعريض عدد كبير من مجتمعات العالم للعجز والمرض.
وثانيها تداعي الاتحاد السوفياتي الذي ولد اضطرابات كثيرة في شتى أنحاء العالم والذي قاد إلى الأخذ بسياسة قوامها «مطاردة الأسواق» والسيطرة عليها (على نحو ما نجد في اتفاق «الألينا Alena) (اتفاق التبادل الحر بين دول أميركا الشمالية) و «الغات Gatt» (اتفاق التجارة العالمية) وسواها، والذي أدى إلى ولادة «الوحدانية» في الفكر والعمل.
وثالثها العولمة التي ولدت موجة جديدة من الفقر لا يدرك أحد منتهاها وسبيل الخلاص منها، والذي يهدّد لحمة الحياة، نعني ثقافة المجتمعات المختلفة، لخطر مؤكّد.
ورابعها تراجع دور السياسة ودور الدولة، نتيجة العولمة ولغلبة الايديولوجية الليبرالية.
والتعرض لهذه الهزات الأربع، يتم عن طريق معالجتها معالجة قوامها وضع العولمة موضع التساؤل، ورأس الحربة فيها الحوار الثقافي وتنمية الثقافة العالمية على أسس إنسانية جديدة. وأداة هذا كله الإيمان بإمكان تغيير مسيرة العالم، وتذكر قوله «غرامسكي Gramsci» حين عرّف الأزمة بأنها «ما يحدث عندما يموت القديم، ويتلكأ الجديد ويحار في الظهور».
وجوهر الجهد الثقافي المنشود الذي ينبغي أن يسعى إليه الحوار بين الثقافات هو البحث عن قيَم إنسانية مشتركة، من شأنها أن تضع الأساس المكين للتضامن بين بني الإنسان.
ولا حاجة إلى القول أن مثل هذا الحوار الثقافي المنشود، حين يؤدي إلى تعرف كل ثقافة على ثقافة الآخرين، يولد لدى أبناء أي ثقافة وعياً مزدوجاً: وعياً بخصوصية ثقافتهم وتفردها، ووعياً بوجود إرث ثقافي مشترك لدى سائر الثقافات وسائر أبناء البشر. وهكذا تتيح معرفة الآخرين كمال معرفة الذات.
ونتريّث ههنا لنذكّر بحقيقة منسية، وهي أن كثيراً من القيم التي تؤدي إلى تماسك المجتمع يضعها الواقع العالمي اليوم موضع التساؤل، وأن من بين هذه القيم مفهوم الأمة ومفهوم الديمقراطية نفسها. وقد يكون من المفيد أن نذكر بما يصيب مبدأ الديمقراطية نفسه في النظام العالمي الجديد من تصدع وعجز. صحيح أن هذا المبدأ يزداد انتشاراً إذا نظرنا إلى جانب وحيد منه، نعني ادعاء الأخذ به كنظام سياسي يبحث، عن طريق ضرب من العقد الاجتماعي، عن التوافق بين الحريات الفردية وبين التنظيم الشامل للمجتمع. أما إذا نظرنا إلى تطبيقه الفعلي من خلال وجهه «التمثيلي» أي من خلال الديمقراطية الممثلة لمطالب المجتمع، فلا شك أننا سنجده يصطدم بجملة من الصعوبات لدى البلدان التي بشرت به وصنعته. فنظام التمثيل السياسي ونمط ممارسة السلطة على نحو ما تجري فيه، يعانيان من أزمة واضحة في كثير من البلدان، وعلى رأسها البلدان المتقدمة نفسها. والهوة تزداد بين الحكام والمحكومين، وثمة بزوغ مفرط لردود الفعل الانفعالية الآنية بتأثير وسائل الاتصال والإعلام. و «السياسة المسرحية» إن صحّ التعبير تنتشر وتسود وتجد تربة صالحة لها في سيطرة الإعلام على المناظرات السياسية والأخبار السياسية. هذا إذا لم نتحدث عن جعل الديمقراطية مرادفة لحرية السوق، والقول بأن الطريق الجَدَد إليها هو «اقتصاد السوق». وليس من الغلو أن نقول أن حرية التجارة والتبادل أصبحت «الحجر الفلسفي» للعصر الحديث. كذلك ليس من الغلو أن نقول أن المثل الأعلى الديمقراطي نفسه بحاجة إلى أن يُبْتَكَر ويُبْنَى من جديد، أو في حاجة إلى أن تُبْعَث فيه الحياة على أقل تقدير وإلى أن يغتذي بدماء جديدة.
(ثالثاً) أزمة العالم والثقافة العربية المستقبلية
ولعلكم تتساءلون، بعد هذه المقدمات التي تبدو مسهبة، أين الثقافة العربية المستقبلية من هذا كله؟
ولا حاجة إلى القول، إن منهجنا في البحث، يربط ربطاً وثيقاً بين أزمة الثقافة العربية وبين أزمة الثقافة العالمية، بل أزمة العالم كلها. ومن هنا كان تريثنا الطويل بعض الشيء عند منعكسات الأزمة العالمية على الثقافة في شتى أنحاء المعمورة. ومن هنا نستطيع أن نقول أيضاً أن ما طرحناه من حلول خاصة بمعالجة الأزمة العالمية الشاملة والأزمة الثقافية بوجه خاص، يصدق على الوطن العربي وعلى الثقافة العربية إلى حد بعيد. ومع ذلك، فالمسألة الثقافية، إلى جانب معالمها المشتركة بين ثقافات العالم، من شأنها وطبيعتها بل وأهدافها أن تتلوّن بلون الخصائص الثقافية لكلّ أمة.
أزمة الثقافة العربية الإسلامية:
ومن هنا فإن إلى جانب الأسباب العالمية التي تجعل الثقافة العربية في أزمة، أسباباً خاصة لهذه الأزمة نجملها فيما يأتي:
1 – أولها وقد يكون أهمها، أن الثقافة العربية الإسلامية لم تنجح، منذ أكثر من قرن حتى اليوم، في صنع حداثتها وفي وضع الأسس السليمة لهذه الحداثة. فالصراع بين الغرب والشرق، بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية، عرف المدّ والجزر، ولبس صيغاً متباينة، منذ أيام جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ورشيد رضا ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان وأحمد فارس الشدياق وجورج أنطونيوس وإبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي ونجيب العازوري وبطرس البستاني وسواهم.
ولا شك أن النزاعات الإسلامية التي ظهرت منذ الثمانينات ثمرة من ثمار فشل الاتجاهات الفكرية والسياسية التي تأخذ بالحداثة، بما فيها النزعات القومية المجددة التي ظهرت منذ الخمسينيات، على الرغم من أنها أكدت الارتباط العضوي بين الأصالة والحداثة، بين القومية والتراث العربي الإسلامي. وهذه النزعات الإسلامية، في أشكالها المغالية، تنادي بمشروعات قوامها «مقاومة الحداثة»، ولا سيما حين تعني هذه الحداثة تقليد الغرب ونقل ثقافة الغرب بعجزها ويجرها.
2 – وثانيها أن الثقافة العربية الإسلامية من أعرق ثقافات العالم. وهذه العراقة تمنحها القوة والقدرة على البقاء. ولكنها كثيراً ما تكون عبئاً ثقيلاً معرقلاً للتجديد والتجويد اللذين لا تكون بدونهما أي ثقافة حية، بل تندثر وتزول. فثقافة أية أمة معطىً علينا أن نتجاوزه ونجدده إذا أردناه أن يبقى حياً، وإذا أردنا أن نبقي على جوهره الأصيل.
3 – وثالثها أن ازدهار الثقافة العربية الإسلامية ينتسب إلى ماضيها البعيد منذ ظهور الإسلام بوجه خاص، وأن أوج تفتحها وعطائها الحضاري تقضت عليه خمسة قرون على أقل تقدير، هذا إذا نحن أخذنا في الحسبان حضارة الأندلس.
وهذه الحقيقة تخلق نوعاً من الانتماء الماضوي والنزعة الماضوية، يصبح التجديد في إطارها أصعب منالا.
4 – ورابعها وأهمها أن المشاركة الجماهيرية في بناء الثقافة العربية الحديثة المرجّوة ما تزال محدودة جداً. وبدهي أن تجديد أي ثقافة لا تقوم به الطبقة المثقفة وحدها بل لا بد من مشاركة شعبية واسعة النطاق، لا تتوافر إلاّ إذا انتشرت الثقافة وانتشر التعليم لدى الجماهير العربية على أوسع نطاق، بحيث يتم تحرير البنية الثقافية المتخلفة للعقل العربي، وبحيث لا تسود الغوغائية والببغائية ولا تغدو مَرْكباً لكلّ ذي مأرب.
ولعل من المفيد أن نذكر أن من بين عوامل فشل الاتجاهات القومية المجددة التي ظهرت في الوطن العربي منذ الخمسينيات، عجز الكثرة الكاثرة من الجماهير العربية عن وعيها وعياً كاملاً، إلى جانب عوامل أخرى عديدة لا مجال للإفاضة فيها. وإذا كان جانب من هذه الجماهير قد وعى إلى حد ما المضمون الاجتماعي والمضمون القومي لهذه الاتجاهات القومية المجددة، فإن استيعابه وقبوله لاتجاهات التحديث والتجديد والانقلاب الفكري والثقافي فيها لم يكن كافياً، ولم يكن حظه من وضوح الرؤية في هذا المجال كبيراً. وهذا ما يسّر إلى حد بعيد الانقضاض عليها من داخلها وخارجها. لقد كانت ثقافة الجماهير وما تزال حتى اليوم، بما تحمله معها من تخلف القرون، عائقاً هاماً في طريق تحديث الحياة العربية، كما أن المعادلة الضرورية التي ينبغي أن تقوم بين الأصالة والحداثة كانت وما تزال عصية على فهم الجماهير الواسعة العريضة.
5 – وخامس المعالم الخاصة التي نجدها في أزمة الثقافة العربية، أن محاولات تحديث هذه الثقافة لم تتم في معظم الأحيان انطلاقاً من داخلها، بل تمّت غالباً بحكم الاصطدام بالثقافة الغربية، ولا سيما منذ حملة نابليون على مصر، وكان بالتالي رد فعل صادر عما خبره العرب من تقدم الغرب. ولا نتريث على العرب حين يحاولون الاستجابة لصدمة الثقافة الغربية المتقدمة، فقد كان هذا شأن كثير من أمم العالم. غير أن سعيهم من أجل مواجهة هذه الثقافة قد أخذ طابع «الانفصام»، بدلاً من أن يأخذ طابع الدمج العضوي المتكامل بين الجسم الغريب والجسم الأصيل. وتكونت منذ ذلك الحين حتى اليوم ثقافتان منفصمتان
لا تلتقيان: ثقافة تخشى على التليد فتعود أدراجها إليه بما له وما عليه وبأصله وبالدخيل عليه، وثقافة تُؤْثر الجديد ولو ضحت من أجله بالتليد. أما الثقافة التي حاولت التوفيق بين التليد والجديد، فلم تفلح في مهمتها حتى اليوم، وكثيراً ما لجأت إلى التلفيق بدلاً من الدمج العضوي بين الجانبيين وبدلاً من الانطلاق أولاً وقبل كل شيء من فهم التليد فهما جديداً ومن بناء الجديد من خلال الأصيل العريق، بعد إعادة فهم الأصيل في ضوء معطيات العصر.
6 – وسادسها أن النظام العالمي الجديد، على نحو ما وصفناه، كثيراً ما يتحدى الثقافة العربية الإسلامية تحدياً سافراً ومباشراً. الأمر الذي يخلق بالضرورة ردور فعل مغالية، تجنح إلى التقوقع والانكماش واجتناب مخاطر الهجمات الغربية عن طريق احتماء الذات العربية «بجلدتها» و «إهابها» التقليدي المألوف. ويزداد هذا الانكماش، ويشتد العداء للحداثة في إطار العداء للغرب، حين يصف الغرب الحضارة الإسلامية بأبشع الأوصاف ويرى فيها «الشيطان» العالمي الجديد، وحين يخلط بين الإسلام وبين الإرهاب، وحين يرى في محاربة الإسلام وثقافته البديل الطبيعي عن محاربة الاتحاد السوفياتي سابقاً.
7 – وفق هذا وذاك، تؤدي عولمة الاقتصاد والمال والاتصال، كما سبق أن رأينا، إلى هجمة شرسة على الخصوصيات الذاتية للشعوب، وعلى الشعب العربي والإسلامي بوجه خاص الذي لا يكتمل عقد العولمة والسيطرة الاقتصادية إلاّ بالسيطرة على موارده الغنية. وهكذا تواجه الأمة العربية الأزمة التي واجهتها في بدايات اتصالها بالغرب كما رأينا، ولكن على نحو أشد وأخطر. فالهجمة العالمية الجديدة، كما سبق أن ذكرنا، تحارب الخصوصيات الثقافية أصلاً وجوهراً، وتملك من أسلحة العولمة ومن تقنيات الاتصال ما يجعلها قادرة على تخريب الثقافات خلسة من داخلها وأعماقها، بل ما يمكنها من تقبل الشعوب لهذا الترياق المسموم وترحيبها به عن علم منها أو غير علم.
(رابعاً) الثقافة العربية المنشودة والسبيل إليها
ولا شك أن الأوان قد حان لطرح السؤال الأساسي الذي يتحلق حوله موضوعنا أصلاً، ونعني به: ما هي، في ضوء كل ما قلناه، معالم الثقافة العربية المستقبلية المنشودة؟ من أجل تيسير الإجابة على هذا السؤال الضخم، نود أن نجمل منذ البداية الأبعاد الأساسية للثقافة بمعناها الواسع في ثلاثة: البعد الأخلاقي، والبعد العلمي والتقاني، والبعد الاقتصادي والاجتماعي.
1 – وفيما يتصل بالبعد الأخلاقي، تحدث العديد من الباحثين الأجانب، وعلى رأسهم المفكران الألمانيان «هابرماس Habermas» و «جوناس Jonas» والباحث الأميركي «راولز Rawls» عن قوام الأخلاق الملائمة لعصر العلم والتكنولوجيا، فقال أولهم إنه الحوار، وقال الثاني إنه الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وقال الثالث أنه العدالة الاجتماعية، في كتابه الشهير «نظرية العدالة».
أما الثقافة العربية الإسلامية فلعلها جمعت بين العناصر الثلاثة وأضافت إليها:
ففيما يتصل بمبدأ الحوار، غني عن البيان أن الشورى من جوهرها وصلب مبادئها، والناس عندها شعوب وقبائل هدفها أن تتعارف، والتواد والتراحم من أهم قيمها. وفيما يتصل بالشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، فالقيم العربية الإسلامية في هذا المجال غنية ثرية. منها، وهي كثيرة، أن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه، وأن يكون الناس في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء. ومنها مبدأ التكافل الاجتماعي الذي يؤكّد أن كل فرد في المجتمع مسؤول عن سواه. ومنها أن كلّ فرد راعٍ ومسؤول عن رعيته، ومثل ذلك أكثر من أن يحصى. وقد نشرت «مؤسسة آل البيت» بالمملكة الأردنية الهاشمية ثلاثة مجلدات ضخمة حول «الشورى في الإسلام». كما نشرت مجلدين عن معاملة غير المسلمين في «الإسلام». وفيما يتصل بمبدأ العدالة الاجتماعية نجد التراث العربي الإسلامي حافلاً بالتأكيد على أهميته: فالناس سواسية كأسنان المشط. ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود. والظلم الاجتماعي مهلكة، والكسب الذي يأتي بلا جهد ومعاناة محرّم، والبطر والترف مهلك للأمم (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)، و «في أموال الأغنياء حقوق الفقراء وما جاع فقير إلاّ بما متع به غني» على حد قول الإمام علي (ر).
والمبادئ الخلقية التي أتى بها التراث العربي الإسلامي أكثر من أن تحصى.
والذي يعنينا في إطار بحثنا أن نبيّن أن توليد القِيَم الخلقية الملائمة للعصر من قلب تراثنا وصلبه هو الطريق السليم إلى بناء ثقافتنا العربية المنشودة. ولا يعني هذا أن نغمض عينينا عما نجد في الثقافات العالمية الأخرى من قيم، وأن نتجاهل مستلزمات التطوّر العصري وما يحمله من فهم جديد حي لقيمنا الأصلية. لا سيما أن مشكلات العصر، كما وصفناها، وعلى رأسها سيطرة المال والكسب المالي والنزوع إلى الاستيلاء على ثروات الآخرين باسم العولمة والسوق وسوى ذلك، تكاد تدعونا بقوة إلى تقويمها من خلال ثقافتنا. غير أن قدرتنا على تقويم ثقافة الآخرين وتصحيحها تستلزم أولاً وقبل كل شيء أن نحرص على قيَم ثقافتنا ونعيها ونحكم الأخذ بها. وهذا بدوره يستلزم فهم ثقافات الآخرين والحوار معها، كيما نفهم ذاتنا وثقافتنا فهما أعمق وأصدق وأنجع. وهكذا تقوم صلة دائرية، لا خطية، بين ثقافتنا وثقافة الآخرين.
2 – وفيما يتصل بالبعد العلمي والتقاني للثقافة العربية المنشودة، لا بد أن نسلك السلوك نفسه. فثقافتنا العربية الإسلامية ليست كما يظن بعضهم ثقافة تعنى بالدراسات الإنسانية وحدها، بل هي كما نعلم جميعاً ثقافة علمية تجريبية رائدة. أو لم يصف «فانتيجو Ventejoux» المعجزة العربية (في مقابل المعجزة اليونانية) بأنها تكمن في نقل العقل الإنساني من الدوران حول ذاته (كما عند اليونان) إلى الدوران حول الأشياء والانغماس فيها وإلى المشاهدة والتجربة العلمية بالتالي؟ وهكذا يحق للثقافة العربية الإسلامية الحديثة، حين تأخذ بالروح العلمية وتنادي بتوليد العلم والثقافة واستنباتهما، أن تقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا. ولا حاجة إلى القول إن المكتبة العربية والمكتبات الأجنبية طافحة بالكتب والدراسات والموسوعات التي تتحدث عن عطاء العرب في شتى ميادين العلم، وعن دورهم في توليد الحضارة العلمية التقانية الحديثة.
والذي يعنينا في خاتمة المطاف أن نعتبر الانغماس في الحضارة العلمية التقانية وإبداعها بعقولنا وأيدينا، مطلب تحضنا عليه ثقافتنا، بل شرطاً من شروط إيماننا بها وبرسالتها.
وأضرب مثالاً واحداً يشهد على ما في تراثنا الثقافي، وما في تراثنا الديني بوجه خاص، من حرص على إتقان العلوم والصناعات وما يدور حولها. وهذا المثال استقيه مما قاله بعض الفقهاء، وعلى رأسهم الإمام الشاطبي الأندلسي، في كتابه «الموافقات». فلقد ذكر الإمام الشاطبي، في معرض حديثه عن واجب الكفاية (الذي إذا قام به أحدهم سقط عن الباقين وإذا لم يقم به أحد أثم الجميع) أن من واجبات الكفاية أن يكون في كل مجتمع من يسد حاجته من المأكل والمشرب والصناعات المختلفة.
ومعنى هذا، بلغة اليوم، أنه إذا لم يتوافر لدينا في البلاد العربية علماء أو اختصاصيون أو تقنيون في شتى ميادين التقدم الحديثة – وما أكثرهم – فنحن جميعاً آثمون. أو ليس من حقنا بعد هذا أن نسأل أي معجزة كبرى في مجال العلم والتقانة يحققها مجتمعنا العربي إذا وعى أبناؤه هذا المبدأ وأدركوا شأنه وشأوه وأستخرجوا النتائج والخطط التي تلزم عنه، وتبينوا ما يجترحونه من إثم إذا هم جافوه؟
ونفتح ههنا «معترضة» لنقول أن التأمل في هذا المبدأ وفي كل ما ذكرناه حتى اليوم من مبادئ الثقافة العربية الإسلامية في مجال الأخلاق وفي مجال العلم والتقانة، ومن قيمها الخصبة في هذا كله، يقودنا إلى التأكيد على منهج أساسي ينبغي أن يكون المنهج الرائد في بناء ثقافتنا العربية المأمولة، عن طريق تحديث ثقافتنا الأصيلة. وقوام هذا المنهج أن نبحث في تراثنا بحثاً علمياً جاداً عن القيَم والمبادئ القادرة على بث الحياة في وجودنا العربي الحالي وعلى تجديده وتطويره. ويطيب لنا أحياناً أن نصف هذه المبادئ والقيَم القادرة على «التحريك» والإحياء. وعلى تحقيق الإنطلاقة الحضارية الذاتية المبدعة وضمان استمرارها واغتنائها، اسم المبادئ «الحادة»، بوصفها رأس الرمح في معركة تحديث الحضارة العربية. ولعل في وسعنا أن نصفها أيضاً بأنها مبادئ «حارة».
3 – ولننتقل الآن إلى البعد الاقتصادي والاجتماعي للثقافة العربية. ولنذكر تواً في هذا المجال ما سبق أن انتهينا إليه، في حديثنا عن أزمة العالم، حين جعلنا صلب هذه الأزمة إخضاع الثقافة للاقتصاد، وإخضاع الاقتصاد للمال، وإخضاع الاقتصاد والمال لإرادة السوق التي يقودها عدد محدود من الشركات العالمية الكبرى، وإنكار أهمية الاتساق الاجتماعي ورده إلى ما تحققه وسائل الاتصال من حوار وتواصل، وتعريف الديمقراطية بأنها ديمقراطية السوق، ورد التضامن بين بني البشر إلى الأخذ بالعولمة الغازية التي لا ترحم، وسوى ذلك كثير.
ولنولِّ وجهنا بعد هذا تواً نحو الثقافة العربية الإسلامية، قديمها وحديثها، ونحو اتجاهاتها الأساسية. ففي ميدان القيَم الاقتصادية والاجتماعية تتصدر هذه القيَم مبادئ كالتالية: تكافؤ الفرص الذي يحمل معاني كثيرة اقتصادية واجتماعية. والعدل الذي يعني العدل مع الناس جميعهم في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، عرباً كانوا أو أعاجم، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، نساء كانوا أو ذكوراً، أقوياء كانوا أو ضعفاء. ويتبع ذلك المبدأ المساواة بين الشعوب الذي يحمل أيضاً معاني اقتصادية واجتماعية عديدة – وتكريم بني الإنسان والتسامح وإنكار الإكراه في أي مجال – والدفاع عن الحق – وإنكار الاستعباد بأشكاله المختلفة – والدعوة إلى العمل – واكبار العلم – وإرادة التقدم والتغيير – وإنكار التقليد والسير على سنن الأولين – وسوى ذلك كثير. هذا فضلاً عن رعاية الفقراء والمقعدين واليتامى واللقطاء، وفرض نفقات على الموسرين لأقربائهم المحتاجين وسائر ذوي الأرحام، وتطبيب الحيوان، وشتى ضروب التكافل الاجتماعي التي تهدف إلى بناء مجتمع متماسك متضامن يشدّ بعضه بعضا. وفي هذا المجال أيضاً نشرت مؤسسة آل البيت «ثلاثة» مجلدات مهمَّة عن «الإدارة المالية في الإسلام»، وكتب الكثيرون عن «الاقتصاد في الإسلام».
ومما يبرز شأن هذه القيَم العربية الإسلامية، ما نجده اليوم في المجتمعات المتقدمة نفسها من دعوة إلى «التضامن» بين أفراد المجتمع، بعد تفاقم البطالة وتزايد أعداد الفقراء و«المهمشين» كما يقولون، وتكاثر المنسيين والساكنين في العراء وسواهم، وقد قاد هذا كله في السنوات الأخيرة إلى مناداة العديد من السياسيين إلى القول بأن المخرج من هذه الأزمة العصية التي تولّد اليأس والقلق والعنف أحياناً كثيرة، هو في الأخذ بمبدأ التضامن سواء في العمل،
أو في السكن، أو في الدخل. وما أحفل التراث الثقافي العربي الإسلامي بقيَم التضامن هذه ومبادئه ووسائله.
منطلقات الثقافة العربية المستقبلية:
وبعد، لقد أردنا من تحليل الأبعاد الثلاثة للثقافة العربية الإسلامية أن نؤكّد منطلقاتنا الأساسية التي انطلقنا منها في كلمتنا هذه، والتي يمكننا أن نلخصها في سبعة:
1 – أولها أن سبيل مستقبل الأمة العربية، وسبيل تحقيقها لأهدافها المشتركة الكبرى في التضامن والوحدة والتقدّم، هي سبيل الثقافة، وأن الثقافة الواحدة هي القادرة على بناء المجتمع العربي الواحد، المجتمع الأصيل العصري الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن الثقافة، بوصفها الوسيلة الحاسمة لتطوير الإنسان العربي وتوليد قوى الخلق والإبداع عنده، ولإغناء حياته ووجوده بأشكاله المختلفة، هي، كما قلنا ونقول، غاية التقدّم فضلاً عن كونها وسيلة من وسائله.
2 – وثانيها أن التعامل مع العالم ومستلزمات العيش معاً في «القرية العالمية»، أمور تستلزم وتشترط أولاً وقبل كل شيء تجويد التضامن والتكامل داخل المجتمع القومي الذي تنتسب إليه. وذلك لنكون من نحن، ولنفهم الآخرين ونقوى على الحوار معهم حواراً متكافئاً، ولنحول دون ابتلاع الآخرين لنا.
3 – وثالثها أن أزمة العالم في شتى الميادين، تمنح لثقافتنا الأصيلة دلالة جديدة ومعنى متجدّداً، وأن تأملنا فيها من خلال تجربة الآخرين ومن خلال الثقافات العالمية، يجعلنا ندرك أهميتها ودورها إدراكاً أعمق، ويجعلنا بالتالي قادرين على أن نحقق تضامننا مع العالم بإرادتنا من خلال ذاتنا وعبر ثقافتنا.
4 – ورابعها إن تأكيد هويتنا الثقافية وعثورنا الواعي على أسس ثقافتنا وجذورها، يؤدّيان إلى توثيق التضامن داخل كل مجتمع من مجتمعاتنا، وبين أبناء الأمة العربية جميعاً. ومن شأن هذا كله أن يولد لدى كل فرد من أفراد المجتمع سلوكاً إيجابياً ومحرّراً لوجوده وكيانه. فمن البدهي القول أن أي مجتمع بشري يستمد انسجامه واتساقه من جملة من القيَم الواحدة التي تجمع بين أفراده، بالإضافة إلى مجموعة من النشاطات والمشروعات المشتركة.
5 – وخامسها أن مثل هذا الإحياء للتراث الثقافي القومي المشترك حين نجعل منه دعوة عالمية، يكوّن البديل المنتظر للعولمة الاقتصادية والمالية والتقانية المسيطرة، ومنطلقاً لمشروع دولي عالمي جديد في هذا المجال. ذلك أن شعور أبناء الأمم المختلفة بأنهم يشاركون في قيَم مشتركة وفي مصير مشترك هو في خاتمة المطاف أساس أي مشروع يهدف إلى التعاون العالمي، وإلى «العالمية» بمعناها الصحيح. وقد يحق لنا، وراء هذا كله، أن نقول بإيجاز، أن النظام العالمي اليوم يضع موضع التساؤل «القيَم الموحِّدة» للمجتمعات. وهذا لب أزمته. ولا خروج منها إلاّ باللجوء إلى القيَم الثقافية الموحِّدة الجامعة، القيَم الإنسانية الكبرى التي تدين بها الثقافات الكبرى في شتى أنحاء المعمورة.
ومما يجدر ذكره أن هذا الموقف من قضم «العولمة» السائدة اليوم للثقافات ومن مخاطره، أصبح واضحاً لدى كثير من بلدان العالم، وعلى رأسها معظم الدول المتقدمة. وهذا الموقف الذي تقفه هذه الدول المتقدمة يأتلف مع رفضها لنظام السوق الليبرالية المطلقة وما يحدثه من كوارث عالمية اقتصادية وثقافية، وما ينذر به من سوء. وإذا كانت المواقف السياسية لهذه الدول، بهذا الشأن، ما تزال ملتبسة، بحكم الضرورة – وان لم تكن مستسلمة للتيار الطاغي – فإن المواقف الفكرية والنفسية لأبنائها غدت أوضح، ومن شأنها بالتالي أن تزيد من ضغطها يوماً بعد يوم على المواقف السياسية وتدفعها إلى الاعتدال أو إلى البحث عن منطلق عالمي جديد ومنطلق اقتصادي واجتماعي مغاير.
6 – وسادسها أن قيمة أية ثقافة قومية وقوتها، وقيمة الثقافة العربية الإسلامية بالتالي وقوتها،
لا تصدر فقط عن كونها تراثاً أصيلاً مشتركاً، بل تصدر فوق هذا وقبل هذا عما تضمه هذه الثقافة من قيَم محورها ومحركها إيثار الصالح العام على المصالح الفردية الخاصة.
وهذا ما نجده واضحاً في الثقافة العربية الإسلامية، وما نجد العالم اليوم في أمس الحاجة إليه. ذلك أن غزو الغرب للعالم، كما سبق أن رأينا، يطيح بقيَم التضامن التي طالما نادت بها الثقافات العالمية الكبرى، ويضرب بالمصالح المشتركة، داخل المجتمعات الغربية وخارجها، عرض الحائط، ويفسح المجال واسعاً لسيطرة حفنة من الشركات والبنوك والأفراد ومراكز الضغط. وحسبنا أن نذكر، كمثال من أمثلة كثيرة، الدور الضاغط الكبير الذي تضطلع به جماعة كجماعة «حلقة العمل Business Round Table» التي أسست في الولايات المتحدة عام 1974، وما كان لها من شأن كبير في التصديق على اتفاقية «الغات Gatt» واتفاقيات مراكش التي ولدت «المنظمة العالمية للتجارة O.M.C» ومثل هذه الجماعات الضاغطة كثير.
7 – وسابعها وأهمها أن التراث الثقافي العربي الإسلامي قابل للتطوير من داخله. ولا أدل على ذلك من أن هذا التراث هو الذي ولد الحضارة المزهرة والمشرقة التي بزغت في القرن الرابع الهجري بوجه خاص. وعوامل بزوغ هذه النهضة تؤكّد من جديد أهمية الحوار الثقافي والاحتكاك الثقافي والانفتاح الثقافي على ثقافات العالم اليوم. فكلنا يعلم أن تمازج الثقافات في القرن الرابع الهجري وما تلاه هو الذي جدد الثقافة العربية الإسلامية ومكنها من أن تغني ذاتها عن طريق انفتاحها على سواها. ومثل هذا يقال عن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس حيث استطاع العرب أن يشيدوا مجتمع عدالة ومساواة، وأن يبنوا حضارة أصيلة مزدهرة، وأن يحققوا امتزاجاً ثقافياً بل سكانياً فذاً، اختلط فيه القوطي بالعربي، واللاتيني بالبربري، وأدى إلى ولادة مركب ثقافي مبدع. وقد كتبت المؤلفات التي لا تحصى عن هذه الحضارة الفريدة التي ولدت من تفاعل الثقافة العربية مع سواها. ولعل أعمق ما كتب بهذا الصدد كتاب «خوان فرنيه Juan Vernet» أستاذ الفلسفة بجامعة برشلونة، وعنوانه «ما تدين له الثقافة لعرب الأندلس».
لقد خاض العرب معارك الفتوحات منذ صدر الإسلام، لنشر قيمه الثقافية الإنسانية الكبرى، وكانوا في ذلك معلمين لسواهم ومتعلمين من سواهم في آن واحد. وهكذا فتحوا أبواب ثقافتهم مشرعة أمام سائر الثقافات السائدة آنذاك، من يونانية ورومية وهندية وفارسية. وصاحب ذلك، انطلاقاً من ثقافتهم، انفتاح تجاري جاسوا فيه أرجاء العالم البعيدة، شعارهم الأخذ والعطاء والتبادل الحرّ والعادل. ولم يبدأ الصراع على الثروة والمال إلاّ بعد أن دخل الغرب الميدان، منذ وقت مبكر، وخاضت سفنه حرباً تجارية ضد العرب، واستمرت هذه الحرب حتى اليوم، لا على العرب وحدهم بل على سائر بلدان العالم، ولا سيما البلدان النامية.
نقول هذا كله لنؤكّد من جديد أن للثقافة العربية الإسلامية دوراً كبيراً يمكنها أن تضطلع به في عالم الاقتصاد والمال والاتصال على نحو ما نجده اليوم، شريطة أن تعي ذاتها وسواها وتجدد ذاتها، وتنطلق مما سميناه «المبادئ الحادة» أو «الحارة» القادرة على صياغة ثقافتها صياغة تمكنها من أن تحيا، ومن أن يكون لها شأنها في تصويب خطاها أولاً ثم خطى العالم.
ولا حاجة إلى القول أن تنمية الثقافة العربية الإسلامية، وفق المنطلقات التي بيّناها، تستلزم جهداً عربياً مشتركاً ومنظماً، ورؤية عربية موحدة، بل تستلزم استراتيجية ثقافية كاملة، وتحديد العلاقات المتبادلة بين مثل هذه الاستراتيجية الثقافية وبين الاستراتيجية الاقتصادية العربية التي تمس الحاجة أيضاً إلى وضعها في هذه المرحلة من تطور العالم. ومن أهم المسائل التي ينبغي أن تتصدى لها مثل هذه الاستراتيجية الثقافية، في إطار علاقتها بالاستراتيجية الاقتصادية، مسألة الصلة بين الانفتاح الاقتصادي والانفتاح الثقافي عن طريق توضيح حدود الانفتاح الاقتصادي العربي ورسم الصيغة الملائمة له. في ضوء مخاطر الاقتصاد الليبرالي على نحو ما نجده في مسيرة العالم اليوم، وما يشكله اقتصاد السوق من خطر على الاقتصاد والثقافة في معظم بلدان العالم، ولا سيما في البلدان النامية، كما استبان لنا عبر هذه المحاضرة. وهذا كله ينبغي أن يصدر عن موقف عربي يغالب نفسه وما ألف وما أملاه عليه الواقع العالمي الطاغي حتى الآن، وذلك من أجل توليد موقف ثقافي اقتصادي جديد، يعمل على تحقيق التوازن في الحياة العربية بين المبادرة والانفتاح، من جانب، وبين الإبقاء على تماسك الاقتصاد العربي والثقافة العربية تماسكاً قوامه جعل نمو الاقتصاد العربي في خدمة التنمية الشاملة وفي خدمة قيَم الثقافة العربية، وعلى رأسها العدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي، وجعل قيَم الثقافة والإيمان بها إيماناً عميقاً حاراً في خدمة نمو الاقتصاد وتطويره وبث روح الإبداع فيه بل في خدمة المجتمع كله.
ومن المبادرات الجديرة بالاهتمام بهذا الصدد ما أوصت به الندوة التي دعت إليها مؤسسة الأهرام مؤخراً «حول الاقتصاد من أجل مستقبل عربي» فلقد أوصت الندوة في ختام أعمالها بضرورة عقد مؤتمر قمة اقتصادية عربية. كما أعلنت عن إنشاء «منتدى المستقبل العربي» ليكون مركزاً للتفكير الاستراتيجي العربي.
ويكتسب الاهتمام بهذا الأمر شأناً خاصاً في إطار محادثات السلام مع إسرائيل. فمما لا شك فيه أن ضمان «الأمن الثقافي» العربي و «الأمن الاقتصادي» العربي ينبغي أن يحتلا مكان الصدارة في هذه المحادثات. لا سيما أن إسرائيل ستكون، في حال حدوث السلام، الجسر الذي يعبّر عليه النظام العالمي إلى البلدان العربية والبلدان الآسيوية والأفريقية. الأمر الذي يضاعف خطورة هذا النظام. وهذا ما عبر عنه «نتانياهو» نفسه تعبيراً واضحاً حين قال: إن إنشاء علاقات سلام سيفتح أمام الشركات الإسرائيلية نافذة نحو الشرق إلى الأسواق الواسعة في جنوب شرق آسيا واليابان والصين، كما أن موقع إسرائيل الجغرافي القريب من أوروبا، قد يمكنها من أن تكون جسراً بين الشرق والغرب، وبين الشرق وبين أوروبا الوسطى ورابطة الدول المستقلة (مكان تحت الشمس، الترجمة العربية، ص 352). وقد جنح «شيمون بيريس» من قبل إلى وضع هذا الاتجاه في إطار مشروع متكامل محمّل بالمخاطر، هو المشروع الشرق أوسطي، الذي يمثّل في حقيقته غزواً اقتصادياً شاملاً للوطن العربي وتسخيراً مباشراً لموارده وإمكاناته لمصلحة إسرائيل ورؤوس الأموال اليهودية العالمية، ومن ورائها سائر المؤسسات الكبرى الرائدة التي تسير اقتصاد السوق. ومن خلال هذا الغزو الاقتصادي وفي إطاره يتحقق الغزو الثقافي للوطن العربي، ويولّد الصراع الاقتصادي والثقافي بين إسرائيل والبلاد العربية صراعاً مخيفاً بين البلدان العربية نفسها. وتؤدي الطمأنينة التي يرجح أن تخيم على إسرائيل بسبب هذا الانتعاش الاقتصادي والغلبة الثقافية إلى قلق واضطراب داخل الوطن العربي.
على أن مخاطر السلام مع إسرائيل تنبع من أصول أعمق، هي الثقافة الصهيونية التي حاول زعماء الصهيونية توضيح معالمها ودورها منذ البداية، والتي تقوم على العنصرية والخصوصية العرقية المزعومة، والدم المتميّز، والتفوق الفكري، وعداء الغرباء، واحتلال الأرض بالقوة، والإيمان بأن العنف هو السبيل الوحيد لإخضاع العرب ولإنشاء الوطن القومي الصهيوني. وهذه النظرة يعبّر عنها «نتانياهو» اليوم أفضل تعبير، على نحو ما يتجلى واضحاً في كتاباته وتصريحاته، ولا سيما في كتابه الخطير «مكان تحت الشمس»، وعلى نحو ما يتجلى في سلوكه السياسي. ومن الجدير بالذكر أن جد «نتانياهو» لأبيه، انضم منذ عام 1929 إلى الاتجاه الصهيوني القومي المتطرف الذي كان يمثله «جابوتنسكي Jabotinsky» (1880 – 1940) الذي كان رائداً كبيراً من رواد الصهيونية يضاهي «هرتسل» بل يفوقه ولا سيما لدى أهل اليمين، والذي كان صاحب دعوة عرقية جسدية صارمة، عبر عنها على أشكال مختلفة وأوجزها قائلاً: «إن الأرض واللغة والدين والتاريخ المشترك لا تكوّن جوهر الأمة، وإنما تكوّن بعض خصائصها… وجوهر الأمة والقلعة الأولى والأخيرة لوحدة كيانها هما في الصفات الجسدية النوعية الخاصة، في «الصيغة» التي تتكون منها بنيتها العرقية».
وأهم من هذا وأخطر إيمانه بأن العنف هو الذي يضطلع بالدور الحاسم في التحرير القومي، من أجل تحرير الديار اليهودية، على حد قوله، ومن أجل تحرير. الفرد اليهودي من عبوديته النفسية الداخلية. ومن هنا يصل إلى القول بأن الصهيونية تعني إرادة الحياة، إرادة القوة، ولا شأن للأخلاق في نظره في ميدان السياسة. ولن يُخضع الفلسطينيين والعرب في نظره سوى تراكم الهزائم التي يوقعها اليهود بهم. والقوة وحدها هي التي تحمل الفلسطينيين والعرب على التنازل عن حقوقهم القومية وتدفعهم إلى الرضا بمصيرهم.
وقد غذت هذه الأفكار الحركة الصهيونية دوماً، وهي التي تبناها ويتبناها اليوم كثير من أبناء إسرائيل، ولا سيما أتباع الأحزاب اليمينية وبعض الأحزاب الدينية، وهي التي تكوّن اللحمة الإيديولوجية لرئيس وزراء إسرائيل الحالي. ومثل هذه الثقافة الصهيونية العميقة الجذور لا تقوى على مغالبتها إلاّ ثقافة عربية مستمسكة بأصولها، مدركة لعصرها وجدائده، تنطلق من أن السلام الحقيقي لن يكون حقيقياً ودائماً إلاّ إذا تخلت إسرائيل عن مثل هذه المنطلقات القومية العدوانية وإلاّ إذا استطاعت ثقافتها، بعد تحريرها من نزعاتها العنصرية والشوفينية والفاشية، أن تعقد حواراً ثقافياً صادقاً وإنسانياً مع الثقافة العربية ذات الجذور الإنسانية العريقة، تلك الثقافة التي لم تؤمن يوماً بالتفوق والغلبة والعدوان، ولكنها وقفت دوماً شامخة عنيدة في وجه الخسف والذل والمهانة.
الخاتمة
وبعد، إن الثقافة العربية المستقبلية بناء وليست مجرد اكتشاف، أنها ليست حقيقة قابعة كالجوزة داخل قشرتها، بل هي حركة وصيرورة وانبثاق دائم. إنها التجدّد المستمر لأنها ليست غاية بل هي خادمة لغايات وقيَم لا بد من صياغتها دوماً صياغة قابلة للحياة وملائمة للتطور. والذي يضفي عليها وصفها بأنها ثقافة ذاتية، ما هو شكلها المحدّد سلفاً ولا انتماؤها إلى ذات ساكنة، بل بناؤها دوماً بناءً جديداً بأيدي أبنائها. فما هو ذاتي فيها، هو بناؤها الذاتي، بعقول أصحابها. وقوتُها المستقبلية، لا تصدر إلاّ عن قدرتها على مراجعة ذاتها دوماً، بل عن قدرة الأفكار التي تبنيها على مغالبة ذاتها دوماً وأبداً، بحيث تقوى على أن تفكر في تفكيرها إن صحّ القول.
ويزيد في أهمية هذا التجديد المستمر الذي ينبغي أن تقوم به الثقافة العربية الإسلامية، من خلال ذاتها ومن خلال وعيها لسواها، أننا نعيش في عالم يصفه مفكر مثل «ادغار موران Edgar Morin» بأنه عالم الاحتمالات. فالمستقبل مليء باحتمالات علينا أن نحاول تبيُّنَها ولكننا لا نستطيع الجزم بنجاح أحدها أو بعضها. والمستقبل، رغم كلّ التقدّم الذي أحرزته الدراسات المستقبلية، يظل عصياً على التحديد.
وفي مثل هذا العالم المحمَّل بالاحتمالات، لا بد للثقافات جميعها، وللثقافة العربية الإسلامية، أن تتصف بالمرونة والتجدّد والقدرة على التكيف، دون أن تفقد قوامها وجوهرها.
ورفض مثل هذه النظرة يقود إلى موقفين أحلاهما مرّ:
فإما الهرب إلى الاحتماء بالتراث، ولو كان هذا التراث يحمل من تخلف القرون ما يحمل، ومن تشويه بعض المفسرين له ما يكاد يفقده معناها وروحه.
وعند ذلك يلتقي هذا الموقف التقليدي الجامد، عن غير إدراك منه، بالموقف العالمي الغازي والطامع، وييسر له سبيل اغتيال الثقافة العربية الإسلامية، بعد أن تحجرت وتجمدت وانفض من حولها الواقع وهجرها الناس. وإما محاولة اللحاق بالغرب لحاق العبد بالسيّد، دون أن يملك العبد ما يعطيه وما يبرّر احترام كيانه.
وتزيد في أهمية توليد الثقافة العربية الذاتية القادرة على أن تحمي ذاتها والقادرة بسبب ذلك على أن تحمي اقتصادها، ظاهرة قد لا ينتبه إليها الكثيرون، وهي أن دول العالم الكبرى دول تنكر على سواها حماية ثقافتها وحماية اقتصادها، ولكنها جميعها تحمي ثقافتها واقتصادها. يصدّق هذا بوجه خاص على الولايات المتحدة الأميركية ثم على دول الوحدة الأوروبية ثم على اليابان. وكأن شعارها جميعها: مرحى لتخفيض الحماية عند سواي، وتباً لها عندي. ولا أدل على ذلك من التوالد المتكاثر لمناطق التبادل الاقتصادي الحر، التي تكوّن عقبة واضحة في وجه تطبيق مبادئ «الغات Gatt». ولا أدل على ذلك أيضاً من أن الولايات المتحدة تنكر مبدأ القوميات، ولكنها تأخذ به هي في أيشع صوره، صور الهيمنة والتسلّط وإنكار مبدأ استقلال الشعوب وسيادتها.
وختاماً، على الأمة العربية ألا تنتظر الإنقاذ والمن والسلوى من سواها، وأن تدرك أنها إن لم تكرم نفسها فلن يكرمها أحد، وأن احترام الآخرين لها ينبع من مدى احترامها لذاتها. وفوق هذا وقبل هذا، عليها أن تعي وعياً عميقاً أن لها في ثقافتها العربية الإسلامية درعاً واقية، لاسيما حين يتم تجديد هذه الثقافة من خلال عمل عربي مشترك، وأن تؤمن أولاً وآخراً أن تضامنها الحق لا يكون إلاّ عن طريق تضامنها الثقافي، القادر وحده على توليد التقدّم الحق، والمنعة الراسخة الباقية. أن كلّ تقدّم ونمو، اقتصادياً كان أو اجتماعياً، لا يشده ويغذيه نمو ثقافي يحقق اللحمة بين أبناء المجتمع، ويعبئهم في سبيل هدف مشترك يؤمنون به، ويوفر التماسك الاجتماعي، يظل نمواً زائفاً، هذا إن أمكن تحقيق النمو أصلاً من دون الثقافة. وإذا كان مطلب تنمية الثقافة مطلباً صعباً، وإذا كان العمل الثقافي عملاً مديداً طويل النفس، لا يمسَك باليد، ولا يُرى ويُلْمس، كما تُرى وتلْمس التنمية الاقتصادية، فإن هذا سبب إضافي ينبغي أن يدفع إلى التصميم على خوض معركة الثقافة. وهل من تنمية ناجحة اليوم بل هل من عمل علمي وتكنولوجي، إلاّ إذا تفتحت أكمام الثقافة، وتفتح معها الخيال والفن والأدب والفكر وسائر ضروب الإبداع؟
إن الثقافة تعني في خاتمة المطاف تفتح الذات إلى أقصى مداها، علماً وتقنية وخيالاً وفكراً وجسداً. إنها عروج الإنسان نحو مزيد من العطاء والإبداع يدفع دوماً إلى المزيد.