العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات

مجلة المستقبل العربي – العدد /203/ – 1996

العرب والعالم
بين صدام الثقافات وحوار الثقافات

عبد الله عبد الدائم
عضو مجلس أمناء
مركز دراسات الوحدة العربية
مدخل
لم تكن نهاية الحرب الباردة، كما يدّعي الكاتب الأمريكي فوكوياما (Fukuyama) ونظائره، «نهاية التاريخ» (وهو تعبير استخدمه هيغل من قبل)، بل يتضح يوماً بعد يوم أنها كانت «بدايته». لقد كانت بداية «تيه» جديد، كادت تضلّ فيه الإنسانية طريقها وتفقد ضوابطها، بل كادت تتنكب الطريق المؤدية إلى عالم تتنامى فيه الإنسانية ويسعى من أجل بناء كيان عالمي هدفه الإنسان واحترامه وتحقيق المزيد من سعادته. والشر لم يذهب من العالم بعد ذهاب «الشيطان»، كما ادّعت وتدّعي الولايات المتحدة، بل استشرى، واشتد عوده، وعمّت بلواه.
أولاً: العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي
لقد سادت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما نعلم جميعاً، حال من البُحران والضياع و«فقدان الوزن» والفوضى، لعلها كانت طبيعية في البداية. فنهاية الحرب الباردة قلبت قواعد اللعبة السياسية التي سادت بعد عام 1945، وجعلت أسس النظام الغربي بمختلف وجوهها، تلك الأسس التي بُنيت من منطلق محاربة الشيطان الأكبر، في حال من الضياع والعطالة، في انتظار توليد المهمات الجديدة التي ينبغي عليها أن تضطلع بها. غير أن هذا الضياع لم يؤدِّ إلى البحث عن مخرج منه جادّ، مخرج يعمل على تثبيت القيم الإنسانية، قيم الحق والحرية والعدالة والمساواة، التي كان الاتحاد السوفياتي متهماً بالتنكر لها، بل أدى، على العكس من ذلك، إلى الانزلاق تدريجياً، عن عمدٍ غالباً وعن غير عمد أحياناً، نحو ولادة أبالسة شديدة البأس، أبالسة القوة والسيطرة وعبادة المال. وكأن النظام الرأسمالي قد كشف، بعد زوال الاتحاد السوفياتي، عن أسوأ وجوهه، بل كأنه اعتبر زوال الاتحاد السوفياتي فرصة ومبرراً للعودة إلى أشد أشكاله تطرفاً وأكثرها ضراوة وعنفاً في محاربة القيم الإنسانية. وبعد أن كان الكثيرون يتوقعون، قبل زوال الاتحاد السوفياتي، مزيداً من التقارب بين النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي من أجل توليد نظام يكاد يكون مؤلِّفاً بينهما، أدى الأمر، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى ما يشبه نسيان الغرب، والنظام الرأسمالي معه، كل دروس التجربة السابقة وما توحي به من ضرورة البحث عن نظام عالمي، يحقق ما عجز الإنسان عن تحقيقه عبر العصور، نعني الجمع بين العدالة بمعانيها كلها وبين الحرية بآفاقها وأبعادها كلها. وهذا ما عنيناه عندما قلنا منذ مطلع هذا البحث إن نهاية الحرب الباردة تمثل «بداية» للتاريخ لا «نهاية». فلقد زعم القائلون بنهاية التاريخ بعد انتهاء الحرب الباردة أن زوال الاتحاد السوفياتي يؤدي سهواً رهواً إلى سيطرة القيم الإنسانية التي جهد الإنسان إلى بنائها عبر التاريخ، وعلى رأسها قيم الحرية وما يتحلق حولها، وأن العالم لم يعد في حاجة إلى المزيد من تطوير هذه القيم أو إلى توليد قيم إنسانية جديدة محدثة، وأن الايديولوجيا الإنسانية المأمولة قد تحققت ولم يعد هنالك مجال لأي بحث ايديولوجي، وأن كل مطلب إنساني قد تم في أحسن العوالم الممكنة. غير أن مسيرة العالم، على نحو ما تطورت بعد نهاية الحرب الباردة، كذّبت مثل هذه الأقوال والآمال، وبيّنت أن معركة البحث عن نظام عالمي إنساني حقاً لا بد من أن تنطلق حادة جادّة، بعد أن نسي العالم تجاربه السابقة أو تناساها، وبعد أن قاده النجاح إلى الانطلاق نحو توليد عالم أبعد ما يكون عن القيم الإنسانية الحقة، عالم يسوده الصراع في كل ميدان: في ميدان المال والاقتصاد، وفي ميدان العلم والتقانة (التكنولوجيا)، وفي ميدان الدين والمعتقد، وفي ميدان الثقافة، وسوى تلك من الميادين؛ عالمٍ قائم، بوجيز العبارة، على التصارع بين القوى، بدلاً من أن يقوم على توازن قوامه العدل والحق والقانون.
ثانياً: الواقع العالمي اليائس
أدى هذا الواقع العالمي المتصارع، الظالم نفسه وسواه، إلى شعور لدى أبناء البشر، يكاد يكون شاملاً، قوامه اليأس الذي يحاول البحث عن مخرج فلا يجده. وقد لا نغلو إذا قلنا إن ما يشكو منه أبناء العالم اليوم هو «غياب الحضور»، على حد تعبير الفيلسوف الألماني هيدغر، أي غياب أي مؤشر يشير إلى المخرج الذي يقود العالم إلى الانطلاق نحو بناء عالم إنساني جدير بهذا الوصف.
ومن المهم أن نذكر أن هذا العالم الممعن في الضلال، بسبب «غياب الحضور» هذا، تصيب آثاره الشريرة شعوب العالم جميعها، من متقدمة ونامية، ومن مهيمنة وخاضعة، ومن غنية وفقيرة، ولكن بأشكال متباينة. وهذه الآثار الشريرة تنذر بالمزيد، بل لعلها تنذر بما يشبه الانتحار الجماعي، إن لم يتحقق «حضور» إنساني جديد. فهنالك الصراعات بين الدول المتقدمة نفسها، بشتى صورها، ولا سيما في المجال الاقتصادي. وهنالك الحرب السافرة أو المستترة بين الدول المتقدمة والدول النامية. وهنالك الصراعات الإثنية والعرقية والدينية في مختلف بقاع العالم. وهنالك داخل الدول المتقدمة صراعات لا حصر لها تكاد تفتتها وتمزقها: بين العروق والإثنيات والقوميات والأديان، وبين الفقراء والأغنياء، وبين ذوي الجاه والمهمَّشين والمعزولين والمهملين، وبين الشيوخ والشبان، وبين أبناء البلاد والمهاجرين إليها،… الخ. وهي كلها صراعات تأخذ طابعاً حاداً ومرعباً لم تعرفه من قبل. وهنالك الصراعات في ما بين الدول المتقدمة نفسها، على مختلف أشكالها، وهي صراعات تنبئ بتمزقات كبرى في كيان العالم المتقدم وسواه. وهنالك منازع الهييمنة والسيطرة والشوفينية والعداء التي تشتد ضراوة، والتي تزيد العداء والكراهية بين الدول وبين بني البشر وتجعل الإنسان «ذئباً على أخيه الإنسان»، على حد تعبير هوبس.
ومن أجل الخروج من هذا المنحدر، تتبدى في الأفق العالمي منحدرات أخطر، على رأسها منحدران: منحدر العداء للقومية ومنحدر العداء للإسلام.
ثالثاً: العداء للقومية
أما العداء للقومية، فظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه الضلال. وهو ينطلق في الأصل من منطلق سليم، قوامه رفض بعض التجارب القومية الماضية والحاضرة التي شوهت معنى الرابطة القومية، حين جعلت منها رديفاً للتعصب والشوفينية وكراهية الشعوب الأخرى ومعاداتها، بل السيطرة عليها أحياناً، أو التي جعلت منها عامل تفتيت وتمزيق بدلاً من أن تكون عامل جمع وتوحيد. غير أن هذا العداء «يلقي بالطفل مع ماء الحمّام»، على حد تعبير المثل الفرنسي. فلئن حملت بعض الدعوات القومية وبعض ممارساتها في الماضي معنى العدوان والغلبة والتفوق على سواها، فهذا لا يعني أن مثل هذه المعاني من صلب الفكرة القومية وجوهرها. وقد أصبح بدهياً اليوم أن الدعوات القومية، ولا سيما في بلدان العالم الثالث والبلدان التي خضعت للاستعمار، تعني شيئاً واحداً هو الاستقلال القومي والبناء الحضاري المنبثق من هويات الشعوب وخصائصها المميزة في تفاعلها مع الحضارة العالمية. كما أصبح بدهياً أن الدعوة القومية دعوة إنسانية، بل هي الدعوة الإنسانية الحقة، وأنها تنطلق من تفاعل الحضارات بمقوماتها الذاتية المتباينة من أجل إغناء الحضارة العالمية، ومن أجل بناء عالم إنساني مكوّن من قوميات متآخية متعاونة. على أن المحال ههنا لا يتسع للحديث عن الفكرة القومية وللرد على التهم المتزايدة التي توجَّه إليها اليوم. وقد قيل وكتب في هذا كثير الكثير. وحسبنا أن نقول إن زوال القوميات ليس هو العلاج المرجو لبناء عالم إنساني متآزر، بل العكس هو الصحيح. هذا فضلاً عن أن زوال القوميات وامّحاء الروح القومية أمرٌ غير ممكن. وقد كشف الكثير من الدراسات التي ظهرت في السنوات الأخيرة عن أن الايديولوجيا القومية هي الايديولوجيا الوحيدة التي استطاعت أن تصمد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. من هنا فالمطلوب هو البحث عن صيغة جديدة متطورة «للقومية» في إطار البحث عن عالم إنساني أفضل، تجعل من استمساك الشعوب بهويتها الثقافية أداة للثقافة العالمية، وتجعل من تباين الثقافات منطلقاً لحوار خصيب بدلاً من أن يكون مصدراً للنزاع والعدوان. وسنتحدث عن هذه الصيغة الجديدة لاحقاً.
رابعاً: معاداة الإسلام
أما المنحدر الثاني الذي ينحدر إليه العالم المتقدم ظناً منه أنه يجد فيه المخرج المرجو للنظام العالمي، كما ذكرنا، فهو منحدر معاداة الإسلام. وهذا المنحدر هو الأخطر والأدهى. بل إنه، بالإضافة إلى معاداة المبدأ القومي، يكشف عن الأعماق الحقيقية للأزمة العالمية والضياع العالمي. إنه يبين، كما سنرى في ما بعد، أن جوهر تلك الأزمة وذلك الضياع جوهر ذو منشأ ثقافي قبل أن يكون ذا منشأ اقتصادي أو ايديولوجي.
فالثقافة الغربية، كما نعلم، محمَّلة منذ القدم بأوهام كثيرة تجعل من الإسلام عدواً تاريخياً وتقليدياً للغرب. ومن الخطأ اعتبار هذه الأوهام ذات مصدر ديني فحسب. فلقد أضيفت إلى العامل الديني على مر الأيام عوامل سياسية واقتصادية زادت في أثر هذا العامل الديني، بل شوهته وجعلته يتخذ شكل «خرافة» ضخمة وفعّالة، تقرّ في أعماق الوعي الغربي، وتنبثق كالحمم كلما توافر ما يحرّكها ومن يحرّكها.
وقد وجدت هذه «الخرافة» فرصتها الذهبية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من خلال البحث عن «شيطان» جديد لا بد منه، يحل محل الشيطان القديم الذي ترك وراءه «فراغاً عدوانياً»
لا مناص من ردمه. وكلنا يعلم أن «الذات» تجد نفسها عن طريق «الآخر». وبحث الغرب عن «آخر» يواجهه ويقاومه ويشعر بذاته من خلال الصدام معه والارتطام به، كان واضحاً منذ الأيام الأولى لسقوط جدار الارتطام القديم. ونحن نعلم، والعالم يعلم، أن الإسلام مثّل في نظر الغرب، منذ قرون عديدة، دور «الآخر» (ذلك «الآخر» الذي يقول عنه جان بول سارتر «إنه الجحيم»)، سواء لدى الكنيسة أو لدى أبناء النهضة الأوروبية ابتداء من القرن السادس عشر، أو لدى الكثير من المستشرقين، أو لدى فلاسفة التاريخ، وذلك من خلال فكرة «المركزية الأوروبية» التي اعتبرت الغرب محور العالم ومصيره المأمول.
وهكذا وجد العالم المتقدم، من جديد، في العالم الإسلامي، البديلَ العدواني للاتحاد السوفياتي، وبدأت «الخرافة» القديمة بالانبثاق والظهور، وبدأت عمليات «النسج الخرافي» تلفّ الإسلام، لا لتظهره على أنه «الآخر» فحسب، بل لتظهره على أنه «الوجه المناقض» للتقدم، والإرث المعادي لمسيرة الحضارة.
ونقول عابرين إن هذه النظرة الغربية «الكارهة» للإسلام وللثقافة العربية الإسلامية، بسبب توالد هذا النسج الخرافي وتكاثره خلال قرون طويلة، كان من الممكن أن تتغير وأن تتحول مع الزمن إلى نظرة «إيجابية» واقعية، لولا الجهد الموصول الذي بذلته الصهيونية العالمية من أجل تشويه هذه الصورة دوماً وأبداً، ومن أجل «تسميم» الأجواء بين الغرب وبين العرب والمسلمين. على أن هذا «التشويه» الذي قامت به الصهيونية منذ نيف وقرن مهّد له «الكيد» العريق القديم الذي كادته اليهودية ضد الإسلام منذ نشأته وفي العصور التالية (ولا سيما في الأندلس).
ولا حاجة إلى القول إن موقف الغرب المعلن أو المضمر هذا تجاه الإسلام منذ البداية، قد ولّد بدوره في العالم الإسلامي ردود فعل طبيعية حيناً، ومُغالية حيناً آخر، بحيث أدت عمليات الفعل ورد الفعل المتراكمة والمتعاظمة إلى أن يصدّق الغرب مزاعمه الأصلية ويؤمن بصحة تخيّره شيطانه، وإلى أن تتكاثر في العالم الإسلامي، من جانب آخر، الأعمال العدوانية تجاه الغرب، وهكذا دواليك.
ولن نخوض في تفاصيل هذه المعركة المصطنعة بين الغرب وبين الإسلام، فمعالمها واضحة ونتائجها تأتينا كل يوم بنبأ. وحسبنا أن نعود فنذكّر، تأكيداً لخطورة المعركة، بأنها تقوم لدى الغرب انطلاقاً من مصدرين محمَّلين بأخطر عوامل الانفجار: نعني العداوة التاريخية للإسلام التي اتخذت، كما ذكرنا شكل «الخرافة» الولود المحمَّلة بالعوامل الدينية والسياسية والاقتصادية وسواها، ثم الحاجة إلى إحلال «شيطان» قديم جديد مكان الشيطان المفقود. كذلك
لا بد من أن نذكر، تأكيداً لخطورة المعركة كذلك، أنها تنطلق في العالم الإسلامي من مصدرين خطيرين متفجرين كذلك: إدراك الارتباط العريق بين الغرب واستعمار الشعوب وما يلحق بذلك من تطويح بالحق والعدالة، ومن إفقار للعالم الثالث والحيلولة بينه وبين التقدم، ومن محاربة للإسلام بوجه خاص، ثم العدوان المستمر على العالم الإسلامي، قبل الاستعمار وأيام الاستعمار وبعده، ذلك العدوان الذي يمثله على نحو صارخ دعم الغرب المستمر للصهيونية وإسرائيل. وإدراك منابع هذه المعركة التي يشتد أوارها بين الغرب والإسلام من شأنه أن يكشف عما سوف يتعرض له كلاهما لا محالة من سوء ومن كوارث ضخمة إذا لم تعمل الإنسانية جاهدة مجتمعة – من خلال الجهد الثقافي بوجه خاص، كما سنبين – من أجل إزالة فتيل هذه القنبلة. وهو يكشف، على أية حال، عن ضلال هذا المنحدر الذي انحدر إليه الغرب ظاناً أن فيه خلاصه.
خامساً: مشكلة النظام العالمي مشكلة ذات منشأ ثقافي
هذا كله يقودنا إلى صلب المسألة وقلب مشكلة النظام العالمي. فالمشكلة العالمية الحالية، كما قلنا ونقول، ذات منشأ ثقافي أولاً وقبل كل شيء. ومن الخطأ اعتبار الصراعات العالمية القائمة، والتي سوف تقوم، صراعات ايديولوجية أو اقتصادية بالدرجة الأولى. والانقسامات العالمية المقبلة، كما تدل تباشيرها، سوف تكون، أولاً وقبل كل شيء، صراعات ثقافية المصدر، إن لم تعمل الإنسانية منذ اليوم على اجتنابها. و «تصادم الحضارات» هو الذي سوف يسود السياسة العالمية، على حد تعبير هانتينغتون (S.Huntington) (في مقال له في مجلة فورِن أفيرز (Foreign Affairs) صيف عام 1993)، إن هي تابعت مسيرتها الحالية وأمعنت في الدروب التي انتهجتها حتى الآن. وقد ورد في ذلك المقال المهم، الذي نأخذ عليه مع ذلك مآخذ كثيرة، نص جدير بأن ننقله كاملاً. يقول الكاتب (وهو مدير لمعهد جون إيلين (John N. Elin) للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفرد في الولايات المتحدة): «إن شعور الانتماء إلى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالمَ إلى حد كبير التفاعلُ بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات الآتية: الحضارات الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة السلافية – الأورثوذكسية، والحضارة اللاتينية – الأمريكية، وربما الحضارة الافريقية. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات».
ولا يعنينا هنا ما لقيه ذلك المقال من نقد وتجريح ومن اتهام بتبسيط الأمور. كما أنه لا يعنينا الآن أن نبين حدوده وثغراته في نظرنا. والذي يعنينا منه أمران: أولهما أن نذكر أن النتيجة الأساسية التي أراد أن يخلص إليها هي دعوة العالم، ولا سيما الغرب، إلى مقاومة «الهجمة الإسلامية»، على حد تعبيره، وأنه عزز بذلك مواقف كثير من الكتاب الشوفينيين في الولايات المتحدة وفي أوروبا، وأيد مزاعمهم التي ترى في الإسلام «العدو الشامل والكامل» للغرب.
والأمر الثاني الذي يعنينا من هذا المقال هو أن ما جاء فيه حول صراع الحضارات (أياً كانت تلك الحضارات) نبوءة سوف تصدق في أغلب الظن إذا تابع العالم مسيرته الحالية، ولم يستخلص من صراع الحضارات الذي بدت بوادره الدروسَ اللازمة لتحويل هذا الصراع إلى حوار بين الحضارات. والكارثة، كارثة الصراع بين الحضارات، لا بد واقعة إذا ظل العالم على عناده، وظل يمشي مشيته القديمة التقليدية، كأن شيئاً لم يكن. أوَلَم يردّ بعض خصوم هانتينغتون على أقواله بطرح مقولات أدهى وأمر، تحمل معها معالم غطرسة الأقوياء، كقول بعضهم إن الذي سوف يسود في المستقبل هو حضارة واحدة ووحيدة، هي الحضارة الرأسمالية الغربية، وإن الصراعات القادمة لن تكون سوى حروب أهلية من طراز جديد؟ ويضيف هؤلاء أن الحضارة العالمية الشاملة التي سوف تبزغ لن يكون فيها صراع بين القوميات أو بين الحضارات، بل صراعات ناجمة عن عدم المساواة (فقط) تزداد شدة وحدّة بين المبعدين والمقربين، وبين المهملين وأسياد العالم الجدد!
ومثل هذا العَود المرضيّ إلى منطق سيطرة الغرب على المعمورة وسيادته إياها، هو، في نظرنا، مقتل الحضارة العالمية، وأخطر ما تتعرض له في مسيرتها نحو المستقبل.
سادساً: مخاطر الدعوة إلى ثقافة عالمية وحيدة
الحق، إن الدعوة إلى ثقافة عالمية واحدة ووحيدة، هي ثقافة الغرب، بل ثقافة أكثر دول الغرب قوة، نعني الولايات المتحدة، هي مسألة المسائل في أزمة النظام العالمي ومستقبله. ولطالما استنكر المفكرون في العالم الثالث بوجه خاص، بل في العالم المتقدم أيضاً ولا سيما في أوروبا، الدعوة إلى هيمنة الثقافة الأمريكية وطراز الحياة الأمريكي على العالم، مبينين ما في ذلك من اغتيال للعقول والنفوس، ومعاداة بالتالي لمبادئ الحرية، ومتحدثين بوجه خاص عن مخاطر «تسطيح» الثقافة العالمية وصياغتها على نمط واحد وشاكلة واحدة، بدلاً من إغنائها بأنماط الثقافات المختلفة. وقد أنكر هؤلاء المفكرون في ما أنكروا أن تكون في العالم ثقافة نموذجية واحدة، تعتبر قدوة لسواها، ويتوجب على الثقافات الأخرى أن تلهث للّحاق بها، مخافة أن تصبح متخلّفة.
ولعل ما نشهد كل يوم أمام أعيننا من تجريح الغرب للإسلام وثقافته، أبلغ دليل على مخاطر هذا المنزع الثقافي الداعي إلى ثقافة عالمية وحيدة الوجه واللسان. بل لعل أهم ما يكشف عن تهافت هذه الدعوة ما نجده في الثقافة الأمريكية بوجه خاص، من آفات وعلل نفسية وخلقية واجتماعية تكاد تودي بتضامن المجتمع فيها وتحطم وحدته وتهيئه للتفكك والانحلال.
سابعاً: تفاعل الثقافات هو المخرج
لا يعني هذا أننا نقول بتفوق ثقافة على ثقافة. فالثقافات كطباع الأفراد لا تصدق عليها أحكام القيم. ولكل منها سماته وملامحه التي تجعل الفرد يفقد ذاته إن هو فقدها. ولكل منها عطاؤه المتفرد للإنسانية. وهذا العطاء يشتد خصوبة وغنى بمقدار ما يعبّر عن الأصالة الثقافية لكل أمة. وتقدُّم الإنسان نحو مزيد من الإنسانية لن يكون إلا بتفاعل حصاد الثقافات العالمية المختلفة، وتبادل التجارب الفكرية في ما بينها، وإخصاب بعضها بعضَها الآخر.
وغنيّ عن البيان أن مثل هذا التفاعل بين الثقافات العالمية ينبغي أن يؤدي في النهاية إلى تقارب عملي قوامه وضع مجموعة من «الثوابت العالمية الثقافية» التي ينبغي أن تعمل الثقافات جميعها على احترامها وتعميق جذورها. وتوليد مثل هذه الثوابت وقبولها أمرٌ ممكن إذا هو تمّ عن طريق الحوار الحقيقي، وحلّ محل فرض «ثوابت» ثقافة معينة أو بلد معين على العالم كله، والادعاء بأنها هي وحدها «الثوابت العالمية».
ثامناً: الدوائر الثقافية الثلاث
الحق إن الواقع العالمي يحدثنا حديثاً واضحاً لا لبس فيه ولا تعقيد، عن أن ثقافة أي بلد من البلدان أو أية أمة من الأمم تضمّ دوائر ثلاثاً منداحة: الدائرة الأولى هي دائرة «الثقافات المحلية» التي لا تخلو من تنوع هو مصدر للغنى والخصب. والدائرة الثانية هي دائرة «ثقافة الأمة» أو «الدولة» المعنية بكاملها، وتضم أنماط السلوك المادي والمعنوي الخاصة السائدة لدى أمة من الأمم والتي تميّزها من سواها. والدائرة الثالثة هي دائرة «الثقافة العالمية» التي تتفاعل مع الثقافة القومية وتغنيها وتمنحها القدرة على الحياة عن طريق تجديدها.
والتقدم العلمي التقاني، وثورة المعلومات والاتصال بوجه خاص، وانقلاب العالم إلى قرية واحدة، تؤدي كلها من دون شك إلى اتساع الدائرة الثالثة، دائرة الثقافة العالمية. غير أنه من المهم أن نذكر أن من مصلحة العالم أن يحول دون استلاب هذه الثقافة العالمية للثقافات القومية وخصوصيتها، وأن يجتنب ولادة ثقافات هجينة، أو ثقافات تابعة، تذوب في الثقافة العالمية وتفقد مقوماتها الذاتية التي لا تقوى وحدها على أن تضمن استمرار عطائها الثقافي الفذّ للإنسانية.
وقد يبدو من قبيل الآمال، لا من قبيل الواقع، التمييز بين تفاعل الثقافة القومية مع الثقافة العالمية تفاعلاً يخصب كلتيهما، وبين ذوبان الثقافة القومية في الثقافة العالمية وامّحاء معالمها الخاصة. غير أن مثل هذا التفاعل الخصيب ممكن دوماً في الواقع إذا انعقد العزم عليه، وإذا ما انطلق العالم في طريق الحوار الصادق النزيه.
تاسعاً: شروط الحوار بين الثقافات
الحق إننا حين ندعو إلى الحوار الثقافي بين الحضارات، نضمر وراء ذلك ضرورة انطلاق هذا الحوار من منطلقين أساسيين:
أولهما هو النزاهة الفكرية والثقافية، تلك النزاهة التي ينبغي أن تتوافر لدى المفكرين (ولدى السياسيين بدفع من المفكرين)، والتي تُقبل على الحوار بين الثقافات من دون ما أفكار مبيّتة، ومن دون ما أغراض خفية، ومن دون من مكر أو غيلة.
وثانيهما (وهو يرتبط بأولهما إلى حد ما) العمل أولاً وقبل كل شيء، من قبل جميع الفرقاء، على «إزالة آثار العدوان الثقافي»، إن صح التعبير. ويعني ذلك، في ما يعني، تطهير ثقافة كل أمة مما فيها من تزوير للحقائق المتصلة بثقافة الشعوب الأخرى، وما فيها بالتالي من إثارة للأحقاد بين الثقافات. ويصدق هذا بوجه خاص على الثقافة الغربية وما فيها من تزييف لتاريخ الثقافات الأخرى، ومن تحليل محرّف لأفكارها وأنظارها الماضية والحاضرة، على نحو ما نجد بوجه خاص في موقف هذه الثقافة الغربية من الثقافة العربية الإسلامية.
على أن الأمر لا يقتصر على تصحيح المواقف السلبية التي تقفها الثقافات بعضها من بعض، بل هو يستلزم فوق هذا خطوات إيجابية تكشف فيها كل ثقافة كشفاً مخلصاً خلواً من العقد عما تحمله من حصاد الثقافات الأخرى، وعما لهذه الثقافات في الماضي والحاضر من دور في تكوينها وتطويرها. فالثقافة الغربية، مثلاً، مدعوّة إلى إبراز دور الثقافة العربية الإسلامية في تقدمها وفي انطلاق الحضارة العلمية التجريبية الحديثة، بل حتى إلى بيان دور بلاد الشرق في ظهور المسيحية وفي احتضان المسيح الذي تكلم بالآرامية، ولم يتكلم باليونانية أو اللاتينية، فضلاً عن تمجيد القرآن الكريم للمسيح، وعن احتضان الدولة العربية الإسلامية للمسيحية والدائنين بها (وبسواها من الديانات)، وقد كتب أكثرهم باللغة السريانية. بل لا بد لهذه الثقافة الغربية من أن تشير بصدق وأمانة إلى مجتمع العدالة والمساواة الذي شاده العرب في الأندلس، وما تمّ فيه من تمازج ثقافي بل سكاني فريد، اختلط فيه القوطي بالعربي واللاتيني بالبربري، وأدى إلى ولادة مركّب ثقافي فذ. وفي مقابل ذلك، لا بدّ للثقافة العربية الإسلامية من أن تشير بدورها إلى الثقافة اليونانية واللاتينية التي اقتبست منها الكثير، ولا سيما في عصورها الذهبية. ولا بد لها من أن تعي بعمق ما في الثقافة الغربية الحديثة من مقومات الحضارة العلمية التقانية، ومن روح الخلق والإبداع، ومن قدرة على تسخير الكون للإنسان، ومن عطاء كبير لا ينكر للإنسانية جمعاء في كثير من الميادين.
عاشراً: الغرب يبحث عن «كبش فداء»
جملة القول إن «حوار الثقافات» لا «صراع الثقافات» هو المخرج. والعالم اليوم ينزلق في منزلق خطير حين يحاول أن يبحث، أمام تكاثر المخاطر العالمية وتعاظم المشكلات الداخلية في البلدان المتقدمة نفسها، عن «كبش فداء» يرد إليه مآسيه وبلواه، بل يحاول أن يجعل منه «إبليساً» عن طريق جهد عاجل وسريع يقوم به لتزوير الحقائق. ومثل هذا الموقف يؤدي إلى ردود فعل من أُولى نتائجها أن يتحول الإبليس المتَّهَم إلى متَّهِم، وأن يتعامل مع المتهَم بالتالي تعامله مع «إبليس» قديم جديد.
إن اتهام أمة أو شعب من خلال ثقافته، والازراء بهذه الثقافة والنظر إليها على أنها مصدر للشرور، طعنة قاسية لا بد من أن تردّ عليها تلك الثقافة رداً صادراً من الأعماق والأحشاء. ومحاولة بناء المجتمع الإنساني العالمي الجديد على أنقاض ثقافات الشعوب مَرْكب غير مجدٍ وغير ممكن، ولن يؤدي إلا إلى تأجيج بؤر الصراع العالمي. ولا بد من أن يقرَّ في أذهان المفكرين في العالم المتقدم أن الثقافات الأخرى ضرورية له، وأن يذكروا قولة جان بول سارتر الشهيرة: «الآخر ضروري لوجودي».
حادي عشر: نتائج أساسية
من خلال هذه المنطلقات التي أتينا على الحديث عنها بإيجاز، يمكننا أن نخلص إلى النتائج الآتية:
1 – جوهر الضلال العالمي هو الضلال الثقافي، وسبيل حل مشكلات العالم ينبغي أن يتم بالدرجة الأولى عن طريق معالجة مشكلة «الثقافات» المختلفة في العالم، وذلك باللجوء إلى الحوار الإيجابي، بدلاً من الصراع أو الاتهام أو الإزراء.
2 – الإطار الذي ينبغي أن يتم من خلاله حوار الثقافات هو الإطار القومي، ويستلزم هذا تحديد المقصود من هذا الإطار في المرحلة الحالية من حياة العالم. وهذا التحديد قد يلخصه قول الرئيس الفرنسي السابق ميتران في خطابه أمام البرلمان الأوروبي في شهر كانون الثاني /يناير الماضي، وذلك في حديثه عن الوحدة الأوروبية: «إن أوروبا الثقافات [التي يدعو إليها] هي أوروبا الدول – القومية ضد القوميات [أي ضد النزعات القومية المتعصبة]». وقد قال ذلك في معرض تأكيده ضرورة «أن يحتل البعد الثقافي المكانة اللائقة به في البنيان الأوروبي».
والحق إن المشكلة المطروحة أمام العالم، في بداية القرن الحادي والعشرين، كما يقول ميتران نفسه (في حديث له قبل يومين من نهاية ولايته مع فرانسوا بيداريدا (Francois Bedarida) الاختصاصي بالتاريخ الحديث، نشرته جريدة لوموند (Le Monde) في عددها الصادر بتاريخ 29 آب/أغسطس 1995) هي التوفيق بين نزعتين تسودان العالم اليوم. فهنالك نزعة قوية نحو الوحدة، نحو تكوين تكتلات كبيرة بين الدول، كما نجد في تجربة بناء الوحدة (أو الاتحاد أو الكونفدرالية) الأوروبية، بل كما نجد في محاولات التوحد بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك، أو كما نجد في منظمة دول جنوبي شرقي آسيا، أو في منظمة الدول الأفريقية، أو في جامعة الدول العربية. وهنالك في الوقت نفسه نزوع معاكس يدفع الأقليات الإثنية أو الدينية إلى المطالبة بالسيادة والاستقلال، بل بالانفصال أحياناً. ولا شك في أن ذيوع مثل هذه النزعات المجزِّئة المفتِّتة من شأنه أن يحيي من جديد عالم القرون الوسطى.
والتأليف بين هذين المنزعين، كما يضيف ميتران أيضاً، هو المهمة التي ينبغي أن يضلطع بها العالم على تخوم القرن القادم الجديد. وهذا التأليف يتم، في نظره، عن طريق الاتجاه نحو التجمعات الكبرى، على أن تكون في صلب هذه التجمعات تدابير واضحة وملموسة من أجل حماية الأقليات، بحيث تشعر هذه الأقليات بالطمأنينة وتؤكد ذاتها ووجودها.
وهكذا ينبغي أن يزول الخلط بين الدعوة إلى الوحدة بين الدول، وبين ذيوع العصبية والشقاق والمعاداة للشعوب الأخرى. فالوحدة القومية، بين أبناء شعب واحد أو بين أبناء ثقافة واحدة، أو بين دول متقاربة أو تريد أن تتقارب، مطلب لا بد من تشجيعه في عالمنا، وهو البديل بين نقيضين: النزعة العالمية، (أو ما عُرف بالعولمة) من جانب، التي تنكر الكيانات الذاتية والتي تدّعي أنها نزعة إنسانية والتي تنادي بسفح الحدود بين الدول انطلاقاً من مبدأ الحرية في زعمها، تلك الحرية التي تعني عندها في معظم الأحيان «حرية السوق» الاقتصادية وحدها. ثم النزعة القومية الشوفينية المتعصبة، ولا سيما حين تلبس لبوس الأقليات الإثنية أو الدينية أو الطائفية، التي لا تعني في نهاية الأمر سوى الحرب والعدوان، وهي التي يشير إليها ميتران أيضاً حين يقول إن مثل هذه النزعة القومية (المتعصبة) تعني الحرب، كما ورد في خطابه أيضاً أمام البرلمان الأوروبي.
ومن الجدير أن نذكر عابرين أن اشتداد أوار بعض النزعات القومية (المتعصبة منها وغير المتعصبة) بعد زوال الاتحاد السوفياتي، كان بمثابة رد فعل ضد المخاطر الجديدة التي تتعرض لها أمم وبلدان كثيرة، حين تجد نفسها «مكشوفة» أمام مخاطر عدوان الدول الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، وحين تلجأ بالتالي، بضرب من رد الفعل الغريزي، إلى ذاتها وجلدتها لتحتمي بها من العدوان والمهالك.
كذلك من المهم أن نذكر أن ما تنادي به الدولة العظمى – نعني الولايات المتحدة – من «عولمةٍِ» في شتى جوانب الحياة، ومن انفتاح اقتصادي كامل بين الدول، هو في معناه العميق شكل متقدم من أشكال «الهيمنة القومية» وعَود إلى «القومية المتعصبة» تريد من ورائه السيطرة على العالم باسم نزعة عالمية زائفة.
3 – في إطار الحوار بين الثقافات، ينبغي أن يكون للحوار الإسلامي الغربي شأن خاص، لأسباب نعرفها جميعاً ولا حاجة إلى تكرارها. وحسبنا أن نذكر منها (إذا تركنا الجوانب الثقافية جانباً) أن الإسلام هو الجار الجغرافي لأوروبا، وأن عدد المسلمين فيها يتجاوز عشرة ملايين نسمة، وأن عدد المسلمين في العالم سوف يصل إلى ملياري نسمة عام 2025، منهم ستمئة مليون في البلدان العربية. وهذا الحوار، كما قلنا ونقول، ينبغي أن ينطلق من القيم الإنسانية التي أكدتها شرعة حقوق الإنسان، والتي أكدتها منطلقات الإسلام الأساسية قبل ذلك، كما أكدتها مبادئ المسيحية الأولى، والتي تلتقي في خاتمة المطاف مع القيم الإنسانية التي تريَّثت عندها سائر الديانات الكبرى والفلسفات الكبرى والثقافات الكبرى في العالم.
وقد يكون من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن اليهودية أيضاً ثقافة، قبل أن تكون أي شيء آخر، وأنها لم تفسد إلا عندما زيفت الثقافة وسخرتها لأغراض اقتصادية وسياسية. وهذا ما أكده كبير فلاسفة الكيان الصهيوني، نعني ييشايوها ليبوفيتس (Yeshayuha Leibovitz) (الذي توفي في شهر آب/أغسطس عام 1994)، في ندوات له جمعت في كتاب شهير عنوانه «الشعب والأرض والدولة». وقد أكد هذا الفيلسوف ذو الَمنازع الصهيونية والدينية، أن اليهودية ليست «أرضاً» ولم تكن أرضاً في يوم من الأيام، وأن الشعب اليهودي كان دوماً شعباً في المنفى، كما أنها ليست «دولة» ولم تكن دولة يوماً ما في التاريخ، وإنما هي وعي وارتباط بالثقافة الذاتية اليهودية وبقيمها، تلك القيم التي ترفض أن يكون من حقها أن تسيطر على شعب آخر، أو أن تسيطر على المنطقة.
وفي هذا المثال الأخير تأكيد لقولنا إن المشكلة العالمية والمشكلات العالمية في كل مكان مشكلات ذات منشأ ثقافي بالدرجة الأولى، وإن الحل يكمن في الثقافة النزيهة المبرأة نمن تشويه السياسة وتزييفها، والمدركة للروابط الثقافية التي قامت وتقوم بين بلدان العالم وبين ديانات العالم وبين شعوب العالم، والرافضة عدوان ثقافة على أخرى، فضلاً عن سيطرة شعب على آخر.
ولمناسبة مرور نحو مئة سنة على المؤتمر الصهيوني العالمي الذي عقد في عام 1897، والذي جسّد تيودور هرتزل خلاله حلم اليهود القديم بإنشاء «وطن قومي»، وذلك في كتابه الشهير «الدولة اليهودية»، نقول مذكّرين إن ما قدمه الغرب للصهيونية الناشئة من عون موصول لا مثيل له في التاريخ من أجل إقامة ذلك الوطن ودعمه وتوفير الغلبة الدائمة له، على حساب تشريد ملايين العرب من ديارهم، ومن خلال آلام ومآسي يندى لها جبين الإنسانية، ومعارك دامية وعنيفة لم تخمد نارها حتى اليوم، نقول إن ما قدمه الغرب جرح مقيم في قلوب العرب والمسلمين، وسبب أساسي من أسباب العداء بين الإسلام والغرب، لم يحاول الغرب حتى اليوم تقديم أي علاج صادق له. ولا ندري كيف يستطيع الغرب أن يبرئ نفسه من العداء للعرب والمسلمين، وأن يتّهِم هؤلاء على العكس بالعداء المبيَّت له، بعد دعمه السافر والجائر للصهيونية الذي أمتد طوال قرن كامل وما يزال مستمراً؟ ولا شك في أن الأسباب العميقة لموقف الغرب هذا أسباب ثقافية أولاً – بالإضافة إلى عوامل أخرى عديدة – ترجع إلى العداوة التاريخية التي يحملها الغرب للثقافة العربية الإسلامية، وإلى خوفه من انبعاثها من جديد.
ومما يلفت النظر أن الغرب في الماضي والحاضر يدرك شأن الإسلام وحجمه ودوره عندما يتحدث عن مخاطره عليه، ويتغاضى عن هذا الشأن عندما يتحدث عن ثقافته وحضارته وعطائه الإيجابي ودوره المرجو. من هنا كان من اللازب، كما قلنا ونقول، أن يتم عن طريق الحوار الثقافي النزيه، القضاء على الأفكار المبيتة التي يحملها الغرب عن الإسلام، وابتعاد هذا الغرب عن موقفه الانتقائي المغرض قديماً وحديثاً، نعني انتقاء الأحداث والأفكار انتقاءً يؤكد نظرته المعادية للإسلام. وهل ينجو تاريخ أية أمة وحاضرها، وهل ينجو تاريخ الأمم الغربية نفسها قبل غيرها، من صفحات سوداء، ومن تجربة وخطأ، ومن ضلال وانحراف؟ ولكن الذي يكوّن حضارة أية أمة لم يكن يوماً من الأيام تلك البقع المظلمة التي لم تنجُ منها حضارة أية أمة من الأمم، بل المبادئ الإيجابية الكبرى التي سادت حياتها ووجهتها في خاتمة المطاف. وقد بحث الغرب طويلاً وما يزال يبحث جاهداً عما في التراث العربي الإسلامي من نقائص وأخطاء يعمل على تضخيمها، وعما في الواقع العربي والواقع الإسلامي من تخلف، وهو أول المسؤولين عنه، وقلما حاول البحث عن الاتجاهات الكبرى الرائعة للحضارة العربية الإسلامية، وعما في الواقع العربي اليوم من منابع العطاء الحضاري، ومن حرص على القيم الإنسانية الحقة.
ثاني عشر: القومية العربية والصراع الثقافي العالمي
بعد تفتح المشاعر القومية في شرق أوروبا الذي أعقب سقوط جدار برلين عام 1989، ظن القوم أن هذه الظاهرة سوف تقتصر على بلدان أوروبا الشرقية التي «جمّدت» الشيوعية فيها الشعور القومي خلال عقود عدة. غير أن الواقع ما لبث أن كشف عن يقظة للقوميات في شتى أنحاء العالم، بحيث يصح القول إن انبعاث المشاعر القومية لا يوفر أية قارة.
ولا شك في أن هذا الانبعاث القومي يأخذ أشكالاً عديدة تختلف من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد. وهذا ما يكشف عنه ويحلله الكتاب الذي أشرف على إعداده الكاتب الفرنسي جاك روبنِك (Jacques Rupnik) وجعل له عنواناً «تمزق القوميات» (وقد نشرته دار النشر «سوي» (Seuil) في باريس عام 1993).
وفي وسعنا أن نفسر هذا البزوغ الجديد للقوميات بعوامل عدة، تفترق أو تجتمع تبعاً للبلدان المختلفة: فهنالك أحياناً الرغبة في العود إلى الماضي والأوبة إلى الذات بعد تيه طويل مفروض. وهنالك غالباً البحث الشاق عن مستقبل مشرق، عن طريق عملية إنضاج عميقة ووعي قومي متجدد. وهنالك، كما سبق أن قلنا، محاولة الاحتماء – بعد سقوط الاتحاد
السوفياتي – بالهوية الذاتية والاستمساك بالعروة الوثقى التي تجمع أبناء أمة واحدة، من أجل اجتناب مخاطر الهيمنة الغربية والتسلط الغربي. وهنالك، كما قلنا، هذه العوامل كلها أو بعضها.
وليس قصدنا أن نحلل المشاعر القومية التي انبثقت في مختلف بلدان العالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بل همنا هو أن نتحدث عن القومية العربية وسط زحام المشكلات القومية والمشكلات العالمية.
ولا بد من أن نؤكد مرة أخرى – دفعاً لأي لبس – الطابع الإنساني للقومية العربية منذ نشأتها. فلقد كان منطلقها دوماً تحرير الإنسان العربي عن طريق ارتباطه بأمته والعمل لها، وتوفير المناخ اللازم لتفتح طاقات الجماهير العربية الغفيرة التي طمسها الجهل والفقر والمرض. كما كانت منذ بدايتها تعتبر القومية العربية جزءاً من عالم يتكون من قوميات متآخية، لا عدوان بينها، ولا يدّعي أي منها الغلبة على سواها، وكانت المسلَّمة الأساسية التي انطلقت منها هي أن الإنسان العربي – شأنه شأن أي إنسان – لا يُخصب ولا يبدع إلا من خلال إدراكه ذاته أولاً، وتشبعه بهواء أمته وتربتها، ومن خلال عمله لمستقبل أمته ولمستقبل الإنسانية بالتالي.
ولا شك في أن القومية العربية تواجه البوم واقعاً جديداً. فالاتحاد السوفياتي، الذي كان يحقق للدول النامية إجمالاً بعض الحماية والطمأنينة، قد زال. وقد كان من بين فضائل وجود الاتحاد السوفياتي – بالإضافة إلى حماية العالم الثالث – الحيلولة بين الغرب وبين أن يكشف على نحو سافر عن صراعه الثقافي العريق، المضمر والظاهر، ضد العروبة والإسلام، بل كثيراً ما كانت محاربة الاتحاد السوفياتي تحمل دول الغرب على اجتذاب الإسلام إلى جانبها في المعركة التي أرادتها مشتركة ضد العدو «الملحد».
وقد رافق سقوط الاتحاد السوفياتي انهيار التضامن العربي، ولا سيما بعد حرب الخليج الثانية. وقوّى هذا الانهيار تصميم الغرب وتصميم الدولة العظمى على جعل الكيان العربي كياناً تابعاً وخاضعاً ومستغلاً، بعد أن سقطت عنه الحماية، وغدا في العراء.
وانتشرت في الوقت نفسه حملات عنيفة في العالم على «القومية» ومخاطرها، وظن الكثيرون في العالم وفي البلدان العربية أن عصر القوميات قد زال، بل ظهرت صيحات من بعض الكتّاب العرب «تنعى» القومية العربية.
غير أن تطور الأحداث في العالم وفي البلدان العربية، بعد فترة من انتهاء الحرب الباردة، ما لبث حتى وضع الأمور في نصابها من جديد. فالحركات القومية في العالم لم تمت، بل انبثقت من جديد، كما ذكرنا. والايديولوجيا القومية، كما ذكر كثير من كتّاب الغرب، هي الايديولوجيا الوحيدة التي بقيت بعد موت الاتحاد السوفياتي. والحاجة إليها تشتد يوماً بعد يوم في مختلف بقاع العالم.
وحرب الخليج – أياً كانت أسبابها وأخطاؤها – حملت يوماً بعد يوم في نفوس أبناء الأمة العربية معنى العدوان المهين والمقصود على الأمة العربية جمعاء، وجعلت الحاجة إلى «الحِمى القومي» أشد من ذي قبل، بل بينت أن البديل من التعاون العربي والتضامن العربي قد يكون الاحتراب بين الأخوة والجيران، كما تدل تجارب التاريخ في كل زمان ومكان. فالأخوّة والجوار كثيراً ما يولّدان أقسى ضروب الخصام، إن لم يتم توثيق التعاون وتعميقه وإحكامه وفق أسس متفق عليها، رائدها العدل والمساواة والعمل لهدف مشترك. أما الاحتراب فخطر ولود متئم. ولنا مما جرى في الولايات المتحدة يوم كانت مجزأة إلى ثلاث عشرة ولاية، ومما جرى في أوروبا القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر، أفصح الشواهد.
ثم فُرضت مفاوضات السلام مع «الكيان الصهيوني» على حين غرّة في أسوأ الأحوال التي تمر بها الأمة العربية، الأمر الذي جعل معظم أبناء هذه الأمة يخشون أن تكون بداية لنهاية الوجود العربي ولحلول نظام شرق أوسطي جديد محله بقيادة إسرائيل ومَن وراءها.
ولقد كشف التاريخ دوماً أن الأمة العربية تلجأ، في مراحل الخطر المحدق والعدوان القتّال عليها من قبل الغرب، إلى أعمق ما في وجودها، نعني الثقافة العربية الإسلامية. ولقد فعلت ذلك في مواجهة الحملات الصليبية، ولا سيما منذ أيام صلاح الدين، وفعلت ذلك في مواجهة الحملات الإيبيرية، وفي مواجهة الحملة الفرنسية على بلدان المغرب العربي، وفي مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، وفي سائر حركات المقاومة الشاملة للغزو الاستعماري الغربي. فهي تدرك، بفطرتها وغريزتها، أن العدوان عليها كان وما يزال عدواناً على ثقافتها العربية الإسلامية قبل أي شيء آخر، وأن هدفه هو محو هذه الثقافة، وأن سبيل مقاومته بالتالي هو مزيد من الاستمساك بها وتعبئة الجماهير حولها.
وطبيعي أنه من غير الممكن، في حميّا مثل هذه التعبئة للثقافة العربية الإسلامية ضد مؤامرات الغرب الجديدة، أن تأخذ هذه المقاومة دوماً شكلاً عقلانياً، وأن تكون مبرأة من الغلو والتعصب والعنف أحياناً، ولا سيما عندما تكون موجهة ضد الغرب وضد الصهيونية.
من هنا فإن مثل هذا الوضع لا يمكن التغلب عليه بمجرد اتهام المقاومة العربية الإسلامية بالعنف، ولا بد، كما قيل ويقال، من إزالة أسباب العنف. ولا سبيل إلى إنهاء العنف والعداء بوجه عام إلا عن طريق الحوار الثقافي الصادق بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية. ولقد كان هذا محور بحثنا كله.
ثالث عشر: الثقافة العربية الإسلامية والغرب
من البديهي أن نقول إن الأمة العربية ليست معادية بطبعها للغرب. والثقافة العربية الإسلامية قدّمت الدليل دوماً في تاريخها القديم والحديث على أنها ليست معادية لأية ثقافة أخرى، وأنها تحترم سائر الثقافات، وأنها أفضل ثقافة تَحقَّق في تاريخها تمازُج الثقافات، وأن جوهرها الإسلامي قوامه العفو والتسامح والمحبة والرحمة.
ولا يجدي اليوم أن نعود إلى التاريخ لنقدم الشواهد على عداء الغرب للثقافة العربية الإسلامية منذ القديم، ولنذكّر بأنه كان البادئ دوماً بالعدوان. فالتاريخ، على شأنه، ينبغي ألا يكون وحده الهادي والمرشد في العلاقات بين الأمم، وحقائق التاريخ لا يجوز أن تُتخذ ذريعة لتعطيل الحاضر والمستقبل. وقياس الحاضر والمستقبل على الماضي مَرْكَب لا يخلو من ضلال. والذي يعني الأمة العربية، وراء هذا كله، هو مستقبل العالم، ومستقبلها من خلال مستقبل العالم. وإنقاذ المستقبل العالمي من الأخطار التي تحدق به وجرّه من الهاوية التي ينحدر إليها مطلب ينبغي أن تلتقي حوله ثقافات العالم جميعها. ولقد كانت الثقافة العربية الإسلامية، ولا بد من أن تبقى، دافعاً أساسياً يدفع إلى بناء عالم يسوده الحق والمساواة، ويقوم على الالتحام بين مطلبين إنسانيين كبيرين يؤدي الفصل بينهما دوماً إلى الانحراف والضلال والمآسي، نعني الحرية والعدالة مجتمعتين.
ولئن كان الحوار بين ثقافة الغرب والثقافة العربية الإسلامية عملاً متبادلاً ومستمراً يقوم فيه كل من الثقافتين بالخطوات اللازمة من جانبه، وتقوم فيه الثقافة الغربية بوجه خاص بإزالة آثار العدوان، كما ذكرنا، فإن نجاح هذا الحوار يتطلب جهداً جاداً وموصولاً من الثقافة العربية الإسلامية من أجل تجديد ذاتها وتحديث مضمونها. فهذه الثقافة على نحو ما هي ذائعة اليوم لدى الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية، ثقافة محمَّلة بما تركته عهود الانحطاط الطويلة من مفاهيم متخلفة ومن معوقات نفسية واجتماعية تحول دون التقدم: من مثل التواكل (وهو غير التوكل) والتفسير السحري للأشياء، وسيطرة الشكل والمظهر على المضمون والجوهر في شتى جوانب السلوك، وتعطيل دور المرأة، وسيادة التسلط والقسر، والإحجام عن المهنة والحرفة أحياناً، وسوى تلك من أنماط السلوك الذائعة في أي مجتمع متخلف، والتي ينكرها جوهر الثقافة العربية الإسلامية. وفي مقابل ذلك، تحمل هذه الثقافة في أصولها وروحها قيماً إيجابية كثيرة من شأنها أن تكون منطلقاً للتقدم والتحديث في كل مكان، وعلى رأسها: تقديس العلم، وتقديس العمل، والتكافل الإجتماعي، وتكريم الإنسان، وتسخير الكون، والنظر العقلي، وغير ذلك كثير، فضلاً عن العدالة والمساواة والتراحم. كما أنها تحمل في صلبها مقومات تجديدها وتطويرها تبعاً للزمان والمكان. وقد استطاعت هذه الثقافة عبر العصور أن تستوعب سواها من الثقافات وأن تتفاعل معها تفاعلاً خصيباً يغنيها من دون أن يفقدها قوامها وجوهرها. وهي اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى التفاعل مع الثقافة الغربية، من دون ما وجل أو خوف من الابتلاع. وخيرٌ ألف مرة أن يجدد هذه الثقافة أبناؤها من خلال ذاتها، من أن يؤدي جمودها إلى تجاوز الزمن إياها، أو إلى غزو الثقافة الغربية إياها غزواً قسرياً لا يبقي منها ولا يَذر، بعد أن فقدت قوامها وقدرتها على المقاومة بالتالي، بسبب تحجرها واختناقها بأيدي أبنائها.
وهذا لا يعني أن تكون الثقافة الغربية هي القدوة والمثال، بل يعني أن تعمل الثقافة العربية الإسلامية، من خلال منطلقاتها ومن خلال تجددها بالتفاعل مع الغرب وسواه، على تجديد ذاتها، وعلى تجديد الثقافة الغربية نفسها. وهذا هو في الواقع معنى الحوار بين الثقافات. ولعل مجرد بناء ثقافة عربية إسلامية مبدعة متطورة جديرة بأن تحتذى، خطوة كبرى في طريق تصحيح مسار الثقافة الغربية وسواها، وفي طريق تجديدها وتوجيهها شطر بناء عالم مفصَّل على قدّ حاجات الإنسان أنّى كان، محقق لسعادته وللمزيد من تفتح كيانه الإنساني. فالثقافة العربية الإسلامية حين يتم بناؤها بناءً أصيلاً وحديثاً لا بد من أن تكون بالضرورة ثقافة إنسانية تجعل من احترام الإنسان وإغناء حياته هدفها الأكبر. ومن أجل بناء مثل هذه الثقافة ينبغي أن يعمل أبناؤها وأن يقوم الحوار بينها وبين الثقافات الأخرى.