المجتمع الإسرائيلي الممزق وتحديات التطور والسلام

إسرائيل وهويتها الممزقة
مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996 ، 140 صفحة

طالما اعتقد العرب أن الصهيونية عقيدة جامعة مانعة، واضحة المعالم، بيّنة الأركان، وأن اليهود كانوا دوماً في التاريخ القديم والحديثة أمة واحدة.
وقلما تنبّه هؤلاء إلى أن العقيدة الصهيونية كانت وما تزال تشكو من تناقضات كبيرة في صلبها، وأن العقيدة الدينية لدى اليهود كانت وما تزال حائرة وقلّباً وضالةً، وأن الجمع بين الصهيونية والدين أمر فرق اليهود قبل ولادة الصهيونية وبعدها، وقبل ولادة إسرائيل وبعدها. ولا نغلو إذا قلنا أن السؤال الذي شاع وذاع دوماً، نعني: من هو اليهودي؟ وما هي هوية دولة إسرائيل؟ سؤال أزلي أبدي، أجاب عنه اليهود دوماً بطمسه، وما يزال بلا جواب حق حتى اليوم، لأنه قمين بأن يضع موضع التساؤل الصهيونية وتعدد منطلقاتها وتناقض أصولها.
إن دولة إسرائيل هي ملتقى لصراعات قديمة وحديثة، من كل نوع، تمزّق وجودها وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للتفجّر من داخله. هذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي محايثة للصهيونية واليهودية ودولة إسرائيل. إنها صراعات باطنية وخلقية قائمة في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ وفي صلب الدعوة الصهيونية، وهي استمرت بعد ولادة دولة إسرائيل وحتى اليوم.
وحيث أن المجال لا يتسع للحديث عن التناقضات الكبيرة القائمة في قلب قواعد الشريعة اليهودية كما وردت في التوراة وفي التلمود، ينتهي عبد الله عبد الدائم إلى بعض الحقائق حول الديانة اليهودية التقليدية. أولاها أن الديانة اليهودية خضعت لتحويرات وتفسيرات متناقضة منذ القدم، وأن هذا التناقض ظل يعشش في حياة اليهود عبر العصور. وثانيتها أن الديانة اليهودية لم تكن دوماً ديانة توحيدية، ففي معظم أسفار العهد القديم ثمة إشارة إلى «آلهة أخرى» معترف بها، وأن يكن يهوه هو أقواها. وثالثتها أن الديانة اليهودية لم تكن ديانة تستند إلى العهد القديم. كما أن العهد القديم لا يحتل في اليهودية المكانة التي له عند البروتستانت
ولا حتى عند الكاثوليك، والأمر كله يرتبط بالتأويل الذي يستند إلى التلمود لا إلى التوراة، وهو تأويل يناقض في كثير مما يقرر النصوص الواردة في العهد القديم. ورابعتها أن التلمود بخلاف التوراة هو نظام شامل وكلي وسلطوي ومتشدد والمعنى الحرفي فيه للنص ملزم.
وباختصار، إن الديانة اليهودية منذ نشأتها وعبر مسيرتها، كانت دوماً مسرحاً للتناقض والتزييف والاجتهادات المختلفة، ولم يقع يوماً أي اتفاق حول أصول ثابتة لها، ولا يتوافر اليوم أي عرض أو تفسير يمكن أن يكون موضوع إجماع أو اتفاق. لكن اليهودية التقليدية أخذت في التغيّر، وسط صراعات وشقاقات دينية عارمة، عند تباشير عصر التنوير، وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وطفق اليهود يخرجون من غيتوهم – عزلتهم – وسباتهم المادي والفكري إلى الاندماج القانوي والاجتماعي والسياسي مع «الدولة القومية الحديثة» وإبدال الإعداد التقليدي المستند إلى تعاليم الحاخامات والتلمود بإعداد حديث وترجمة حديثة. غير أن عدداً كبيراً من اليهود نظر بقلق إلى الاتجاهات الاندماجية والتحررية، وظهر صراع حاد بين أولئك الذين يريدون أن يلحقوا بالحضارة الحديثة وبين أولئك الذين كانوا ما يزالون يستمسكون بالتقاليد الدينية التي ترجع إلى العصر الوسيط وما قبله. واتجه عدد كبير من الشبان اليهود المثقفين نحو الحركات الجديدة الجذرية كالاشتراكية والفوضوية والصهيونية بشكل خاص. لكن الوضع الداخلي في قلب اليهودية تأزم إلى حد كبير وأصبح خطيراً عند تخوم القرن العشرين، وغدا السؤال الذي لا يستطيع اليهود اجتنابه: هل الديانة اليهودية ديانة تختلف عن سواها من الديانات، وهل أن الشعب اليهودي شعب مختلف وعرق مختلف في عصر لا يعترف بالأعراق؟.
وفي صلب الدعوة الصهيونية ومخاضها وولادتها تناقضات فكرية كبيرة. فهنالك التناقض بين الصهيونية الثقافية والصهيونية السياسية. وهنالك التناقض بين الصهاينة المنادين بالعودة إلى أرض إسرائيل المزعومة والصهاينة المخالفين لذلك. وهنالك التناقض بين الصهيونية القومية والصهيونية الاشتراكية. وهنالك التناقض بين الصهيونية الهرتزلية واليمين الصهيوني القومي الفاشي.
إن لفظ «صهيونية» ابتدعه عام 1890 كاتب نمساوي هو ناتان بيرنباوم للدلالة على اليقظة القومية اليهودية التي تطلعت في البداية إلى استقلال قومي ثقافي غير مرتبط بأرض معينة، حتى أطلق هرتزل عام 1896-1897 حركة قومية تهدف إلى بناء دولة قومية، يتحقق فيها وجود الأمة كاملاً من خلال دولة مستقلة.
ولقد عرفت الصهيونية وهي بعد جنين تناقضاً حول تحديد الموقع الجغرافي للدولة الصهيونية، فحاول اليهود إقامة وطن قومي في جنوب ليبيا أو في أستراليا أو في أنغولا
أو في أوغندا. وكان الخلاف حول اختيار أرض فلسطين مقراً للدولة اليهودية عميقاً وحاداً. وهرتزل نفسه ظل معارضاً لإقامة الوطن اليهودي في فلسطين حتى المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا عام 1897، وقبل العرض الذي قدمه وزير المستعمرات البريطاني عام 1903 بإقطاع أوغندا أرضاً لليهود، وحظي هذا العرض بموافقة أكثر مندوبي المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عام 1906. أما الذين عارضوا الاقتراح فقد استندوا إلى تعلّقهم التاريخي بأرض ارتبط بها في زعمهم، المصير التاريخي لليهود.
ومن التناقضات المهمة في مرحلة مخاض الصهيونية، التناقض بين الصهيونية الاشتراكية الماركسية والصهيونية القومية. فقد حاول سيركين الربط بين الاشتراكية والقومية والإنسانية بينما حاول صهاينة آخرون بناء الصهيونية على أسس ماركسية.
وهناك تناقضات أخرى أبرزها القول بالديموقراطية والقول بضرورة اللجوء إلى العنف، والخلاف الذي اشتد عند نشأة الصهيونية بين الداعين إلى إحياء اللغة العبرية والذين يؤثرون الإبقاء على لغة اليديش التي كانت شائعة عند اليهود، حتى أن هرتزل نفسه كان يدعو إلى استخدام اللغة الألمانية في الدولة اليهودية الموعودة.
ولاشك أن أشد التناقضات فتكاً الذي عانته الصهيونية منذ نشأتها، وما تزال تعانيه حتى اليوم، هو التناقض بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية. ففي قلب الاتجاهات الدينية التقليدية والاتجاهات الأرثوذكسية المتطرفة القديمة والجديدة والاتجاهات التقليدية المغالية، أفكار معادية للصهيونية أصلاً وجوهراً. وقد كانت هذه الأفكار المغالية تصم الصهيونية بأنها ثورة ضد الإله، ونفيٌ لليهودية.
ومن أبرز ما أثار المشاعر المتناقضة داخل الحركة الصهيونية، الحركة الصهيونية المنادية بالعنف والقوة، وقد كان أبرز ممثليها جابوتنسكي (1880-1940) الذي دعا إلى اتباع أساليب العنف والقهر، لا سيما ضد العرب، مؤكداً على الطابع السياسي للصهيونية وإقامة مستعمرات في فلسطين، محدداً جوهر الأمة في الصفات الجسدية النوعية الخاصة، والدم الذي يصوغ الوحدة الغامضة للأمة.
وفي نظر جابوتنسكي أن العنف يلعب دور المؤسس في نشأة أية دولة، فالسلطة تعني سلطة الإنسان على الإنسان عن طريق القوة، والوطن اليهودي ينبغي أن يكون مجتمعاً عسكرياً، أي مجتمعاً يكون الجيش فيه أداة أساسية لبناء اللحمة القومية. وهكذا انتهى به الأمر إلى القول بأن الصهيونية تعني «إرادة الحياة» وتعني بالتالي «إرادة القوة».
وتكاد تكون أفكار عصابة «الإرغون» نسخة ثانية عن أفكار جابوتنسكي الداعية إلى العنف، فهذه العصابة ترى أيضاً أن العنف باني الشعوب، وأن الأمم تولد من خلال قعقعة السلاح. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه اليميني المتطرف الداعي إلى العنث، الثالوث الروسي الذي ظهر في التسعينات من القرن التاسع عشر، والمؤلف من ييهوشا ييفن وغرينبرغ وأحيمير. فقد قدس هؤلاء العرق اليهودي ودعوا إلى العنف والقوة، ولاقت أفكارهم أصداء في عصابة «شتيرن» التي نادت شأن «الإرغون» بنقاء الدم اليهودي وباحتلال أرض الميعاد.
صبت هذه التناقضات والصراعات في الكيان الإسرائيلي الذي تمزّقه منذ ولادته صراعات تشكل مجتمعة ما يشبه «القنبلة الموقوتة». فهناك الصراع بين اليهود الشرقيين «السفارديم» الذين باتوا يشكلون نحو ثلثي سكان إسرائيل، واليعود الغربيين «الأشكنازيم». وقد بدأت الهوة تتزايد بينهما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 فظهر حزب تامي عام 1981 وحزب شاس عام 1984. وهناك الصراع داخل الحركات الدينية وبين هذه الحركات والاتجاهات العلمانية.
وأهم هذه الأحزاب الدينية، حزب المزراحي وحزب مفدال وحزب تامي، وأحزاب تكفير الدولة المعارضة للصهيونية، والأحزاب الدينية الأشكنازية – أغودات إسرائيل. وهناك القوى الدينية «الحديدية» التي تكفر الدولة وتعيش في عزلة داخل المجتمع الإسرائيلي.
أما حركة «غوش أيمونيم» التي برزت بعد حرب 1967 فتمثل أفضل تعبير عن التطرف السياسي الذي يسم الحركات الدينية في إسرائيل. فعقيدة هذه الحركة تتلخص في أن «أرض إسرائيل هي لشعب إسرائيل طبقاً لتوراة إسرائيل»، وأن دولة إسرائيل بالتالي تجسيد للعهد بين الله وشعبه. وحركة غوش أيمونيم شأنها شأن معظم الحركات الدينية لا تؤمن بالسلام.
لقد نما بعد حرب 1967 نموذجان متناقضان أولهما ديني متزمت وثانيهما علماني يصل إلى حد الإباحية الأخلاقية. وما المصالحة الغريبة بين هذين الاتجاهين سوى دليل على مدى الرياء والخداع القائم في المجتمع الإسرائيلي، وعلى مدى تعقد تناقضاته العميقة.
إن تعاظم التناقض في قلب المجتمع الإسرائيلي وما أدى إليه من توالد حركات دينية وأحزاب معارضة للصهيونية ومكفرة للدولة ومغالية في التشدد الديني، يطرح تساؤلات كثيرة: إلى أين مصير إسرائيل؟ وهل تفلح في إنقاذ كيانها ولم شظايا هذا الوجود المبعثر؟ وماذا تستطيع محاولات إسرائيل – والدول الأجنبية التي تود إنقاذها – لإقامة سلام مع العرب، أن تقدم لمثل هذا الواقع المريض من حلول؟
في رأي المؤلف أن قدرة إسرائيل على إقامة سلام حقيقي مع العرب معطّلة تعطيلاً كاملاً أو شبه كامل بالتناقضات التي تحطم كيانها، فمن العسير على مثل هذا الكيان، أن يحقق سلاماً فعلياً مع العرب قابلاً للبقاء والاستمرار. وما نشهده حتى الآن هو أن حكومة إسرائيل ما تزال تعمل للسلام من منطلقات العدوان، أي من خلال منطلقات الصهيونية التوسعية، ومن خلال منطق المخادعة من أجل الهيمنة الاقتصادية والثقافية. والسلام عندها حتى الآن يعني هجمة صهيونية من طراز جديد وباسم جديد، هو «النظام الشرق – أوسطي». وسلام كهذا سوف يؤدي إلى تمزق إسرائيل أكثر فأكثر، وإلى تجدد العداء بينها وبين العرب، وإلى العودة إلى نقطة الصفر.
إن حل المسألة اليهودية كما يطرحه عبد الله عبد الدائم لا يكون إلا بالنكوص عن محاولة اعتبار اليهودية نمطاً فريداً هو نسيج وحده بين ديانات العالم، والانخراط بالتالي في مسيرة التطور الإنساني الذي يرفض أن تكون الديانات أساس حياة الشعوب وكياناتهم. وبتعبير آخر، إن تخلّص إسرائيل واليهودية من آفاتها المقيمة وتناقضاتها المميتة وإقامة سلام حقيقي مع العرب، يشترطان أولاً التخلي عن الشعارات اليهودية الشوفينية والعرقية التي تجعل من اليهود شعب الله المختار، والتحرر من رواسب القرون المختلفة، والاتجاه صوب الحداثة، لبناء مجتمع مسالم ديموقراطي محب لغيره من الشعوب متعاون معها دون ما صلف أو هيمنة أو ادعاء للتفوق. يبقى أن «إسرائيل وهويتها الممزقة» يسدي خدمة مهمة للثقافة السياسية العربية في وقت يتجه العرب نحو السلام مع إسرائيل، فلقد أماط اللثام عن حقائق تتصل بالصهيونية وأهدافها وبواقع الدولة الإسرائيلية وتناقضاتها العميقة، وقد تكون مجهولة لدى الرأي العام العربي ومغايرة للتصور السائد للأيديولوجية الصهيونية عند شريحة واسعة من المثقفين العرب. مثل هذه الدراسة، ودراسات أخرى يجب أن تعقبها، لا غنى عنها للفكر السياسي العربي. ولكن مع هذا لابد من تسجيل بعض ملاحظاتنا على هذا الكتاب.
آ) صيغ الكتاب بمنهجية حائرة بين الاستطالة والإيجاز، بين العمق والتبسيط، فجاءت أقسام منه فجة ومشوشة، وبقي كثير من المسائل التي أثارها غامضاً وملتبساً، كالعلاقة بين اليهودية والصهيونية، والعلاقة بين الصهيونية والإمبريالية ومخططاتها للمنطقة منذ بداية العصر الكومبرادوري، والأساس الاجتماعي والطبقي للتمزق داخل الكيان الصهيوني.
ب) إن التصور الذي يطرحه المؤلف لتخليص إسرائيل واليهودية من آفاتها وتناقضاتها، هو في نظرنا طرح طوباوي يفترض إمكانية تخلي إسرائيل عن أيديولوجيتها العنصرية، أي إمكانية تحول الفكر الصهيوني إلى فكر إنساني ديموقراطي. وبمعنى آخر، إن ما يريده عبد الدائم هو انقلاب أيديولوجي يمس جوهر الوجود الصهيوني ويسقط كل مبررات وجود إسرائيل. إن هذا مستحيل في اعتقادنا ولنا في إصرار اليهود عبر التاريخ على فكرهم العنصري وذهنية «الغيتو» ما يدعم هذا الاعتقاد ويؤكده، وما يدفعنا إلى عدم المراهنة على مستقبل الديموقراطية في إسرائيل.
ج) لا نشارك المؤلف تفاؤله بحدوث تغيير جدي في إسرائيل بفعل التناقضات الذاتية الكثيرة التي تمزّق المجتمع الإسرائيلي، ففي رأينا أن الصهيونية تمكنت في الماضي من تجاوز تناقضاتها، وهي قادرة في المدى المنظور على امتصاص أزماتها والتخطيط للمستقبل. فالعنصرية الصهيونية تبقى جامعاً موحداً يجمع كل المتناقضات، ولو بدا أحياناً أن الأمور تجري على عكس ما يرتجيه الحلم الصهيوني.
كرم الحلو