ماذا بعد مؤتمر القمة؟ منطلقات السلام العربي الإسرائيلي

قوام التعامل العربي مع موضوع السلام، في نظرنا، منطلقات أساسية نوجزها فيما يأتي:
1- نشدان السلام متعذر، بل فيه تناقض منطقي، عندما يكون مع دولة ما تزال تؤكد على الأهداف الصهيونية، وما تزال تأخذ بالخرافات والأساطير الدينية المزيفة التي قامت على أساسها، وعلى رأسها: الحق الإلهي في أرض إسرائيل، وادعاء تفوق اليهود، شعب الله المختار، على سائر الشعوب، وبالتالي حقهم في السيطرة عليها وفي احتقار الأغيار واضطهادهم، والقول بصفاء العرق اليهودي وتفرده وسموه وبحقه بالتالي في أن تكون له الغلبة على سواه.
2- ومن هنا فإن محادثات السلام لن تكون مجدية، ما لم تعمل دولة إسرائيل على «نزع» التعبئة الصهيونية والدينية التي مارستها على أبنائها منذ ولادتها حتى اليوم، وعلى القيام بتعبئة مضادة، ترى في إسرائيل دولة كسائر الدول في العالم، بدلاً من أن تكون دولة من جبلّة خاصة، تنزع إلى حكم العالم عن طريق «أسطورتها» و«خرافتها» وبدلاً من أن تكون بالتالي دولة «عدوانية» نازية، تبيح العنف والإرهاب في سبيل بلوغ أهدافها، بل تجعل منهما «الأداة المثلى» لبلوغ تلك الأهداف.
3- مما يساعد على «نزع» تلك التعبئة الصهيونية والدينية في قلب إسرائيل، وجود دعاة للسلام الحق فيها ونمو التيار الذي يدعو إلى مثل هذا السلام، ولاسيما لدى طائفة واسعة من الجيل الجديد قلما تعرف الصهيونية، وقلما تعرف اليهودية أو تمارسها، ولا يربطها بإسرائيل سوى كونها تعيش فيها وترجو أن تعيش فيها آمنة مطمئنة. ودعاة السلام الحق هؤلاء، كما يقول الكتاب الإسرائيليون أنفسهم، يجعلون من إسرائيل «إسرائيليْن»
لا إسرائيل واحدة.
4- إسرائيل القوية عسكرياً وتقانياً وعلمياً، والمؤيدة بدول عالمية كثيرة على رأسها الولايات المتحدة، تشكو مما يسميه الفيلسوف «هيجل» «عجز النصر». أي أنها قد تربح المعارك – العسكرية وسواها – مع جيرانها كرة بعد كرة، ولكنها ستظل مهزومة وعاجزة عن أن تحقق لنفسها الرخاء والطمأنينة والاستقرار، ما دامت محاطة «ببحر من العداء العربي» على حد قول بعض الكتاب الإسرائيليين. ولا يوفر لها الوجود المطمئن بالتالي إلا اعتراف العرب بوجودها.
5- ومن هنا فإن العرب في موقف قوة، مهما تكن القوة الإسرائيلية التي يتصدون لها، إذا هم عرفوا مجتمعين على أن يُحكموا الطوق حول إسرائيل، وعلى أن يجعلوا حياتها شبه «مستحيلة» ما دامت تعيش في تربة لا تتقبلها وفي جسم يرفضها ولا يسيغها.
6- وهكذا فالمقايضة الحقة بين العرب وإسرائيل هي مقايضة بين تخلّي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية وعن نزعاتها العدوانية ولاسيما على البلاد العربية، وبين تخلّي العرب عن رفضهم لوجودها ضمن حدود عام 1948.
ذلك أن هذا التخلي – من قبل العرب – عن رفض الوجود الإسرائيلي وتنازلهم عن الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948 هو في حد ذاته مبادرة سامية استثنائية وفريدة بل شاذة، لم يسبق لشعب من الشعوب أن قام بها، وقد قدّم العرب عن طريقها ما لا يحق لهم تقديمه، في عرف تاريخ الشعوب وشرعة القوانين الدولية، وفي منطق الموقف العربي القومي السليم، على الرغم من أن «إسحق رابين» قد هزأ باعتراف الدول العربية بإسرائيل، قبل مقتله بقليل، وقال إنه ليس في حاجة إليه!
7- ومن هنا فإن جوهر مباحثات السلام هو مبادلة السلام الاستثنائي – الذي قدمه العرب عن طريق اعترافهم بدولة إسرائيل – بتخلي إسرائيل الواضح أولاً وقبل كل شيء عن منطلقاتها التوسعية والعدوانية وأساطيرها الدينية ومعتقداتها الصهيونية، وهو تخلٍّ يتضمن أموراً كثيرة، أقلّها إعادة الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967 كاملة إلى أصحابها وإعادة الحقوق المشروعة لأبناء الشعب الفلسطيني. وعند ذلك فقط يمكن أن يقوم سلام في هذه المنطقة من العالم، لا نقول إنه عادل، بل نقول إنه الشكل الواقعي العملي القابل للحياة، في إطار الواقع العربي والعالمي الحالي القائم، وفي انتظار ما تحمله الأجيال العربية القادمة.
ونعود فنقول إن من اللازم أن يؤكد العرب في كل مناسبة أنهم قدموا السلام فعلاً لإسرائيل، حين اعترفوا بها كارهين. والسلام الذي ينبغي أن تقدمه إسرائيل هو الجواب على هذا السلام الاستثنائي الذي قدمه العرب، ولا يشترط بالتالي أي تنازلات أخرى.
ولا معنى لجواب إسرائيل هذا إن لم يحمل الدلالات التي تشير إلى تنكرها للأوهام الصهيونية والدينية والعرقية.
8- ولا يحمل إسرائيل على التسليم بهذه المبادلة مجردُ شعورها بأنها، من دون قبول العرب لها، تظل «عاجزة عن النصر» مطوقة بوجود يرفضها – على أهمية هذا الشعور – بل يدفعها إلى ذلك التسليم ما تشكو منه في هويتها وفي بنيانها المعنوي الداخلي من ضياع وتشتت وتمزق. فإسرائيل القوية عسكرياً وعلمياً وتقانياً تشكو وهناً معنوياً تليداً وجديداً، يمكن أن يعرّض كيانها للانفجار من داخله. والصراع في داخلها بين النزعات الصهيونية المتناقضة والنزعات الدينية المتضاربة والنزعات العلمانية التائهة والجنسيات المتنافرة، الخ… صراع يشتد أواره يوماً بعد يوم، وقد تجلّى واضحاً بعد حرب حزيران عام 1967، وبعد احتلال لبنان عام 1982، وبعد بدء محادثات السلام في مدريد، وأثناء الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وعند تشكيل حكومة «ناتانياهو». وكان من مظاهره البارزة مقتل «رابين».
وهذا الصراع تمتد جذوره إلى تاريخ اليهود والاجتهادات اليهودية الدينية المتناقضة، وإلى الصراعات التي سبقت قيام الحركة الصهيونية وتلتها، وإلى الجدال القديم والحديث حول تعريف اليهودي وحول هوية دولة إسرائيل، وإلى ما ظهر ويظهر من شتات الآراء والاتجاهات والأحزاب منذ ولادة إسرائيل حتى اليوم.
وهكذا فإن إسرائيل في حاجة إلى السلام (الحقيقي) إنقاذاً لبنيانها من التمزق. ومما يلفت النظر أن «بيريس» انطلق من هذه الحقيقة، ولكنه شوَّهها واستخرج منها عكس نتائجها، حين دعا إلى «نظام شرق أوسطي». وقد أضمر وراء ذلك أن انتشار إسرائيل السرطاني في الكيان الاقتصادي والثقافي للبلاد العربية وجاراتها، يجعلها تحقق أهدافها الصهيونية على شاكلة جديدة ملتوية، دون أن تعرّض كيانها الداخلي لأخطار التمزق، بينما تنقل هذا التمزق إلى الكيان العربي.
9- ومعنى هذا كله أن السلام مع إسرائيل لا صلة له بتطبيع العلاقات معها. فليس للسلام الذي تتخلى فيه إسرائيل عن الأراضي المحتلة وتوفر حقوق الشعب الفلسطيني، مقابلٌ سوى سلام العرب معها، ذلك السلام الذي سبق للبلاد العربية أن قدمت أمام مذبحه تناولاً ضخماً بل فريداً من نوعه -كما سبق أن قلنا-، هو التنازل عن الأرض العربية التي احتلتها إسرائيل بعد حرب عام 1948، عن طريق القوة والإرهاب وتآمر الدول الكبرى معها، ولاسيما الولايات المتحدة وإنكلترا.
يضاف إلى هذا أن إقامة علاقات سلام طبيعية مع أي دولة من دول العالم لا يفترض ولا يشترط أي شرط مُسبق. ومدى تطوير مثل هذه العلاقات أمرٌ تقرره إرادة كل دولة ومصالحها، وهو حق من حقوق سيادتها الذاتية.
أما مطلب الأمن فلا يتحقق عن طريق التدابير والإجراءات المصطنعة، مهما تكن محكمة، بل عن طريق توفير السلام الحقيقي الذي يُشعر كلا الطرفين بالطمأنينة، حين لا تشوبه نوايا عدوانية أو توسعية. وتوفير مثل هذا الأمن، عن طريق السلام الحق، هو في حقيقته مطلب عربي. فإسرائيل التي اتخذت من تضخيم الصهيونية لاضطهاد اليهود في بعض دول الغرب ومن تزوير وقائع الاضطهاد النازي لليهود أداةً هامة من أدوات إقناع الدول الغربية بحاجتها إلى وطن قومي يهودي، والتي ما لبثت حتى مارست قبل ولادتها، ومن أجل ولادتها، أبشع أنواع الفاشية على الشعب العربي في فلسطين، واستمرت في العدوان على الشعب العربي في كل مكان وفي ارتكاب المجازر البشرية والمذابح الجماعية التي لا تحصى، من «دير ياسين» إلى «قانا»، والتي اجتاحت لبنان عام 1982 وارتكبت فيه جرائم اهتز لها وجدان الكثير من أبناء إسرائيل نفسها… نقول إن إسرائيل هذه هي التي يتوجب عليها أن تثبت للدول العربية اليوم أنها ستوفر لها، بفضل السلام الصادق، الأمان والطمأنينة. ولا يكون ذلك، مرة أخرى، إلا عن طريق تخليها عن منطلقاتها الصهيونية والتوراتية والعرقية.
وإذا نحن حاولنا بعد هذا كله، أن نترجم هذه المنطلقات المبدئية إلى مواقف عملية، أمكننا أن نوجز ذلك في النتائج الآتية:
1- تحقيق السلام عن طريق انسحاب إسرائيل الكامل وغير المشروط من كافة الأراضي العربية المحتلة وعن طريق ضمان حقوق الشعب الفلسطيني – على نحو ما نصّت على ذلك مقررات هيئة الأمم المتحدة، وعلى نحو ما أكدته منطلقات عملية السلام في مدريد، وعلى نحو ما تريث عنده مؤتمر القمة العربية الأخير – هو الحد الأدنى الذي يمكن أن تقبل به الدول العربية، فضلاً عن الكثرة الكاثرة من أبناء الشعب العربي.
2- لا بد للدول العربية أن تبادر إلى ترجمة إجماعها على هذا الموقف إلى خطوات عملية مستمرة عبر مسيرة مفاوضات السلام، وعلى رأسها رفضها المشترك جميعها لأي خطوة من خطوات التطبيع سبق أن تمت أو يمكن أن تتم مع إسرائيل، كما جاء في مقررات مؤتمر القمة الأخير كذلك.
3- لا بد أن تُعد الدول العربية منذ ذلك اليوم، وعلى نحوٍ متصل ودائم، العدة اللازمة لمواجهة الموقف الذي ينجم عن الرفض الإسرائيلي للسلام بمعناه الحقيقي. ويتم ذلك بوسائل عديدة، أبرزها: الإمعان في رصّ الصف العربي وفي توحيد مواقفه – تنمية الاستعداد النفسي والفكري لدى أبناء الشعب العربي، لمواجهة إسرائيل وإفشال خططها العدوانية والتوسعية، وتنمية القدرات المادية والمعنوية والعسكرية العربية المشتركة استعداداً لهذه المواجهة – القيام بحملة إعلامية عربية مشتركة وواسعة من أجل كسب العدد الأكبر من الدول الأجنبية إلى جانب الموقف العربي ولاسيما الدول الكبرى، والدول الإسلامية، مع توجيه عناية خاصة للجهد العربي المشترك في مجال فضح المنطلقات والأساطير الصهيونية والدينية والعرقية التي تكوّن العائق الأكبر في وجه عملية السلام.
4- إلى جانب توحيد مواقف الدول العربية، لا بد أن يتم توحيد صادق وعميق بين مواقف الدول وبين موقف الشعب العربي. ولا بد أن تكون للشعب العربي كلمته الحرة والصادقة، من أجل أن تكون مشاركته في معركة السلام مشاركة فعالة وجادة، ولكي تكون مواقفه الحرة هذه، السلاح الأقوى الذي تشهره الدول العربية في وجه الضغوط الدولية المنحازة إلى إسرائيل. ولهذه الغاية ينبغي أن تقوم الأقلام العربية الصادقة بتجنيد نفسها من أجل توضيح الرؤية، وبالتالي من أجل التعبئة النفسية اللازمة لهذه المعركة القومية الكبرى.
وبعد، إن هذا كله يفترض التأكيد على حقيقتين أساسيتين:
أولهما أن الأمل ما يزال معقوداً على وحدة الصف العربي، وأن الدول العربية – على التباين في بعض منازعها – ما تزال قادرة على جمع طاقاتها والاتفاق على كلمة سواء بينها، ولاسيما عندما يتعرض الوجود العربي لمخاطر مصيرية تمس وجوده ذاته.
وثانيهما أن الطاقات والإمكانات العربية – المادية والبشرية – هي أكبر مما نظن، وأنها قادرة على التصدي لمخاطر التعنت الإسرائيلي، وأن الطاقات الإسرائيلية – في مقابل ذلك – مهدّدة بضياع الهوية الإسرائيلية وتمزقها، كما أنها لن تبلغ مداها وأهدافها – مهما جلّت – ما دام الطوق العربي حولها محكماً.
دمشق في 1/7/1996