نحو فلسفة تربوية عربية

الفلسفة التربوية ومستقبل الوطن العربي
(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)، 326 ص
محمد جواد رضا
جامعة آل البيت، الأردن
-1-
أن تقرأ عبد الله عبد الدائم في أحدث كتبه(1) يعني أن ترحل معه إلى أفق جديد من الفكر التربوي لم يتأسّن بالتكرار والاجترار. ولكن أن تجمع قراءة عبد الله عبد الدائم الجديد والمجدد إلى مجمل شخصه النضّاح بالمعارف التربوية المنظمة والشمولية الإحاطة بأزمات التربية – عربيّها وعالميّها – ثم أن تقرن تلك المعرفة بحس السخرية الفلسفية الباهرة للعقل والذوق عنده، يعني أنك تتعامل مع تجربة إنسانية متفردة. أذكر أننا كنا نتحلق حوله ذات يوم أواسط الثمانينيات في الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية خلال أحد ملتقياتها العلمية – التي كانت هي الأخرى مواسم خصب وجودي دائم – فانطلق ينثال علينا بطوفان من الحقائق العلمية عن الطفولة وطبيعتها، ثم توقف فجأة في بعض مدارج الصعود وكأنما اعترته حالة من الشك في جدوى حقائق لا توافق الواقع أو واقع لا يطابق الحقائق، ثم انفرجت أساريره وهو يقتبس من الروائي الفرنسي ألكسندر ديما سؤالاً محيراً:
– إن كل الأطفال يولدون أذكياء.. فمن أين يأتي كل هؤلاء الكبار الأغبياء؟
ماذا أراد أن يقول يومها؟ وأية رسالة أراد أن يبلّغ؟ بعد عقد من الزمان أو ينقص قليلاً يأتي كتابه الجديد نحو فلسفة تربوية عربية ليعطي بعض جواب عن سؤال ديما العتيد. إن التربية يمكن أن تكون أسراً بلا قيود، وإن المدارس يمكن أن تكون سجوناً بلا سدود، وإن المعلمين والمربين هم قتلة محتملون ما لم يشرح الله والعلم صدورهم للإيمان بحق العقول البازغة بالحماية من الحجر عليها بالتقاليد والعصبيات والخوف من التجدد الذي قدّره الله تعالى سنّةً من سننه الثابتة المدبرة لهذا الكون الكبير: (كل من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)(2). إن عبودية الفكر والروح هما أسوأ أنواع العبوديات التي عرفها الإنسان في تاريخه الطويل، وأسوأ ما في هذا النوع من العبودية أو الاستعباد هو أنه سهل الترسّب في الوجدان حتى ليغدو نوعاً من المسلكية العضوية تلغي قدرة التمييز بين المعقول واللامعقول وتجعل غياب الوعي أو تغييبه حالة قارّة توهم بأن العبودية هي أعلى مراحل الحرية بسبب أن التربية تكون قد غدت عملية «لاغتيال العقول والنفوس وتعبئتها بما نشاء من أفكار واتجاهات وقيم» تدفع المتعلم إلى «جعل عقله في أذنيه»(3). حقاً إن التوسل بالتربية لخلق عقول حرة وأفراد أحرار هو مهمة غير عادية. فإذا كانت الحرية مسؤولية – وهي كذلك قطعاً العبودية -اتكال، وهي أيسر كلفة وأهون مؤونة من الحرية. يلاحظ جون هولت «أن قلة من العبيد تفكر في الحرية. أما جمهرتهم فكلٌّ يباهي بأن سيده وحده يملك القصر الأفخم والمزرعة الأكبر، وأن سيده وحده من بين السادة هو الأقوى والأغنى»(4). وإذا كانت الحرية جسارة ومغامرة، فإن العبودية لواذ بالأمن الكاذب الذي يجده الناس في التمسك بالمألوف المعروف من القيم والأفكار أو منظومات الفكر والسياسة والاجتماع.
في الفصل الأول من مسرحية بيت الدمى لهنريك إبسن يدور الحوار التالي بين نورا وزوجها تورفالد هيلمر:
نورا: ليس هناك من له ذوق جميل كذوقك، وأنا أريد أن أبدو فاتنة في الحفلة التنكرية الراقصة. تورفالد..؟ أليس في مقدورك أن تأخذني بالذراع وتريني كيف أذهب إلى هناك وأية بدلة من بدلي أرتدي؟
هيلمر: هكذا إذاً؟ فاتنتي الصغيرة تحتاج إلى من يبادر لإنقاذها.
نورا: نعم يا تورفالد.ز إنني لا أستطيع أن أخطو خطوة واحدة من دون مساعدتك.
هيلمر: حسناً.. سأفكر في الأمر.. لابد أننا سنقع على حل.
وهكذا تعلّق نورا إرادتها بإرادة زوجها حتى في اختيار ما تلبس وتلغي إرادتها إلغاءً تاماً. وهذا من بعض عمل التربية عندما تكون التربية محقاً لفردية الآخر.
-2-
إن الخوف على مستقبل الأمة العربية من مخاطر الاستعباد التربوي يبرز في فكر عبد الدائم كأحد أخطر مهددات وجودها فكراً ونماء، وإليه يرجع تفسير كل عوامل الوهن في هذا الوجود، فهو مسؤول ابتداء عن ظاهرة «الجمود وتخلف الإبداع» ودخول المجتمع العربي «منذ زوال الدولة العربية الإسلامية وبوجه خاص منذ سقوط عاصمتها بغداد على يد أخلاط المغول والتتر في مرحلة سبات طويلة» ظل خلالها «يجتر ذاته دون أن يبدع شيئاً جديداً إلا في حالات نادرة». وبسبب استمرار «اجترار الذات»، فإن هذا المجتمع «ما يزال حتى اليوم يجر أذيال ذلك التخلف في الإبداع الذي عمّر طويلاً، وما يزال في صراع بين الإبداع والاتباع، بين اجترار الماضي بعجره وبجره دون ما إضافة أو تجديد، وبين بث الحياة في هذا الماضي عن طريق تفاعله مع الحاضر والمستقبل».
لقد أصبح هذا العجز التربوي على ما يبدو نوعاً من الاختيار في الرؤى يرفده «كل ما في الحياة المدرسية، من كتاب ومعلم وامتحانات ومناهج وطرائق، مما يزال ينتسب إلى مرحلة اجترار المعرفة وخزنها، وتغليب الألفاظ على الأشياء، وتفضيل النظر على العمل وتقديم الجدل العقلي على البحث المنهجي، وإيثار التقليد على التجديد أولاً وآخراً» حتى أصيب المجتمع بالعجز «عن دخول الثورة العلمية التقنية «التكنولوجيا» والمشاركة الخلاقة فيها مكتفياً باستهلاك منجزاتها. ووراء هذا العجز عجز أعمق هو ضعف الروح العلمية والتفكير العلمي، بل التشكيك حتى في مبادئه».
يعبّر هذا الشعور بالعجز عن نفسه تعبيرات شتى. فهو إذ يبلّد الحس بالزمان وحركيته، ويقنع الناس بـ «الحياة يوماً بيوم كفافاً»، وهو إذ يلغي مكان المستقبل فيه أو يلغي مكان الناس في المستقبل فهو يضع على أبصارهم غشاوة تحول بينهم وبين «الرؤية الديناميكية للزمان» ويسوّد عليهم هذا الموقف السكوني «في عصر هو عصر التغير السريع الهائل» حيث «لا يكون المستقبل – حتى القريب منه – مجرد امتداد للحاضر والماضي بل سيشمل من وجوه أساسية انقطاعاً عنهما وولوجاً في عهد جديد من عهود الإنسانية». لقد كان من بعض إفرازات هذا الركود العام في الحياة العربية الحديثة تضاؤل النخبة العقلية وتصاغر دورها في حياة الأمة دون إدراك أو تبصر في عواقب انسحاب هذه النخبة من ريادة المجتمع. فعلى الرغم من أهمية شأن الجماهير وتوعيتها «فإن قدرة المجتمع على التقدم لا يحددها في النهاية مجرد المستوى الثقافي العام للجماهير والوضع التعليمي الشامل للسكان، بل يحددها فوق ذلك وقبل ذلك، ما يتوافر في المجتمع من نخبة ممتازة، في شتى ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية وسواها. فأفراد النخبة هؤلاء يعبّرون أولاً عن مدى عمق المستوى الحضاري الذي بلغه بلد معين، وعن مقدار شأوه وسموه. وهم بعد ذلك «الخمائر» الحية الفعالة التي تحرك المجتمع وتحييه، والتي تطلق حركة تكوين المستويات التالية لها والمتتالية بعد ذلك، من القيادات والاختصاصات في شتى المجالات».
يلتمس عبد الدائم تفسير هذا العقم التربوي في علل اجتماعية ثلاث، أهمها النزعة الماضوية المهيمنة على العقل العربي المعاصر والمتمثلة في «عبادة الماضي واعتباره النموذج الأمثل للمستقبل، حتى كأننا نسقط المستقبل إسقاطاً خلفياً على الماضي، ونضفي على ذلك الماضي مثلنا الأعلى كما نريده. وهذا التقديس «الصنمي» ينسى أن ماضي الأمة العربية والإسلامية الممتد عبر العصور لا يعدو أن يكون تجربة إنسانية معروضة لشتى ضروب الخطأ والانحراف، وأن مبادئ الدين الإسلامي لم تجد دوماً تطبيقاً لها في تلك التجربة، كما لا تجد أفضل ترجمة لها فيها». ولو أن هذه النزعة الماضوية الكسيحة اقتصرت على التعلق بالمنجزات الحضارية العربية الإسلامية الغابرة لكان أمرها هيناً ولكانت كلفتها يسيرة، ولكن سلطان هذا الماضي «يمتد ليشمل ميادين أخرى في الحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية وسواها. فسلطان الماضي مسلط بين الأجيال، يفرض فيه كل جيل على الجيل اللاحق مفاهيمه ورؤاه. وسلطان الماضي حاضر في العلاقات الأسرية التي ما يزال قوامها «الأسرة البطركية» إلى حد بعيد في العلاقات بين الآباء والأبناء، وبين المرأة والرجل، وفي العلاقات داخل النظام التربوي بين المعلم والطالب. وهو قائم في الحياة السياسية وفي الصلة بين الحاكم والمحكوم، وفي شتى مجالات الحياة. ولا نغلو إذا قلنا إن كثيراً من أمائر «التسلط» والظلم والقهر، وهي كثيرة في المجتمع العربي، تستمد روحها وقوتها من سلطان الماضي»، وهذا كله مصدر قلق مشروع عند عبد الدائم لأن «أثقال الماضي مهما يكن شأنها تجعل السير نحو المستقبل سيراً متثاقلاً مبطئاً في خطاه. وحسنات الماضي نفسها قد تنقلب عبئاً على أصحابها حين يكتفون بتمجيدها والتغني بها بدلاً من إحيائها وتجديدها». لقد أقام هذا الاكتفاء بأمجاد الأمة الغابرة «حاجزاً منيعاً بين تجربة الأمة العربية والإسلامية الماضية وبين تجارب الأمم الأخرى، وكأن الحضارة العربية الإسلامية غائبة كل الغياب عن ولادة الحضارة الغربية، وكأن التفاعل والحوار لم يعرفا سبيلهما إلى تلك الحضارة العربية، لا سيما حين يبلغ الأمر ببعض أصحاب هذا الاتجاه إلى حد القول بأن الحضارة العربية الإسلامية، في شتى عصورها وفي واقعها اليوم، متفوقة على الحضارات الأخرى، وليس بها حاجة إلى أن تأخذ من سواها».
إن الخوف من جثوم الماضي على الحاضر وحجبه الرؤية الحضارية الكونية عن أهل الحقبة يبدو وكأنه هاجس مقيم في ضمير الرجل وهو لا يني يحذّر منه وينبه عليه سواء تكلم في الشأن التربوي أو تكلم في الشأن الحضاري العربي العام. فليس في مستطاع التاريخ – على شأنه – أن يكون «وحده الهادي في العلاقات بين الأمم. وحقائق التاريخ لا يجوز أن تتخذ ذريعة لتعطيل الحاضر والمستقبل»(5). وعلى هذا، وكمخرج من مأزق «التأريخانية» بمصطلح عبد الله العروي، يلح عبد الدائم على وجوب دخول الثقافة العربية المعاصرة في حوار صادق مع ثقافات العالم لأن هذه الثقافة العربية المعاصرة على «نحو ما هي ذائعة اليوم لدى الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية ثقافة محملة بما تركته عهود الانحطاط الطويلة من مفاهيم متخلفة ومن معوقات نفسية واجتماعية تحول دون التقدم»(6).
يسجل عبد الدائم «إن أهم عامل في تقدم أي شعب هو قدرته على التحول سريعاً وفي الوقت المناسب من ميدان من ميادين الإنتاج إلى آخر ومن قطاع اقتصادي إلى قطاع آخر»، وهذا هو معنى التغير الكامن وراء حركة التاريخ. غير أن التربية العربية في الأعوام الثمانين الماضية لم تفلح في استزراع «قبول التغيير والتغير» بين العرب ولم تشجعهم على «الدخول في تجارب جديدة والانفتاح على أفكار أخرى»، ولم يجد المجتمع العربي في مؤسساته التربوية عوناً له على التحرر من ظاهرة التثبيت. على العكس كانت هذه المؤسسات هي نفسها من أدوات تعزيز ظاهرة التثبيت وتخليدها، حيث ارتطمت «محاولات تجديد النظام الإداري وإدخال بنى وتقنيات محدثة فيه بموقف الإداريين العصيّ غالباً على أي تطوير والذين يؤثرون الاحتماء بأطر وأساليب قديمة مهما تكن بالية على المخاطرة في ولوج عالم جديد لا يعرفونه». لا عجب إذاً أن تكون «الأجهزة الإدارية في معظم الأنظمة التربوية العربية متخلفة ومقصرة تقصيراً فاضحاً عن مواجهة التزايد الطلابي الكبير الذي تم في العقود الأخيرة، وعن الاستجابة لحاجات التربية الجديدة، وبوجه خاص لمستلزمات الربط بينها وبين حاجات التنمية الشاملة. وفي أفضل الأحوال نقع في معظم البلدان العربية على إدارات تربوية من أجل «التسيير» بأبسط معاني هذه الكلمة وأضعفها، لا من أجل التجديد والتطوير».
إن ظاهرتي الماضوية ورفض التغيير تجدان لهما رفداً قوياً في قصور ثقافي آخر هو «التعصب الفردي والجماعي وما يلحق به من روح عدوانية. والتعصب للرأي، أو للقبيلة، أو للعائلة، أو للطائفة الدينية، أو لأيديولوجية معينة، مؤشر يفصح عن غلبة الغريزة على العقل، والانفعال على الفكر، والموروث على الواقع». وعلى الرغم من أن منطق الأشياء كان يقضي أن تعمل التربية العربية المعاصرة على تحرير العقل العربي من آثار هذا الالتواء السلوكي الذي كان له دوره القوي في تخريب الدولة العربية الإسلامية إلا أن «السلوك الاجتماعي للفرد العربي اليوم فيه قدر كبير من التعصب وإن مستويات السماح Tolerance Levels متدنية فيه».
-3-
من أية رحم يابسة ولد هذا العقم التربوي؟
من تجارب الطريق الطويلة التي مشاها في معاناة الهم التربوي العربي، يعزو عبد الدائم هذا العقم إلى غبش الرؤية في ما كان ينبغي على التربية العربية أن تفعله ولكنها غفلت عنه حين راحت تتعلق بتوقعات أو توهمات غير قابلة للتطبيق، توهمات وتوقعات تولدت في فراغات الطموح ولم تنفرز من حاجات الواقع الإنساني للفرد العربي، وكان آخر صيغها ما ورد في «استراتيجية تطوير التربية العربية» ومبادئها الاثني عشر:
(1) المبدأ الإنساني؛ (2) مبدأ التربية للإيمان؛ (3) مبدأ التربية للعقل؛ (4) المبدأ القومي؛ (5) المبدأ التنموي؛ (6) المبدأ الديمقراطي؛ (7) مبدأ التربية للعلم؛ (8) مبدأ التربية للحياة؛ (9) مبدأ التربية للقوة؛ (10) مبدأ التربية المتكاملة؛ (11) مبدأ الأصالة والتجديد؛ (12) مبدأ التربية للإنسانية. لقد ظلت التربية العربية المعاصرة تعاني «الأدلجة» والابتعاد عن المنهجية العلمية في رسم غاياتها، وكأن محض الحديث عن «المبادئ» يجعلها بديلاً من توظيف المؤسسة التربوية في تحقيق التقدم الاجتماعي، ولم ينتبه «المبدأيون» إلى «أن قيمة المبادئ في أنها كائنات حية تخضع لما تخضع له الحياة من نمو وضمور، ومن صحة ومرض، ومن مد وجزر. والهام أن ندرك ذلك، وأن نعي بالتالي أننا لسنا أمام مبادئ لا تقبل إلا التفسير الواحد والوحيد، بل نحن أمام مبادئ قيمتها الكبرى في مرونتها وقدرتها على التكيف مع الأوضاع المختلفة والظروف المتباينة».
كما فاتهم «أن المبادئ كالديانات وكالإديولوجيات وسواها تفهم فهماً متقدماً حياً في المجتمع الحي المتقدم فكرياً وحضارياً، وتفهم فهماً متخلفاً في المجتمع المتخلف»(7).
لقد انصب اهتمام المبدأيين – في غمرة البحث عن الذات القومية وتأكيدها – على استعادة قيم الأمس المندثر. ولم يكن في ذلك عيب من حيث المبدأ لولا أن إحياء القيم المستعادة من جيولوجية التاريخ لا يمكن أن يتحقق «بمجرد التبشير بها والدعوة إليها بل لابد من فهمها فهماً جديداً في ضوء حاجات الواقع العربي و الواقع العالمي، ولا بد أن نمنحها الحياة والديناميكية والقدرة على التأثير عن طريق ترجمتها ترجمة جديدة إلى لغة العصر، لا سيما أن هذه القيم والمبادئ والآداب السامية في روحها وجوهرها، لبست عبر مسيرة الحضارة العربية الإسلامية حللاً متباينة، وتباين فهمها بين الفهم العميق السليم لروحها، والفهم الشكلي الذي أفقدها روحها ومعناها في كثير من الأحيان. بل إن بعض هذه المبادئ لقيت تفسيرات متعارضة، تبعاً للمراحل الزمنية والحقب التاريخية، وتبعاً لرغبات المفسرين ومن وراءهم «من أولي الأمر وسواهم» أحياناً أخرى».
لقد تسبب الاكتفاء بمحض استعادة قيم الماضي من غير ما تمحيص لها أو تجريب عليها في خلق فجوة واسعة بين المنظور والممارس من هذه القيم، الأمر الذي ألزم المؤسسة التربوية العربية بـ «أن تقلص هذا الفارق وترمم الفجوة بين قيم وآداب وأهداف تكاد تلخص جوهر الثقافة العربية وروحها وبين واقع ابتعد عنها قليلاً أو كثيراً وشكل ابتعاده عنها جزءاً من أزمة الثقافة الراهنة وسبباً من أسباب حيرته وقلقه وفقدان ذاته وهويته» وهذا ما لم يتحصل أبداً. نعم إن الخروج من هذه الأزمة قد يعين عليه الرجوع إلى تجارب الماضي، غير أن هذا العون يظل محدود الأثر ما لم نعترف بالإيقاع المتعالي لتيار التغير في واقع الأشياء، وهذا يعني بعبارة أدق نقد الثقافة القائمة، وهي ثقافة مخاصمة للتغيير ومستعصية عليه حتى الآن، حيث «الصراع ما يزال قوياً في الوطن العربي بين التيار الداعي إلى بث الروح العلمية والعقلية والموضوعية والمنهج العقلاني، وبين التيار الذي ما يزال مشدوداً إلى عصور التخلف العربي، وهو تيار معادٍ غالباً للفكر العلمي أو في أحسن الأحوال حائر تجاهه».
إن تخلف سريان الروح العلمية في المجتمع العربي حتى الآن مرجعه إلى أن التربية العربية لم تربِّ الأجيال الجديدة على وعي قيمة التغير والتغيير في حياة الأمم ولم تبصّرهم بأن «للقدرة على التغيير معناها الخاص ومقوماتها ووسائلها كذلك. وأهم ما فيها القدرة على تجاوز الذات وعلى تجاوز المجتمع دوماً وأبداً ودون حد. وشعارها: لا حد للتغيير إلا المزيد من التغيير. إنها تجسيد للحركة المستمرة في الكون التي حدثنا عنها فلاسفة اليونان القدامى من مثل هيراقليطس وسواه، وللحركة المستمرة في المجتمع. وإنها تجسيد لفلسفة تربوية ترتبط بفلسفة الوجود لا بفلسفة الماهية، ترى أن الإنسان، الإنسان المشخّص كما تراه في مجرى الحياة، هو القيمة التربوية العليا، لا الإنسان المجرد الذي نصوغه من خلال تصوراتنا الذهنية. ومن هنا فالغايات التربوية نفسها، تتغير بتغير مجرى الواقع ومعطياته». إن إهمال فكرة «التربية من أجل التغيير» لم تتوقف آثاره السلبية عند حدود التخلف الاقتصادي والاجتماعي للأمة، ولكنها امتدت لتفسد على الناس أوضاعهم النفسية لأن التخلف عن فكرة التغير يخلق للناس «اضطرابات فردية واجتماعية، إذا نحن لم نهيئ الأفراد له عن طريق تربية ملائمة، أي تربيتهم من أجل التكيف مع التغير والتأثير فيه بدلاً من مجرد الانفعال به». ومعنى هذا أننا يجب أن «نحيل ظاهرة التغير المفروضة فرضاً إلى ظاهرة تغيير نحن صانعوها وموجهوها». لا يطرح عبد الدائم قضية التغير من أجل التغير في ذاته، ولكن لأن إرادة التغير وتحقيقه تمكن الإنسان من الانتقال «من المجتمع المغلق إلى المجتمع المفتوح.. أي تجاوز ما يقدمه له المجتمع ونقده والنظر إليه نظرة تقويمية جديدة».
-4-
لقد كان غياب إرادة التغيير عن عمل المؤسسة التربوية العربية أو تغييبها عنها بعض إفرازات فلسفة تربوية لم تعتمد «الواقع الحي المعاش»، فظلت غاياتها تبدو وكأنها منزّلة «من علٍ على نحو مجرد»، أو كأنها «غايات متعالية بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمة» على حين كان يفترض فيها أن تكون «غايات منبثقة من حياة الإنسان، من الواقع الاجتماعي ومن الواقع التربوي لتستخرج دلالات هذا الواقع وإيماءاته وإرهاصاته المستقبلية»، ذلك «أن الغايات التربوية البعيدة عن ملامسة الواقع المشخّص لن تأتي ترجمتها إلى أهداف مختلفة ترجمة تتوافر فيها شروط الواقعية ولن يكون من السهل أن نحيلها أهدافاً عملية إجرائية». إن الغايات الكبرى ليست «غايات ومثلاً رفيعة لا تقبل التعديل والتغيير»، كما أنها «ليست حقائق جاهزة نكتشفها اكتشافاً أو نرسمها إلى الأبد، وإنما هي تصورات مستقاة من الواقع تتغير بتغيره ويتم التحقق منها وامتحانها وتطويرها عن طريق ممارستها في قلب المؤسسة التربوية، بل ونقول إنها بناء نبنيه من خلال حركة الحياة الاجتماعية وصراعاتها ومشكلاتها المختلفة». من ههنا تتجلى أهمية النظرة المستقبلية التي يجب أن تحكم عمل التربية لأن «استلهام المستقبل وحاجاته وصورته يحقق مطلبين: أولهما أنه يمنح الغايات التربوية التي ترسمها الفلسفة التربوية وجوداً «حركياً» حياً ومتجدداً، ويحول بينها وبين أن تكون «مخلفات» تجاوزها الزمن، أو «أصناماً» خالية من الروح واللحم والدم. وثانيهما أنه يقوى على تعبئة النفوس، نفوس العاملين في ميدان التربية، ونفوس الطلاب وسائر أفراد المجتمع، من أجل تحقيق تلك الغايات حين يلمحون من خلالها رؤى المستقبل الأفضل».
-5-
إذا كان الفكر التربوي العلمي يثير أسئلة مزلزلة، فإنه لقدير كذلك على وضع الأجوبة الكافية للخروج من برزخ الزلزلة المتعاضلة. وهذا بالضبط هو ما يفعله كتاب نحو فلسفة تربوية عربية. وأول ما يشترطه للخروج من الأزمة هو أمران: وجوب وعي الطبيعة القلقة للوجود الكوني العام الذي نعيش فيه، ولا عاصم لنا مما يتعرض له من اضطرابات التقلب السريع.. «إن عالمنا عالم متغير قُلّب حُوّل يكاد لا يستقر على حال ولا يستطيع اللحاق به إلا أناس دُرّبوا على التغير والتغيير وتمت تربيتهم من أجل عالم متغير». في هذا العالم المتقلب يتعين على التربية العربية دور وظيفي يتمثل في منح الأجيال العربية القادمة القدرة «على التكيف مع مطالب التغير السريع في بنية مجتمعنا المعاصرة ولا سيما في بنية القوى العاملة وأدوات الإنتاج وأهداف الإنتاج»، وهذا غرض متعذر النوال من دون أن ننمي في الناشئة حب المغامرة مع الأشياء وعصمتها من السقوط ضحايا سهلة «لسلطة النقل والتقليد أياً كان مصدرها، ورفض القوالب الجامدة والمجلوبة سواء في نظام التربية أو مناهجها أو أهدافها، وتحرير الفرد من سلطان التعلق بما ألف وعرف، ومن سيطرة «الطعام الجاهز» أياً كان لونه، ومن مجرد التقليد، سواء كان تقليداً للماضي أو تقليداً للحضارة الحديثة، أو تقليداً للمجتمع». إن التحرر من سلطان الماضي هو «من أهم مقومات روح التغيير والتغير هذه. وقد سبق أن تحدثنا عن مخاطر عبادة الماضي لمجرد كونه ماضياً، وعما يعبر عنه هذا الموقف المقلد الجامد من جدب فكري ونفسي وضمور في الذات الفاعلة واستسلام إلى الذات المنفعلة. وأخطر نتائج هذا الموقف عجزه عن فهم الماضي الذي يقلده وعن إدراك معانيه الحقيقية. ذلك أن الماضي – وفيه المثالب والمحاسن – لا يغدو قوة إيجابية محركة للحاضر
إلا إذا تمثلناه أولاً، ونظرنا إليه من خلال ذات ناقدة واعية، كيما نتجاوزه بعد ذلك. والتجاوز لا يعني الإنكار والإغفال كما سبق أن قلنا، بل يعني الارتقاء كيما نجدده ونبعثه حياً، أو نبعث الحياة في مقوماته الحية بتعبير أدق». وكيما نخرج بفكرة التحرر من سلطان الماضي من «القوة» إلى «الفعل» فلابد من مَحْوَرة التربية العربية روحاً ومنهجاً وطرائق تعليم حول مبدأ لا يقبل المساومة ولا الحلول الوسط، مبدأ «الفكر النقدي الحر» الذي لا يعرف القيود والحدود عندما يبحث عن حقائق الأشياء. ولعلنا لا نغلو إن قلنا إن هذا الفكر النقدي هو الذي «ينطلق من الشك، الشك المنهجي على نحو ما نجده عند الغزالي وديكارت من أجل الوصول إلى اليقين».
إن هذا المبدأ يكتسب قيمة مضاعفة في زمن القلق العام. إن مجتمعنا العربي في حاله الراهن هو «مجتمع انتقالي يمر بمرحلة انتقالية، تسير به من التخلف بمقوماته المختلفة إلى التقدم الذي لم تتضح أشكاله بعد. ومن هنا فهو في حال صراع مع ذاته. إنه يرفض حاضره متسائلاً باحثاً عن مستقبله. إنه مجتمع مغترب عن ذاته يسعى لتجاوز اغترابه. وثقافته ما تزال ثقافات متعددة تبحث عن وحدتها. وهي في حال تناقض وصراع وصيرورة. فهنالك الثقافة التقليدية والثقافة الحديثة. وهنالك الثقافة المتطلعة إلى الماضي والثقافة المشرئبة نحو المستقبل. وهنالك قيم الاتباع وقيم الإبداع». إن هذا المجتمع المغترب عن ذاته لن يعدم هادياً له من ماضي التجربة العربية الإسلامية في الانفتاح على حضارات الأمم الأخرى والتعاطي معها فكرياً ومعرفياً وأخلاقياً، كما كان حال تلك التجربة يوم انفتحت حضارة الإسلام. «في القرنين الثالث والرابع الهجريين بوجه خاص على الحضارات الأخرى ولا سما اليونانية والهندية والفارسية وما تم بالتالي من تمازج فريد بين الثقافات». في هذا النوع من التواصل الحضاري يتلاقح – أو ينبغي أن يتلاقح – ما هو قومي مع ما هو إنساني. وهذا ما كان عندما «وعت الأمة العربية ذاتها ورسالتها بفضل الإسلام، وحين حمّلها الإسلام رسالة إلى العالم، استطاعت من خلال ذلك الوعي لذاتها ورسالتها أن تنطلق في طريق الحضارات بمختلف أشكالها. ويوم خبت روحها القومية وتفككت وحدتها وضاعت هويتها العربية، انحدرت حضارتها ودخلت في نفق من التخلف عميق وعقيم. ولسنا في هذا المجال في حاجة إلى أن نفتح أبواباً مفتوحة، لنقول كرة بعد كرة إن الترابط بين الإسلام والعروبة ترابط عضوي، وإن القومية العربية التي نشير إليها قومية منطلقها القيم والمبادئ الإسلامية». من مشروطات هذا التحول الحاسم أن «نهجر البنى المدرسية التقليدية الجامدة في ما يتصل بفروع الدراسة وأنواعها، ونولّد بنى جديدة مرنة متنوعة تتيح تنوع أنماط الدراسة، وتيسر انتقال الطلاب من فرع إلى فرع، ومن نمط إلى نمط، وتنوع زبائن الدراسة. هذا بالإضافة إلى هجران المناهج المدرسية الصارمة القاسية، ووسائل التقويم الجامدة، بالإضافة إلى الربط الوثيق بين مؤسسات التعليم ووسائل العمل في شتى قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وتغيير بنى التربية ومناهجها تبعاً لذلك الربط وحاجاته بالتالي».
إن حكم عبد الدائم النهائي على عمل المؤسسة التربوية العربية في العصر الحديث هو حكم إدانة بالضلالة عما كان ينبغي عليها فعله ولم تفعله، وهذا هو تفسير عجزها عن أن «تولد إنساناً هو جزء حي من واقع أمته، قادر بالتالي على أن يتحرك تحركاً ذاتياً أصيلاً من أجل معالجة مشكلاته وتطوير حياتها وبناء مستقبلها».
حقاً.. أن تكون داعية للإصلاح في زمن يكثر فيه الدعاة إلى الإصلاح أمر لا يثير دهشة خاصة ولا يبهرك عجباً. ولكن أن تكون ثائراً في صدق وصادقاً في ثورة، وأن تقول للآخرين ما يخافون قوله لأنفسهم هلعاً أو جزعاً أو طمعاً هو مصدر إلهام تربوي فريد. وهذا ما يفعله عبد الله عبد الدائم في دعوته إلى «فلسفة عربية تربوية» جديدة. إنه يقول ما يخاف الآخرون من قوله.