العمل العربي المشترك التخلف العربي والخوف من الغرب

مجلة شؤون عَربيّة – حزيران 1995
العمل العربي المشترك
التخلف العربي والخوف من الغرب
د. عبد الله عبد الدائم
مفكر تربوي وقومي – دمشق
مدخل
عندما يتقرّى الباحثون الأسباب التي تجعل الأمة العربية متخلفة عن ركب التقدم العالمي المغذّ في خطاه، تستبين لهم طائفة متشابكة من العوامل لا مجال للتفصيل فيها، وقد قتلتها الدراسات بحثاً وتحليلاً. فهنالك أسباب ديمغرافية وأخرى اقتصادية وثالثة سياسية ورابعة اجتماعية…. وهنالك وراء هذا وفي قلبه أسباب ثقافية بالمعنى الواسع للكلمة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ العربي والتراث العربي كله( )، بل تمس «تكوين العقل العربي» نفسه من خلال هذه الثقافة، كما شاع وذاع في السنوات الأخيرة، ولاسيما في المؤلفات العديدة التي كتبها عابد الجابري، إن لم تتهم بنية العقل العربي أصلاً وجوهراً وعلى نحو ما نجد لدى بعض الكتاب.
غير أن ثمة عاملاً لم يؤت نصيبه اللازم من البحث، يطوّق هذه العوامل جميعها ويلفّها، ولعله يثوي في صلبها وقلبها، هو ما نطلق عليه «الخوف من الغرب».
ذلك أن محاولات النهضة العربية منذ بداياتها في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وفي حلتها الحالية أيضاً، اصطدمت ولا تزال تصطدم بعقدة عسيرة على الحل، تخلق ازدواجية في التفكير والعمل لم تجد لها مخرجاً سليماً حتى اليوم. ونعني بها تلك الازدواجية التي قوامها الصراع بين الرغبة في اقتفاء آثار الغرب، ولاسيما في ميادين التقدم العلمي والتقاني، وبين الخوف من استثمار الغرب لتلك الرغبة من أجل ابتلاع الوجود العربي، ابتلاعاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.

أولاً – عود إلى الماضي
وبعض العود إلى الماضي يساعد على توضيح هذا الرأي.
1- الفتوحات الإسلامية:
إذا عدنا إلى بداية انطلاق الحضارة العربية الإسلامية، وجدنا أن الفتوحات الإسلامية والتغلب على دولتي الفرس والروم بوجه خاص، لم تؤد إلى أي انكماش للحضارة العربية الإسلامية في وجه حضارة فارس والروم، بل أدت كما نعلم إلى تمازج ثقافي خصيب، وإلى مُركبٍ ثقافي جديد، وقادت إلى توليد نظام في الحكم والإدارة والسياسة يضم التراث العربي الإسلامي كما يضم ما اقتبسه العرب من تجارب الدول التي فتحوها. ويرجع السبب في هذا التمازج الإيجابي، فيما يرجع، إلى أن الدول التي اقتبست منها الدولة العربية الإسلامية نظمها ومزجت ثقافتها بثقافتها، كانت دولاً مغلوبة لا غالبة (على الرغم من تفوقها الثقافي والحضاري)، ولم تكن هنالك أي خشية لدى الفاتحين من ابتلاعها لثقافاتها، بل كان العكس هو الصحيح. وهذا كله يرتد في النهاية إلى طبيعة الحضارة العربية الإسلامية ومبادئ الإسلام التي كان قوامها التسامح والتعارف والتآلف بين الشعوب ورفض التمييز بين عربي وأعجمي أو بين أبيض وأسود.
2- فتح الأندلس والتمازج الثقافي:
ومثل هذا حدث بعد فتح العرب للأندلس. فلقد أحسن العرب، من جانب، معاملة أبناء المدن الإسبانية التي فتحوا أكثرها صلحاً ودون مقاومة، وتركوا لهم حرية التعبير في كنائسهم وحق المقاضاة أمام قضاتهم. كما أنهم، من جانب آخر، عزّزوا وجودهم في إسبانيا العربية الإسلامية عن طريق الزواج من سكان البلاد الأصليين، وعن طريق اقتباس كثير من تقاليدهم وأنماط ثقافتهم. وولد من ذلك كله مزيج سكاني فريد اختلط فيه القوطي بالعربي واللاتيني والبربري، كما ولد مركب ثقافي فذّ، امتزجت فيه عناصر ثقافية عديدة في ظل قيادة الثقافة العربية.
3- النهضة العربية الحديثة:
وبعد أن كان ما كان من سيطرة الأعاجم، من فرس ومغول وتتر وأتراك، على دفة القيادة السياسية للدولة العربية الإسلامية، وما أحدثه ذلك من ركود طويل وتخلف مديد في الحضارة العربية الإسلامية، حاول العرب، منذ أواخر الحكم العثماني، بناء نهضة عربية أصيلة وحديثة، واتجهوا صوب الغرب الذي حقق تفوقاً كبيراً عليهم، بعد غفوتهم وسباتهم العميق. ومن هنا بدأت الحكاية، وانبثقت المعضلة:
أ – مصر والعرب والغرب أيام محمد علي:
فبعد احتكاك العرب بالغرب على نحو غير مباشر في أواخر الحكم العثماني، بدأ اتصالهم المباشر بأوروبا الناهضة القوية منذ بداية القرن التاسع عشر، أي منذ الاحتلال الفرنسي لمصر، ذلك الاحتلال الذي كان من نتائجه تكون نواة قيادة شعبية وحركة وطنية مصرية، وولادة مشروع نهضوي شامل حمل لواءه محمد علي الكبير والي مصر وحاكمها في النصف الأول من ذلك القرن. وعلى الرغم من أن منطلقات حركة التحديث التي قادها محمد علي كانت منطلقات حربية، إلا أنه ما لبث حتى أدرك الارتباط العضوي بين التقدم العسكري والتقدم في مختلف مؤسسات الدولة وفي شتى ميادين الحياة. وهكذا ولدت، في أيام محمد علي، نهضة واسعة النطاق شملت شتى جوانب الحياة، وتجلت بارزة قوية في ميدان الثقافة والعلوم واكتساب التقنيات الحديثة. وبدأ الاحتكاك بالغرب وحضارته على نطاق واسع، وأرسل محمد علي البعوث إلى أوروبا منذ عام 1813، وقام أمثال الطهطاوي بتعريف أبناء مصر وسائر العرب على حصاد التجربة الأوروبية. وقامت الترجمات تترى من اللغة الفرنسية بوجه خاص إلى اللغة العربية، ولم تقتصر على الميادين الفكرية والفلسفية، بل تجاوزتها إلى الحساب والهندسة وعلوم الطبيعة والفنون العسكرية والجغرافيا والتاريخ وسواها. وقامت في مصر نهضة صناعية وزراعية وتجارية إضافة إلى النهضة العسكرية ومن خلالها. وقام إبراهيم باشا بنقل هذه الخطوات الإصلاحية إلى بلاد الشام، منذ الحملة المصرية الأولى عام 1831، سواء في ميدان الزراعة أو التجارة أو المواصلات أو التعليم بوجه خاص والثقافة بوجه عام، وتعاون مع الأمير بشير الثاني في لبنان وآل عبد الهادي في فلسطين، وتم تشييد أول مطبعة في لبنان عام 1834، وبدأت مع تشييدها حركة التأليف والترجمة والنشر. وقد لا نغلو إن قلنا إن محمد علي وابنه إبراهيم باشا كانا يحلمان بتكوين دولة عربية مستقلة كبيرة، حديثة المنطلق، عريقة الأصول، متجددة العطاء الحضاري.
وهكذا اتسمت النهضة في عصر محمد علي بالانفتاح على التجربة الأوروبية والاقتباس منها. وظهر مفكرون ينادون بإغناء الثقافة العربية الإسلامية عن طريق الاتصال بالثقافة الأوروبية، على رأسهم رفاعة الطهطاوي، الذي حض على البحث عن العلوم «البرّانية» والفنون والصنائع التي نجدها في بلاد الإفرنج، والذي ألف كتبه المعروفة (وعلى رأسها «تخليص الإبريز»)، داعياً إلى اقتباس التجربة الأوروبية دون أن يرى في ذلك أي تعارض مع التجربة الحضارية العربية الإسلامية، فهو يرى مثلاً (في «تخليص الإبريز») أن «من زاول علم أصول الفقه، وفَقَه ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد، جزم بأن الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قلّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات»( ).
غير أن الدول الأوروبية، ولاسيما إنكلترا، استمرت في دسائسها ومؤامراتها التي بلغت ذروتها في الحملة الإنكليزية الفاشلة على مصر عام 1807، وعملت على إسقاط تجربة محمد علي. يضاف إلى هذا أن محمد علي الذي أخرج مصر من النظام الإقطاعي المملوكي، وحررها من الهيمنة العثمانية، وحاول إقامة دولة عربية واسعة، فرض في مقابل ذلك سلطة تعسفية، ولم يقبل المشاركة في الحكم «وأقام دولة حديثة بعقلية الحاكم الشرقي القديم_»( ). وكان من نتيجة ذلك أن تجربة محمد علي، عندما طُوقت من الخارج، لم تعد تملك مقومات الصمود، لأنها افتقدت القوى الشعبية الواسعة التي تشعر بأن التحديث هو لها أولاً وقبل كل شيء.
ب – تونس وخير الدين التونسي والانفتاح على الغرب:
وما جرى في مصر جرى في تونس. فلقد شهدت تونس محاولتين أساسيتين للإصلاح الداخلي( ) في القرن التاسع عشر قبل أن تغزوها القوات الفرنسية وتقضي على حركة الإصلاح والتحديث فيها. كانت الأولى المحاولة التي جاءت على يد «الباي محمد» ما بين سنتي 1837 و1855، وكانت الثانية تلك التي جاءت على يد خير الدين الذي قام ببعض الإصلاحات خلال توليه الوزارة في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي عاد بعد ذلك إلى تحقيق إصلاحات حقيقية عندما تولى رئاسة الوزارة بين عامي 1873 و1877. وكان الباي أحمد شديد الإعجاب بتجربة محمد علي في مصر (كما كان معجباً بنابليون)، وقد حاول تأثر خطاها، ولاسيما في ميدان الحرب والصناعات الحربية.
على أن تجربة الإصلاح الكبرى في تونس كانت تلك التي قام بها خير الدين التونسي عندما أصبح رئيساً للوزراء وتسلم مقاليد الأمور. وكان من أبرز إنجازاته تأليف كتابه الشهير «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وقد وضع فيه مشروعاً نهضوياً متكاملاً. وقد حرص في هذا الكتاب على أن يبين بوجه خاص أن أكثر ما استحدثه الأوروبيون موافق لشرعنا، وأن العبرة ليست فيما انتقش في عقول العوام «من أن جميع ما عليه غير المسلم من السِّيَر والتراتيب ينبغي أن يهجر». بل إنه يزيد على ذلك مبيناً أن أكثر ما استحدثه الأوروبيون هو امتداد لما كانت عليه حضارتنا، ولو أننا تابعنا مسيرتنا الحضارية لوصلنا إلى ما وصلوا إليه. ويمضي إلى أبعد من هذا مشيراً إلى وحدة الحضارة الإنسانية وإلى أن أي إنجاز حضاري هو في مصلحة الجنس البشري كله. ويقول في هذا: «لم نتوقف أن نتصور الدنيا بصورة بلدة متحدة، تسكنها أمم متعددة، حاجة بعضهم لبعض متأكدة.. ما يُنجز بها (أحد الشعوب) من الفوائد العمومية مطلوب لسائر بني جنسه». ويتأسى في هذا بالحديث الشريف: «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها». وهكذا كان التونسي راسخ الاعتقاد بأن المصالحة بين التجربتين الإسلامية والأوروبية ممكنة بل هي قائمة، وأن ثمة خللاً أصاب مسيرة الشعوب الإسلامية، فتعطَّل دورُها العمراني والحضاري. ويرد ذلك إلى الظلم والاستبداد اللذين سادا المجتمعات الإسلامية بعد عصور الازدهار( )، ويقرر أن الظلم والاستبداد مُفضيان لخراب العمران. على أنه يرى أن توافر الحرية وديمقراطية السلطة لا يفي بالغرض، إذا لم يقترن بفهم واعٍ لمعنى التقدم والعمران، ولدور المعرفة في ذلك التقدم والعمران.
وهكذا وضع خير الدين التونسي مشروعاً نهضوياً كامل المعالم. غير أنه لم يتمكن من نقل مشروعه إلى أرض الواقع. فقد كان مصير تونس قد تقرر قبل أن يتسنى له أن يقْدم على أي خطوة. فمنذ دخول فرنسا للجزائر ومنذ وضع المخططات الاستعمارية لضم المغرب العربي إلى فرنسا، بدأ تطويق الاستقلال ومعه المشروعات الإصلاحية. وعندما جاء خير الدين للحكم لم يكن قد تبقى في الجعبة إلا الأسهم القليلة، فانتهج سياسة الطريق الوسط دون أن يستسلم لمحاولات الضم والإلحاق الاستعمارية( ). وبعد دخول فرنسا إلى تونس، لجأ خير الدين إلى الأستانة، وجعله السلطان عبد الحميد صدراً أعظم. وذهبت أنظاره وأفعاله في مهب الرياح، بعد أن جثم الاستعمار الفرنسي على أرض تونس وسائر بلاد المغرب.
وهكذا أجهضت الأغراض الاستعمارية هذه المحاولة التحديثية الهامة التي قام بها خير الدين التونسي، كما قضت قبل ذلك على محاولة التحديث التي تمت في عهد محمد علي.
جـ – حركات التجديد الديني والغرب:
ورغم ذلك كله، توالت حركات التجديد والتحديث في شتى أرجاء الوطن العربي، وتابع عدد كبير من قادة الفكر المسيرة التي بدأها أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي، بل أضافوا في كثير من الأحيان إلى جهودهما جهوداً جديدة. هذا ما نجده، على سبيل المثال لا الحصر، لدى عبد الرحمن الكواكبي (1854 – 1902) صاحب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» (إلى جانب «أم القرى»)، الذي بشّر ببداية مرحلة جديدة من مراحل الفكر العربي الحديث، مرحلة ظهور الفكر القومي ونهوض التيار الذي يحمل هذا الفكر. وهذا ما نجده لدى «أحمد فارس الشدياق» (1805 – 1887) الذي كان معاصراً للطهطاوي، والذي رسم معالم مشروع نهضوي عام على غرار ما فعل الطهطاوي وخير الدين التونسي. وقد صب جهوده على اللغة العربية محاولاً أن يثبت قدرتها على مجاراة العصر وأفكاره ومبتكراته ومسمياته.
وقد اتجه مفكرون آخرون إلى ميدان التجديد والإصلاح الديني، على نحو ما نجد لدى «جمال الدين الأفغاني (1839 – 1897)، الذي حصر جهوده في ميدان تصحيح البنية الفكرية بعد أن انحرفت عن مسارها وخضعت لتأثيرات دخيلة على الفكر الإسلامي (كالاتكال، والميل إلى الجبر، والإيمان بالقضاء والقدر، وغير ذلك مما أبعد الإسلام عن أصوله). غير أنه، حين ترّيث عند مشكلة تقليد الشعوب الإسلامية للغرب، وجد في بعض مظاهر هذا التقليد ابتعاداً عن الأصالة. ومثله فعل الإمام «محمد عبده» (1849 – 1905) الذي عني عناية أعمق بمسألة إصلاح الدين. وقد عايش فترة الهجمات الاستعمارية على برامج الاستقلال والنهوض، تلك الهجمات التي انتهت بدخول الإنكليز إلى مصر والبدء العملي بتصفية تركة محمد علي وإفراغ مصر من كل مكتسبات عصره، بعد أن كان الاستعمار قد أربك المسيرة التحديثية قبل ذلك بعدة عقود. وهكذا تأرجح محمد عبده بين «التزامه بالسواد الأعظم من المصريين وما كان عليه هذا السواد من ثقافة دينية تقليدية، وبين أخذه بالثقافة الغربية وتأثره بها. وقد كان العرب والمصريون متأرجحين بين هذين الاتجاهين بسبب تعطيل المصالحة التي كان قد أخذ بها محمد علي والطهطاوي والتونسي وغيرهم بعد المواجهة التي بدأت قبل الثورة العرابية، والتي تكرست بعد دخول الإنكليز إلى مصر وغيرها من البلاد العربية»( ).
د – الموقف من الغرب أيام النهضة وبعدها:
ويطول بنا المقام إن نحن أردنا أن نرصد مسيرة النهضة العربية في العصر الحديث، منذ أيام محمد علي، متحدثين عن أفكار أبرز روادها. وليس هذا القصد قصدنا على أية حال. وجلّ ما أردنا أن نصل إليه، من خلال الاستقراء الناقص لمسيرة هذه النهضة، أنها بدأت نهضة منفتحة على الغرب، نزاعة إلى التحديث، مؤكدة الوفاق بين منطلقات الحضارة العربية الإسلامية وبين منطلقات الحضارة الأوروبية الحديثة، ولاسيما بعد عصر التنوير وما أتصف به من عقلانية، وتأكيد على المعرفة العلمية، ومن عناية بالمنهج القائم على الملاحظة والتجربة، ومن إيمان بقدرة الإنسان على التقدم، فضلاً عن الإيمان بالحرية والديمقراطية والعدالة.
غير أن هذا الانفتاح على الغرب الذي انطلق مع بداية النهضة العربية الحديثة، ما لبث حتى أصيب بصدمة كبرى، عندما عمل الغرب بكل قواه على تعطيل تلك النهضة، وعندما وظف سبقه الحضاري، فضلاً عن تفوقه العسكري، من أجل إخضاع المنطقة العربية، وعلى رأسها مصر، لنفوذه.
هذا الاغتيال الأوروبي لتجربة النهضة العربية هو الذي ولّد منذ ذلك الحين، لدى المفكرين العرب ولدى جماهير الأمة العربية، ردود فعل قوية متنامية أدت إلى خلق ما عرفته القرون العربية الأخيرة من صراع طويل بين الداعين إلى الاقتداء بالغرب وبين المنادين بالعود إلى الينابيع الأصيلة للثقافة العربية الإسلامية.
وقد نشأت منذ ذلك الحين، نتيجة لذلك، التيارات الثلاثة التي سادت ولا تزال تسود لدى المفكرين العرب فيما يتصل بالموقف من الغرب. وأولها التيار المتقوقع حول نفسه (أو التيار الزيلوتي على حد تعبير«توينبي»)، الرافض لحضارة الغرب ولثقافته المادية بوجه خاص، المدافع عن الثقافة العربية الإسلامية في وجه الغزو الثقافي والاستلاب الحضاري. وثانيها التيار المنادي بالانفتاح المطلق الكامل على الحضارة العالمية، والانغماس في التجربة العالمية الحديثة، وتحطيم السدود والحدود بين الثقافة العربية الإسلامية وبين الثقافة العالمية الحديثة. وثالثها التيار الموفِّق (أو الملفِّق) الذي ينادي بأن نأخذ من الحضارة العالمية أفضل ما فيها (ولاسيما مكاسبها العلمية والتقانية)، وأن نأخذ من الحضارة العربية الإسلامية خير ما تحويه من قيم ومبادئ خلقية وإنسانية( ).
وليس المجال مجال الحديث عن هذه التيارات الثلاثة وعمّا لها وعليها، وقد أشبعتها الدراسات المختلفة والمؤتمرات العديدة بحثاً وتحليلاً( ). والذي قصدنا إليه من هذا كله أن نقدم الدليل على تلك الحقيقة الصارخة، التي جعلناها محور دراستنا هذه، نعني ما أدت إليه هجمات الغرب على الثقافة العربية الإسلامية، وعلى كيانات الدول العربية والإسلامية، من ولادة متنامية لذلك الشعور الذي لا يزال يؤرق الجمهور العربي، نعني الخوف من أن يعني أي انفتاح على الثقافة الغربية إفساح المجال لهجمات استعمارية تستهدف السيطرة على ثقافة الأمة العربية، من أجل السيطرة السياسية على مقدراتها.
هـ – المخاوف من الغرب بعد الحرب العالمية الأولى:
وقد زاد في هذه المخاوف ما كان من غدر الاستعمار بالأمة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، ومن نكوص عن العهود التي قطعت للعرب أثناء تلك الحرب، ومن جعل البلاد العربية في خاتمة المطاف أسلاباً وغنائم تقتسمها الدول الكبرى، على نحو ما حدث بعد معاهدة «سايكس بيكو». (ودخلنا الوغى فكنا الغنائم: على حد قول شوقي).
ولا حاجة إلى القول إن مؤامرات الغرب على الوطن العربي قد استمرت بأشكال مختلفة بعد ذلك، وبعد الاستقلال الظاهري للدول العربية. لاسيما بعد أن انضمت إلى موكب الغرب الصهيونية العالمية التي خططت منذ البداية، منذ أيام «هرتزل» نفسه، للقضاء على الثقافة العربية، تمهيداً لمحو الوجود العربي القومي المتكامل الموحد. وهاهو ذا ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ينطلق بقوة، باسم النزعة العالمية، نحو صياغة كيان جديد في الشرق الأوسط هدفه الحلول محل الكيان العربي، وإذابة الثقافة العربية والوجود العربي في حمأة الانفتاح الاقتصادي الحر، والغزو المعلوماتي المريع، والثقافة العالمية المزعومة التي تعني في نهاية الأمر ثقافة الأقوى. وهاهو ذا الشعب العربي يصيبه الوجل والذعر مرة أخرى، وهاهي ذي نزعات الانكماش ورفض التجربة الغربية جملة وتفصيلاً تأخذ طريقها من جديد، تحمل معها زخماً ندر أن عرفته في ماضيات أيامها.
وقد بلغ السيل الزبى في السنوات الأخيرة، يوم كانت فاتحة النظام الذي أعقب الحرب الباردة تلك الهجمة الغربية الشرسة على الأمة العربية، بحجة الدفاع عن الكويت إبان حرب الخليج الثانية. فلقد أدركت الجماهير العربية أن تأديب العراق وإذلال الشعب العربي فيه وتطويقه واستمرار الحصار الذي ُضرب عليه، لم تكن في أعماقها وحقيقتها سوى درس موجه إلى الأمة العربية بكاملها، وعصا غليظة لتهديد كل من تسوَّل له نفسه الوقوف في وجه مصالح الغرب في المنطقة وخططه المرسومة لها. كما أدركت وراء ذلك أن الهدف الأساسي لتلك الهجمة تدعيم الوجود الغربي العسكري والسياسي السافر في الوطن العربي كله، والتمهيد لفرض نظام شرق أوسطي، يحل محل الكيان العربي، تقوده الدول الكبرى وإسرائيل.
ومن هنا اشتد ساعد الحركات الكارهة للغرب، المنادية بمقاومته في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وسواها، بل الرافضة لأي تأسٍ به، والمُزْرية بحضارته. وهكذا عاد الصراع على أشده بين العرب والغرب، وعادت مشاعر الخوف والجزع حاملة معها مشاعر التحدي، وعادت الازدواجية في الموقف تجاه الغرب، ووجد الكثير من أبناء الأمة العربية أن الدرع الواقية التي تحمي الأمة العربية من هجمة الغرب المحدثة الشرسة هي درع العود إلى الذات وإلى التراث. بل اتخذ هذا العود إلى التراث لدى طائفة من الجماهير العربية والمثقفين العرب شكل التقوقع الكامل داخل التراث، والرفض المطلق للتجربة الغربية. وكان ذلك رد فعل، فعالياً وبدائياً شأن أي رد فعل، على إمعان الغرب في محاولات السيطرة على مقدرات الأمة العربية.
ثانياً – الدروس المستخلصة:
ولنبادر إلى القول إن هذا التحليل التاريخي لولادة نزعات الخوف والهروب من الحضارة العالمية وما رافقها من انكفاء على الذات واحتماء بالهوية التقليدية، لا يعني أن مسؤولية تخلف الأمة العربية تقع على عاتق الغرب وحده، وعلى ما أشاعه من ردود فعل على هجماته الثقافية والعسكرية على الأمة العربية. فالثقافة العربية نفسها، بمقوماتها الذاتية وبما أصابها من عقم ومن انحراف على يد الأعاجم بوجه خاص وما تعرضت له من أجواء سياسية أفسدتها، وما أصابها من شقاق ديني وسياسي وعنصري، تحمل قسطاً كبيراً من مسؤولية التخلف هذه. غير أنه يظل من الصحيح أن الغرب المتقدم منذ عصر النهضة وعصر التنوير، هو صاحب القدح المعلّى في توليد ردود الفعل التي أربكت الموقف العربي تجاه التقدم نحو الحضارة الحديثة، والتي ولَّدت «ازدواجية» في الفكر والعمل لا يزال من الصعب التغلب عليها حتى يومنا هذا.
وفي هذا يقول «بول كنيدي»( ): «لعل الغرب، الذي أبحر على جوانب السواحل العربية، وساعد الخطر المغولي، واخترق نقاطاً استراتيجية لسكك الحديد والقنوات والموانئ، وتحرك بثبات إلى شمال أفريقيا ووادي النيل والخليج الفارسي (يعني العربي) والهلال الخصيب ثم الجزيرة العربية نفسها، والذي قسم الشرق الأوسط على أساس حدود غير طبيعية كجزء من صفقات مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وحلول الولايات المتحدة محل أوروبا في المنطقة، وزرع إسرائيل في وسط الشعوب العربية، وإثارة انقلابات عسكرية ضد القادة الشعبيين، والإعلان المستمر أن هذه المنطقة مهمة للغرب بسبب نفطها، لعل الغرب الذي فعل ذلك كله قد لعب دوراً كبيراً في جعل العالم الإسلامي ما هو عليه اليوم، وبقدر يتجاوز ما يريد المعلقون الأجانب الاعتراف به».
ويستخلص كنيدي من هذا النتيجة الآتية: إذا كان معظم الغضب حيال الغرب الذي نجده لدى هذا العالم الإسلامي، وموقف المواجهة الذي يقفه من النظام الدولي، عائداً إلى خوف قديم من ابتلاعه من قبل الغرب، فإن أي نوع من التغيير لن يكون متوقعاً إلا إذا زال ذلك الخوف.
وههنا تكمن المعضلة كلها. فما السبيل إلى زوال ذلك الخوف، إذا استمر الغرب في التنكر للثقافة العربية الإسلامية وللوجود العربي، وإذا استمرت مؤامراته وخططه من أجل تسخير ذلك الوجود لخدمة مصالحه المباشرة المرتبطة ارتباطاً عضوياً وجذرياً بمصالح الصهيونية العالمية؟.
ولعلنا لا ننتظر من الغرب أي خطوة إيجابية من أجل تغيير هذا النهج وهذا الأسلوب من التعامل مع الكيان العربي، بل لعلنا ننتظر منه إيغالاً في هذا السبيل. ومن هنا تقع المسؤولية الكبرى على عاتق العرب أنفسهم. فعليهم تقع مهمة تحرير الإنسان العربي من عقدة الخوف هذه، عن طريق النضال من أجل الاقتباس عن الغرب ومواجهته في آن واحد.
وهذا الموقف ينطلق من عدد من الحقائق نذكر أهمها:
أ- من أسباب الخوف من الغرب والنفور منه شعور العرب بأنهم كانوا أصحاب حضارة قضى عليها الغرب وانتزعها منهم. ولئن كان هذا الشعور مبرَّراً، فمن الهام ألا يعني مجرد العود إلى رواسب التراث العربي الإسلامي الذي شوهته مسيرة التاريخ وأحداثه وصراعاته، والذي أفسده تردي الفكر العربي وسباته العميق ردحاً طويلاً من الزمن. بل من اللازم أن يعني ذلك أن يقوم العرب بأنفسهم وبقواهم الذاتية بتجديد ذلك التراث وتجاوزه من خلال حاجات الواقع العربي ومستلزمات الواقع العالمي وآفاق المستقبل العربي المنشود. ولابد من أن تعطي الثقافة العربية فرصة أكبر للبقاء وللحياة المتجددة، عن طريق تجاوزها وتواصلها مع الثقافات العالمية.
ب- ومن أسباب الخوف والكراهية للغرب، الصورة الشوهاء التي يصور بها الفكر الغربي الثقافة العربية الإسلامية، والحقد التاريخي القديم ضد العرب والمسلمين الذي لا يزال قائماً في نفوس الكثرة من أبناء الغرب، بل شائعاً في كتاباتهم ومدارسهم، وبارزاً صارخاً في كثير من مواقفهم. ولا ننسى بوجه خاص ما خلفته الحروب الصليبية في نفوس الغربيين والعرب والمسلمين في آن واحد من كره متبادل، وما ولدته لدى أبناء الأمة العربية بوجه خاص من مشاعر تؤكد الحقيقة التي تبدّت لهم عبر العصور، نعني محاولات أبناء الغرب المستمرة والمتصلة من أجل القضاء على الحضارة العربية الإسلامية، لاسيما أنها كانت في حقبة من الزمن حضارة سباقة متقدمة على حضارتهم، قلما يعترفون مع ذلك بدورها في توليد الحضارة الحديثة.
غير أن من غير الجائز أن تَحجُب هذه الحقيقة الدور الإيجابي الذي ينبغي أن يقوم به العرب، من أجل تغيير صورتهم في أذهان الغرب. ومن الإمعان في الداء فيما نعتقد أن يكون رد فعل العرب على بقايا الحقد التاريخي وعلى مخلفّات الصورة الشوهاء التي يحملها الغرب عن العرب، وعلى اتهام الغرب للإسهام بالتخلف والهمجية أحياناً، نقول من الإمعان في الداء أن يكون ردهم على هذا كله رفض الغرب وحضارته. ولابد أن يكون رد فعلهم السليم على مثل تلك المواقف الكشف المتزايد عما يحمله التراث العربي الإسلامي الأصيل من إمكانات التجديد والحداثة، ومن الطاقات الفكرية والقيمية القادرة على مواكبة العصر، بل على تصحيح مسيرته.
ج- ولا ننسى بهذا الصدد أن من أهم أسباب خوف العرب من الغرب خوف الغرب من العرب بدوره. وهذا الخوف ناجم في ظاهر الأمر عما تحمله الثقافة العربية الإسلامية في زعم أبناء الغرب من روح العدوان والكراهية. غير أنه في أعماقه ولدى الواعين له ناجم عن خوفهم من أن تؤدي اليقظة العربية، إن سلكت سبيلها الصحيح، إلى خلق حضارة وقوة إقليمية كبيرة تعطل ما ينشدونه من سيطرة على الوطن العربي وخيراته. فالغرب يعلم أكثر من سواه، بل لعله يعلم أكثر من العرب أنفسهم، أن ثمة طاقة كبيرة ثقافية ومادية كامنة في الوجود العربي، في وسعها حين تستيقظ أن تكوّن حضارة زاهرة جديدة وكتلة سياسية وعسكرية واقتصادية قوية وغنية، وأن تشكل بالتالي، مرة أخرى في التاريخ، خطراً على رغبة الغرب الثابتة في السيطرة على العالم. ذلك أن هدف الغرب الحقيقي ليس تخليص الإسلام مما ينسب إليه من تخلف وروح عدوانية، بل هدفه المضمر الحيلولة بين الإسلام وبين أن يجد ذاته ويجدّد ذاته ويبعث قواه الكامنة. ومن هنا كان من غير الجائز الرد على خوف الغرب بخوف منه، وكان من اللازم على العكس أن يُصدّق العرب ما في ظنون الغرب من مخاوف، فيبنوا حضارتهم وقوتهم.
لقد علت صيحات الخوف من الإسلام ومن العرب، كما نعلم، بعد انتهاء الحرب الباردة، بحثاً عن عدو جديد يحل محل الاتحاد السوفياتي. ومن واجب العرب أن يكشفوا الأغراض الكامنة وراء مثل هذه الصيحات، وأن يكون رد فعلهم على هذا كله، تقديم الدليل العملي على أن النهضة العربية الإسلامية لن تكون تابعة وملحقة بحضارة الدول المتقدمة، ولكنها لن تكون في الوقت نفسه عدوة لتلك الحضارة، بل مسدّدة لخطاها، متعاونة معها على خلق عالم إنساني متكافل حقاً.
وفي الجملة، إن الغرب، حين يعلن عن خوفه من العرب والمسلمين، يود تحديث العرب والمسلمين عن طريق إلغاء ثقافتهم العربية الإسلامية، زاعماً أنها ثقافة متخلفة عدوانية.
ومحاولة الإلغاء هذه للثقافة العربية الإسلامية من قبل الغرب هي سبيله إلى إلغاء الكيان العربي. وواجب العرب بالتالي، أن يحولوا دون إلغاء ثقافتهم، وذلك عن طريق تحديثها واستخراج طاقاتها من خلالها ومن قلب قيمها الحية المبدعة المتجددة.
وهل ينسى الغرب وهل ينسى العرب كذلك، أن تشكيل العقل الحديث في أوروبا، منذ مطلع القرن الخامس عشر، قد أسهمت فيه حركات الإصلاح الديني إسهاماً أساسياً، بفضل ما حدث داخل الكنيسة المسيحية، ولاسيما على يد أمثال «لوثر» والثورة البروتستانية بوجه عام؟ وهل تكوّنت الحضارة الحديثة على أنقاض المسيحية، أم بفضل تجديد المسيحية وتطويرها؟ أو لم يغير عصر التنوير، بعد ذلك، الرؤية المسيحية القديمة تغييراً جذرياً، دون أن يلغي المسيحية؟ وعلى الرغم من وهن الارتباط بين المسيحية وبين الحضارة الغربية، ولاسيما إذا قيس بالصلة العضوية بين العروبة والإسلام، أفلا يشيع الحديث في أيامنا عن حضارة مسيحية (بل عن حضارة يهودية مسيحية؟).
د- على أن من أهم أسباب الخوف من الآخر، كما نعلم، فقدان الثقة بالنفس. ومن أهم عوامل خوف الحضارة العربية الإسلامية، بالتالي، من الغرب فقدان الأدوات والوسائل التي تشد الكيان العربي وتقوي بنيته الذاتية. وهذه الأدوات والوسائل عديدة، لعل أهمها قيام مشروع حضاري عربي جديد، وتعزيز الأواصر بين أبناء الأمة العربية وبين الأقطار العربية. ذلك أن أول شروط نجاح أي مشروع حضاري تحديثي أن يكون مشروعاً قوياً شاملاً.
هـ- إن التراث العربي يحمل في ثناياه بذور تجديده وتجاوزه وتطويره. إنه تراث ديناميكي حيّ، يستطيع أن يولد دوماً صيغاً جديدة مع الاحتفاظ بقوامه وجوهره. وهو، بتكوينه، يجنب العرب اليوم الشعور بالغربة أمام الثورة العلمية والتقانية أو الشعور بالتبعية. فمن مكرور القول أن نذكّر بأن هذا التراث يجمع جمعاً حميماً بين الجوانب الإنسانية والخلقية والقيمية وبين الجوانب العلمية والتجريبية. وقد كان قوام «المعجزة العربية» على حد تعبير «فانتيجو» نقل الفكر الإنساني من مرحلة التفكير الفلسفي والميتافيزيقي الذي شاع في الحضارة اليونانية إلى مرحلة ملاحظة الطبيعة ودراستها والتجريب عليها. ومن حق العرب أن يقولوا اليوم، حين ينظرون إلى الحضارة العلمية الثقافية الحديثة «هذه بضاعتنا رُدّت إلينا».
و- من مكرور القول أن خصب أي ثقافة يرجع إلى مدى اتساع تفاعلها مع الثقافات الأخرى. وهذا ما نجده في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، عصر تمازج الثقافات. وهذا ما نجده في الحضارات العالمية الكبرى، في الماضي والحاضر، وفي الحضارة الغربية الحديثة في أوروبا وأمريكا بوجه خاص.
على أن المناداة بالتفاعل الثقافي والتمازج الحضاري لا يعني الأخذ بنموذج ثقافي وحضاري وحيد، على الأمم جميعها أن تعدو نحوه. أو بتعبير آخر لا يعني التمازج الثقافي «تسطيح» الثقافة وتنميطها وتشاكلها في العالم كله. بل هي تعني على العكس إنماء الألوان الذاتية للثقافات والحضارات المختلفة عن طريق التفاعل مع سواها، وبناء حضارة عالمية قوامها حضارات الشعوب المختلفة بسماتها وألوانها المتعددة.
كذلك لا يعني الأخذ من ثقافة أو ثقافات أخرى القول بتفوق ثقافة على ثقافة. فالثقافات كالطباع لدى الأفراد لا تَصْدق عليها أحكام القيمة.

ثالثاً – الخوف من الغرب وتجارب النهضة في البلدان النامية
نخلص من هذا كله إلى نتيجة أساسية، وهي أن مواجهة الخوف من الغرب لا تكون بالازورار عن الحضارة الغربية والإزراء بها، بل بغزوها والتغلغل فيها عن طريق توليد حضارة عربية حديثة وأصيلة، تنزع عن الثقافة العربية التقليدية معوقاتها ومعطلاتها، من اتجاهات ومواقف نفسية وأنماط سلوكية ومعتقدات متخلفة خلّفتها جميعها عصور التردي والانحطاط، وتتسلح بقيمها الحية ومنطلقاتها المحملة بالقوة والحركة والحياة (ولاسيما في ميادين تقديس العلم والعمل، والتضامن والتكافل الاجتماعي، وفي ميادين القيم الخلقية المثلى، وعلى رأسها قيم الحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية فضلاً عن الأخلاق الفردية).
وبهذا المعنى، يتوجب على الثقافة العربية أن تكون مهاجمة لا مدافعة، وأن تناضل ضد ما تقع فيه الثقافات الغربية من انحرافات، وضد نزعة القوي منها إلى السيطرة على ثقافة الضعيف ومحو هويته ثم كيانه المستقل. والنضال من أجل السيادة الثقافية والحضارية لا يقل شأناً اليوم عن النضال من أجل السيادة السياسية، بل يفوقه ويتقدم عليه.
ولا نغلو إن قلنا إن النزعة «الشوفينية» التي تُتهم بها بعض الثقافات القومية أحياناً، انزلقت اليوم لتأخذ شكل «شوفينية» جديدة مقنعة تمارسها الثقافات المتقدمة، في الدول الكبرى وفي الولايات المتحدة بوجه خاص، كي تفرض قيمها وأنماط سلوكها وطراز حياتها على الثقافات الأخرى.
1- دول شرق آسيا والانفتاح على الغرب:
وللوطن العربي في دول شرق آسيا أسوة حسنة: فكلنا يعلم كيف حققت اليابان نهضتها الكبرى بل معجزتها منذ أيام «ميجي» (بدءاً من عام 1868)، عن طريق نقل التقدم الصناعي الغربي، من جانب، وعن طريق القيام بثورتها العلمية والصناعية بمساعدة القيم اليابانية التقليدية العريقة من جانب آخر، ولاسيما القيم التي أشاعتها الديانة البوذية (والتعاليم الكونفوشيوسية بوجه خاص)، وعلى رأسها تقديس العلم والعمل، والتضامن الاجتماعي الرائع (الذي انتقل من الأرياف إلى المصانع).
غير أننا قد نجهل أن ما جرى في بلدان «النمور» الأربعة في شرق آسيا (سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية) يشبه ما جرى في اليابان من قبل. فهذه البلدان انطلقت أيضاً من التقاليد الكونفوشيوسية، ولاسيما فيما يتصل بالعناية بالتعليم واحترام العلم والامتحانات التنافسية. يضاف إلى هذا أنها حققت نهضتها العلمية والصناعية والتقانية من خلال التضامن القومي ومن خلال التأكيد، في انطلاقتها الاقتصادية، على تنمية المدخرات الوطنية أولاً قبل الاتجاه نحو فتح أسواقها للاستثمارات الأجنبية. ولم تأخذ قط بسياسية «الاقتصاد الحر»، بل وضعت في البداية قيوداً قوية على انتقال رأس المال إلى خارج البلاد وعلى استيراد البضائع الأجنبية. ولم تبدأ بالانفتاح التدريجي إلا بعد أن حققت استثمار مواردها في النمو الصناعي. وعندما أخذت الانطلاقة الاقتصادية فيها تشق طريقها بقوة، أتاحت المجال اللازم للاستهلاك وللصادرات ولاستثمار رؤوس الأموال في بناء المساكن وسوى ذلك( ).
2 – أهمية بناء القدرة الذاتية:
نقول هذا كله لنبين مرة أخرى أن أي تقدم حقيقي يود الوطن العربي تحقيقه في طريق التحديث، وأي تأسٍ بالتجربة الغربية، ولاسيما في ميادين العلم والتقانة، لابد أن يسير معه جنباً إلى جنب، بل لابد أن يسبقه، بناءٌ للقدرة الذاتية في شتى ميادين الحياة القومية، ولابد أن يتم في إطار نهضة قومية حقيقية تستخرج من الثقافة القومية قواها الحية القادرة على دفع عجلة النهضة في شتى المجالات إلى أمام.
وتكتسب هذه الحقيقة شأناً خاصاً في مرحلة الانعطاف التي تمر بها البلدان العربية، نتيجة لتغير الواقع العالمي وسيطرة النزعات الشاملة الكلية في ميادين الاقتصاد والمال والإعلام والثقافة والسياسة والحرب وسواها. إذ يتوجب على الدول العربية في هذه المرحلة أن ترسم نمط انفتاحها على العالم انطلاقاً من خطة شاملة تحدد حاجاتها في ضوء مستقبلها ومستقبل الحضارة العربية، بحيث تتم انطلاقتها في ميادين التقدم المختلفة من خلال بنيتها وإرادتها.
ولعلنا نسوق كلاماً قد يبدو غريباً للوهلة الأولى أيامنا هذه، إن نحن أكدنا القول بخصوصية الشعوب وبالفوارق بين الأمم وبتباين المشروعات الملبية لحاجاتها. ذلك أن بعض أصحاب الغرض من المنادين بالنزعة العالمية الشاملة، أو بعض الذين يسيئون فهم المقصود من هذا التعبير، كثيراً ما يوهمون أو يتوهمون أن النزعة العالمية لابد أن تعني إنكار الخصائص الذاتية للشعوب، ورفض النزعات القومية الإنسانية، والانطلاق دون ما قيد وشرط نحو سفح الحدود، بشتى أنواعها، بين الأمم والدول (على حساب الدول الضعيفة دون شك).

لقد أشار المؤرخ الأمريكي بول كنيدي إلى الانقسام القائم في البلاد العربية والعالم الإسلامي بين «الذين يملكون» و«الذين لا يملكون». وعلّق على ذلك قائلاً: «وبعد ذلك، أيكون من العجب أن ينجذب العاطلون عن العمل وجماهير المدن التي تعاني من مساكن سيئة، واليائسون من أي تقدم علماني، إلى القادة الدينيين أو إلى «الرجال الأقوياء» الذين يخاطبون الكرامة الإسلامية والشعور بالهوية ومقاومة القوى الأجنبية وعملائها المحليين؟»( ).
وهذا يعني عندنا أن القوى الأجنبية وعملاءها المحليين تمثل في نظر الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية العقبة الأساسية التي تحول دون تحقيق التقدم والازدهار. ومن هنا كان لابد لأي مشروع تنموي أو نهضوي تضطلع به بلدان الوطن العربي من أن يكون مشروعاً منبثقاً من حقيقة حاجات الأمة العربية ومن داخلها ومن صنع يديها. وعند ذلك تلتف حوله الجماهير، بل عند ذلك يتقلص خوف الجماهير من ارتباط التحديث والتطوير بالخضوع والانقياد.
3 – أهمية الرابطة القومية:
والحق إن كثيراً من المحللين الغربيين أنفسهم بدأوا يدركون، في ضوء واقع الروابط القومية في العالم (بأشكالها المختلفة: فوق القومية، والقومية، والإثنية)، أن الدولة القومية (لا الدولة القويّة) سوف تظل، رغم كل شيء، «المصدر الأول لهوية معظم الناس»، وأنها ما زالت «تلعب دور المؤسسة الرئيسية التي ستحاول الشعوب أن تستجيب للتغيير من خلالها»، وأن «البديل المناسب لم يظهر حتى الآن ليحل محل الدولة القومية باعتبارها الوحدة الرئيسية القادرة على الاستجابة للتغيرات العالمية»( ).
أفنقول إذن قولاً إذاً إن نحن أبرزنا أهمية الانطلاق من خطة قومية عربية مشتركة من أجل تحديد نمط الاستجابة الملائمة للتغيرات العالمية؟ وهل من سبيل إلى القضاء على «الخوف العربي» من الانخراط في حلبة التقدم دون ما ضابط، ودون ما تحوّط يحول دون أن يغدو هذا الانخراط ضياعاً، غير سبيل الاتكاء المكين على طبيعة الكيان العربي وحاجاته؟

خاتمة
وبعد، إن جلّ ما أردنا قوله هو أن ثمة مأزقاً خطيراً طالما عانى منه الوجود العربي ولا يزال يعاني منه، هو مأزق التلكؤ عن التحديث خوفاً من الغربة والتغريب، وخوفاً من أن يؤدي هذا التحديث إلى سيطرة الأقوياء على قدرات الضعفاء. ويقابل هذا المأزق مأزق آخر، قوامه الشعور بأن التخلف سوف يستمر إذا لم تزل عقدة الخوف هذه.
وقد استبان لنا أن الاستجابة لهذين المأزقين لن تُرجى عن طريق تخلي الغرب عن نزعته التسلطية وعن اتخاذ أي تحديث في البلدان النامية سلماً لتحقيق مطامعه ومكاسبه وأهدافه، فضلاً عن جعله حلبة للتنافس الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الدول المتقدمة نفسها. فمثل هذا الأمل مباين لمنطق الواقع.
ومن هنا كانت السبيل الوحيدة للخروج من المأزق المزدوج أن تحزم البلدان العربية أمرها، وتتفق على كلمة سواء بينها، كي تنطلق بالتحديث انطلاقاً مشتركاً، في إطار العمل العربي المشترك، وكي تبني هذا التحديث بقواها الذاتية، مهما يكن العون الذي يمكن أن تحتاج إليه من سواها، وأن تخاطب العالم من خلال خطتها وإرادتها، وأن تكون في هذا كله مهاجمة لا مدافعة. ونعني بالمهاجمة، الدعوة الجادة الحارة إلى نمط التعاون العالمي السليم، وبيان الارتباط العضوي بين تفتح وجودها القومي وحضارتها الذاتية وبين عطائها الحضاري للإنسانية جمعاء.
والأمة العربية جديرة قبل سواها بألا يعتريها الخوف من خوض معركة التحديث. فلقد كانت عبر تاريخها رائدة في مجال إغناء حضارتها عن طريق تمازجها بحضارات سواها. وهي اليوم تملك من الطاقات المختلفة ما يؤهلها لأن تشيد بنية حضارية حديثة متينة، إذا هي انطلقت أولاً وقبل كل شيء من خطة عربية مشتركة ومن عمل عربي متكامل، وإذا هي جابهت العالم بتلك الحقيقة البدهية، وهي أن النزعة العالمية الإنسانية الحقة هي وليدة الكيانات القومية الواعية لذاتها، المفتِّحة لإمكاناتها، العاملة على استخراج كوامن القوى والطاقات لدى الجماهير الغفيرة من أبنائها، حين تتوافر لهذه الجماهير الشروط اللازمة لعطائها وإبداعها.
ثم أن الأمة العربية جديرة كذلك بأن يكون لها السبق في تسديد خطى مسيرة الحضارة العالمية، بفضل ما تملكه من قيم إيجابية مكينة، وكلنا يعلم كيف أن الثورة الصناعية منذ بداياتها أدت شيئاً بعد شيء في العالم الغربي إلى زوال نظام من القيم دون أن يحل محله نظام جديد يقوم بدوره الوظيفي. ونتيجة لذلك وُلد جيل من الشباب زالت ثقته بالمجتمع وقيمه، وغدا جيلاً لا إرث له ولا تراث يحميه. بل وُلد جيل لا نقول إنه يبحث عن الإرث فلا يجده، بل هو يرفض الإرث أصلاً ومبدأً. وكان حصاد هذا كله ما نجده في العالم الغربي اليوم، ولاسيما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، من ضياع وبحران وقلق، وما نلفيه من محاولات لتلمس مبادئ جديدة يمكن أن تحمي النظام العالمي وتحمله على كاهلها (سواء فيما يتصل بحقوق الإنسان، أو بمبدأ العدالة، أو الديمقراطية، أو بمبدأ سيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، أو فيما يتصل بمقاومة القيم الضالة الناجمة عن عبادة المال وحده، وعن إهمال مبدأ العدالة الاجتماعية).
والأمة العربية، عندما تعي ذاتها ورسالتها، لابد أن تقوى على الإسهام مع سواها من أمم العالم، ولا سيما الأمم التي تملك حضارات كبرى عريقة، في توجيه دفة السفينة العالمية، وفي توليد القيم اللازمة لعصر العلم والتقانة، كما شاع وذاع في السنوات الأخيرة.
وهل أدعى إلى البحث عن قيم عالمية إنسانية حقاً، من وجود هذا الصراع الذي جعلناه محور بحثنا، نعني الصراع بين رغبة الأمم النامية في التقدم وبين خوفها من أن يؤدي هذا التقدم إلى تزايد سلطان الدول المتقدمة عليها؟ هل أدعى إلى التشكيك في جدّية القيم الإنسانية التي تنادي بها الدول المتقدمة، من خلال النزعة العالمية المعادية في أعماقها للإنسانية، من أن يولّد التقدم والتحضر، ولاسيما العلمي والتقاني الذي تفخر به الدول المتقدمة عن حق، خوفاً وجزعاً من التقدم لدى كثير من أبناء الأمة العربية، بل لدى الكثير من أبناء الدول النامية، إن لم نقل لدى كثير من أبناء الدول المتقدمة نفسها؟ وهل ثمة من دليل يفصح على الخلل القائم في النظام العالمي أبلغ من هذا الدليل؟
وهل أدعى إلى شحذ الهمم العربية من أن تتنادى من أجل الإسهام مع سواها في سبيل فك الارتباط بين الأخذ بالتقدم والتحديث وبين سيطرة القوي على الضعيف؟
أجل، إن معركة التقدم في البلاد العربية وسواها معركة مزدوجة: معركة ضد الخوف من التقدم، ومعركة ضد استغلال التقدم من قبل الأقوى. ولا يفلح أي عمل في هذا السبيل إلا إذا كان عملاً على هاتين الجبهتين المتكاملتين.