عطاء المثقف العربي: التخلف العربي وضغوط المجتمع

نشره «مركز دراسات الوحدة العربية» ضمن كتاب عنوانه «المثقف العربي: همومه وعطاؤه»، بيروت، كانون الأول/ديسمبر، 1995

عطاء المثقف العربي: المثقف العربي وضغوط المجتمع
الدكتور: عبد الله عبد الدائم

(أولاً) مدخل:
هل المثقف العربي متّهِم أو متّهَم؟ هل ضغوط السلطة من جانب وضغوط المجتمع من جانب آخر هي التي تحول بينه وبين أداء دوره كاملاً، أم أن ثمة أيضاً وخاصة أسباباً مردّها إليه، سواء اتصلت بممالأته للسلطة والمجتمع، أو اتصلت بمضمون فكره ومستواه ومدى قدرته على التأثير في السلطة أو المجتمع، أو اتصلت بمبلغ إدراكه لمطالب المجتمع ومرتجياته؟ وفوق هذا وذاك، ما هو مدى التزام المثقف العربي بفكره وثقافته، وما مدى عزمه على المنافحة عنها، بل ما مدى عمق انتمائه إليها؟
تساؤلات عريضة عديدة يطرحها منذ البداية الحديث عن المثقف العربي وضغط المجتمع. وليس هدفنا من طرح بعضها منذ فاتحة حديثنا أن نقلب ظهر المجن، وأن نحمّل المثقف العربي وحده ما يتبدى لديه غالباً من فتور أو قصور في الدعوة إلى تغيير المجتمع، ناجم عن التقصير في مواجهة ضغوطه مواجهة علمية واعية وصادقة. وكل ما هنالك أننا أردنا منذ البداية أن نؤكد أن العلاقة بين المثقف العربي والمجتمع علاقة دائرية، علاقة تأثر وتأثير متبادلين. فضغوط المجتمع المختلفة كثيراً ما تحول بين المثقف العربي وبين الانطلاق الحر الكامل في معارج الإبداع والعطاء بصوره الكثيرة. وفقر المحتوى العلمي والعقلي والتغييري والتجديدي لعطاء المثقف العربي في كثير من الأحيان وعجزه غالباً عن الغوص في أعماق حاجات المجتمع من أجل إدراك مستلزمات تغييره وضعف التزامه أحياناً بما تمليه عليه ثقافته، أمور تجعل قدرته على مخاطبة المجتمع منقوصة ومقصرة عن مداها.
على أن المسؤولية الأساسية في نظرنا، تجاه هذا الدور الفاسد (أو الحلقة المفرغة كما يقال) بين المثقف العربي والمجتمع تقع على عاتق المثقف أولاً. فهو بالتعريف من تقع عليه قيادة الفكر وتطويره لدى الجمهرة الكبرى من الناس، من أجل تغيير المجتمع وتطويره. وهو بحكم إيمانه بدور الفكر والثقافة في قيادة التغيير وبناء المجتمع المتحضر تقع عليه مسؤولية البرهنة على هذه الحقيقة وغرسها في وعي الناس. ونقلها من الأذهان إلى الأعيان، والوصول بها إلى مستوى العمل والتطبيق.
ولسنا نود في هذا المدخل أن نستبق أموراً سوف نعالجها مفصّلة في صلب هذا البحث. وجل ما أردناه أن نطرح المسألة، مسألة الصلة بين المثقف العربي وبين المجتمع، طرحاً واضحاً يبين شقيها المتكاملين، وأن نوميء من خلال ذلك إلى ما نود أن نخلص إليه في خاتمة هذا البحث، وهو التأكيد على أن ضغوط المجتمع – شأنها شأن ضغوط السلطة الحاكمة – لا يجوز أن تكون مبرراً لتقصير المثقفين في أداء رسالتهم، وإن كانت تحدّ أحياناً من عطائهم، وينبغي بالتالي ألا تتخذ ذريعة للنكوص عن رسالة الثقافة الأولى، رسالة الالتزام بالتغيير، بل أن تتخذ حجة تبيح الممالأة والمداهنة بل تزييف الحق والحقيقة.
أولاً – تعريفات:
وقد يفرض علينا المنهج العلمي في البحث، بادي ذي بداءة، أن نحدد ما نعنيه بالثقافة والمثقفين. وعلى الرغم من أننا نعتقد أنه قد يكون من الأفضل ألا نقدم أي تعريف محدّد للمثقف وأن نحافظ بالتالي على معناه الواسع الشامل الذي يدل عليه اللفظ نفسه، فإننا سنشير عابرين مع ذلك إلى بعض ما جرت العادة على ذكره من تعريفات للثقافة والمثقفين.
وإذا نحن التمسنا التعريف الواسع لكلمة مثقف. قلنا مع قسطنطين زريق أن المثقف العربي (وهو الذي أوتي حظاً من الثقافة في بلد من البلدان العربية تؤهله للمساهمة أو المشاركة في حقول الفكر أو الأدب أو العلم بما في ذلك الاختصاص المهني. وتكتسب هذه الثقافة إما عن طريق التعلم الجامعي أو العالي بشكل من أشكاله، وإما عن طريق الإطلاع الشخصي والاكتساب الذاتي والممارسة في حقل من حقول الثقافة).
وهنالك، في إطار هذا التعريف العام للثقافة، من يستخدم كلمة مفكر بديلاً عن كلمة مثقف، سعياً وراء توضيح مهام المثقف ودوره. وهذا ما يفعله سعد الدين إبراهيم في بحثه الشهير حول “تجسير الفجوة بين صانعي القرارات والمفكرين العرب”، حين يبين أن المفكر هو “من تكون صناعته الأساسية هي الفكر أو الثقافة، أو من يستحوذ الاشتغال بالفكر والثقافة على قدر كبير من طاقاته”. ويورد سعد الدين إبراهيم مجموعة من التعريفات العالمية التي تؤكد هذا المعنى وتفصّل مضمونه، وينتهي إلى تعريف توفيقي للمفكر يتضمن العناصر التالية: المعرفة العامة أو المتخصصة، الاهتمام بأمور الثقافة، الاهتمام بالمسائل الأخرى لمجتمعه خارج نطاق تخصصه، التعبير عن هذه الاهتمامات العامة بقصد التأثير على المجتمع والسلطة.
والواقع أننا نقع على تعريفات عديدة للثقافة والمثقفين، أو للفكر والمفكرين (إن صح توحيد معناهما)، تنطلق عن النظرة الخاصة لكل من أصحابها إلى دور الثقافة والمثقفين، على نحو ما نجد من تعريفات متعددة للفلسفة تبعاً لمنازع الفلاسفة وأنظارهم الخاصة.
ويعنينا نحن أن نؤكد من خلال هذه التعريفات المتعددة للثقافة والمثقفين، على التعريف الذي يبرز الدور الفكري القيادي للمثقفين، والذي يجعل منهم المعبرين عن ضمير الأمة، والعاملين، عن طريق الفكر، على تغيير واقع مجتمعاتهم ورسم المشروعات اللازمة لبناء مستقبلها. ولا يعني هذا أن هذا التعريف هو التعريف الجامع أو التعريف الأوحد، بل يعني أنه عندنا التعريف الجدير بالمثقف العربي. وعلى أية حال، حسبنا أن نؤكد أننا في بحثنا هذا نتصدى للعلاقة بين المثقف العربي والمجتمع من خلال هذا التعريف وهذا الدور الخاص الأساسي الذي نمنحه للمثقف، ولا نتصدى بالتالي للأدوار الأخرى التي يضطلع بها المثقف، ولا سيما في ميادين الاختصاص العلمي المختلفة، وهي أدوار لا تنقص من شأنها. ذلك أن مجتمعنا العربي يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى التجديد والتحديث والتغيير، وهذا التجديد لا يتم إلا عن طريق الإسهام الفعال للنخبة المثقفة المبدعة. فلا مثقفين بدون عزم على التغيير، ولا تغيير بدون مثقفين مبدعين ملتزمين.
(ثانياً) المثقف العربي والمجتمع:
من خلال ما سبق أن ذكرنا، يحق لنا أن نتساءل دون ما جمجمة: هل هنالك انفصام بين المثقف العربي والمجتمع العربي؟ وما أبعاد هذا الانفصام وما أسبابه؟
ولا شك أن المثقف العربي يواجه انفصلاً مزدوجاً: الانفصال بينه وبين السلطة من جانب، والانفصال بينه وبين المجتمع من جانب آخر. وكلاهما لا يبلغ حد القطيعة طبعاً، غير أنهما كثيراً ما يتعاظمان ويشتدان. ونخف إلى القول أن الانفصال أو البعد عن المجتمع لا يقل عن الانفصال أو البعد عن السلطة بل لعله أدهى وأمرّ.على أن كلا الانفصالين، نعني الانفصال بين المثقف والسلطة والانفصال بين المثقف والمجتمع، متكاملان إلى حد بعيد، وكل منهما يقود إلى تعميق الآخر. وبوجه خاص، من أهم العوامل التي تيسر للسلطة الحاكمة الضغط على المثقفين عجز هؤلاء عن تحقيق الالتحام العضوي بين عطائهم الثقافي وبين مطالب المجتمع العميقة، ذلك الالتحام الذي من شأنه، إذا توافر، أن يخفف أو يقضي على مقاومة السلطة للمثقفين، وأن يقرّب بالتالي بين عوامل التغيير الثلاثة الكبرى: السلطة السياسية والمجتمع والمثقفين.
فما هي إذن أسباب الفرقة بين المثقفين العرب وبين المجتمع؟ واضح من عرضنا أننا لا نحمّل المجتمع وحدة مسوؤلية هذه الفرقة، ولا نرى أن المشكلة لا تعدو أن تكون مشكلة الضغوط الاجتماعية المختلفة التي تحدّ من عطاء المثقف العربي. والمسؤولية بالتالي مسؤولية مزدوجة: فهنالك، في هذا الفراق، مسؤولية يتحملها المجتمع ومسؤولية يتحملها المثقفون/ وهنالك أسباب للفصام راجعة إلى المثقفين وأخرى راجعة إلى المجتمع. على أن مسؤولية المثقفين عندنا تظل أكبر، بحكم دورهم الأساسي، دور تغيير المجتمع عن طريق الفكر والثقافة، كما قلنا ونقول.
1 – أسباب الانفصام الراجعة إلى المثقفين:
لنبدأ إذن بالحديث عن أسباب الانفصام أو البعد بين المثقفين والمجتمع التي ترجع إلى المثقفين أنفسهم.
أ – أول هذه الأسباب يلخصه علي موسى بالقول الآتي: “وفي اعتقادي أن القضية الأساسية هي أن المفكرين لم يلجوا إلى القليل في المجالات التي تعني الأمة …. هذا الانفصال أفقدهم الوزن الذي يمكن أن يعطيهم الوزن اللازم في المعادلة”.
ذلك أن مهمة المثقف الأولى كما يقول برهان الدجاني ” هي بلورة نواة لأفكار مجتمعية يلتحم المجتمع حولها ويسير تحت مظلتها”.
وفي هذا يقول قسطنطين زريق في مقال له قديم: “في سبيل ثقافة عربية أفضل، لا بد أن نرسم الخطوط الكبرى للمجتمع العربي الأفضل الذي نريده”.
من البدهي القول إذن أن تجاوب المجتمع مع المثقف رهن بقدرة هذا المثقف على أن يفصح عمّا يختلج في أعماق ذلك المجتمع من حاجات خفية، وأن يكشف من خلال تحليله عمّا يختلج في أعماق ذلك المجتمع من حاجات خفية، وأن يكشف من خلال تحليله وفهمه عن الرؤى والأنظار التي يشرئب إليها وجوده الحي، وإن تكن لك الرؤى والأنظار خفية على الناظر العادي.

ولا يعني هذا أن بعض المثقفين العرب لم يضطلعوا بمثل هذه المهمة، فهنالك الكثيرون الذين ربطوا ربطاً وثيقاً بين أفكارهم وأنظارهم وبين حاجات المجتمع ونداءاته المستقبلية العميقة. غير أن كثرة المثقفين، في مقابل ذلك، ظلت في غربة عن تلك الحاجات، ولم تلامس من آفات المجتمع العربي ومطالبه وتوقه إلى القشة السطحية، بل الزائفة أحياناً. وهذا ما سنتوقف عنده فيما بعد.
وحسبنا أن نقول ههنا بإيجاز أن انشغال الكثرة الكاثرة من المثقفين العرب عن الغوص في أعماق حاجات المجتمع العربي وعن تحسس شعل التغيير والتجديد التي تغلي في باطنه، جعلهم في غربة عنه، وعطّل دورهم الأساسي، دور تغييره من خلال الكشف عن حاجاته العميقة وصبواته الكامنة. بل إن بعض المثقفين حسبوا الظاهر باطناً والعابر باقياً والزائف صحيحاً، فجعلوا مهمتهم ودورهم تخليد البنى البالية والقيم المغلوطة والمفاهيم الشائعة الخاطئة.
ب – وزادت في اغتراب الكثيرين من المثقفين العرب عن مجتمعهم، تلك النزعة التي سادت في المجتمع العربي منذ أواخر العهد العثماني وبدايات النهضة العربية، نزعة الاهتمام بالآخر (أي بالغرب) اهتماماً أدى إلى انشغال به أو على ازدواجية حضارية، بدلاً من أن يؤدي إلى تمازج ثقافي خصيب.
وكما يقول عبد الله العروي “انشغل المفكرون العرب من بداية القرن التاسع عشر “بالآخر” أي بالغرب. وببين سعد الدين إبراهيم أن هذا الاغتراب الثقافي الذي أحدثه الاختراق الأوروبي، ولّد تشوهات في بعض هياكل المجتمع العربي. أبرزها الازدواجية الحضارية – الاجتماعية – الاقتصادية التي خلقها الغرب خدمة لمشروعه الاستعماري، أو التي جاءت كرد فعل محلّي غير مباشر على الهيمنة الأجنبية. ويقصد بالازدواجية اهتراء البنى التقليدية للمجتمع دون أن تزول تماماً، وولادة بنى شبه حديثة دون أن تكتمل أو يسمح باكتمالها.
هذا التشوه الذي أصاب المجتمع العربي على أثر اصطدامه بالحضارة الغربية، والذي خلف ازدواجيات فكرية واجتماعية وسياسية عديدة، ولد لدى كثير من المثقفين العرب بحرانا ما تزال آثاره قائمة حتى اليوم. قوامه ذلك الفكر الحائر بين الأصالة والمعاصرة كما يقال، الذي ما فتئ يكرر تلك المشكلة الأزلية الأبدية، مشكلة التوفيق بين التراث والتحديث، منذ نيف وقرن من الزمان، دون أن يخطو في حلها خطوات ذات بال. وما يزال المثقف العربي في معظم الأحوال في مرحلة من التفكير لم تتجاوز الطروحات التي طرحها أمثال رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الله النديم وأحمد فارس الشدياق ومحمد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان وسواهم، بل ما زالت مقصرة عن طروحات أمثال الكواكبي وجورج أنطونيوس ونجيب عازوري وأمين الريحاني وسواهم ممن جمعوا جمعاً عضوياً بين العروبة والإسلام. وما تزال الحلول التي يقدمها معظم المثقفين حلولاً توفيقية إن لم تكن تلفيقية، عاجزة عن إخراج المجتمع العربي من بحرانه إن لم تزد في هذا البحران والضياع.
ولئن كان القائلون بالعود الحرفي إلى التراث الذي ساد في الحضارة العربية الإسلامية يعالجون مشكلات المجتمع العربي عن طريق الهروب إلى الوراء إلى الماضي، فإن الداعين إلى الارتماء في أحضان الغرب وإلى العربة الثقافية فيه يعالجون تلك المشكلات عن طريق الهروب إلى أمام. أما أصحاب الموقف التوفيقي فقلما يوفقون في إقامة الصلة العضوية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ومن النادر أن يقرءوا التراث قراءة حديثة، تنظر إليه بوصفه حلقة من تجربة مجتمعية إنسانية بعيدة في الزمان والمكان، تطورت بتطور الأزمان ولا بد أن تتطور دوماً وأبداً مكن خلال الواقع ومطالبه. وسنعود إلى هذا كرة أخرى.
جـ – ومن أسباب الفصام بين المثقفين العرب ومجتمعهم التي يسأل عنها المثقفون عدم اضطلاع هؤلاء بدورهم التغييري. وقد سبق أن أشرنا إلى أهمية هذا الأمر في مدخل هذا البحث. فهنالك الكثير من المثقفين العرب الذين ما يزالون معتزلين في أبراجهم العاجية قلما تعنيهم مشكلات مجتمعهم. وكثيراً ما يخيل إليهم أن دورهم الأساسي معالجة مشكلات الإنسان أنى كان، ناسين أو متناسين الارتباط الوثيق بين الالتزام بهموم الإنسان بوجه عام وآماله وآلامه ومصيره، وبين تفتيح طاقات الإنسان العربي المغلولة المكبوتة تحت وطأة التخلف. لا سيما أن تجاوب المجتمع مع الجهود التي يبذلها المثقفون من أجل توضيح ملامح التغيير ومسالكه يزداد اتساعاً مع اتساع قاعدة التعليم لدى فئات المجتمع المختلفة. فلقد أدى هذا الاتساع كما نعلم إلى زيادة وعي الجماهير لمشكلاتهم الاجتماعية وإلى تعاظم إدراكهم للبون بين الواقع المتخلف السائد في مجتمعهم وبين واقع المجتمعات المتقدمة.

وجملة القول في هذا المجال أن تأثير النخبة المثقفة في المجتمع يشتد بمقدار ما تعيش هذه النخبة واقع المجتمع ومشكلاته وقضاياه، وبمقدار ما تعبر بالتالي تعبيراً صادقاً عن آماله وطموحه ومستلزمات تغييره. ويزيد في أهمية هذا الدور التغييري الذي ينبغي أن يضطلع به المثقف أن أي تغيير جذري فعال في حياة المجتمع لا يمكن أن يتم دون مشاركة المثقفين مشاركة فعالة.
وبدهي أن التغيير الذي يتوجب على المثقفين القيام به لا يكون ناجعاً وفعالاً إلا إذا توافرت فيه جملة من الشروط، على رأسها معرفة المجتمع معرفة علمية دقيقة ما دامت “المعرفة قوة” وما دام التأثير في القوانين التي تحكم المجتمع لا يتأتى إلا عن طريق معرفة تلك القوانين من أجل مغالبتها مغالبة علمية وتوليد قوانين ومبادئ جديدة تحكم المجتمع.
د – وقد نجمل كل ما سبق أن قلنا إن من أهم أسباب الفصام بين المثقفين والمجتمع غياب الرؤية الحضارية الشاملة لدى كثرة المثقفين. وقد عبرت عن ذلك “الخطة الشاملة للثقافة العربية” حين قالت بوضوح: “والأسئلة الكبيرة التي تطرحها المحصلة النهائية لكل ذلك هي مدى استناد الحركة الثقافية العربي المعاصرة إلى رؤية فكرية حضارية شاملة وذات موقف واضح محدد من الكون والتاريخ والمجتمع والإنسان والفن … تكوّن الإطار المرجعي لها”. كما عبر عن ذلك سعد الدين إبراهيم في أكثر من موضع من بحثه الذائع حول “تجسير الفجوة بين صانعي القرارات والمفكرين العرب”.
فلقد ذكر فيما ذكر أن إصلاح الخلل بين المفكر والمجتمع يتطلب من المفكر، فيما يتطلب، “تشييد مشروع حضاري قومي كتتويج لعمل المفكر”. وعبر عن ذلك أيضاً عاطف عضيبات حين قال: “إن سر أزمة المثقفين العرب في هذه الأيام تكمن في أن مجتمعنا العربي الذي يعاني من أزمة تهدد كيانه هو في أمس الحاجة إلى مشروع استقلال وتحرير وطني”.
وتقرير هذه الحقيقة البدهية غدا ذائعاً على كل شفة ولسان، وقد نفضتها الأقلام والصحف وقلبتها على وجوهها المختلفة، ولم تبق فيها بقية لمستزيد. ومع ذلك، فما يزال العمل من أجل توليد مثل هذا المشروع العربي الحضاري الشامل عملاً مبعثراً شتيتاً، وما تمّ في هذا المجال لا يعدو أن يكون قرزمات أولية أو محاولات فردية منقوصة”.

ذلك أن هذه المهمة الكبرى تستلزم اجتماع الطاقات الثقافية العربية وتعاونها. على أنها تستلزم قبل هذا وفوق هذا وضوح الرؤية الحضارية المستقبلية لدى نخبة المثقفين العرب أنفسهم، الأمر الذي يتطلب حواراً موصولاً وطويلاً بين أفراد تلك النخبة. وتزداد صعوبة توليد مثل هذا المشروع الحضاري العربي، وتزداد أهميته بالتالي، بسبب الوضع العالمي الجديد الذي لم تتضح معالمه، والمفتوح على احتمالات عديدة، والمحمل بمفاجآت قد تكون كبيرة. الأمر الذي يفرض على النخبة المثقفة في البلاد العربية أن تشمر عن سواعدها وتجمع قواها من أجل الحيلولة دون ضياع المشروع الحضاري العربي وسط هذا البحران والزحام. ومن أجل الحيلولة بالتالي دون وأد الثقافة العربية والتطويح بوحدة الوجود العربي. فعالم الاحتمال، عالم “المعقد والمتشابك” على حد تعبير المفكر الفرنسي “ادغار موران Edgar Morin” يستلزم من المثقفين العرب تبيّن الاحتمالات العديدة أمام الوجود العربي، واختيار أفضلها وأدناها إلى التحقق وسط عواصف الوضع العالمي، وتوليد مشروع حضاري عربي جديد بالتالي من خلال ذلك كله.
والكشف الجاد عن مثل هذه الرؤية الحضارية شرط لا بد منه من أجل تعبئة المجتمع العربي وجمع جهوده وتفجير عطائه وإبداعه. وما سوى ذلك فروع من هذا الأصل.
هـ – وما دام الأمر كذلك، كان بدهياً أن نقول بالتالي أن تشتت المثقفين وعجزهم عن تكوين قوة ثقافية متكاملة مترابطة، سبب أساسي من أسباب فراقهم مع المجتمع وعجزهم عن التأثير فيه. فالرؤية الحضارية وبناء المشروع الحضاري والتعبير عن حاجات المجتمع الحاضرة والمقبلة وكتابة “تاريخ الغد” كما يقال، أمور لا تتم إلا عن طريق الجهد الثقافي المنظم المشترك. ولا نتهم أحداً إن قلنا أن المثقفين ما يزالون يعملون فرادى إلى حد كبير، دون أن يستطيعوا تكوين فئة ثقافية ملتحمة (انتلجنسيا كما يقال، وهي كلمة روسية الأصل) لها دورها وتأثيرها المتئم أضعافاً مضاعفة، بفضل تفاعل جهودها، ولها بالتالي أثرها القيادي في المجتمع. وفي هذا يقول عاطف عضيبات في حديثه عن أزمة المثقفين العرب: “ليست هنالك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب. وأقصد بالأنتلجنسيا هنا تلك الفئة الاجتماعية المنظمة التي يقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاته. فبدلاً من وجود انتلجنسيا عربية كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة”.

بل إن سعد الدين إبراهيم يمضي إلى أبعد من هذا فيتحدث عن “البداوة الفكرية” في البلاد العربية، تلك البداوة التي “ينظر من خلالها كل مفكر، عن وعي أو غير وعي، إلى غيره من المفكرين كما لو كانوا منقسمين إلى قبائل، وكل قبيلة إلى عشائر، وكل عشيرة إلى بطون، ولك بطن إلى أفخاذ”.
وفي مقابل تشتت المثقفين يشير العديد من الباحثين إلى توحدهم أيام النضال من أجل الاستقلال وإلى التحامهم إذ ذاك بالتالي بجماهير شعبهم. الأمر الذي يبين كرة أخرى أن ثمة علاقة دائرية متكاملة بين عمل
و – وفي وسعنا أن نذهب إلى أبعد وأعمق من هذا كله في تفسير الفصام بين المثقفين العرب والمجتمع ومسؤولية المثقفين في ذلك. في وسعنا أن ننطلق مع الكثير من المحاولات التي قامت بنقد البنية الفكرية للمثقفين أنفسهم. وقد تكاثرت هذه المحاولات في الآونة الأخيرة، ونتج عنها نقد أشمل لمنطلقات الثقافة العربية ومرجعياتها الماضية وآثارها الحالية وللعقل العربي وتكونه بعد عصر التدوين، على نحو ما نجد لدى المفكر العربي المتميز عابد الجابري. وليس المجال مجال الحديث عن مثل هذه المحاولات ومناقشتها. وحسبنا أن نقول أنها وسواها توجه للثقافة العربية نقداً أساسياً طالما توقف عنده الباحثون العرب والأجانب، وهو اتهام هذه الثقافة بأنها تستخدم منظومات الألفاظ بدلاً من منظومات الأشياء، وبأنها تفقد بسبب ذلك قدرتها على التماسّ مع الواقع وعلى تفجير مؤسساته.
ومن الذين يتريثون عند بعض أبعاد هذا النقد مطاع صفدي، ولا سيما في مقال له قديم بعض الشيء، نشر في مجلة الآداب عام 1970. ويربط الكاتب نقده هذا بنتائج الدراسات التي كشفت عنها أبحاث الفلسفة البنيوية (وأبحث الفيلسوف الفرنسي “فوكو Foucault”) ويقول في هذا: “ولعل أهم نتائج هذه الأبحاث نفي الوجود المستقل للمعنى أو للفظ واعتبار العبارة اللفظية صيغة وجود، لا تكفي ترجمتها المعجمية لفهمها،
بل لا بد من النظر إليها كوحدة ممارسة إنسانية تمتزج فيها علاقة الإنسان بالعالم، وتكوّن موقفاً ذا دلالة”. ثم يربط هذا بمستلزمات الثورة الثقافية فيقول: “فكل من الثورة عالمياً ومحلياً بحاجة حقاً إلى ثورة ثقافية عارمة تعيد لها حريتها وتفاعلها مع أفكارها وقدرتها على تحليل الواقع المستجد حولها من خلال معطياته الخاصة، وتتيح لها فرصة القبض على زمام التحرك المنتج على أ{ض المعركة، معركة الأشياء وليس معركة الألفاظ”. ويضيف قائلاً: “ولأن الأشياء غائبة عن ساحة الوعي في المجتمع الركودي، فإن الاستجابة للألفاظ هي المحرك اليومي بدلاً من المحرك الديالكتي”.
وفي وسعنا أن نمضي بعيداً في المنطق الذي يثوي وراء مثل هذه الاتجاهات، وكلها في نظرنا تود أن تؤكد واقعاً قوامه أن الفكر الذي يوجه الثقافة العربية ويسود لدى المثقفين العرب غالباً يشكو نقائص أساسية في كثير من الأحيان (تسهم جميعها في التباعد بين المثقفين والمجتمع):
أولها ضعف المعرفة بالواقع العربي (وبالواقع العالمي)، الأمر الذي يؤدي إلى أحكام كثيرة يغلب عليها المنطق اللفظي ويحكمها ضرب من “التجارب العقلية” لا سند لها في الواقع الموضوعي الشخصي.
وثانيها الانطلاق غالباً من أفكار مبيتة ومن مواقف ثابتة، واصطناع الفكر بعد ذلك من أجل تبريرها وتسويقها. وهكذا يصبح الفكر حلبة للصراع بين انتماءات المثقفين المذهبية والإيديولوجية، ونغدو في كثير من الأحيان أمام مناظرات كلامية تتم الغلبة فيها لمن أوتي حظاً أكبر من التشدق والبلاغة اللفظية.
وثالثها ضعف الإبداع الذاتي لدى المثقفين العرب غالباً، واعتمادهم في معظم الأحوال على حصاد ما شدأوه من الثقافة العالمية، وتبني أحكام هذه الثقافة وقسر الواقع العربي على الدخول في قوالبها.
ورابعها نزوع الفكر لدى المثقفين إلى أن يعلو فوق معطيات الحياة المباشرة للجمهرة الكبرى من أبناء المجتمع، وفوق أنماط العيش لدى مختلف الفئات المهنية والطبقات الاجتماعية، وعجزه بالتالي عن الاستماع الجاد لمنطق الكثرة وحرصه على اعتماد منطق القلة.
وخامسها عجز الكثرة من المثقفين عن معرفة التراث معرفة علمية، وعن تقديمه مقروءاً وفق ضبط علمي دقيق يبين تطوره الطويل منذ عصور موغلة في القدم. أو بتعبير آخر عجزهم غالباً عن قراءته كحفل لحدث الواقع المجتمعي، بحيث يعود إلى حجمه الطبيعي الصادق وظرفه الموضوعي.
هذه الثغرات وأمثالها مما يشكو منه الفكر الثقافي العربي من شأنها كما نرى أن تقود إلى تلك العلة الجامعة، علة التعامل مع الألفاظ بدلاً من الأشياء، وغلبة النطق الصوري على البرهان العياني التجريبي، وسيطرة القوالب الجاهزة وأساليب التبرير اللفظية. الأمر الذي يقيم هوة كبيرة بين المجتمع في واقعة وحياته اليومية وتطلعاته وآماله المستقبلية، وبين الفكر الثقافي المسلح بالقوالب الجاهزة.
ومن الجدير بالذكر أن لجوء الكثير من المثقفين إلى مثل هذه القوالب الجامدة المبيتة من أجل تأكيد صحة بعض الأفكار والأهداف المحددة سلفاً هو من الوسائل التي يلجأ إليها بعض المثقفين من أجل التمكين للسلطة الحاكمة أو سواها من ضروب السلطة في المجتمع.
وهكذا يكاد يفرغ بعض العطاء الثقافي من معناه، معنى النقد والتغيير والتجديد، ويغدو بالتالي أداة من أدوات استمرار ما هو قائم، على أننا نستدرك، خوفاً من أي لبس، فنقول أن هذا الفكر المستمسك بالقوالب الجامدة والصيغ المنطقية اللفظية لا نجده فقط عند أولئك الذين يصطنعونه عن وعي وإدراك، خدمة للسلطة أو لإيديولوجيات معينة، بل نجده حالاّ في عقول الكثير من المثقفين، عن عدم وعي منهم أو عن عجز محايث لبنيتهم العقلية.
وبعد، تلك أهم أسباب الانفصال بين المثقفين والمجتمع، الراجعة إلى المثقفين أنفسهم. وثمة دون شك أسباب أخرى فرعية تصدر عنها أو تضاف إليها. وهي كلها تبين أن الهوة القائمة بين المثقفين والمجتمع لا يجدي فيها أن يتهم المجتمع المثقفين، بل لا بد من تحليل العوامل المختلفة التي تؤدي إلى هذا التباعد تحليلاً يستهدف التغلب عليها. ولا شك أن نقد المثقفين لأنفسهم هي الخطوة الأولى الهامة. إن عليهم أن يؤمنوا إيماناً عميقاً بأن المجتمع لا بد أن يستجيب لدعوة المثقفين إذا طرق هؤلاء بابه حقاً وهزوا أوتار حياته، وجعلوا العلم والعقل وملامسة الواقع الحي سبيلهم إلى معرفته والدعوة إلى تغييره. وأفدح الخطأ وأكبر الوهم أن يتبنوا قولة أمير الشعراء شوقي في مسرحية “كليوباترا” متحدثاً بلسان أحد أبطالها عن الشعب “ياله من ببغاء عقله في أذنيه”. فالشعب أشد وعياً وفهماً مما نحسب ومما يحسب الكثير من ذوي السلطان، ولن يحترم المثقفين إلا إذا احترمه هؤلاء أولاً.
ولكن لا بد من الحديث بعد هذا كله ورغم هذا كله عن مسؤولية المجتمع عن ذلك الفراق الذي نجده بين المثقفين والمجتمع.
2 – أسباب الانفصام الراجعة إلى المجتمع:
المجتمع المتخلف يجعل مهمة المثقف يسيرة وعسرة في آن واحد. فالتخلف موضوع دراسة مغرية للمثقفين. وقد كتب عنه الكثير في الغرب والشرق. ومشكلاته العامة غدت معروفة إلى حد كبير، طرقها الباحثون من كل حدب وصوب. وسبل معالجة تلك المشكلات بالتالي غدت شائعة ذائعة، وأصبحت لها مقارباتها الفكرية المتنوعية ووسائلها العلمية المختلفة.

غير أن ثمة إجماعاً، عبر هذه الدراسات التي تناولت مشكلة التخلف، يؤكد أن السبل الأساسية لمعالجة التخلف هي التصدي لمعالجة الإنسان ومواقفه واتجاهاته وقيمه، أي معالجة الثقافة السائدة في مجتمع من المجتمعات بتعبير موجز.
وههنا تكمن الصعوبة في معالجة التخلف، فإذا كانت الثقافة السائدة في مجتمع من المجتمعات هي وسيلة التغيير وغايته في آن واحد، ما دام تغيير الثقافة يعني تغيير الإنسان، منتج التقدم والتنمية وغايتهما معاً، فإن العبء الملقى على المثقفين لا بد أن يكون كبيراً. كما أن معالجتهم للتخلف، الذي هو في جوهره تخلف ثقافي، لن تكون يسيرة. لا سيما أن هذا يستلزم منهم التعرف العلمي العميق على خصوصية الثقافة السائدة في مجتمعهم، والربط بالتالي بين مسعاهم الثقافي وبين بناء الهوية الذاتية لمجتمعهم. ونخف إلى القول أن الهوية الذاتي لمجتمع من المجتمعات أو لأمة من الأمم، كالأمة العربية، لا تعني الهوية الماضية بل تعني بناء هوية ذاتية جديدة، من خلال تجربة الماضي وشجون الحاضر العربي وشؤون الحاضر العالمي وآمال المستقبل.
غير أن المجتمع سمته المحافظة، وكثيراً ما يكون عصيّاً على التغيير، لا سيما إذا لم تضطلع القيادات المثقفة بدور واع في هذا التغيير. ومن هنا يجد المثقف نفسه أمام طائفة من المعوّقات الاجتماعية والنفسية والثقافية بوجه عام، كثيراً ما تحاول عرقلة تقدمه وإجهاض جهود التغيير. وعلينا بالتالي ألا نقلل من دور هذه المعوقات في تعطيل عمل المثقف وسعيه من أجل بناء مجتمع جديد. بل علينا على العكس أن ندرس هذه المعوقات دراسة واعية مستفيضة بحثاً عن وسائل التغلب عليها تدريجياً.
ويزيد في صعوبة دور المثقف في نضاله الفكري من أجل مغالبة المعوقات الاجتماعية والنفسية والثقافية، استغلال السلطة السياسية أحياناً لتلك المعوقات، وللثقافة التقليدية الثاوية خلفها، ومن أجل خدمة أهدافها السلطوية.
ونستطيع القول إلى حد كبير أن السلطة، ولا سيما في البلاد العربية، محافظة بحكم غاياتها، وإن محافظة المجتمع تلتقي غالباً مع محافظة السلطة. الأمر الذي يزيد في صعوبة مساعي المثقفين في سبيل التغيير والتجديد. ويزيد ضغثاً على إبّالة أن بعض المثقفين ينضمون إلى جوقة السلطة في مساعيها لاستغلال روح المحافظة والجمود لدى أبناء المجتمع.

ومن هنا كان لا بد أن نبحث، بحثاً برقياً تلغرافياً بالضرورة، عن أهم أسباب الفرقة بين المجتمع والمثقفين التي ترتد إلى المجتمع نفسه، أي أن نبحث بتعبير أوضح، عن العلاقات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي تنهض في مواجهة جهود المثقفين العرب من أجل بناء مجتمع جديد.
(أ) ولا شك أن أول ما يطالعنا من تلك الأسباب، تلك الظاهرة العامة الشاملة المرافقة للتخلف، نعني تشوه المجتمع العربي وأمراضه.
وقد سبق أن أشرنا إلى بعض مظاهر التشوه التي أحدثها الاختراق الغربي في هياكل المجتمع العربي، على نحو ما يحدثنا عنها سعد الدين إبراهيم في بحثه الشهير “تجسير الفجوة … “. وعلى رأس مظاهر التشوه تلك، كما ذكر، الازدواجية الحضارية – الاجتماعية – الاقتصادية.
ومن بينها “النمو غير المتوازن بين المدينة والقرية والبادية في الوطن العربي وعدم التكافؤ بينها في الثروة والسلطة”. وقد أفرزت هذه التشوهات بنية حضارية ممزقة مشتتة، لا سيما إذا قارنا بينها وبين البنية الحضارية المستقة نسبياً، على الرغم من تخلفها، التي كانت سائدة في المجتمع العربي قبل الاصطدام بالغرب. وفي هذا يقول سعد الدين إبراهيم: “كان المفكر العربي نتاجاً لبيئة مهما تنوعت بشرياً فهي مستقة حضارياً. كان يتلقى المعرفة المؤسسة على الدين والمتمحورة حول الدين واللغة …. وخلق الاختراق الغربي للمجتمع العربي، بدءاً من القرن التاسع عشر، فيما خلقه، ازدواجية في المعرفة والثقافة والفكر.
ويفصح بشير العظمة في مذكراته عن أمراض المجتمع العربي وتشوهاته، ولا يقف في ذلك عند حدود ما أحدثه الاختراق الغربي من تشوه، بل يصعد إلى ما وراء ذلك من رواسب الحقبة العثمانية المتخلفة لدى الجمهرة الكبرى من أبناء الشعب العربي. وإلى هذه الرواسب البالية البعيدة عن روح التراث الإسلامي يعزو كثيراً من مظاهر التخلف في المجتمع العربي القائم، ذلك المجتمع الذي ما يزال يغلّب “وجهة نظر التقاليد واستمرارية ما هو قائم على العقل والظروف”. ويتحدث عن بعض مظاهر التخلف والبعد عن العقلانية والأخذ بالمنازع الغيبية والطقوس المتخلفة أيام الدولة العثمانية، ويقول في هذا: “انتشرت في سورية إلى جانب الكتاتيب مدارس تلقن أصول وطقوس وشعائر الطرق الصوفية كالجيلانية والنقشبندية والرفاعية والقلندية والسعدية وعشرات غيرها من الطرق الأخرى، يتردد إلى زوايا ومنازل أهل هذه الطرق جماهير الصناع والحرفيين، يعمقون ويكملون استلاب إرادتهم وتأكيد خضوعهم ورضاهم بالظلم والاضطهاد. وانصرف معظم العامة والخاصة من الناس للعبادة والزهد، وانطمس الفكر المنطلق المجدد … ” وهكذا تمّ، كما يرى، تعطيل الدماغ العربي في السياق التاريخي، واحتفظ بمجال العمال التأملي، وكأنه يعيش في حلم السعادة الأبدية”. ويخلص بعد ذلك إلى القول “إن العلة في تكوين العقل العربي بمعناه الفلسفي هو الانطواء على الذات والهروب من الواقع بتأثير فلسفة الزهد والتصوف”. وهكذا أصبح الإنسان، كما يقول “دمية يحركها ويعبث بها القدر والشيطان والنصيب”. “وينعكس هذا الفكر والسلوك على النشاط اليومي لجميع الناس في تمجيد القناعة والرضا وكبح الطموح وإجهاضه”.
ويلخص ما يقوله أمثال سعد الدين إبراهيم عن التشوه الحضاري الذي أحدثه اختراق الغرب وما يقوله أمثال بشير العظمة عن الإرث الثقافي المتخلف الذي ورثته البلاد العربية من عصور التخلف العربي بوجه عام ومن الحقبة العثمانية بوجه خاص، السبب الأول من أسباب الفرقة بين المثقفين العرب والمجتمع (الراجعة إلى المجتمع)، نعني أمراض المجتمع العربي الموروثة.
وفي وسعنا أن نفصل في آثار هذه الأمراض، مبينين نتائجها الضارة وآثارها المعطلة للتنمية وللتقدم بوجه عام. فهذه الأمراض تتجلى معوقات ثقافية واجتماعية ونفسية في وجه التنمية والتقدم وبناء المجتمع الحضاري الجديد. وحسبنا أن نذكر عابرين بين هذه المعوقات المواقف والاتجاهات والقيم السائدة في كثير من المجتمعات العربية التي تحقر العمل اليدوي أو ترذل العمل الزراعي أو الحرفة بوجه عام، والتي تعتبر المهنة امتهاناً. وحسبنا أن نذكر المواقف والاتجاهات التي تقول بسير العالم من سيء إلى أسوأ والتي تنفي فكرة التقدم. حسبنا أن نشير إلى موقف المجتمع العربي من المرأة ودورها في المجتمع. ولا بد أن نذكر بالإضافة إلى ذلك بعض رواسب القيم البالية التي تنادي بالتواكل والاستسلام والخضوع لما تأتي به الظروف، دون ما سعي من أجل التحسب لها أو درئها. لا بد أن نذكر كذلك تخلف الأساليب السائدة في تربية الأطفال والشبان، واستمرار روح السلطة والتسلط في هذا المجال وغيره إلى حد كبير. هذا إذا لم نذهب في التحليل إلى أبعد من ذلك، فنحلل بنية المجتمع العربي ونبين تناقض هياكله ومعتقداته ومواقفه وقيمه بين الريف والمدينة والبادية، ونحلل بنية الأسرة العربية وإفرازات تلك البنية.
ولا شك أن هذا كله يجعل مهمة المثقف في معالجة مشكلات المجتمع العربي ورسم مسالك تقدمه مهمة صعبة وشاقة. ولكنها ليست على أية حال مهمة مستحيلة إذا كان التحليل العلمي رائدها والعزم على تغيير المجتمع العربي قائدها.
(ب) ولعل هذا السبب الأول من أسباب الفراق بين المثقف والمجتمع بسبب المجتمع، نعني الضغوط الاجتماعية والثقافية والنفسية الصادرة عن تخلف بعض أنماط المجتمع بنية ومعتقدات وقيماً ومواقف، ينقلنا إلى السبب الثاني الهام، وهو سيطرة بعض أنماط الفكر الديني التقليدي المتخلف الذي ولدته عصور الانحطاط.
ومما لا شك فيه أن القيم الثقافية السائدة في معظم البلدان النامية، وفي البلدان العربية إلى حد بعيد، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد الدينية. وكثير مما أتينا عليه من القيم والاتجاهات الاجتماعية والنفسية والثقافية الذائعة في المجتمع العربي يرتد في خاتمة المطاف إلى اليم والاتجاهات الدينية السائدة. وهذه القيم والاتجاهات الدينية كما نعلم تشوبها رواسب كثيرة غريبة عن أصول الدين ومنطلقاته وروحه وتشوّه المنطلقات السامية لروح الإسلام وجوهره.
وليس المجال مجال الخوض في هذا الموضوع الشائك، موضوع الصراع بين بعض القيم الدينية المغلوطة السائدة وبين القيم الدينية الحية والسامية والأصيلة التي دعا ويدعو إليها كثير من المجددين الإسلاميين قديماً وحديثاً، التماساً منهم لروح الدين الأصيلة، غير أن ما لا بد من ذكره، ما دام بحثنا ينصرف إلى المثقفين ودورهم في المجتمع، هو أن كثيراً من المجددين في هذا المجال لقوا وما يزالون يلقون مقاومة وعنتاً، بل خسفاً واضطهاداً.
وفي هذا يقول مفكر مثل محمد النويهي: “إن الثورة الفكرية المنشودة لا تتم إلا إذا أدخلت تغييراً جذرياً على فكرنا الديني” ويعني بذلك الفكر الديني السائد.
ويضيف موضحاً ما يعنيه: “في هذه الميادين كلها نجد أن المفتاح إلى إدخال التغيير المنشود هو تغيير فهم الناس لماهية الدين وتغيير تقديرهم لدوره الذي يحق له أن يؤديه في المجتمع الإنساني”.
ويلخص النويهي أهم جوانب النظرة التقليدية إلى الدين في الأمور الآتية:
– ظهور فئة من الناس تدعي لنفسها حفظ الدين واحتكاره وتمثيله، رغم أنه “لا كهنوت في الإسلام”. وهذه الفئة تكاد تدعي لنفسا عصمة ليست لها، وتتولى محاكمة المخالفين لها في الرأي، ومصادرة الكتب التي تراها مباينة لوجهة نظرها، وتحريم كل رأي لا يتفق ورأيها.
– اعتقاد فريق من هذه الفئة بأن القرآن الكريم احتوى على تشريع كامل يقدم للمسلمين كل ما يلزمهم في دينهم ودنياهم، على الرغم من أن السنة الشريفة تضيف كثيراً مما لم يرد أصلاً في القرآن الكريم، كما توسع من الأصل القرآني وتشرحه في بعض المسائل التي جاء فيها موجزاً أو مشتبهاً يحتاج إلى مزيد من التفصيل والإيضاح.
– عدم إدراك المغزى العميق لإضافة مصادر أخرى للتشريع الإسلامي، عدا القرآن والسنة، كالقياس والإجماع اللذين ظهرا في طور مبكر من الإسلام، بالإضافة إلى مبدأ المصالح المرسلة وسد الذرائع، تلك المصادر التي أكد عليها فقهاء الإسلام الكبار أمثال ابن تيمية وابن قيّم الجوزية وسواهما، والتي أبرز شأنها منذ بواكير النهضة العربية أمثال خير الدين التونسي ومحمد عبده، فضلاً عن الاجتهاد الذي يفتح باباً واسعاً لملاءمة تغير الأحكام بتغير الأزمان، وفضلاً عن مبدأ “العلة” الذي كان الإمام الشافعي أول من قال به، وعن أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وسوى ذلك كثير.
– عدم وقوف الفكر الديني التقليدي في كثير من الأحيان عند ما في الدين الإسلامي من تمييز بين الأصول والفروع، وهذا التمييز نجده واضحاً لدى المصلح الديني الكبير محمد عبده وأتباعه في مدرسة المنار، إذ ميزوا بين الأصول والفروع، “وجعلوا الأولى خاصة بشيئين: العقيدة وما يتعلق بها من شعائر العبادة، والأخلاق أو الغايات السامية الخالدة التي نصبها الإسلام. أما الفروع فتشمل شؤون المعاملات، وما يقوم بين الناس من علاقات اجتماعية، مثل الملكية، والرق، وفوائد الأموال المودعة في البنوك، والمواريث، وتشمل أيضاً الطلاق وتعدد الزوجات. فالأصول هي التي لا يجوز لنا تغييرها، أما الفروع فمن حقنا أن ندخل عليها من التغيير ما يستلزمه تطور الأحوال”.
ويلخص النويهي في عبارة جامعة نقده للفكر الديني التقليدي نقداً يعبر عن نظرته إلى الدين ودوره في المجتمع، فيقول:
“جاءت الديانات الكبرى إلى الإنسانية لتعريفها بالإله الواحد الحق الذي لا تدركه الأبصار، ولتطهي إيمانها بالروح وتدعيمه، ولتثبيت يقينها باليوم الآخر الذي ترجع فيه إلى الله فتلقى جزاء ما قدمت في حياتها الدنيا، ولتبصيرها بالقيم العليا التي ينبغي لها أن تستضيء بها في كل ما تعمل، وأن تسعى إلهيا سعياً لايني ولا يفتر، تلك القيم التي ترفع الإنسان على أصله الحيواني. لكنها لم تأت إلى الإنسانية لتلقناها علوم الدنيا ومعارفها، لا لتضع تنظيماً كاملاً نهائياً لأمور دنياها ولوازم معاشها وأوضاع اقتصادها وطبيعة علاقاتها الاجتماعية. فإن كان بعضها قد احتوى قدراً من هذا التنظيم فلم يكن ذلك إلا لحاجة مؤقتة ملحة، ولم يكن يقصد له الدوام والاستمرار بدون تغيير، مهما يكن من حرف النص الديني الذي يفرضه. فكل النصوص الدينية بلا استثناء يجوز لنا أن نتجاوز حرفها في كل ما يتعلق بعلومنا ومعارفنا الدنيوية وأوضاعنا الاقتصادية ومعاملاتنا الحيوية وعلاقتنا الاجتماعية، ما دمنا نستهدف المثل الروحية العليا التي نصبها الدين لنا”.
وليس قصدنا ههنا أن نخوض في هذا البحث الديني الفقهي الشائك، وقد امتلأت الأسفار بالحديث عنه وتقليبه على وجوهه. وجلّ ما قصدنا إليه أن نبين كيف أن مسألة التخلف الاجتماعي، التي هي في جوهرها مشكلة تخلف ثقافي، لا تنفصل عن مشكلة التخلف في فهم الدين، وأن فهم الدين فهماً سليماً وقراءته قراءة صحيحة ووضعه في منزلته الحقيقة هو الذي يحفظ في آن واحد مقاصد الدين ويبقيه حياً ويزيد في تأثيره ودوره، وهو الذي يؤدي في الوقت نفسه إلى مغالبة التخلف الثقافي الذي نجده في المجتمع العربي، ذلك التخلف الذي يجعل الحوار بين المجتمع والمثقفين حواراً منقوصاً. وواضح مما قلناه أن القيم والمواقف والاتجاهات الدينية المتخلفة التي سادت بعد ركود الحضارة العربية الإسلامية والتي عززها الحكم العثماني، من أبرز عوامل الضغط الاجتماعي الذي يلقاه المثقفون من المجتمع ومن أقسى العقبات (والعقوبات) التي تجعل جهودهم من أجل تطويره وبناء مستقبله جهوداً قلما تعطي كامل مداها، إن لم ترتد حسيرة خاسئة.
(جـ) على أن ثمة سبباً آخر للفراق بين المثقفين والمجتمع كثيراً ما ينسى، يسأل عنه كلا المثقف والمجتمع، وإن تكن مسؤولية المجتمع فيه أفدح. ونعني به المستوى الثقافي الضحل للكثرة من أفراد المجتمع العربي، بما في ذلك المثقفون العاديون، وأنصاف المثقفين كما يقال، وكثير من حملة الشهادات. وذلك المستوى الثقافي الضحل كثيراً ما يضغط على بعض المثقفين بل كثيراً ما يغريهم، فيدفعهم إلى الاستجابة لما يؤثره أصحاب ذلك المستوى من نتاج هزيل سطحي، أو من ثقافة للمتعة والتسلية،أو من أدب مكشوف، أو من حديث عن المغيبات والسحر والخوارق والمعجزات، أو سوى تلك من مظاهر النتاج الثقافي الممالئ لمطالب الشرائح الهزيلة من المثقفين. غير أنه لزام علينا أن نقول أن بعض مظاهر هذا الداء مردها إلى المثقفين أنفسهم: فهنالك من بينهم من يرنق الأذواق الخسيسة بل من يعوّد ضعاف المثقفين على الجرعات المخدرة للأدب الرخيص والفكر الهزيل.
يضاف إلى هذا، في رأينا، عامل أساسي وهو أن غياب الثقافة الجادة، التي تقدم لأبناء المجتمع على مختلف مستوياتهم أجوبة واقعية على مشكلات حياتهم وأمرض مجتمعهم ومطالب مستقبلهم، لا بد أن يقود إلى ذيوع مثل هذه الثقافة الضحلة. وعندما تغيب “العملة الجيدة” لا بد أن تطردها “العملة الرديئة” من السوق. وعند غياب الثقافة الجادة، قد تغدو الثقافة الضحلة ملجأ يلهي وإن لم يُجدِ.
ولا يعني هذا أننا نفرض على المثقفين ألا يجاوزوا الثقافة الملتزمة بهموم المجتمع، وأن يهملوا ألوان الثقافة المتنوعة التي تغذي الإحساس بالجمال وتغني المشاعر الإنسانية على اختلاف أنواعها، وتفتق الخيال الذي هو شرط من شروط الإبداع، وأن يغفلوا بوجه عام التحليق مع أجواء الإنسان الثرة ومعاني الكون المجنحة. وكل ما في الأمر أننا نحرص في شتى مجالات الثقافة على مستواها وجودتها ونوعها مهما تختلف موضوعاتها. وفي وسع الثقافة الرفيعة، أياً كان الموضوع الذي تعالجه، أن تقدم للمجتمع زاداً فكرياً وعاطفياً وجمالياً هو بحق من أهم مواقد التغيير الاجتماعي ومن أبرز وسائل الربط بين تفتيح الإنسان وتفتيح المجتمع. ولك ما في الأمر أنه إذا كان من غير الجائز أن يكون الأدب الذي ينبغي أن يقدم للأطفال أدباً “طفلاً” أو “طفولياً” على حد قول الكاتب الفرنسي “أناتول فرانس”، ولا بد بالتالي أن يكون أدباً رفيعاً يصطنع أسلوباً يدركه الأطفال، فمن غير الجائز بالضرورة أن تكون الثقافة التي تقدم لأصحاب المستوى الثقافي الضئيل ثقافة ضحلة أو منحرفة أو كاذبة، ولا بد أن تكون ثقافة رفيعة قدم في آنية شفافة جميلة يسهل اجتراع ما فيها.
هكذا نرى بإيجاز أهم الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها المثقفون والتي تقع مسؤوليتها على المجتمع أولاً. وهذه الضغوط ترتد في الجملة، كما رأينا، إلى تخلف البنية الثقافية العربية (بالمعنى الأنتروبولوجي الواسع لهذه الكلمة). وهذا التخلف، على الرغم مما يفرضه على المثقفين من قيود (أو بسبب ذلك) يحدّد دورهم ومهمتهم، ويبرز المسؤولية الشاقة والممتعة معاً التي تقع على عاتقهم. ونعني بذلك الدور العزم الواعي والمسلح بأسلحة المعرفة والعلم على تغيير ذلك الواقع الثقافية المتخلف في الوطن العربي، عن طريق جهدهم الثقافي الموصول وعن طريق التضامن فيما بينهم من أجل هذا الهدف الكبير. وهذا يفترض أولاً وقبل كل شيء جهداً مشتركاً يقومون به من أجل توضيح معالم المجتمع العربي الجديد المرجو وسمات المشروع الحضاري العربي المستقبلي بالتالي. وهكذا تلتقي أسباب الفراق بين المثقفين والمجتمع، سواءً منها الراجع إلى المجتمع والراجع إلى المثقفين، وتلفها جميعها مهمة واحدة: مهمة التعرف العلمي على عوامل التخلف الشامل في الوطن العربي، ولا سيما التخلف الثقافي الذي يكاد يكون رأس العوامل، وذلك من أجل تبين صورة المجتمع العربي المنشودة والحضارة العربية المرجوة، من خلال القراءة الواعية للتراث العربي الإسلامي ولمشكلات الحاضر العربي ولحصاد التجربة العالمية ومرتجياتها وآفاقها الجديدة.
(ثالثاً) خاتمة: نظرة نقدية:
بين المثقفين العرب والمجتمع العربي إذن مسؤولية متبادلة. غير أن المسؤولية الكبرى، كما قلنا ونقول، تقع على المثقفين أولاً. فما داموا قد حملوا رسالة الثقافة فلزام عليهم أن يحملوا أمانة تطوير المجتمع. وما يضعه المجتمع في وجههم من عقبات ينبغي أن يزيد في عزمهم، لأنه يؤكد أهمية دورهم ورسالتهم. إن الحضارة أنى كانت صنعها المبدعون وقادته النخبة المبدعة. وإذا كانت ولادة الحضارات نتيجة للاستجابة على التحديات، كما يبين “تونيبي” في قانونه الشهير المعروف “بقانون التحدي والاستجابة”، فإن فعل الاستجابة، كما يقول قسطنطين زريق، موضحاً أفكار “توينبي ينبعث” من المبدعين في الكيان الحضاري، وهم عادة أقلية من الأفراد والنخب. وإن هؤلاء المبدعين هم طليعة الحضارة وقادة موكبها. وإبداعهم يأتي من كونهم يبصرون التحديات قبل أن يبصرها سواهم، ويدركون مضموناتها، فتتجدد عقولهم وقلوبهم بفعل الرؤية والإدراك وما يتطلبانه من جهاد نفسي. ويسري أثر هذا التجدد الإبداعي، أو الإبداع التجددي، إلى جماهير حضارتهم، فتنقاد هذه الجماهير إليهم وتقلدهم وتؤيدهم في عملية التحدي – الاستجابة – فالتحدي التي تمثل فعل النمو أو التقدم. وقد سبق لقسطنطين زريق أن أطلق مثل هذه الفكرة في مقال قديم له عام 1954، فقال آنئذ: “إن وراء كل حضارة قلة مبدعة من الناس، قلة تتميز عن الكثرة لا بالمال، أو الجاه، أو القوة المادية، أو الزعامة الشعبية، بل الاستحقاق الذاتي، طبيعة وكسباً. قلة لا تتعالى ولا تتجبر، بل تحب وتخلص وتعطي قلة متآلفة متعارفة، منها تنطلق قوى التقدم ومجاري الانبعاث ومصادر الخلق والإبداع”.
وإذا كنا لا نقول بالدور الفريد والوحيد للأفراد وللنخبة المبدعة في بناء الحضارة، وإذا كنا ندرك حق الإدراك أن للبنى الاجتماعية – الاقتصادية السياسية – على اختلاف صورها، دوراً لا يهمل في ولادة الحضارات أو أفولها، فإننا نؤمن في الوقت نفسه أشد الإيمان بأن الفكر قوة، وبأن الإبداع طاقة حضارية متحدية، وبأن توافر النخبة المبدعة والطليعة الرائدة شرط هام من شروط التقدم الحضاري في شتى المجالات، بما في ذلك المجالات الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية.
من هنا تأتي قدرة الطليعة الثقافية على التغلب على ضغوط المجتمع وسواها من الضغوط المحلية والعالمية، ما دامت طليعة حقاً، وما دامت مؤمنة بدورها، صادقة مع هذا الدور، وما دامت تدرك أن مهمتها الأساسية مواجهة
وههنا تصحّ إلى حد بعيد بعض أقوال المفكر الأميركي “ماركوز Marcuse” حين يبين، بعد تحليله لفلسفة هيجل وهوسرل، أن مهمة الفكر هي الرفض، هي كسر حدة الواقع والسيطرة عليه. وههنا يكمن صلب المشكلة في رأينا:
فمهمة الرفض وكسر حدة الواقع تتطلب من المفكرين أولاً معرفة هذا الواقع. وقد قامت جهود تترى في العقود الأخيرة لدراسة الواقع العربي وتحليله تحليلاً علمياً. وتكاثرت هذه الدراسات حتى كادت تنؤ بحملها المكتبات. ومع ذلك فمعظم هذه الدراسات قليل الجدوى، إذ يكتفي بتقديم صورة فوتوغرافية عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي في الوطن العربي، مشيراً إلى مشكلاته وإلى تخلفه دون أن يقدم نظرة تحليلية تركيبية تبين السبل المؤدية إلى تجاوز تلك المشكلات والقضاء على التخلف.
بل إن هذه النزعة تلتقي مع نزعة أشد خطراً، تصف نفسها بأنها نزعة “واقعية”، سواء في الثقافة أو الاقتصاد أو السياسة أو الفكر، حين لا تعدو وصف الواقع القائم وتحليله لتنتهي إلى موقف عاجز. نعني تبريره. بينما تستلزم النزعة الواقعية الحقيقة تحليل الواقع ودراسته “من أجل تغييره لا من أجل تدويمه” على حد تعبير حسن صعب.
ومثل هذا الموقف مزلق خطير ينزلق إليه الكثير من المثقفين، بل الكثير من طلائع المثقفين ونخبهم. وطبيعي أن يلتقي هذا الموقف مع أماني السلطات الحاكمة في معظم الأحوال.
هذا نقد أساسي نوجهه لكثير من المثقفين، ونعتبره مسؤولاً عن الفراق بينهم وبين المجتمع، وذلك بسبب عجزهم عن أن يستخلصوا من أعماق الواقع الاجتماعي القائم الدلالات والمؤشرات التي تغلي في داخله والتي تمور بالتوق إلى التغيير.

وهذا النقد يقودنا إلى نقد آخر أشد خطراً. وهو أن كثراً من المثقفين لا يقفون عند التقصير في بيان مستلزمات تغيير الواقع، عجزاً أو ممالأة، بل يلوون أعناق الفكر ويزيفون منطق العقل، فيقدمون عن الواقع العربي صورة شوهاء هدفها تأييد وجهات النظر التي تقول بها السلطات الحاكمة. وقد بين سماح إدريس، من خلال تحليله للروايات التي ظهرت أثناء الحكم الناصري، ” أن الدرس الأول الأكثر أهمية بين الدروس التي تقدمها التجربة الناصرية هو خطأ الصورة التي يجهد الكثير من المثقفين في إعطائها عن أنفسهم، عنيت صورة المناضلين المتصدين دوماً وأبداً للسلطة القائمة”.
وتغنينا أبحاث الندوة التي عقدها منتدى الفكر العربي عن مزيد من التفصيل في موضوع الصلة بين المثقفين والسلطة. وليس هذا الموضوع من مقاصد بحثنا على أية حال. وقد جرنا إليه نقدنا لفئة المثقفين الذي ينطقون واقع المجتمع العربي بدلاً من أن يستنطقوه، ليستخرجوا من ذلك ما يروق لبعض الحكام. ومثل هؤلاء عرفهم التاريخ، مع الأسف، في كل مكان وزمان. وهذا ما يدعو سماح إدريس إلى طرح ذلك التساؤل القاطع الذي لا يخلو من غلو: “فلماذا الحديث إذن عن فريقين منفصلين، فريق الحكام وفريق المثقفين، وقد أثبتا تقاطعهما عبر جميع الأزمنة والأمكنة؟.
وهذا ينقلنا إلى جوهر الموضوع في نظرنا وإلى جوهر نقدنا لموقف المثقفين إزاء المجتمع المسألة كلها في خاتمة المطاف ترتد إلى التساؤل عن مدى إخلاص المثقفين للثقافة. وهذا القول الذي قد يبدو بسيطاً ومبذولاً يحمل في ثناياه، فيما نرى، صلب المشكلة. ومن هنا حق لقسطنطين زريق أن يقول في حزم: “إن حفظ المثقفين لكرامتهم وكرامة الثقافة التي يمثلونها يقوم على مبلغ إخلاصهم لهذه الثقافة”.
إن الإخلاص للثقافة قول صغيرٌ، جِرمُه كبيرٌ جُرمُه. يحمل في ثناياه معاني لا حصر لها. فالإخلاص للثقافة لا يعني حفظ الكرامة والصدق مع المجتمع والساسة فقط، بل يعني أموراً عديدة، منها: الأخذ بالمنهج العلمي في شؤون الثقافة كلها – ومنها امتلاك روح النضال الثقافي – ومنها النظرة المثالية المستمدة من إيماءات الواقع – ومنها الإيمان بالأمة أو بالمجتمع وبقدرتهما على إبداع رسالة حضارية جديدة – ومنها امتلاك النظرة المستقبلية والعزم على بناء المستقبل مهما تكن العوائق – الخ.

وبتعبير آخر، نستقيه أيضاً من “ماركوز”، الإخلاص للثقافة يستلزم “الانتماء”، الانتماء إلى حقيقة يؤمن بها المثقف، حقيقة شخصية وجماعية يدافع عنها حتى الموت، ويوجه سلوكه وفقاً لتلك الحقيقة.
قد نتهم بأننا ننادي بصوفية ثقافية مثالية مغالية، غير أن نشوء الحضارات والأمم يعلمنا أن بناء الحضارة يتطلب إيماناً يلغ حد التصوف، وواقع المجتمع العربي الصعب والشائط والأليم، وما آل إليه الوجود العربي من ضمور وانحسار، على الرغم من كل ما قام به المثقفون، والوضع العالمي القلق والخطير والمحمل بالمفاجآت، أمور تدعونا كلها إلى أن تكون استجابة مثقفينا ف مستوى التحديات الضخمة، وتؤكد لنا أن إنقاذ المجتمع العربي لن يتم إلا إذا وجدت طليقة ثقافية واعية متضامنة، لا تعرف الأعذار ولا تعلل بالواقع بل تؤمن بذاتها ومنطلقاتها، وتؤمن بأمتها، ولا تبخل بالتضحية والفداء من أجل ذلك كله.
وهكذا نرى، في خاتمة المطاف، أنه لا بد أن يتوافر في سعي المثقفين لتغيير الواقع العربي، عنصران متكاملان، كانا دوماً وراء نشوء الحضارات الكبرى في العالم ووراء بزوغ الحضارة العربية الإسلامية، نعني العنصر العقلاني العلمي، والعنصر الانفعالي الإيماني. لا بد من اجتماع طاقة العقل العلمي مع شحنة الانفعال والإيمان. فالعقل بدون البراكين العاطفية التي تعصف في أعماق الإنسان شجرة بلا نسغ وهيكل بلا دم. والانفعال بدون العقل عاصفة هوجاء ونار تأكل بعضها.
وبعد، لعل في كل ما قلناه رداً غير مباشر على أولئك الذي يتحدثون عما يدعى بالنظام العالمي الجديد، والذي يحمّلونه ما يحتمل وما لا يحتمل، والذي يستخرجون منه أحياناً مواقف انهزامية. وعلى رأس هؤلاء أولئك الذين يقولون بأن عصر الإيديولوجيات قد انتهى، وبأن الحديث عن “مشروعات مجتمعية” لغو تلفظه البنية الحالية للدول وللعالم. وليس هدفنا أن نفنّد هذا الزعم فهذا يستلزم الصفحات الطوال، وقد سبق لنا أن تحدثنا عن بعض جوانبه في دراسات أخرى. وكل ما نرجوه أن نكون قد وفقنا عبر هذه الدراسة إلى توضيح أمرين: أولهما أن أي حديث عن دور المثقفين في المجتمع العربي حديث لا معنى له ولا طائل وراءه إن لم يعن تعبئة الطاقة الثقافية من أجل القضاء على التخلف ومن أجل بناء مجتمع عربي جديد. وثانيهما أن مثل هذا الدور ليس واجباً فحسب، بل هو ممكن أيضاً عندما يتوافر لدى المثقفين العقل العلمي والإيمان بالثقافة والإخلاص لها والإيمان بقدرتهم الجماعية على التغيير. عند ذلك يلتحم هؤلاء المثقفون بالمجتمع ويلتحم المجتمع بهم، ويتضاءل دور القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة لصحوة المجتمع العربي. وهل كان بناء الإنسان يوماً والسير به نحو مزيد من إنسانيته مطلباً سهلاً؟ وهل حالت دونه النفوس اللاصقة بحمأة الطين والمزودة بالغرائز الحيوانية الوحشية؟ وهل كان العمل كذلك على بناء المجتمعات المتحضرة عملاً ميسراً، يتم عفو الخاطر؟ وهل استطاعت أن تعطله القوى الاجتماعية المتخلفة أو المهزومة؟
أجل، إن الثقافة، على الرغم من بعض دعاوى القوم، لا يمكن أن تعني إلا بناء مشروع اجتماعي حضاري متجدد دوماً. والتحدي الأكبر الذي يواجهه المثقفين العرب هو أن يكونوا مثقفين حقاً أو لا يكونوا شيئاً. أن يكونوا مع مجتمعهم ومن أجل مجتمعهم.

دمشق في 14/8/1994
عبد الله عبد الدائم