الاتجاهات العالمية في مجال تحديث محتويات المناهج التربوية في مرحلة التعليم الأساسي

الاتجاهات العالمية في مجال تحديث محتويات
المناهج التربوية في مرحلة التعليم الأساسي
الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم
بحث أعد في إطار مشروع إدارة التربية بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الخاص بتحديث مشروع مناهج التعليم العام في الوطن العربي.. (مرحلة التعليم الأساسي)
بتاريخ 23/ 6/ 1996
الاتجاهات العالمية في مجال تحديث محتوى
المناهج التربوية في مرحلة التعليم الأساسي
مدخل: منطلقات أساسية
1- منذ بدايات العقد الماضي بوجه خاص، ومنذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي بوجه أخص، برز اهتمام أساسي، في العالم كله، بتحديث محتوى التربية، عبرت عنه المؤتمرات الدولية العديدة، والندوات الإقليمية والوطنية، فضلاً عن الدراسات والأبحاث والمؤلفات المتكاثرة. ومن أهم ما أفصح عن هذه العناية الدولية بتحديث التربية تحديثاً ينطلق من المعطيات العالمية الجديدة في شتى الميادين “المؤتمر العالمي حول التربية للجميع” الذي انعقد في مدينة “جومتيان Jomtien” في “تايلاند” بين الخامس والتاسع من آذار/ مارس 1990، بدعوة من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للإنماء ومنظمة اليونسكو ومنظمة اليونيسيف، والذي حضره حوالي 1500 مشارك يمثلون 155 دولة بالإضافة إلى ممثلي (150) منظمة حكومية وغير حكومية (1). ولأول مرة، طرح، من خلال هذه النشاطات والجهود المختلفة، موضوع محتوى التربية، في مراحل التعليم المختلفة، وفي مرحلة التعليم الأساسي بوجه خاص، طرحاً جديداً يكاد يكون جذرياً.
فلقد كان تطوير المناهج من قبل يتم من خلال تحليل مواد الدراسة القائمة وتعديلها، إضافة أو حذفاً، وإعادة تركيبها. وكانت هذه المهمة توكل إلى لجان من الاختصاصيين الذين يملكون هامشاً واسعاً من الاستقلال. وكان تحليلهم لمواد المنهاج تحليلاً ذا مقاصد محددة وجزئية، هدفه إضافة بعض المعارف الجديدة إلى محتوى المناهج، وإعادة بناء محتوى كل مادة في ضوء تقدم المعارف.
أما الاتجاهات المحدثة التي نشير إليها والتي ذر قرنها في السنوات الأخيرة، فهدفها أن تقوم بتحليل شامل لجملة عوامل التغير في المجتمع المعاصر، ولانعكاساتها على محتوى المناهج وعلى عملية التعلم. وكأننا ههنا أمام فلسفة جديدة فيما يتصل باختيار محتويات المناهج وتنظيمها.
وقد بينت هذه الاتجاهات الحديثة بوجه خاص أهمية المعالجة الشاملة والإجمالية التي تربط العمل التربوي بسائر مقومات الحياة في عصرنا، من اقتصادية واجتماعية وعلمية وثقافية وسواها، وذلك من أجل صياغة الرؤية المسقبلية للتربية، محتوى وطرائق.
2- ومن أهم ما دفع إلى المناداة بهذا التحديث الجذري لمناهج التربية ومحتواها، فضلاً عن سائر مقوماتها، انطلاق المجتمع العالمي من مبدأ اعتبره حجر الأساس في بناء المستقبل، مستقبل التربية والمستقبل العالمي بوجه عام، نعني مبدأ “التعليم للجميع” ولا يعني هذا المبدأ، كما كان مألوفاً من قبل، مجرد المناداة بتعميم التعليم الإلزامي، والقضاء على الفوارق في هذا المجال بين بلدان العالم المختلفة، وبين مناطق البلد الواحد مدراً وحضراً، وبين الذكور والإناث، وبين الأسوياء والمعوقين، الخ …. بل يعني معنى أعمق وأبعد، وهو، إن صح التعبير، “تعميم النجاح” في التعليم الأساسي.
وهذا الشعار يحمل معاني ضخمة وواسعة، أهمها:
2-1- القضاء على الهدر الناجم عن الرسوب في التعليم الأساسي، وذلك عن طريق تجويد هذا التعليم وجعله ملائماً لمستوى الأطفال وحاجاتهم، ولمستلزمات العمل في المجتمع. وهذا المعنى محمل بإمكانات ونتائج ضخمة، ستكون موضوع اهتمامنا في الأجزاء التالية من هذه الدراسة. وحسبنا أن نقول ههنا إن الاتجاهات المحدثة حول محتوى التعليم الأساسي (وسواه) نرى أن النجاح في التعليم لا يتم إلا إذا قامت علاقة عضوية مكينة بين عناصر ثلاثة: تجويد محتوى التعليم، وتجويد التعليم، والربط بين محتوى التعليم وعملية التعلم، من جانب، وبين الحياة العملية الفعلية القائمة في المجتمع، من جانب آخر.
وقد تريثت عند هذا الأمر بشكل خاص الحلقة التي عقدت في مدينة “لشبونة” بالبرتغال، في شهر أيار/ مايو 1991، حول الاستراتيجيات الخاصة بتوفير النجاح للجميع في التعليم الأساسي. وقد ضمت الحلقة حوالي مائة من الاختصاصيين يمثلون (31) دولة ومنظمة (2).
وقد كان هدفها الأساسي دراسة الاستراتيجيات التي يمكن أن تؤدي، على المدى القريب، إلى تحسين عمليات التعلم وإلى تيسير تبادل التجارب الوطنية والدولية في هذا الشأن.
2-2- على أن “تعميم النجاح” هذا، عن طريق تجويد محتوى التربية وتحسين عملية التعلم، ليس غاية في ذاته، على الرغم من أهميته الكبرى. ذلك أن النجاح الفعلي في التعليم الأساسي، يحمل في طياته نتائج هامة تتصل بتنمية المجتمع وتطويره. فهو يعني: إستخراج قابليات الأطفال وإمكاناتهم إلى أقصى مدى وجعلها في خدمة المجتمع – وتعهد الأطفال الموهوبين الذين يضطلعون بدور أساسي في تطوير المجتمع وتجديده – وإعداد الطفل إعداداً ملائماً لمراحل التعليم التالية – وإعداد الطفل كذلك إعداداً ملبياً لحاجات العمل ولحاجات التنمية بوجه عام – وتزويد الطفل، بسبب نجاحه وتذوقه لهذا النجاح واعتداده به وبسبب اللجوء إلى وسائل التعليم الذاتي، بالرغبة الذاتية العارمة في مواصلة التعلم بذاته طوال الحياة – وتحقيق الربط بالتالي بين التعليم الأساسي والتعليم المستمر طوال الحياة. وبتعبير آخر، نؤكد الاتجاهات الحديثة في هذا المجال، أن النجاح في التعليم ينبغي ألا يقاس فقط استناداً إلى المعايير السائدة داخل العملية التربوية، بل أيضاً وخاصة استناداً إلى إنجاز الطفل ونجاحه في مراحل حياته التالية. وبكلمة أخرى، من اللازم أن ينتقل مركز الثقل من النظام التربوي نفسه إلى الالتحام الوثيق بينه وبين المجتمع الواسع وعالم العمل بوجه خاص.
2-3- ويحمل “تعميم النجاح” معنى آخر هاماً، هو أن هذا النجاح – بالمعنى العميق والفعال للكلمة – لا يبلغ مداه إلا إذا أسهمت في ذلك، بالإضافة إلى المدرسة، مؤسسات المجتمع كلها. فالتعليم للجميع لابد أن يكون “شأن الجميع”. إنه تعليم يبدأ بالأسرة، ويمتد إلى رياض الأطفال، وإلى سائر مؤسسات الإعداد في المجتمع، ويشمل فيما يشمل التعليم عن بعد، والتعليم عن طريق وسائل الإعلام، وسائر أشكال التعليم النظامي وغير النظامي والعفوي، وينطلق من خلال مفهوم “التربية المستمرة” من المهد إلى اللحد.
وبتعبير آخر، يكون التعليم الأساسي في نظر الاتجاهات المحدثة ميداناً متعدد القطاعات، ولا يتم على وجهه الأكمل إلا عن طريق “الشراكة” فيما بينها، تلك الشراكة التي تتجاوز مجرد التفاعل والتعاون.
3- على أن تحديث مستوى التعليم الأساسي (وسواه) لا يصدر عن هذا الهم الوحيد، نعني “تعميم النجاح في التعليم الأساسي” على كونه جوهرياً ومحورياً، بل وراءه هموم أخرى، يمكن أن يلخصها القول بضرورة ملاءمة محتوى التعليم الأساسي (وسواه) لمستلزمات التغيير في عصرنا بأوجهه المختلفة.
وسوف نقف عند هذا الجانب بالتفصيل فيما بعد. وحسبنا أن نشير إلى بعض الصوى الأساسية التي توقفت عندها الاتجاهات الحديثة:
3-1- أول ما يستلزمه هذا التغير العالمي جعل “المتعلم” مركز الثقل في محتوى المناهج، بدلاً من التركيز التقليدي على مواد المنهاج. وأهم ما في هذا التركيز على “المتعلم” أنه يشجع روح المبادرة والإبداع لدى الطفل، ويجعله بالتالي أكثر قدرة على مواجهة المواقف المتغيرة.
3-2- كذلك لا بد لمواجهة احتمالات العالم المعاصر العصية على الحصر، وللتكييف مع تسارع التغيرات الجارية في شتى ميادينه، أن يقدم التعليم الأساسي (ولعله من أجل هذا سمي أساسياً) أساساً (قد يتكون من “جذع مشترك” من الثقافة العامة). يبنى عليه أي إعداد لاحق، في سوق العمل أو سواه. ويعني هذا أن تكون المدرسة قادرة على أن تحيا مع التغير وأن تعد الطلاب له.
ومثل هذا المطلب المزدوج يستلزم مرونة كافية في محتويات المناهج وفي بنى التربية ضمن “مدرسة المستقبل” بل هو يستلزم، كما تؤكد الاتجاهات الحديثة، الاهتمام بتكوين قدرة الطفل على أن، يتعلم من أجل التعلم (أي أن يتعلم ليصبح قادراً على المزيد من التعلم دوماً وأبداً)، على حد التعبير الذي شاع وذاع حديثاً والذي أصبح ذا وقع خاص ودلالة خاصة، على الرغم من أن القول به يرجع إلى أزمان سابقة. وقد نادى به مربون كثيرون في الماضي (على رأسهم “روسو”) ولم تهمله التربية العربية الإسلامية في عصورها الماضية.
4- ولا يقتصر تحديث محتوى التعليم الأساسي تحديثاً يلبي حاجات التغير، على مثل هذه الاستجابة العامة لروح التغير التي أتينا على الحديث عنها، بل يستلزم استجابات محددة لجوانب التغير الأساسية في الحياة المعاصرة وعلى رأسها: التغير العلمي والتكنولوجي، وجدائد التنمية الاقتصادية والاجتماعية – والتغيرات الكبرى في البيئة – والتغيرات الناجمة عن التزايد السكاني الخ…
وهذا التغير الشامل في الحياة المعاصرة وآفاقه المستقبلية وانعكاساته على التعليم الأساسي، سيكون محور حديثنا في الجزء التالي من هذه الدراسة.
5- ولا حاجة إلى القول إن ما قلناه عن الزخم الجديد في الاتجاهات التربوية العالمية حول محتوى مناهج التعليم الأساسي (وسواه) يصدق على البلدان المتقدمة وعلى البلدان النامية، ومن بينها البلدان العربية. بل إنه يصدق بوجه أخص على البلدان النامية. ولا عجب، فمعظم هذه الاتجاهات التربوية العالمية المحدثة وليدة البحث في مشكلات التربية في البلدان النامية بوجه خاص، لا سيما أن الهم الأكبر لهذه البلدان هو تعميم التعليم الأساسي وتعميم النجاح فيه.
(أولاً) التعليم الأساسي والتطورات المستجدة في العالم المعاصر:
التطورات الجديدة في العالم المعاصر تشمل كل ما فيه. وسوف نقتصر على أشدها لصوقاً بتطوير التربية بوجه عام وتطوير التعليم الأساسي بوجه خاص. وأهمها:
التحديات العلمية التقانية – وتحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية – والتحديات المتصلة بنوعية الحياة وعلى رأسها مشكلات البيئة والمشكلات السكانية ومشكلات الصحة والتغذية. وسوف نتحدث بإيجاز عن أبرز هذه التحديات والمشكلات مشيرين إلى أهم انعكاساتها على التربية بوجه عام وعلى التعليم الأساسي بوجه خاص.
وكان لزاماً علينا أن نتحدث أيضاً عن تحد آخر هام، هو التحدي الثقافي، غير أننا آثرنا أن نرجئه إلى الجزء الأخير الخاص بالتعليم الأساسي في الوطن العربي، لارتباطه الوثيق به.
1 – التحديات العلمية التقانية:
لعل من المكرور أن نقول إن التبعية التقانية هي رأس كل تبعية، وإن أي دولة تحرص على استقلالها الحق لابد لها من أن تقفه التقانة وتولدها وتنبتها نباتاً حسناً.
كذلك من المعاد أن نقول إن التقدم العلمي والتقاني يطرح على الإنسان المعاصر مشكلات متقدمة وجديدة. منها أن التنمية الاجتماعية والإنسانية ليست دوماً في مستوى التنمية الاقتصادية التي يولدها التطور التقاني. ومنها أن التصنيع والتقانة كثيراً ما تصحبهما هجرات ضخمة من الأرياف إلى المدن. ومنها أن التقانة – ولا سيما المتقدمة منها – قد تؤدي إلى ضروب جديدة من البطالة. ومنها أنها تتحكم في مصائر الناس ومصير العالم. ومنها أنها تخلق المجتمع الاستهلاكي وتنمي نهم “الاستهلاك من أجل الاستهلاك” الخ….
1-1- ومن هنا كان من واجب التربية أن تعد أجيالاً شابة قادرة على التعامل مع التقانة وعلى مواجهة المشكلات التي يطرحها التقدم العلمي والتقاني.
وهذا يعني، بلغة التربية، أن المادة الأساسية التي تعمل عليها مكافحة “الأمية العلمية والتقانية” هي العالم الذي يحيا فيه الأطفال. وقد بينت بعض الدراسات الحديثة أن أهم الموضوعات العلمية والتقانية المتصلة بعالم الأطفال هي الآتية: الصحة، والتغذية، والزراعة، والطاقة، والموارد الطبيعية والمائية والمعدنية ، والصناعة، والبيئة، وانتقال المعلومات، والأخلاق والمسؤوليات الاجتماعية.
1-2- ومن هنا لابد أن يغدو التعليم العلمي والتقاني جزءاً من التعليم الأساسي ملتحماً به. ومعنى ذلك أن تعليم القراءة والكتابة والحساب وسواها من المواد التي تدرس في التعليم الأساسي، ينبغي أن يتم ضمن سياق علمي تقاني بدلاً من السياق التقليدي المألوف، الذي من شأنه في كثير من الأحيان أن يبعد الأطفال والشبان عن عالم العلم والثقافة وعن واقعها المشخَّص الحي.
وقد بينت دراسة قامت بها منظمة اليونسكو عام 1986، أن المعلومات الرياضية مثلاً (المتصلة بالحساب في مرحلة التعليم الأساسي) قلما تؤدي، في كثير من بلدان العالم، إلى جعل الأطفال قادرين على تطبيق هذه المعلومات في حياتهم اليومية. كما بينت أن تعليم التقانة يكاد يكون غائباً. وبوجه خاص، لا يتوافر في مناهج التعليم الأساسي وأساليبه ما يستلزمه فهم التقانة من تعويد الطلاب على حل المشكلات وعلى ابتكار الحلول والأفكار، وكل ما يتصل بالإبداع وروح المبادرة.
1-3- ثم إن الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الثروة البشرية في أي بلد من البلدان من أجل إحداث التطور والتغير التقاني المطلوب، يتطلب توفير خصال وصفات معينة في هذه الثروة البشرية التي سوف تعمل في المؤسسات الإنتاجية المختلفة، بحيث تستطيع أن تسهم في هذا التطور. ولا شك أن التعليم الأساسي هو “الأساس اللازم من أجل اكتساب الاستعداد للعمل ومحبته وألفته والدربة عليه والقدرة على القيام به، ومن أجل امتلاك المعلومات والمهارات والاتجاهات اللازمة للتقدم في سوق العمل وللاستمرار في الدراسة والتعلم. وأمام التحدي الكبير الذي يطرحه تسارع إيقاع المكتشفات العلمية والمبدعات التقانية لابد أن تتغير لدى العمال ” معرفة الإنسان أن يعمل” كما يقال، وأن يتغير إعدادهم بالتالي. وفي قلب تحديات التغير العلمي التقاني تكمن إذن ضرورة تجويد نوعية التعليم الأساسي. ومن أجل هذا ينبغي يتم تعليم القواعد الأساسية في “معرفة العمل” تعليماً يجعلها صالحة للاستخدام في الحياة اليومية، بدلاً من أن تكون مجرد تمرينات وصيغ جاهزة يتم تعلمها في مدرسة مغلقة على عالم العمل.
1-4- وبتعبير آخر، إن التحدي الأكبر اليوم هو إيجاد طرائق وخطط تعليمية تستطيع أن تحول المعلومات المدرسية إلى “كفاءات عملية”. والمبدأ التربوي الأول في مواجهة التحديات والتغيرات العلمية والتقانية هو أن تكون نقطة الانطلاق هي التعلم المستند إلى الأسئلة التي تطرح حول الظواهر والأحداث، بدلاً من الأجوبة التي يتوجب على الطلاب حفظها.
ويتبع هذا المبدأ مبدأ آخر، هو مبدأ “التعلم من أجل التعلم” كما سبق أن ذكرنا. ومن وسائله مساعدة الطلاب على أن يحولوا المعلومات الصورية التي يكتسبونها في المدرسة إلى مواقف متصلة بالحياة العملية.
2 – تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
منطلقنا في الحديث عن هذه التحديات (وسواها) أن المستقبل ليس طريقا نسلكه، وإنما هو مكان نصنعه ونبنيه. وسبل المستقبل ليست دروباً نطرقها ونعثر عليها، وإنما هي سبل نشقها. وشق هذه السبل من شأنه أن يغير في آن واحد من يشقها ومصير سيره ومستقره. وللتربية دورها البارز في ذلك. ولن نفتح أبواباً مفتوحة، فنتحدث عن مبررات هذا الدور، وحسبنا بعض الإيماء والإشارة:
2-1- لا شك أن الدراسات التحسبية حول المستقبل تنبئنا عن وقوع تناقص في استقرار العمل والاستخدام وسائر أشكال الحياة المهنية. وما سوف يتغير ليس بنية العمل فحسب بل كون هذه البنية تستلزم من العاملين يوماً بعد يوم خطاً أكبر من المرونة في حياتهم المهنية كثيراً ما تضطرهم إلى تغيير عملهم أو مهنتهم. وهذا كله يتطلب مرونة متزايدة في مناهج التعليم وبناه.
2-2- ثم إن النمو الاقتصادي والاجتماعي المرتقب (فضلاً عن التطور الثقافي) يملي تغيراً عميقاً في أنواع المهن والأعمال وفي “المواصفات” المطلوبة من العاملين. ومن المحتمل أن تتغير خلال العشرين السنة المقبلة 50% من أصناف الأعمال والمهن السائدة اليوم. الأمر الذي يفرض على التعليم التكيف مع هذا التغير السريع في بنية الأعمال ولائحة المهن ومواصفاتها، وبالتالي في الكفاءات والقدرات التي ينبغي أن يمتلكها أفراد القوى العاملة.
2-3- يضاف إلى هذا أن الاتجاهات العالمية فيما يتصل بالتنمية وفيما يتصل بالتزايد السكاني تبين بوضوح بأنه من غير الممكن الاعتماد على القطاع الاقتصادي “النظامي” لتوفير حاجات السكان. فسكان العالم سوف يتضاعفون خلال أربعين عاماً، وسوف يتجاوزون ستة مليارات في نهاية القرن. ولن يستطيع القطاع الاقتصادي “النظامي” أن يلبي حاجات هذه الأعداد المتكاثرة من طالبي العمل. ولا مناص من البحث عن إمكانيات أخرى يمكن أن تتوافر في القطاع الاقتصادي “غير النظامي” وفي العمل المستقل. وفي بلدان كأفريقيا، نجد أن زهاء 60% من القوى العامة في المدن تعمل في القطاع غير النظامي. وفي مثل هذا القطاع غير النظامي يقع على عاتق الفرد أن يتحمل مسؤولية عمله الفردي المستقل. وعلى التربية بالتالي، في مثل هذا الإطار، أن تساعد على أن يملك الفرد روح المبادرة وأن يكتسب الثقة بنفسه، تلك الثقة التي تمكنه من النجاح في الحياة بسعيه وابتكاره، ومن الطيران بجناحيه كما يقال. ومعنى هذا كله أن على المدارس أن تنتج “منتجين للعمل” بدلاً من أن تنتج “طالبي عمل”. ولعل الأخذ بهذا الاتجاه هو مفتاح حل مشكلات البطالة في عصرنا، ومفتاح التنمية الاقتصادية كلها.
2-4- وهكذا لن تكون هنالك تنمية اقتصادية واجتماعية متينة إلا إذا توافرت ثروة بشرية فعالة قادرة على أن تلعب دورها كاملاً في هذه التنمية. ومثل هذه الثروة البشرية الفعالة لا تتوافر بالشأو المطلوب إلا إذا أعدت إعداداً ملائماً من قبل نظام التربية والإعداد. ومن الواضح أن جملة المعارف اللازمة للحصول على عمل مأجور تتغير تغيراً سريعاً، في عمقها ومداها معاً. ولهذا فإن جميع العاملين في حاجة إلى تربية مستمرة متجددة. ويعني هذا أن الانتقال إلى المجتمع المتعلم يستلزم ألا ننتظر من المدارس الابتدائية أو الثانوية أن تقدم كل المعارف الأساسية وكل المهارات الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان عبر حياته، ما دامت هنالك تربية مستمرة طوال الحياة، تكمل وتعدل وتزيد. وأهم ما في الأمر أن يغادر الطلاب المدرسة وهم يملكون الرغبة والقدرة على التعلم طوال حياتهم كلها، لأنهم يملكون القابليات والقدرات اللازمة (كالقراءة والكتابة والحساب وسواها) التي تفتح لهم طريق المعرفة، كما يملكون الرغبة في المعرفة والقدرة على الحصول على المزيد منها دوماً. ويبقى على المجتمع بعد ذلك أن يوفر لهم إمكانيات التعلم المستمر وأن يقيم البنى اللازمة لذلك.
3 – التحديات المتصلة بنوعية الحياة:
تشمل هذه التحديات بوجه خاص، كما سبق أن ذكرنا، مشكلات البيئة، والمشكلات السكانية، ومشكلات الصحة والتغذية.
3-1- ولا حاجة إلى القول إن ثمة قلقاً عالمياً كبيراً ومتزايداً حول ما يهدد البيئة من مخاطر ذات أبعاد متعددة وقد عبرت هيئة الأمم المتحدة وكثير من المنظمات التابعة (3) لها عن هذا القلق وبينت على نحو صارخ ضرورة العمل السريع من أجل وضع استراتيجيات بعيدة المدى تتصل بالبيئة، تضمن الوصول إلى ما يعرف اليوم باسم “التنمية المستمرة” ويقصد بها التنمية التي تستمر عبر الأجيال وتبقي للأجيال القادمة “بيئة” سليمة معافاة تتوافر فيها مقومات التنمية. ومن أجل ذلك لابد أن يتلقى كل جيل تربية متصلة بالبيئة توفر له ما يطلق عليه اسم “محو الأمية البيئية”. ومثل هذه التربية تتضمن تقديم جملة من المعلومات وتكوين طائفة من الكفاءات والقدرات والبواعث تمكن الأفراد من الإسهام في حل مشكلات البيئة وتوقُّعها، ومن المشاركة في تحقيق “التنمية المستمرة” بالتالي. ويعني هذا أن تتحلق التربية حول الحاجات الإنسانية الأساسية التي يعبر عنها الإنسان أنى كان: فالناس في كل زمان ومكان يحرصون على أن تكون بيئتهم آمنة ومعافاة وسليمة، وأن يكون قوتهم موفوراً، وأن تكون الطبيعة ومواردها غزيرة ومحمية، وأن تكون صحتهم مصانة مرعية.
ومهمة التربية المتصلة بالبيئة أن تكوّن المواقف التي تيسر هذه التنمية المستمرة وما ينجم عنها من الوفاء بمثل هذه الحاجات الإنسانية الأساسية. ولن ندخل في شعاب البحث عن أهداف مثل هذه التربية ووسائلها.
وحسبنا أن نقول، إن من أهم أهدافها تغيير مواقف المتعلمين، عن طريق وسائل أساسية أهمها:
– وعي مشكلات البيئة في جملتها، سواء صدرت عن الطبيعة أم عن الإنسان.
– تقديم المعلومات الملائمة حول البيئة.
– تكوين اتجاهات نفسية واهتمامات خلقية متصلة بالحفاظ على البيئة، من شأنها أن تبعث على المشاركة الفعالة في حفظها ورعايتها.
– اكتساب كفاءات تسمح باكتشاف مشكلات البيئة وتقديم الحلول لها والتنبؤ بوقوعها.
3-2- أما التحديات السكانية: فتتجلى في نتائج التزايد السكاني السريع في شتى المجالات وانعكاساته على “نوعية الحياة” بشكل خاص. فمن البديهي القول إن هذا التزايد السكاني يعاني ما يعاني، بحيث تنوء الموارد المالية لمعظم بلدان العالم بأعباء الاضطلاع بما يفرضه من خدمات تربوية. والقطاعات الأخرى، كالصحة والعمل والإنتاج الزراعي والموارد الغذائية وتوزعها، تعاني أيضاً الكثير من التسارع السكاني.
ومن هنا جاءت العناية بالتربية السكانية، تلك التربية التي تقدم للأفراد وسائل ومعلومات تتيح لهم أن يدركوا العلاقات القائمة بين المشكلات السكانية وبين حياتهم اليومية، وتدفعهم إلى أن يتخذوا القرارات المسؤولة في هذا المجال، وتجعلهم بالتالي أقدر على تحسين مستوى رفاهية أسرهم ومجتمعهم.
ومن هنا كانت التربية السكانية بدورها وسيلة من وسائل الربط بين ما يتعلمه الطالب في المدرسة وبين الحياة الخارجية، هذا الربط الذي تريثنا عند شأنه في أكثر من موضع من هذه الدراسة. ولابد للتربية بالتالي، ولا سيما في مرحلة التعليم الإلزامي، أن تُعنى بهذا الربط من خلال ما تقدمه من تربية سكانية.
ويتم التأكيد حالياً على العلائق القائمة بين التربية السكانية وبين التربية الأسرية والتربية الجنسية والتربية البيئية والتربية الصحية.
وقد كان يظن في الماضي أن الأطفال في عمر المدرسة الابتدائية أصغر من أن يتلقوا هذا الضرب من التربية السكانية. سوى أن الدراسات الحديثة بينت، كما نعلم، أن شتى أنماط السلوك والاتجاهات والمعتقدات تتكون منذ طور مبكر جداً.
وتؤكد هذه الدراسات الحديثة على أن الطرائق التربوية التي ينبغي أن تستخدم في هذه التربية السكانية ينبغي أن تعنى عناية خاصة بالتعلم عن طريق الممارسة، أي عن طريق وضع المتعلمين في مواقف مشخصة تجعلهم يعون مشاعرهم وأفكارهم ومعتقداتهم بهذا الشأن ويناقشونها بغية الوصول إلى المواقف الصحيحة حوله.
3-3- وفي مجال التحديات الصحية: غدا الشعار السائد اليوم شعار”الصحة للجميع”. وتلك الصحة الشاملة تسهم فيها وتعززها :التربية للجميع” بل إن هذين الشعارين ينظر إليهما اليوم على أنهما شعاران لا ينفصمان. فلابد للصحة من أجل التعلم، والتعلم بدوره يسهم إسهاماً كبيراً في رعاية صحة الأطفال والكبار.
ومن هنا كان من اللازم أن تكون برامج التربية الصحية جزءاً من استراتيجية عامة تستهدف تحقيق جملة من الأهداف الصحية الشاملة. ومن الشروط الضرورية لتحقيق مثل هذه البرامج وضع سياسات على مستوى البلد وعلى مستوى مناطقه المختلفة، تشارك فيها وتتعاون الوزارات والمؤسسات المعنية جميعها، وعلى رأسها وزارتا التربية والصحة.
ويشيع اليوم استخدام مفهوم “المدرسة في خدمة المجتمع” للدلالة على مختلف أوجه التربية الصحية. وهذا المفهوم يفترض التفاعل الحي بين ثلاث مؤسسات: الصف والدوسة والمجتمع المحلي. فلابد للتربية الصحية التي يقدمها الصف أن تعزز بما يتعلمه الطلاب على نحو غير مباشر بحكم انتمائهم إلى مجتمع مدرسي له مبادئه وقواعده الخلقية ونظرته إلى الكرامة الإنسانية واحترامها. كذلك لابد أن تنضاف إلى هذه التربية ما يتعلمه الأطفال من أسرتهم وبيئتهم الاجتماعية ووسائل الاتصال والإعلام، ومن نشاطات مؤسسات الخدمة الصحية، كالمستشفيات وسواها، ومن حملات الصحة العامة وسوى ذلك.
ولكي تنجح المدرسة في مهمتها، عليها أن تنسق على نحو فعال بين هذه المناسبات العديدة التي تتيح للطلاب فرصة تعلم مستلزمات التربية الصحية، وأن توفق بين النشاطات التي يقوم بها في هذا الشأن الثالوث المكون من الصف والمدرسة والمجتمع.
ومن البرامج التربوية المفيدة في مجال التربية الصحية، ذلك البرنامج الذي لجأت إليه بعض البلدان المتقدمة (كبريطانيا) والذي شاع في عدد من البلدان النامية، نعني البرنامج الذي أطلق عليه اسم “الطفل للطفل” فالأطفال بطبعهم يتقبلون الأفكار الجديدة، ويملكون النشاط والحيوية اللازمة لتطبيق هذه الأفكار. وإذا ما دربوا على بعض مبادئ الصحة، في وسعهم أن يعنوا بمن هم أصغر منهم سناً، من إخوان وأخوات وسواهم، وفي مقدورهم، عن هذا الطريق، أن يدخلوا إلى أسرهم بعض الأفكار والممارسات الصحية الجديدة.
4 – وبعد، لقد اكتفينا في العرض السابق بأن نشير إشارات خاطفة إلى أهم التطورات المستجدة في عالمنا الحديث وإلى ما تنبئ به الدراسات المستقبلية حول مسيرة هذه التطورات، وأن نستخلص من ذلك أبرز انعكاسات هذا الواقع القائم والمستقبل الموعود على التربية بوجه عام وعلى التعليم الأساسي بوجه خاص.
وقد قادنا ذلك إلى التوقف بوجه خاص عند الآثار التربوية للتغيرات القائمة والمنتظرة في أهم جوانب الحياة العالمية: كالتغير التقاني والعلمي، والمطالب الجديدة في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومستلزمات الحفاظ على “نوعية الحياة” وتطويرها (عن طريق معالجة مشكلات البيئة والسكان والصحة بوجه خاص).
وقد استبان لنا من تحليل هذه التغيرات تحليلاً سريعاً أنها جميعها تملى طائفة من التجديدات الأساسية في الأمور الآتية:
– “تعميم التعليم الأساسي” و “تعميم النجاح في هذا التعليم” مجتمعين، وتوفير الشروط التربوية لتحقيق هدف “تعميم النجاح”.
– جعل التعليم للجميع “شأن الجميع” تقوم به المدرسة وسواها من مؤسسات المجتمع، عن طريق “الشراكة” الفعلية فيما بينها.
– توفير المرونة الكافية في مناهج التعليم الأساسي وطرائقه، استجابة لمطالب التغير السريع في مجالات الحياة، بحيث تكون المدرسة قادرة على أن تحيا مع التغير وأن تعد الطلاب للتغير.
– جعل محور العملية التربوية، في التعليم الأساسي وسواه، “التعلم من أجل التعلم” وتزويد الطلاب بالكفاءات والقدرات والاتجاهات النفسية التي تجعلهم قادرين على أن يعلّموا أنفسهم بأنفسهم طوال الحياة، والتي تدفعهم إلى مزيد من التعلم دوماً وأبداً.
– فيما يتصل بالمعارف التي يضمها التعليم الأساسي، الاكتفاء بتقديم “أساسيات المعرفة” و”أدواتها” وكل ما من شأنه أن يجعل الطالب “قابلاً لأن يتعلم” وذلك انطلاقاً من مبدأ “التربية المستمرة” التي من شأنها أن تخفف من ثقل المعارف والمعلومات في التعليم النظامي، حين توكل إلى التعليم غير النظامي أمر متابعة التعليم، وإكماله وتجديده تبعاً لظروف العمل ومستلزمات الحياة.
– ربط مناهج التعليم الأساسي وطرائقه بمستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق شتى الوسائل، وعلى رأسها الاهتمام بتكوين الكفاءات والقدرات اللازمة للعمل والإنتاج، بحيث يخرج هذا التعليم “منتجين للعمل” بدلاً من أن يكون “عاطلين عن العمل”.
– توجيه عناية خاصة، في مناهج التعليم الأساسي وطرائقه، إلى الربط بين التعليم ومشكلات الحياة الفعلية القائمة في المجتمع المحلي، والاهتمام بجعل الطلاب قادرين على استخدام معارفهم في حياتهم اليومية، بل جعل التعليم كله يدور حول أمور الحياة الواقعية.
– اهتمام مناهج التعليم الأساسي بالمحتويات والوسائل التي تؤدي إلى تعويد الطلاب على حل المشكلات وابتكار الحلول والأفكار وكل ما يتصل بالإبداع والابتكار.
– عناية مناهج التعليم الأساسي وطرائقه بالتربية البيئية، وبيان دورها الأساسي في “التنمية المستمرة” المعنية بالأجيال القادمة وبمستقبل الإنسانية. على أن يتم ذلك عن طريق التوعية بأهداف التنمية البيئية ومشكلاتها وعن طريق تكوين الاتجاهات النفسية والخلقية اللازمة لذلك.
– العناية بالتربية السكانية، ولا سيما عن طريق بيان العلاقة بينها وبين الحياة اليومية في صورها المختلفة، وعن طريق الربط بينها وبين التربية الأسرية والتربية الجنسية والتربية البيئية والتربية الصحية.
– الربط بين شعار “التربية للجميع” وشعار “الصحة للجميع” والتعاون بين المدرسة وسائر المؤسسات المعنية بالصحة من أجل وضع برامج واستراتيجيات صحية شاملة.
5 – على أننا عُنينا في هذا العرض السابق كله أولاً وقبل كل شئ برصد أبرز التطورات الواقعة والمتوقعة في حياة العالم، والتي أملت وتملي التحديث الجذري لمناهج التعليم الأساسي، ولم نشر إلى انعكاسات ذلك كله على التربية بوجه عام وعلى التعليم الأساسي بوجه خاص إلا إشارات سريعة وعامة، اكتفينا من خلالها ببيان الخطوط الرائدة للتربية المنشودة نتيجة للتغيرات العالمية.
ونود الآن أن نقف وقفة أكثر تفصيلاً عند معالم التربية الحديثة المستجيبة للتغيرات العالمية الكبرى في شتى المجالات حاضراً ومستقبلاً، على نحو ما أشرنا إليها، وعند ما تمليه من تحديث في مناهج التعليم الأساسي، محتوى وطرائق.
(ثانياً) الجدائد في مناهج التعليم الأساسي ومحتواه وطرائقه:
لقد ذكرنا، منذ المدخل، أن السنوات الأخيرة بوجه خاص شهدت تغيراً وتجديداً يكاد يكون جذرياً في مناهج التعليم الأساسي ومحتواه وطرائقه، استجابة للتغيرات المتسارعة في شتى مجالات الحياة في العالم. وقد أشرنا في الجزء السابق إلى الملامح العامة لذلك التجديد التربوي، دون أن نمعن في تقرّيها واستخراج النتائج اللازمة عنها. وهدفنا في هذا الجزء أن نتريث عند ذلك التجديد التربوي، وعند انعكاساته على مناهج التعليم الأساسي ومحتواه وطرائقه.
1 – المناهج وحاجات التكوين الأساسية:
1-1- لقد سبق أن ذكرنا أن المؤتمرات العالمية، ولا سيما ” المؤتمر العالمي حول التربية للجميع ” الذي سبقت الإشارة إليه، دعت إلى توفير التعليم الأساسي للجميع، ودعت بوجه خاص إلى تحقيق النجاح في هذا التعليم الأساسي للكثرة الكاثرة من الطلاب (80% على أقل تقدير). وهذا المطلب الأخير يستلزم تبني مناهج تعليمية تحدد على شكل واضح أنواع “المعارف” “وأنواع معرفة العمل” (اكتساب المعارف للعمل)، وأنواع السلوك (أو “معرفة الإنسان كيف يكون” على حد التعبير الشائع) التي يكون اكتسابها مطلباً أساسياً ينبغي أن يدور العمل التربوي حوله.
وغني عن البيان أن الواقع في مختلف بلدان العالم تقريباً ما يزال مقصراً عن مثل هذا الهدف. فالمناهج ما تزال مثقلة، وما تزال بعيدة عن تجارب الأطفال الواقعية الحية، وغير متكيفة مع نظرتهم إلى بيئتهم الثقافية في المجتمعات التي سوف يحيون فيها.
ولا شك أن التغيرات السريعة، بأشكالها المختلفة، التي تحدث في العالم اليوم والتي ستزداد حدة في الغد، كما سبق أن رأينا، تقود إلى إعادة النظر في المناهج التقليدية القائمة على اكتساب المعرفة و “معرفة العمل” والقدرات. فالتزايد المتصاعد في حجم المعارف، والتطور والحراك الحاصل في عالم العمل، يجعلان من اللازم الاتجاه نحو تكوين مواقف وقدرات من شأنها أن تساعد الفرد على أن يعنى باستخدام معطيات العلم والتقانة والاصطفاء بينها.
1-2- ومن هنا تؤكد الاتجاهات الحديثة على ضرورة عناية التربية بتكوين الاتجاهات والمواقف والكفاءات، بما في ذلك اتجاهات الحياة الخلقية والروحية للفرد. وفي هذا الإطار تولي هذه النظرة الحديثة اهتماماً خاصاً لاتجاهات كتكوين الحكمة، وروح المسؤولية، والفكر المستقل، وترى فيها اتجاهات لا تقل أهمية عن الكفاءات العقلية.
وبتعبير موجز: تعيد الاتجاهات التربوية الحديثة ترتيب أهداف التربية المدرسية (مؤكدة على تكوين الاتجاهات) على النحو الآتي:
أهداف المناهج التقليدية أهداف المناهج الحديثة
1- المعارف والمعلومات 1- الاتجاه والكفاءات
2- معرفة العمل 2- معرفة العمل
3- الاتجاهات والكفاءات 3- المعارف والمعلومات
ويعني هذا الترتيب الجديد لأهداف التربية في التعليم الأساسي (وسواه) الانتقال من مناهج دراسية محورها “المواد الدراسية” إلى مناهج محورها “الطالب”. ومن شأنه بوجه خاص أن يوفر إسهاماً أفضل من قبل المدرسة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وغني عن القول إن الكفاءات وأنماط السلوك التي يعنى بها التعليم الأساسي (سواء اقتصر على التعليم الابتدائي أو امتد بضع سنوات بعده) في مختلف بلدان العالم تختلف اختلافاً بيناً عن تلك التي تتطلبها المجتمعات المعاصرة. فبدلاً من القدرة على الاستقلال وقابلية التكيف، تنمي المدارس القائمة غالباً مواقف سلبية مألوفة. وبدلاً من التعامل في فريق مثلا والتعاون بين الطلاب، تنمي المدارس القائمة روح المنافسة الفردية وتشجّعها الخ…..
1-3- وقد قامت “مؤسسة سبنسر” في الولايات المتحدة بدراسات بينت، بشكل مؤقت، الكفاءات التي ينبغي أن تنطلق منها المدرسة من أجل إعداد العمال وجعلهم قادرين على التكيف مع ظروف العمل الجديدة. وعلى الرغم من أن لائحة الكفاءات التي انتهت إليها قد وضعت استناداً إلى دراسات تمت في البلدان المصنعة، فإنها تعني سائر المجتمعات، إذ تبين الهوة المتعاظمة بين التعليم المدرسي وبين حاجات سوق العمل. وتضم هذه اللائحة خمس كفاءات أساسية تكتفي بتعدادها، دون أن تتريث عند مدلول كل منها وأبعادها. والكفاءات الخمس هي الآتية: امتلاك روح المبادرة – التعاون – العمل الجماعي في فريق – تبادل الإعداد المهني بين العاملين أنفسهم – التقويم (تقويم نوعية الناتج
أو الخدمة).
1-4- ومعنى هذا أن الاتجاهات الحديثة ترى أن على التربية أن تلجأ إلى تحديد أهدافها ومحتوى مناهجها تحديداً جديداً، يعكس الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحقة.
ومن هنا فإن دور المدرسة الأساسية لا يقتصر، على نحو ما تدعو إلى ذلك بعض الحركات الإصلاحية، على تعليم القراءة والكتابة والحساب وبعض المواد، بل لابد لها من أن توسع أفق نظرتها إلى الدور الذي يقع على عاتق التربية في مجال التنمية الاقتصادية والتغير الاجتماعي، وأن تدرك بالتالي المسؤوليات الجديدة التي تقع على عاتق التربية بهذا الشأن. الأمر الذي يستلزم توسيع محتوى المناهج توسيعاً بتجاوز المواد الأكاديمية، ويضم جملة المعارف والكفاءات والقيم اللازمة من أجل تحسين “نوعية” حياة الفرد وتحقيق مشاركته الكاملة في عملية التنمية.
وقد قامت محاولات عديدة في كثير من بلدان العالم (ولا سيما في بلدان أمريكا اللاتينية وفي أوروبا) بهذا الشأن، لا مجال للتفصيل فيها. وحسبنا أن نورد إحدى التوصيات التي صدرت عن حلقة مستديرة وطنية حول التعليم الأساسي عقدت في “الكاميرون” عام 1991. وقد جاء فيها: مقترح “اللجنة الفرعية” (المكونة في إطار الحلقة المستديرة)، أن يعاد النظر في محتويات التعليم الأساسي انطلاقاً من أهداف الإعداد الشامل للإنسان…. ولبلوغ ذلك من الضروري أن يدخل في المناهج التدرب على بعض أنواع الثقافة الأولية المرتبطة بالزراعة وتربية الماشية، والصناعات الحرفية، وسواها، وتوفير التكوين اللازم للشخصية وذلك بتعزيز التربية الأساسية عن طريق إدخال القيم الخلقية والروحية، ومشكلات التربية الصحية، والمسائل المتصلة بالصحة والتغذية، وشؤون البيئة…”.
2 – محتوى المناهج وحاجات المجتمع:
هذه النظرة الموسعة للتعليم الأساسي لابد أن تقود المدرسة إلى تطوير معارف قابلة للتكيف وإلى الاهتمام باكتساب الاستعدادت اللازمة للتغير والتغيير، سواء من اجل تلبية الحاجات الحالية، أو من اجل متابعة التعلم في عالم متطور، أو من أجل إحداث التغير اللازم فيه. من خلال هذا تولي بلدان عديدة مكانة هامة للتمرس الأولي بالعلم والتقانة منذ سنوات الدراسة الأولى، كما تأخذ على عاتقها، عن طريق المدرسة، معالجة مشكلات المجتمع المتصلة بنوعية الحياة، سواء اتصلت بالأمور الاقتصادية والاجتماعية والسكانية، أو اتصلت بشؤون البيئة والصحة، كما سبق أن ذكرنا.
ولا تهدف التربية من أجل “نوعية الحياة” إلى اكتساب المعارف النظرية، بل تهدف أولاً وقبل كل شئ إلى تكوين مواقف وأنماط من السلوك ملائمة قد لا تبدو آثارها إلا بعد سنوات عديدة.
وتبين إحدى الدراسات التي أعدتها منظمة اليونسكو من أجل “المؤتمر العالمي حول التربية للجميع” وعنوانها:
“محو الأمية العلمية والتقانية(4)” أهمية الألفة مع طراز التفكير العلمي، كما تبين أن التمرس بالعلم والتقانة يمكن أن يقدم جنباً إلى جنب مع تعلم قواعد القراءة والكتابة والحساب، إذا ما تم ذلك من خلال مشكلات الحياة اليومية. ويضرب أمثلة عديدة على ذلك مستقاة مما تم تطبيقه في بعض البلدان. وينادي أحد التربويين الأفارقة (وهو جوزيف كي – زيربو Zerbo)(5) بتوسيع ميدان التربية الأساسية، بحيث تشمل العناصر الستة الآتية:
– التدرب على أمور الصحة
– التغذية والغذاء
– البيئة
– القراءة والكتابة والحساب
– مبادئ التربية المدنية (التاريخ، الجغرافيا، المؤسسات – القيم).
3 – المناهج و«العمل المنتج» والتربية ذات الأبعاد المتعددة.:
3-1- وبالإضافة إلى ما ذكرنا، تحرص الاتجاهات الحديثة في المناهج على تحقيق توازن أفضل بين مختف النشاطات التي تتم فيها، بحيث يتم تجاوز الفصل القائم بين المهارات العقلية والمهارات الاجتماعية – العاطفية، وبحيث تعطى قابليات الأطفال جميعها حظها اللازم من التفتح والعطاء. وقوام هذه النشاطات الجديدة، إلى جانب الاهتمام بالنشاطات ذات الطابع العقلي والمعرفي، نشاطات ذات طابع عملي، بل إنتاجي (كما هو الحال في “العمل المنتج” ضمن المدرسة)، وبإدخال نشاطات من طراز جديد، سواء في النشاطات اللاصفية التي تيسر نمو القدرات الشخصية للطفل (كالإبداع، والمبادرة، والفضول وحب الاستطلاع، والحذق، والتجلد والصبر، والروح الاجتماعية)، أو – بشكل خاص – عن طريق النشاطات الفنية والمبدعة والتربية البدنية، وسائر النشاطات التي تخدم المجتمع المدرسي والمجتمع المحلي.
3-2- ومن أهم فضائل مثل هذه النشاطات أنها تصحح المنزلق التقليدي في التعليم الأكاديمي الخالص، نعني عزوف الطلاب فيما بعد عن أي عمل منتج، بل عن أي عمل يدوي. فبفضلها يتعلم الطفل أن “يستخدم أصابعه الخمس” ” وأن يكتشف” العقل الذي في اليد الذي يفوق العقل الذي في الرأس “على حد تعبير” غاندي”، كما يألف حياة العمل ويحب الحياة مع العمال ولا يخشى أن تتسخ يده، وأن يحشر في زمرة “أصحاب الياقات الزرقاء” كما يقال. وتبين دراسات بعض الكتاب الأفارقة أن الطلاب الذين يختلفون إلى المدارس الحالية يصلون بعد ثلاث سنوات من الحياة المدرسية إلى نقطة اللاعودة إلى العمل الريفي.
على أنه لابد أن نذكر بأن الهدف من إدخال “العمل المنتج” في التعليم الأساسي ليس توفير تعليم شبه مهني، ولا أن نحصل على موارد مادية تحقق الاكتفاء الذاتي الجزئي للمؤسسات التربوية، كما ظن الكثيرون، سواء عن طريق الإنتاج الزراعي أو الإنتاج الحرفي، وإنما الهدف هو توفير تعليم أفضل عن طريق العمل، ذي أهداف تربوية تعليمية وذي أهداف سلوكية. ولابد من التنبيه إلى أن تجارب العمل المنتج هذه ينبغي ألا ينظر إليها وكأنها مواد دراسية جديدة، كأن يخصص لها، كما يجري أحياناً، وقت محدد (حوالي عشر ساعات) يضيع ويتلاشى وسط النشاطات المدرسية الأخرى. وبدلاً من ذلك، يمكننا أن نتصور إمكان تنظيم عمل منتج “متناوب” تتناوبه فرق للأطفال كرّة بعد كرّة، ويقدم المعلم خلاله نشاطات تعزز عمل الطلاب وتغنيه.
3-3- وفي الجملة، ترى الاتجاهات المحدثة أن التعارض بين أهداف الانتاج وأهداف التربية يمكن التغلب عليه، إذا نحن قدمنا النتائج غير المباشرة للعمل المنتج على مردوده الإنتاجي المباشر، واضعين نصب أعيننا الآثار البعيدة المدى. فإعداد الطلاب إعداداً جيداً للحياة الفعالة، في قلب العمل ومواقع الإنتاج، جهد يعطي ثماره وأُكله لدى الشبان والمجتمع وأصحاب مؤسسات العمل (كالمدرسة والمصنع والطالب نفسه) وعلى العكس فإن الفائدة المباشرة التي يمكن أن تحصل عليها المؤسسة أو الشخص الذي يستفيد من عمل الطالب (كالمدرسة والمصنع والطالب نفسه) فائدة هزيلة وخادعة، ولا تمكن زيادتها إلا على حساب حرف أهداف التربية عن أغراضها الأساسية. والنشاطات الإنتاجية التي يمكن إدخالها في سياق المناهج المدرسية عديدة ومتنوعة. بل لابد أن تتنوع هذه النشاطات بتنوع الإطار المحلي، كما لابد للطالب خلال حياته المدرسية أن يمارس نشاطات مختلفة. ومن هذه النشاطات إنتاج أشياء أو أغذية في إطار النشاط الحرفي أو الزراعي، أو مواكبة عملية إنتاج صناعي والمشاركة فيها. ومن هنا يقدم الطالب خدمات معينة للمدرسة أو لمؤسسة اجتماعية أو لمؤسسة إنتاجية خاصة.
4 – الأنماط الجديدة لتحديد محتوى المناهج وتنظيمه:
4-1- بدهي أن لا سبيل إلى التفكير في إثقال مناهج التعليم الأساسي وتضخيمها، أو زيادة عدد الساعات الأسبوعية. ولهذا فلا مناص من اللجوء إلى إعادة النظر في مناهج الدراسة، ومن التفكير في أنماط جديدة من تنظيم محتواها، إذا نحن أردنا أن نحقق تلك النظرة الأوسع إلى أغراض التعليم الأساسي على نحو ما أشرنا إليها. فالمناهج مثقلة بطبعها ولا تحتمل المزيد. ولا سبيل سوى زيادة الوقت المخصص لاكتساب الأدوات والكفاءات الأساسية، ولا سيما الكفاءات اللغوية. وقد بينت دراسات حديثة أجراها البنك الدولي على 96 دولة نامية أن مناهج التعليم الابتدائي تشابه في العالم كله إلى حد بعيد. فالعام الدراسي الرسمي يضم، حسب البلدان، 840إلى 914 ساعة دراسية. وعدد ساعات التعليم الفعلية أقل من هذا غالباً. وحوالي 50 % من الوقت (زهاء 450 ساعة في العام على أبعد تقدير) مخصصة لاكتساب الكفاءات الأساسية كاللغات والحساب. وتبين هذه الدراسة أيضاً أنه إذا كان ثلث هذا الوقت (أي 300 ساعة في السنة على الأكثر) مخصصاً لتعليم اللغة، فإن هذا الثلث موزع بدوره ولا سيما في أفريقيا الجنوبية تحت الصحراء وفي أمريكا اللاتينية وآسيا، بين تعليم اللغة الوطنية وتعليم اللغة الرسمية (6).
وهكذا، قمن اجل زيادة جدوى مناهج الدراسة وتحقيق ملاءمتها لحاجات الطلاب والمجتمع، دون أن يؤدي ذلك إلى إنقاص حجم “علوم الأداة” في المناهج المدرسية، يمكن تصور نمطين من تنظيم محتويات المناهج: أولهما تحديد حد أدنى للكفاءات التي ينبغي امتلاكها ووضع “جذع مشترك” وثانيهما اللجوء إلى أسلوب “الترابط بين المواد الدراسية”.
4-2- والبحث في النمط الأول، نعني نمط “الحد الأدنى” للكفاءات المطلوبة، يردنا إلى ما سبق أن ذكرناه عن مستوى “المعارف” و “معارف العمل” اللازمة لإنفاذ مهمة معينة. وهذا المستوى لا يمكن تحديده سلفاً وعلى نحو شامل صالح لكل زمان ومكان. بل هو بطبيعته قيمة نسبية، ومفهوم إجرائي يتغير تبعاً للظروف الفعلية المشخصة والتحولات الاجتماعية – الثقافية، ولا يتخذ معناه وشأنه إلا من خلال حاجات مجتمع معين بالذات، شأنه في ذلك شأن مفهوم “محو الأمية الوظيفي” الذي شاع وذاع منذ سنوات بعيدة. وكل ما في الأمر أن هذا المفهوم يفترض أن يتم تحديد مناهج الدراسة ليس عن طريق مجرد الاستناد إلى المعارف التي ينبغي أن يملكها الطالب، بل أيضاً وخاصة عن طريق “الصورة” المرجوة له عند تخرجه، أي عن طريق الحد الأدنى من الكفاءات المرغوبة للنجاح في مستوى معين ووقت معين ومجتمع معين.
وفي العديد من البلدان التي يكون فيها التعليم الإلزامي (ولا سيما الذي يتوقف عند التعليم الابتدائي) مرحلة منتهية بالقياس إلى عدد كبير من الطلاب، يتم تحديد مستوى أدنى من الكفاءات التي ينبغي امتلاكها في نهاية المرحلة الدراسية، يطلق عليها أحياناً اسم “الحد الأدنى من التعليم” (كما في بعض البلدان الآسيوية) أو “الجذع المشترك” (في بلدان أخرى). ومبدأ الدراسة المنتهية هذه يتيح المجال للتفكير تفكيراً جديداً محدثاً، بأن تكون هذه الدراسة مرحلة تمهيد للحياة العملية، تغرس خلالها الكفاءات والمهارات التي يمكن أن تستخدم في الحياة الاجتماعية وسوق العمل. ومن الممكن – في عرف الاتجاهات المحدثة – أن نتصور “الجذع المشترك” وكأنه أنماط من النشاط أو مجالات للخبرة (اللغوية أو الأدبية أو الرياضية أو العلمية أو الجمالية الفنية أو الرياضية أو غير ذلك)، وأن ننظر إليه في الوقت نفسه من خلال الأهداف والأنماط السلوكية المطلوبة. وعند ذلك، لن تكون مواد الدراسة غاية في ذاتها، بل سوف تصبح وسائل في إطار “مقاربة” متعددة الأبعاد. وهذا ما حاولت أن تحققه بعض التجارب في الهند وفي كولومبيا وسواهما.
أما عندما يكون “الجذع المشترك” مجرد جزء هام من المنهاج الدراسي الذي يحدد الكفاءات الأساسية التي ينبغي أن يكتسبها الجميع، فإن من الممكن اللجوء إلى “الاختيار” (اختيار الطالب للنشاطات الدراسية)، ذلك الاختيار الذي من شأنه أن يلبي التطلعات الفردية والحاجات المحلية. وعلى هذا النحو يمكن توفير الاستمرار والتجانس في مناهج الدراسة على المستوى الوطني الشامل جنباً إلى جنب مع تنويع هذه المناهج وتلوينها بألوان متعددة، تبعاً للأوضاع المحلية.
4-3- ومن المتفق عليه اليوم القول بأن تنظيم اكتساب المعارف لا يتبع البنية المنطقية للعلوم. ومن هنا فإن مناهج الدراسة، حتى في السنوات الأولى، مكونة من رصف مواد التعليم المختلفة جنباً إلى جنب دون أن يكون بينها أي تواصلٍ أو قربى. ففي يوم واحد، يتوجب على الطالب أن يهضم طعاماً متنوعاً، مكوناً من قليل من اللغة الأم، وحفنة من الكتابة وقدر من الحساب، وذرات من علم الصحة أو الجغرافيا أو سوى ذلك. وهكذا فإن المناهج المركزة على المواد تعرض الطفل لتجربتين متباعدتين: المدرسة التي تقدم أطباقاً من المواد الأكاديمية والمجردة، والمنزل الذي تتحلق الحياة فيه حول الأسرة والجماعة. وقد حاولت بعض البلدان (كتايلاند) أن تعالج هذا الفصام عن طريق دمج المواد المختلفة، خلال السنوات الأربع الأولى، بمراكز اهتمام تتيح تجميع النشاطات حول بعض الموضوعات الرائدة. أنا، أسرتي، مدرستي، قريتي، إلخ….. (كما يجري في رياض الأطفال غالباً، وكما جرت عليه طريقة “الوحدات الدراسية” في التعليم الابتدائي منذ سنوات بعيدة).
وعن هذا الطريق يتم تعليم القراءة والحساب وسواهما، من خلال دراسة بعض الموضوعات المشخصة المتصلة بحياة الطفل.
وقد أشار “المؤتمر العالمي حول التربية للجميع” إلى مثل هذا الربط بين تعليم المواد المختلفة، وأوصى “بجعل مناهج الدراسة أكثر ملاءمة عن طريق الربط بين تعليم القراءة والكتابة والحساب والمفاهيم العلمية وبين المشاغل والاهتمامات الفعلية للمتعلمين وتجاربهم المعاشة في شتى ميادين الصحة والتغذية والعمل”. وتحدث عن أساليب متعددة لتيسير مثل هذا الدمج بين المواد ومحتوياتها. من هذه الأساليب أسلوب “مراكز الاهتمام” (وهو أسلوب قديم كما ذكرنا، منذ أيام المربي المعروف “دوكرولي” على أقل تقدير، ولكنه يلبس إهاباً جديداً في إطار النظرة الشاملة لتحديث المناهج) وقد اقترح “دنيو
D’Hainaut ” منذ عدة سنوات (7)” أن يكون هذا الدمج بين المواد مركزاً حول الطالب نفسه، ووضع لذلك جدولاً يوضح كيفية بناء المواقف التعليمية حول نماذج محددة، على نحو ما يستبين من الجدول التالي (رقم 1).
الجدول رقم (1)
الترابط بين مواد التعليم وبناء المواقف التعليمية حول نماذج محددة
المواد
م ل ك ي ط ح ز و هـ ء حـ ب أنماط العمل والسلوك
التواصل (بالتلقي)
التواصل (بالإرسال)
الاستجابة للمحيط
التعبير
التكيف
التنبؤ
التعلم
اتخاذ القرار
الاختيار
الحكم
الإقدام على العمل
العمل
التطبيق
حل المسائل والمشكلات
الإبداع
التحويل
التنظيم والتوجيه
الشرح والتوضيح
التجريد
البرهنة
4-4- وإلى جانب الجهود التي لابد أن تتم عن طريق السلطات التربوية المركزية من أجل تحقيق التجانس والضبط المنطقي في محتوى مناهج التعليم الأساسي، من المفيد – فيما ترى الاتجاهات المحدثة – أن يترك هامش معين من التقدير للمناطق وحتى للمؤسسة المدرسية. وهذا الهامش (الذي قد يبلغ 20% من الوقت المدرسي تقريباً) من شأنه أن يتيح تحقيق التكيف بين المناهج التي تضعها الدولة وبين الظروف المحلية والبيئية الاجتماعية – الثقافية، وأن يتيسر بالتالي إسهام المنظمات المحلية في القرارت الخاصة بمحتوى مناهج التعليم الأساسي.
4-5- ومن الجوانب التي تتريث عندها الاتجاهات المحدثة في مناهج التعليم الأساسي، الأخذ ببعض المرونة في تقدم الطلاب عبر سنوات الدراسة. فالنظم المألوفة في الترقي نظم متماثلة تنطبق على الطلاب جميعهم، وهي في كثير من الأحيان أحد أسباب الرسوب. ومن هنا تطالب الاتجاهات المحدثة بتحقيق مرونة أكبر في رسم نظم الترقي هذه. يضاف إلى هذا أن الحياة المدرسية خلال هذه المرحلة التعليمية ما تزال قائمة على أساس تتابع السنوات الدراسية غير أن حقائق الدراسات الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية، تبين أن الأطفال، وإن كانوا في سن واحدة، لا يملكون قابليات واحدة. ومن هنا فإن إيقاع الترقي، سواء صحبه ترفيع آلي أو لم يصحبه ترفيع، لا يتيح لجميع الطلاب أن يتقنوا جميع المكتسبات الأساسية. والترفيع الآلي لا يعدو أن يؤخر يوم الاصطفاء الحقيقي وساعة الرسوب أو الفصل. ولهذا لجأت بعض البلدان (كالبرتغال وفرنسا) إلى تبني “تقطيع” للوقت أكثر مرونة. وبعض البلدان تلجأ إلى إقامة مستويين في كل صف. ولا شك أن تنظيم التعليم الأساسي تنظيماً قوامه المراحل السنوية المتعددة التي يستطيع الطلاب في داخلها أن يتقدموا بسرعات متفاوتة، يتيح حظاً أوفر من التكيف بين إيقاع التقدم في الدراسة وبين نمو الطفل، دون أن يطيل سنوات الدراسة.
4-6- وإذا كانت إعادة النظر في المناهج وفي التقدم الدراسي، على نحو ما رأينا. أموراً تقع بالدرجة الأولى على عاتق السلطات التربوية على المستوى الوطني والإقليمي، فإن ثمة مهمة أخرى ذات شأن تقع على عاتق المدرسة والمجتمع بوجه خاص، ونعني بها تقديم العون إلى الأطفال الذين يعانون بعض الصعوبات. ولا شك أن دور مدير المؤسسة بهذا الشأن دور أساسي في مثل هذا العون الذي يمكن أن يتجلى في إعادة تنظيم ساعات دراسة الأطفال الضعاف تنظيماً ملائماً لحاجاتهم، كما يمكن أن يتجلّى عن طريق المشاركة بين المدرسة والمجتمع لهذه الغاية، وتنظيم جلسات عمل موجَّه أو مراقب، بعد انتهاء ساعات الدراسة.
على أن أبرز الأساليب الأساسية التي ينبغي اتباعها تحقيقاً لهذا الغرض التقليل من المنافسة القائمة على التقدم في التعليم الفردي، وتعزيز مناسبات العمل في زمر وفرائق، كما سبق أن ذكرنا، وذلك من أجل تنشيط التضامن بين طلاب الصف والتعاون بين الرفاق، تحقيقاً للنجاح الجماعي. وكثيراً ما يكون من الأسهل على الطالب الضعيف أن يفهم الشروح التي قدمها زميل له ذو دراية وعلم، بدلاً من الشروح التي يقدمها المعلم. ذلك أن مثل هذا الزميل الناجح قد تغلّب على الصعوبات التي يواجهها رفيقه الضعيف، ولذلك فهو قادر على أن يجد الشروح الأكثر ارتباطاً والأكثر ملاءمة لمقتضى الحال. زد على ذلك أن الجهود التي يقوم بها طالبٌ ذو دراية من أجل مساعده زميله تساعد الطالب القوي نفسه على تعزيز فهمه وتنظيم إدراكه للموضوع المطروح.
وقد قام “مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في بانغكوك” بتجارب ناجحة في هذا المجال، طبق من خلالها أنواعاً من التعاون المثمر بين الطلاب: كالمؤاخاة بين طلاب الصف الواحد أو الصفوف المتعددة، وكتعهد الكبير للصغير والقيام بضرب من الوصاية عليه والإرشاد له، وكاللجوء، في الصفوف ذات الأعداد الكبيرة بوجه خاص. إلى تقنيات التعليم المتبادل، على نحو ما طبق بنجاح، على سبيل المثال لا الحصر، في الفيلبين، في مادة الحساب، حيث تم تكليف الطلاب الأقوياء في الصف السادس الابتدائي بتعليم رفاقهم الضعاف خارج ساعات الصف.
وفي الجملة، لقد أثبتت التجارب جميعها، هنا وهناك في أنحاء العالم، أن اللجوء إلى تقنيات التعاون والتعليم المتبادل يقدم إسهاماً ممتازاً للعلاقة بين كلفة التربية وفعاليتها، بالإضافة إلى سهولة تطبيق هذه التقنيات نسبياً.
وكلنا يعلم أن التربية العربية الإسلامية قد عرفت ما يقرب من هذا النمط التعاوني خلال حقبة طويلة من الزمن، سواء في حلقات العلم، أو في المدارس “النظامية” بعد ظهورها وظهور المدارس التي نسجت على منوالها، أو حتى في “الكتاتيب”. كما عرفت التربية الحديثة منذ أواسط هذا القرن نظائر لمثل هذه التربية، تجلت بوجه خاص بنظام “عرفاء” الصف، وإن يكن هذا النظام قد أنشئ لأغراض إدارية أكثر منها تعليمية أو تربوية.
ويصف لنا تربوي هندي (يدعى سيلفا سلام تياعاراجان Silvasallam Thiagarajan، في مقال ظهر في عدد من مجلة “تقنيات التربية” منذ عام 1973، شكلاً من اشكال التربية المتبادلة (أطلق عليه اسم نظام، مادارس MADRAS”)، مبيناً نتائجه المثمرة لدى الطالب المعلّم والطالب المتعلم. ويصف لنا شكل عمل هذا النظام عبر المراحل الآنية التي يمر بها الطالب “راجا Raja”:
– “راجا” هذا الطالب، يتعلم بالاستعانة بمعلم مرشد محتوى وحدة من وحدات العمل. ثم يُجري طالب آخر ، يقوم بدور الفاحص له، اختباراً له حول مدى إتقانه لهذا المحتوى.
– ويصبح “راجا” بعد ذلك “مرشداً” وصياّ يعلّم طالباً آخر وحدة العمل التي أتقن تعلّمها. وعندما يكمل هذا التعليم، يأتي طالب آخر فيمتحن طالب “راجا” عن طريق الاختبار الخاص بوحدة العمل المدروسة.
– ثم يصبح “راجا” بدوره فاحصاً، يمتحن طفلاً كان “طالباً” لمرشد آخر، حول وحدة العمل المعينة.
ولا شك أن تبادل الأدوار على هذا النحو أمرٌ مفيد جداً لسببين أساسيين: أولهما أن يغني العلاقات فيما بين الطلاب، وثانيهما أنه يؤدي إلى تعزيز المعلومات والمعارف والمهارات.
4-6- وبالإضافة إلى التعليم المتبادل ودوره في معالجة مشكلات الأطفال الضعاف، فضلاً عن أدواره الأخرى، تلعب مواقف المعلمين تجاه الطلاب بوجه عام وتجاه الطلاب الضعاف بوجه خاص، دوراً حاسماً. فعندما يعتقد المعلم أن طالباً ما لا يصلح للتعلّم فإن فرص النجاح لدى مثل هذا الطالب لابد أن تصبح ضئيلة جداً.
وعلى العكس، عندما يراهن المعلم على قابليات الأطفال جميعهم، يصبح من الممكن أن يصل الطلاب المتخلفون أنفسهم إلى نتائج أفضل. وهكذا فإن الحكم الذي يصدره المعلم، والوصمة التي تسير على ألسن الرفاق، يؤثران تأثيراً أساسياً في سلوك الطالب، قبضاً وبسطاً. فإما أن يبعثا لديه الهمة والنشاط وإما أن يخمدا إمكانات تقدمه. وقد تكون فرص نجاح الطلاب أفضل إذا جعل المعلمون هدفاً لهم منذ البداية أن ينجح الطلاب جميعهم أو الكثرة الكاثرة منهم على أقل تقدير (حوالي 90% كما تنص بعض التوصيات الدولية). ولكي ينجح المعلمون في هذه المهمة لابد من تعديل استراتيجيات النجاح في المدرسة الأساسية، حيث ينصب اهتمام هذه الاستراتيجيات أولاً على تحديد معلومات التكوين تحديداً أفضل يعكس الحاجات الاجتماعية – الاقتصادية والثقافية الحقة، ويؤدي إلى تعديل تدريجي في مناهج الدراسة هدفه التقريب بين المدرسة من جانب وبين الطلاب والمجتمع من جانب آخر. وأحد المظاهر الهامة لاستراتيجيات النجاح معالجة التربية معالجة متعددة الأبعاد، تتم عن طريقها تنمية أبعاد شخصية الطفل المختلفة ويتم تجاوز الفواصل بين العمل الفكري والعمل اليدوي، كما سبق أن رأينا. ولعل مما يلخص هذا كله أن نقول: إن أي فشل للطالب في المدرسة يرجع في خاتمة المطاف إلى عجز المؤسسة المدرسية ونقصها. ولا يتحمل مسؤوليته الطالب نفسه.
4-7- وهذا كله يقودنا إلى ضرورة الأخذ بالتقويم المتعدد الأبعاد في مجال تقويم الطلاب. وقد عقدت في لشبونة – إستوريل Lisbonne Estoril “كما سبق أن ذكرنا” خلال شهر أيار/ مايو 1991، حلقة خاصة لبحث هذا الموضوع، موضوع تنويع أنماط تقويم أداء الطلاب، لا سيما عن طريق القيام بتقويم شامل يأخذ بعين الاعتبار ما يتجاوز المعرفة الذهنية. وقد أبرزت الحلقة الأوجه المتعددة لهذا التقويم الشامل، وتريثت عند الأمور التالية التي رأت أن تؤخذ بعين الاعتبار:
– تعدد أبعاد ميادين التقويم: كالتقويم المعرفي العقلي والتقويم الوجداني العاطفي والتقويم النفسي – الحركي. وداخل كل ميدان من هذه الميادين أبعاد اجتماعية – ثقافية، ولا سيما ميدان اللغة أو اللغات.
– تعدد أبعاد موضوعات التقويم: فهنالك تقويم ضروب التعلم المدرسية، سواء على شكل مكتسبات أو على شكل عمليات أو على شكل سبل تقود إلى الفهم (فهم الأخطاء وفهم الأفكار) . وهنالك تقويم إنجازات الطلاب، سواء تجلّت على شكل فردي أو من خلال العمل في فريق. وهنالك تقويم ما تمّ تعليمه في المدرسة وما تمّ اكتسابه خارجها، وانعكاسات ذلك على تعزيز الفوارق الراجعة إلى المنشأ الاجتماعي – الثقافي للطلاب.
– وهنالك تعدد أبعاد عمليات التقويم وأشكاله: فهنالك التقويم الذاتي أو الجماعي، وهنالك التقويم الداخلي، وهنالك التقويم البنائي (أثناء التكوين) والتقويم الختامي، وهنالك التقويم التشخيصي، وهنالك التقويم الوصفي، وهنالك التقويم المعياري (هل يستطيع “س” و “ع” مثلاً أن ينجزا “م” ؟)، وهنالك التقويم التفضيلي (هل ينجز “س” المهمة “م” أفضل من “ع”) إلخ …..
– وثمة تعدد أبعاد استخدام نتائج التقويم: كالاستخدام التربوي له (بواعث التعلم وتنظيمه) والاستخدام المدرسي المؤسسي (تقدم المتعلمين داخل النظام المدرسي، المساعدة على اخاذ قرار بشأن الطالب) وهنالك الاستخدام الجماعي (الشهادة الممنوحة وصلتها بسوق العمل)، إلخ…..
5 – خاتمة حول الاتجاهات المحدثة في مناهج التعليم الأساسي ومحتواه وطرائقه:
وبعد، تلك نظرة سريعة ألقيناها على أبرز الاتجاهات المحدثة المتصلة بتطوير مناهج التعليم الأساسي، استجابة للتغيرات القائمة والمتوقعة في عالمنا، ولمستلزمات التنمية الشاملة المستديمة. وقد اقتصرنا على الجوانب الأساسية، وأغفلنا جوانب أخرى قد يتجاوز البحث فيها حدود هذه الدراسة وتعاصرها.
وعلى رأس الجوانب التي كان علينا أن نشير إليها الارتباط القائم بين تحديث المناهج وتحديث الإدارة التربوية والمدرسية والاهتمام الخاص بتحديث مناهج التعليم. كذلك كان لزاماً علينا أن نقف وقفة خاصة عند ما تمنحه الاتجاهات التربوية المحدثة من اهتمام خاص بمعرفة الطفل معرفة علمية، وببناء التربية كلها بالتالي استناداً إلى ما تكشف عنه الدراسات المحدثة من جدائد في علم الفيزيولوجيا وعلم الأعصاب والبيولوجيا وعلم النفس، ومن انعكاسات ذلك على عملية “التعلم” لدى الطلاب في مرحلة التعليم الأساسي (وما قبلها)، وما يستلزمه ذلك كله من تطوير في المناهج ووسائلها. غير أن مثل هذا البحث الذي يقودنا إلى آفاق بعيدة، بحثٌ طوته الصحف ونفضته الأقلام. كما أننا لم نرد أن نفرد له جزءاً قائماً بذاته، وآثرنا أن نجعله مبثوثاً في أجزاء دراستنا كلها، حرصاً منا على الطابع الإجرائي العملي لهذه الدراسة. والحق إن كل ما ذكرنا من جدائد المناهج في التعليم الأساسي يتحلق، كما رأينا، حول مبدأ أساسي وهو، أن يكون الطالب مركز عملية التعلم”.
وقد ركزنا عن قصد في دراستنا – ما وسعنا ذلك – على الجوانب الإجرائية في تطوير المناهج محتوى وأنماطاً وطرائق. وقد قادنا ذلك أحياناً إلى بعض التكرار المفيد، لما هنالك من تداخل بين محتوى المناهج وأنماطها وأساليبها وعملياتها.
والحق أن كل ما ذكرناه حول جوانب المناهج المختلفة في التعليم الأساسي يتحلق حول محاور أساسية تكاد تمثّل رأس الرمح في السعي إلى تجديد تلك المناهج. ونخفّ إلى القول أن هذه المحاور ينبغي أن ينظر إليها على إنها محاور متكاملة وشاملة، وقيمتها في تآزرها وائتلاف أبعادها. وبدون هذا التآزر، قد يبدو للنظرة العاجلة أن بعض الاتجاهات المحدثة التي ذكرناها، اتجاهات عرفتها التربية منذ الربع الأول أو النصف الأول من هذا القرن على أبعد تقدير.
والحق إن هذه المحاور جميعاً، على نحو ما نجدها في الاتجاهات التربوية المحدثة، تصدر عن نظرة جديدة وعن تصور جذري محدث لمهمة التربية بوجه عام والتربية في مرحلة التعليم الأساسي بوجه خاص. ووراءها، كما قلنا في البداية، وكما نقول الآن، فلسفة تربوية جديدة متكاملة.
وأهم ما في هذه النظرة الجديدة المتكاملة:
النظرة الموسعة لدور المدرسة الأساسية – جعل الطالب محور المناهج الأساسية – تحقيق شعار “النجاح للجميع” – العناية بتكوين الاتجاهات والمواقف والكفاءات وإعادة ترتيب أهداف التربية في هذه المرحلة، ووضع لائحة بالكفاءات المطلوبة تلبي حاجات المجتمع وحاجات سوق العمل بوجه خاص – التمرس المبكر بالعلم والتقانة – ربط التعليم الأساسي “بالعمل المنتج” تحقيقاً للأهداف التربوية قبل سواها – تحقيق الترابط بين مواد المنهاج – تحديد “الحد الأدنى من التعلم” المطلوب (أو الجذع المشترك) – إعادة النظر في أهداف تقويم الطلاب وأنماطه ووسائله – التأكيد على أهمية “التفوق الاجتماعي” بدلاً من التفوق الفردي، وتشجيع التعاون والتضامن والعمل المشترك بأساليب مختلفة (ولا سيما عن طريق التعلم المتبادل). ولعل محور هذا كله أمور ثلاثة: ربط مناهج التعليم بالعمل وواقع الحياة – وتقديم مناهج قابلة للتكييف مع الظروف المتغيرة – وتنمية الكفاءات والقدرات والمواقف والاتجاهات الملائمة (بدلاً من تنمية المعارف وحدها).
وقد حاولنا كما قلنا أن نشفع كل اتجاه من الاتجاهات الحديثة التي أشرنا إليها بالوسائل الإجرائية اللازمة لإنفاذها.
(ثالثاً) الاتجاهات التربوية العالمية وتحديث التعليم الأساسي في الوطن العربي:
لا يندرج في نطاق دراستنا الحديث عن تحديث التعلم الأساسي في الوطن العربي، في ضوء الاتجاهات التربوية العالمية المحدثة. ومع ذلك رأينا من المفيد أن نمر مروراً سريعاً على أبرز ما يجدر بالدول العربية أن تؤكد عليه في التعليم الأساسي انطلاقاً من تلك الاتجاهات التربوية العالمية الحديثة (وكلها هام في حقيقة الأمر وكلها يعني الدول العربية).
ولا شك أن ما قلناه عن الاتجاهات العالمية المحدثة في مناهج التعليم الأساسي ينطبق على الوطن العربي. وما أشرنا إليه من ضروب التحديث المرجوة، في عالم التغير والتحول والتنمية المتزايدة في مشكلاتها وصعوباتها، يصدق على البلدان العربية بوجه عام، رغم القليل من الفوارق القائمة بينها بهذا الصدد.
1- وتبين الدراسة المقارنة للواقع العربي(8) في ميدان مناهج التعليم الأساسي أن الدول العربية تتجه في طريق تحديث هذه المناهج من خلال المنطلقات الآتية:
مدُّ مرحلة التعليم الأساسي (ثلاث سنوات بعد المرحلة الابتدائية أو أكثر في بعض الدول العربية) – التأكيد على ربط المدرسة بالعمل والإنتاج والبيئة – إدخال مواد جديدة (كالتربية السكانية والتربية البيئية والتربية الصحية) – إدخال التقنيات الحديثة في التعلم – تطوير مواد الدراسة، ولا سيما المواد العلمية، تطويراً يتناسب مع التغيرات السريعة في العصر.
2- ومع ذلك ما تزال معظم هذه الاتجاهات في كثير من البلدان العربية اتجاهات مأمولة تأخذ سبيلها إلى واقع المدرسة على مهل واستحياء غالباً. والعدد الكبير من الطلاب لا يجنون كل ما في وسعهم أن يجنوا من اختلافهم إلى المدرسة، وكثيراً ما يعود فريق منهم إلى الأمية إذا غادرها إلى الحياة في وقت مبكر. وما يزال تعميم التعليم الأساسي (حتى حين يتوقف عند المرحلة الابتدائية)مطلباً لم يتحقق إلا في بلدان عربية محدودة، وقد لا يصل إليه بعضها قبل أواخر الربع الأول من القرن القادم. أما “تعميم النجاح” في التعليم الأساسي فما يزال أمراً بعيد المنال. وما تزال الفوارق في التعليم الأساسي كماً ونوعاً قائمة إلى حد بعيد في كثير من البلدان العربية بين المدينة والريف والبادية، وبين المناطق المختلفة في كل بلد من البلدان، وبين الذكور والإناث، وبين الأغنياء والفقراء وبين الأسوياء وغير الأسوياء.
وبوجه خاص ما تزال السمة الأساسية التي تسم التعليم الأساسي، نعني الربط الوثيق بين التعليم وبين حاجات التنمية الشاملة، تبحث عن صيغ عملية لها في البلدان العربية المختلفة. وما يزال التعليم الأساسي مقصراً عن أن يقدم الحد الأدنى من التعليم اللازم للحياة في المجتمع ولسوق العمل، والقسط اللازم من المهارات الوظيفية العملية المرتبطة ببرامج التنمية. وما يزال بالتالي مقصراً عن أن يكون مرحلة أولى من مراحل التعليم المستمر مدى الحياة، يزود المتعلم بالكفاءات الملائمة وبالقدرة الذاتية على متابعة التعلم.
ويعني هذا أن التعليم الأساسي في معظم البلدان العربية ما يزال عاجزاً عن أن يحقق المعنى الأساسي الذي يحمله والذي وجد من أجله واستمد اسمه منه، نعني الارتباط الوثيق بينه وبين حاجات المجتمع “الأساسية” والبيئة المحيطة به، وأهداف التنمية الخاصة بكل منطقة وبكل قطر. وكثيراً ما عاد على أعقابه فكان مجرد تعليم عادي تقليدي تنتشر فيه بعض النشاطات العملية العابرة التي تظل على هامشه.
3- وهذه الحال ليست حال البلدان العربية وحدها، فهي سائدة في معظم البلدان النامية بل المتقدمة في بعض الأحيان.
ومن هنا جاءت الدعوة العالمية إلى النظر في مناهج التعليم الأساسي نظرة جديدة، وإلى أحداث تطوير فيها يصح أن نسميه جذرياً، كما سبق أن قلنا. وقد تجلت هذه الدعوة بوجه خاص، كما رأينا، في “المؤتمر العالمي من أجل التعليم للجميع” الذي عقد في “جوميتان” (تايلاند) بين الخامس والتاسع من آذار/ مارس 1990، وفي ما أعقب هذا المؤتمر من حلقات وندوات ودراسات ومنشورات فصّلت توصياته وأنعمت النظر في اتجاهاته. ولهذا انصبت دراستنا على رصد هذه الاتجاهات العالمية خلال مراحلها المختلفة، اعتقاداً منا أن تلك الاتجاهات من شأنها أن تفتح الطريق أمام أقطار الوطن العربي وسائر بلدان العالم من أجل توليد مناهج محدثة، تقوى على تسريع عملية التنمية الذاتية المستديمة في كل بلد، تبعاً لأوضاعه وحاجاته وخلفيته الثقافية، انطلاقاً من حقائق التنمية في العالم، ومن مطالب التغير السريع فيه، ولا سيما مطالب التغير العلمي والتقاني.
4- ومن هنا فإن البلدان العربية مدعوة إلى إعادة النظر في التعليم الأساسي وفي مناهجه بوجه خاص، انطلاقاً من الاتجاهات العالمية التي ذكرنا أهمها. ولعل أبرز الاتجاهات الجديرة باهتمام الدول العربية هي الاتجاهات التالية (التي نكتفي بذكر أهمها بإيجاز، بعد أن فصلنا الحديث عنها في الأجزاء السابقة في هذه الدراسة، متريثين عند ما يستجيب بوجه خاص لأوضاع البلاد العربية):
4-1- استخلاص النتائج الأساسية لمبدأ “تعميم النجاح” (بمعناه الكمي والنوعي)، والانطلاق منه عند بحث سائر عناصر تطوير مناهج التعليم الأساسي. فلقد اكتفت معظم البلدان العربية حتى اليوم في أحسن الأحوال، بفتح باب المدرسة على مصراعيها للجميع. وهذا الإنجاز على أهميته الكبرى، يفسده بل يحول دون إكماله، ما يقع من تسرب وهدر عبر هذه المرحلة من التعليم، ويفقد شأنه وتأثيره في المجتمع تقتصر المستوى النوعي للمناهج ومحتواها ووسائلها عن أن تعد الإنسان الملائم للمجتمع العربي المنشود. فالتعليم الذي يمكن أن يعد توظيفاً واستثماراً منتجاً ومتئماً للأموال والموارد ليس أي نوع من التعليم. والتعليم المقصر عن أغراضه وعن المستوى النوعي المطلوب وعن تلبية مطالب المجتمع المتجددة، يسير حكماً في عكس اتجاه التوظيف المثمر للموارد، ويؤدي بالضرورة إلى الضياع والهدر.
4-2- العمل، على مستوى كل قطر عربي وعلى مستوى العمل العربي المشترك، على وضع المناهج وتطبيق الطرائق المؤدية إلى تحويل المواد المدرسية إلى كفاءات عملية وإلى مواقف واتجاهات، والاهتمام بتحديد هذه الكفاءات المختلفة. وقد بينا في الجزء السابق بعض الوسائل التي يمكن الأخذ بها في هذا الشأن. ويظل جوهر الأمر أن يتغير أولاً مواقف السلطات التربوية والعاملين في التربية، بحيث يصبح هذا “الانقلاب الكوبرنيكي” في النظرة إلى التربية جزءاً لا يتجزأ من تكوينهم ومعتقداتهم وهمومهم. فكثيراً ما يتم الاكتفاء في هذا الشأن بذكر الشعار أو تكراره أو التصفيق له. ولا بد من تجاوز الهوة بين المبدأ والتطبيق بشتى الوسائل، وعلى رأسها إعادة تدريب العاملين في التعليم على مختلف مستوياتهم على وفاق مع الأغراض الجديدة، والتحديد العملي الإجرائي للكفاءات العملية وللمواقف والاتجاهات المطلوبة، ورسم سبل تحقيقها.
4-3- استخراج النتائج التي تلزم عن الأخذ بمبدأ “تكيف التعليم الأساسي مع التغير وتكييف الطالب معه”. وهذا المبدأ محمل بنتائج غنية وضخمة ومتعددة. وأهم ما فيه أنه المرجو من وضع التعليم في البلاد العربية على طريق العصر والمستقبل. وههنا أيضاً ينبغي ألاّ نمنح للألفاظ قيمة سحرية. فالهام في هذا المبدأ ليس تقريره والإشادة به، بل رسم السبل العملية، ولا سيما في المناهج، من أجل وضعه موضع التنفيذ. وقد أشرنا إلى بعضها في الجزء السابق.
وقد يكون من الأمور التي تستحق وقفة خاصة من البلدان العربية، دراسة المحتويات والوسائل المؤدية إلى التمرس بالعلم والتقانة منذ نعومة الأظفار (منذ مرحلة الرياض بل قبلها) وثمة تجارب علمية وعملية في هذا الباب يمكن اقتباسها.
ومما تفيده الدول العربية من مبدأ “تغير المدرسة مع التغير” جملة من النتائج التي تلزم عنه فيما يتصل بالمواقف والاتجاهات التي تتوجب العناية بها في المناهج وطرائق التعليم، وعلى رأسها تعويد الطلاب على ابتكار الحلول والأفكار، وتدريبهم على الاستقلال وروح المبادرة، والعناية بكل ما يفتّق الإبداع، وبكل ما من شأنه أن يجعل التربية قادرة على تخريج “منتجين للعمل” بدلاً من “العاطلين عن العمل”.
وهذا المطلب يكتسب شأناً خاصة في مجتمع عربي ما تزال روح المحافظة والاتباع غالبة عليه.
وينبثق عن هذا الاتجاه اتجاه آخر هو تحقيق المرونة في مناهج التعليم، ومنح هامش من التصرف للمدارس نفسها وللسلطات التربوية المحلية. وهكذا الاتجاه أيضاً ذو شأن خاص في البلدان العربية (شأن كثير من البلدان النامية) حيث تسود “النمطية” و “التقليد” و “النمذجة” في التربية وسواها، وحيث يضيق هامش الحرية والتجديد، وحيث تشتد قبضة السلطات التربوية المركزية ويضيق الهامش المتاح للسلطات المحلية أو المدارس في معظم الأحيان.
4-4- الاهتمام الجاد والفعلي بالربط بين المدرسة وبين عالم العمل والإنتاج، والتغلب على التعارض بين أهداف المدرسة وأهداف الإنتاج.
ويأخذ هذا أشكالاً عديدة أشرنا إلى بعضها. ولعل أبرزها وأهمها بالقياس إلى البلاد العربية، إدخال العمل اليدوي والحرفي في التعليم الأساسي، على أن يكون جزءاً لا يتجزأ من مواد الدراسة المختلفة. وهذا المطلب ذو شأن خاص في المجتمع العربي الذي ما يزال يحمل بقايا النظرة الشائعة إلى المهنة والحرفة والعمل اليدوي، والذي ما تزال بعض بقاعه تعتبر “المهنة امتهاناً”، وتَرذُل العمل الحرفي، وما تزال آثار المجتمع العربي القبلي القديم باقية في الواقع أو في العقول والنفوس، تذكرنا بهجاء الفرزدق جريراً ووصفه بأنه “القين وابن القين”.
4-5- على أن هذا كله لا يستقيم بدون التعاون مع المجتمع، وقد تعطله مقاومة المجتمع له. ومن هنا لابد من إقامة “شراكة” فعلية بين المدرسة والمجتمع المحلي بوجه خاص والمجتمع بوجه عام، من أجل تحقيق ما أتينا على ذكره من اتجاهات محدثة في مناهج التعليم الأساسي. وبتعبير آخر لابدّ من النظر إلى التعليم الأساسي على أنه “شأن الجميع”.
وتأخذ هذه “الشراكة” أشكالاً عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أهمها: إعداد الطفل للمدرسة (قبل دخول التعليم الإلزامي بل قبل دخول رياض الأطفال) عن طريق الأسرة (بالمعنى الواسع للكلمة) – ومشاركة الآباء والأمهات في حياة المدرسة وبعض نشاطاتها – والتعاون بين الآباء والمعلمين – بل تعبئة المجتمع المحلي بمؤسساته المختلفة من أجل تفهم عمل المدرسة ورفد تعزيزه، ولا سيما فيما يتصل بالنشاطات التي تربط بين المدرسة والعمل والإنتاج. هذا بالإضافة إلى مشاركة المجتمع المحلي في تمويل بعض نفقات التعليم (ولا سيما في مجال الأبنية المدرسية) كما يحدث في كثير من البلدان العربية.
4-6- وهذا ما ينقلنا إلى اتجاه هام أخير، تؤكد عليه الدراسات العالمية، وتحرص الدول العربية أن تمنحه شأناً خاصاً، نعني التأكيد على التفاعل والتآخذ بين المناهج التربوية والعملية التربوية جملة، وبين الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة (بمعنى سائر أنماط السلوك المادي والمعنوي السائدة في مجتمع من المجتمعات والتي تميزه عن سواه).
وقد غدا من المكرور اليوم (والعالم يكمل العقد العالمي لتنمية الثقافة 1988 – 1997) التأكيد على الدور الميسر أو المعطل الذي تلعبه ثقافة أي أمة في مجال التربية وتجديدها (بل في شتى مجالات التنمية). ولا شك أن السياق الثقافي في أي بلد ذو شأن خاص في تصور المناهج وبناء أهدافها وتحديد محتوياتها.
وقد بينت دراسات عديدة في مختلف أرجاء العالم أن القيم والمواقف الثقافية السائدة في المجتمع في أي بلد من البلدان تحكم إلى حد بعيد إمكانات التغير والتغيير في شتى المجالات، وتكاد تكون “رافعة” النمو أو “خافضته” تبعاً لطبيعتها وقيمتها ومدى قدرتها على التجدد. فالاتجاهات العالمية في العقود الأخيرة (ولا سيما بعد مؤتمر المكسيك حول السياسات الثقافية الذي عقد عام 1982) قد انتهت إلى تقرير حقيقة لا جدال فيها وهي أن “الثقافة أداة التنمية وهدفها في آن واحد”. ولا شك أن هذه الحقيقة تعني الوطن العربي بوجه خاص، حامل الثقافة العريقة التي اختلطت بالتخلف الذي أصاب الثقافة كما أصاب غيرها، بعد انحدار الحضارة العربية الإسلامية، والذي كاد بفقدها حيويتها وقدرتها على التقدم.
وليس هدفنا أن نخوض في هذا الموضوع الذي طرقته الأفلام منذ نيف ومائة عام وما تزال مشغولة به حتى اليوم. غير أنه لزاماً علينا أن نختم تطلعاتنا المتصلة بتجديد مناهج التعليم الإلزامي في الوطن العربي، بالتذكير دوماً وأبداً بأن أي تجديد تربوي حقيقي لا يمكن أن يتم في الوطن العربي إلا إذا سار جنباً إلى جنب مع تجديد الثقافة العربية الإسلامية من خلال منطلقاتها الأصلية، ومن خلال الربط بين هذه المنطلقات وبين حاجات العصر حاضراً ومستقبلاً. فالتربية في أي بلد، وفي البلدان العربية بوجه خاص، لا تستطيع أن تعمل وحدها ولا تستطيع أن تغير المجتمع. صحيح أنها ليست خاضعة للمجتمع خضوعاً مطلقاً وأن من مهماتها تطويره. ولكن من الصحيح كذلك أنها كثيراً ما تعيد توليد النظام الاجتماعي الذي ولّدها، كما تبين دراسات بعض المربين الفرنسيين بوجه خاص. ولا يستقيم الأمر إلا عن طريق تجديد مزدوج ملتحم، في التربية وفي ثقافة المجتمع في آن واحد.
ولا يعني هذا أننا نختم هذه الدراسة بنظرة لا تخلو من شكوك. بل الأمر على عكس ذلك. ذلك أن تجاهل المشكلة لا يعني حلها. وإجادة طرح المشكلة نصف الحل. كما يقول المثل اللاتيني. وإذا أردنا حقاً للتربية في البلاد العربية أن تفلح، وإذا ما أردنا للمناهج أن تتجدد، فلابد من السير بخطى متوازنة ومتكاملة في طريق تجديد الثقافة (عن طريق تجديد التربية وسواها) وفي طريق تجديد التربية (عن طريق تجديد الثقافة وسواها). فكل مرتبط بكل. وهل في وسعنا، من قبيل المثال لا الحصر، أن نربط التعليم الأساسي بالعمل والإنتاج إذا لم تتغير مواقف الناس واتجاهاتهم وإذا لم تقتلع من نفوسهم الجذور الثقافية التي تحقر العمل اليدوي، كما سبق أن ذكرنا؟ وهل في وسع المدرسة، كما تدعو إلى ذلك الاتجاهات الحديثة التي تحدثنا عنها، أن تشيع روح التعاون والتضامن والتآخي والعمل الجماعي في مناهج التعليم الأساسي وطرائقه، إذا لم تسعفها الثقافة السائدة في المجتمع، وإذا لم تجدد هذه الثقافة ذاتها عن طريق بث الجهود اللازمة على مختلف المستويات من أجل جعل هذه الثقافة ثقافة تآخ وتعاضد بدلاً من أن تكون ثقافة تنافس وتصارع وعصبية فردية وجماعية؟ وعندما ندعو إلى مناهج جديدة قوامها وصلبها أن نمنح المكانة للكفاءات والمهارات والمواقف بدلاً من المعارف، أفلا ندخل حَرَم الثقافة ونشترط بالتالي تجديد هذه الثقافة؟
إن هوية أي أمة قوامها الثقافة. ولكن هذه الهوية تبنى وتتطور وتحيا وتغتني مع الزمن، ولا تكتشف كاملة “كما تكتشف الجوزة القابعة في قشرتها” على حد تعبير “ويليام جيمس” وبناؤها لا يتم إلا بجهد مشترك بين الثقافة والتربية، من اجل تجديدهما معاً. وإذا لم يكن ثمة هدف للتربية غير المزيد من التربية، على حد تعبير “ديوي” فلا هدف للثقافة إلا المزيد من الثقافة. وقد استطاعت الحضارة العربية الإسلامية أن تجدد نفسها باستمرار في عصورها الزاهرة، بفضل تمازج الثقافات بوجه خاص ودمج الثقافات الأخرى في إطار بنيانها الثقافي الأصيل. وهي اليوم مدعوة إلى تجديد ذاتها، من خلال منطلقاتها، في ضوء حاجاتها الحاضرة والمقبلة وفي ضوء مستلزمات حفاظها على ذاتها حية فعالة وسط أعاصير التغير العالمي، ومستلزمات التقدم.
في 23/6/1996
عبد الله عبد الدائم