“الفكر التربوي عند ساطع الحصري”

1- مدخل:
قد يكون من قبيل الكلام المعاد أن نؤكد الدور الكبير الذي تضطلع به التربية في تنمية القوى العاملة إعداداً وتدريباً وتجديداً للإعداد والتدريب. وقد أصبح من بديهي الكلم أن نتحدث اليوم عن أثر التربية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية عامة، وعن شأنها في زيادة الدخل القومي، بعد الدراسات العديدة التي ظهرت في كل مكان حول العطاء الذي تقدمه التربية للنمو الاقتصادي خاصة وللتنمية عامة ، والتي ذر قرنها منذ الحرب العالمية الثانية بوجه خاص .
على أن ذلك كله في نظرنا أمر تجاوزناه وباب مفتوح لا حاجة إلى طرقه من جديد. وما هو أهم وأجدى بأن نتريث عنده أن ننطلق من هذه الحقيقة لنضع لها ضابطين هامين في نظرنا وفي نظر معظم الدراسات الجديدة.
أولهما أن النمو الاقتصادي وحده – وما يتصل به من زيادة في الدخل القومي – ليس وحده مقياس النمو والتقدم في أي بلد من البلدان. فقضية النمو قضية حضارية أعمق، تشمل النمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، ولم يعد من المقبول اليوم أن نقيس مقدار تقدّم أي بلد بمقدار نموه الاقتصادي ولا سيما دخله القومي. ولئن صدقت هذه البديهية على بلدان العالم كافة، فهي على البلدان العربية أصدق، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار نمو الثروة النفطية ونمو عائداتها في كثير من هذه البلدان نمواً متعاظماً لا يتخذ شأوه ومداه إلا إذا صحبه نمو ذاتي في البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يكون قادراً على أن يستخرج من تلك الثروات بنية حضارية جديدة باقية.
ومن هنا كانت تنمية الموارد البشرية تنمية تجعلها قادرة على أن تلعب دورها في التنمية الحضارية الواسعة للبلدان العربية، هو الذي ينبغي أن يكون ضالة التربية العربية ومحط رحالها. وبذلك يغدو النمو الاقتصادي بالمعنى الضيق للكلمة حافزاً على التنمية الشاملة بدلاً من أن يكون أحياناً عقبة في طريقها.
وثانيهما أن التربية – رغم ما قيل ويقال – ليست العامل الحاسم في تنمية الموارد البشرية بالمعنى الواسع للكلمة. فالتربية ” نظام” فرعي من “نظام” كلي، هو النظام الاقتصادي والاجتماعي العام، وهي لا تستطيع أن تضطلع بمهمتها إلا إذا كان هنالك توافق واتساق بين أهدافها واستراتيجيتها وبين أهداف هذا النظام الاقتصادي الاجتماعي العام واستراتيجيته. والعلاقة بين الجانبين علاقة دائرية لا خطية، بمعنى أنه لا يصح القول أن الأول علة للثاني أو العكس، بل كلاهما علة ومعلول في آن واحد.
وهل يفلح الجهد التربوي الساعي إلى تنمية الموارد البشرية، إذا لم يصحبه جهد مواز، بل سابق أحياناً، من أجل تنمية الهياكل الاقتصادية والاجتماعية وتنمية الإنتاجية في سائر القطاعات، ومن أجل تطوير سياسة الأجور، ومعالجة مشكلات هجرة القوى العاملة وانتقالها، وتأكيد الدور الإنتاجي للمرأة، وتنمية القطاع التقليدي بالإضافة إلى القطاع الحديث، وتطويع التكنولوجيا واستيعابها وتكييفها وفق الحاجات المحلية الخاصة وتأصيلها في نهاية الأمر، وترشيد السياسة السكانية، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والتحرر من النظم الاقتصادية التابعة للقوى الاقتصادية العالمية، وتوفير التكامل الاقتصادي العربي، وغير ذلك كثير؟
بل هل تستطيع التربية أن تقدم عطاءها كاملاً فيما يتصل بخلق المواقف والاتجاهات اللازمة للتنمية والعمل والإنتاج، إن ظلت تعمل في واد وظلت وسائل الإعلام المختلفة وأساليب البث الجماعية تعمل في واد آخر؟
وفوق هذا وذاك هل تستطيع التربية أن تعبئ أقصى قدر من القوى العاملة من أجل التنمية بأبعادها المختلفة إن سادت القطاع الحكومي في كثير من الأحيان نزعة إلى جعل الوظيفة ضرباً من المساعدة الاجتماعية المعاشية تقدم لطارقيها حلية تلبس من أجل الجاه والفخار، دون أن تكون وراءها كفاية حقيقية أو قدرة فنية موثوق بها؟
نقول هذا كله لا لنعفي التربية من دورها الهام، بل لنبيّن تكامله مع سائر الأدوار، ولننزع من الأذهان فكرة سادت وعمت. فطرق مسألة تنمية الموارد البشرية من المركب السهل أن تلقي على التربية أولاً أعباء معالجتها.
على أن البحث في المهمات الأخرى اللازمة من أجل تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية ليس من شأننا في هذه الدراسة وستتولاه دراسات أخرى. ومن هنا سوف نقصر بحثنا على مهمات التربية وحدها، مشيرين حسب مقتضى الحال إلى ارتباطها بسواها. وجل ما أردناه في هذا المدخل أن نضع هذه المهمات في موضعها الصحيح وأن نبين حدود التربية في رسم إستراتيجية تنمية الموارد البشرية، وضرورة تكاملها مع سواها في هذا الإطار.
2 – تعريفات أساسية:
على أنه لا بد من تقديم بعض التعريفات للمفاهيم التي نستخدمها كي نمضي مطمئنين في دراستنا. فلا بد أولاً أن نحدد المقصود من كلمة “تربية”. لقد استخدمنا هذه الكلمة عن قصد بديلاً عن كلمة تعليم. ذلك أنها تشمل في آن واحد ” التعليم” بالمعنى الحصري للكلمة وهو غالباً التعليم الذي يتم على مقاعد المدارس النظامية بمراحلها الثلاث، والإعداد والتدريب بأشكالها المختلفة، وهما يتمان غالباً خارج النظام المدرسي المألوف. وتنمية القوى العاملة والموارد البشرية لا تتم إلا بكليهما، بل نزيد فنقول أن أبرز وسائلها التربية غير النظامية، سواء اتصلت بتربية الكبار أو بمراكز الإعداد المهني والفني، أو بالمؤسسات الحكومية والخاصة التي تعني بتقديم تدريب وإعداد مهنيين ملائمين للمنتسبين إليها، أو بإعادة التدريب وتجديد التدريب تبعاً للحاجات الجديدة ومستلزمات سوق العمل المتجددة، أو بوسائل الإعلام والبث الجماعي الخ.. وجملة القول أننا نعني بالتربية الهادفة إلى تنمية الموارد البشرية، التربية المستمرة، التربية ” من المهد إلى اللحد” كما جاء في تراثنا، وهي تربية لا تقتصر على عمر دون عمر، ولا تنصب على قطاع من المجتمع دون آخر، بل تسعى إلى خلق ما يدعى اليوم باسم ” المجتمع المتعلم المعلّم (بالكسر)، حيث يكون كل فرد متعلماً دوماً ومعلماً دوماً، أنّى كان موقعه وأياً كانت سنه. وقد سبق لعمرو بن العلاء أن سئل: ما هو حد التعلم؟ فأجاب: ” الحياة”.
وعندما نؤكد مفهوم التربية من المهد إلى اللحد في هذا المدخل، نهدف في حقيقة الأمر إلى أمرين هامين:
الأول: أن هذه التربية المستمرة المتجددة من المهد إلى اللحد هي أمثل وسيلة لتحقيق التوافق بين نمو التربية ونمو حاجات سوق العمل. فمهما تكن النبوءات والإسقاطات المتصلة بحاجات القوى العاملة – وهي نبوءات تبنى عليها حاجات التربية – ودقيقة ومحكمة، تظل عاجزة عن تحقيق اللحمة الكاملة بين مستويات الخريجين وأنماط إعدادهم المسبق وبين حاجات سوق العمل، وهي حاجات متجددة ومتغيرة، ولا سيما في عصرنا الذي تتقادم فيه المعارف سريعاً والذي يشهد تغيراً مستمراً وعاجلاً في بنية سوق العمل وحاجات سوق العمل من المهن والاختصاصات المختلفة. ولا سبيل إلى التوفيق بين المطلبين، مطلب إعداد القوى العاملة ومطلب الاستجابة لحاجات سوق العمل المتغيرة، إلا عن طريق تربية موصولة، تعيد التدريب والتأهيل تبعاً للحاجة وتجدده بل توجهه أحياناً وجهة أخرى.
والأمر الثاني الذي يحملنا على تأكيد مفهوم التربية المستمرة، هو أنها حين تفهم فهماً صحيحاً لا تعني أن نقيم مجرد تربية غير نظامية متصلة مديدة موازية للتعليم النظامي، بل تستلزم تغيير هذا التعليم النظامي وتعديله في ضوء هذه التربية المستمرة، بحيث يضطلع بمهمات جديدة تقتصر على تقديم أساسيات المعرفة وأدواتها، تاركاً مهمة التخصيص والتحديد للتربية المستمرة. وعند ذلك يمكن البحث بحثاً جدياً في تغيير بنية التعليم النظامي ومراحله ومضمونه، بل يمكن البحث في تقصير أمده بعد تحريره من المهمات التي يمكن أن تتولاها التربية والإعداد في أثناء العمل وعبر مسيرة الحياة.
وفي إطار التعريفات اللازمة لا بد ثانياً من التذكير بالتعريفات المتفق عليها فيما يتصل بالموارد البشرية نفسها. وفي هذا نذكر موجزين التعريفات الأولية التي يقدمها مكتب العمل الدولي:
القوة البشرية:
هي ذلك الجزء من السكان الذي يمكن استغلاله في النشاط الاقتصادي. ويضم السكان جميعاً ما عدا غير القادرين على العمل وهم: الأطفال الذين هم دون سن العمل، وكبار السن الذين تجاوزوا سن العمل (65 سنة) ما داموا لا يمارسون عملاً مثمراً، والعجزة الذين لا يقوون على أداء عمل مثمر بسبب عاهة مقعدة أو أمراض مزمنة استعصى علاجها.
وتنقسم هذه القوى البشرية إلى قسمين:
1 – الأفراد الداخلين في قوة العمل: (ويطلق عليهم اختصاراً اسم القوى العاملة) وهم جميع الأفراد الذي يسهمون فعلاً بجهدهم الجسدي أو العقلي في أي عمل يتصل بإنتاج السلع أو الخدمات، أو الذين يقدرون على أداء هذا العمل ويرغبون فيه ويبحثون عنه. ومعنى هذا أن القوة العاملة تضم المشتغلين (العاملين فعلاً) والمتعطلين.
2 – الأفراد الخارجين عن قوة العمل: وهم الأفراد القادرون على العمل ولكنهم لا يعملون ولا يبحثون عن العمل المثمر، سواءً بسبب عدم رغبتهم فيه لاستغنائهم عن التكسب عن طريق العمل، أو بسبب عدم إمكانهم الدخول في سوق العمل. ويدخل تحت هذه الطائفة: ربات البيوت وغيرهن من النساء المتفرغات للأعمال المنزلية، والطلاب المتفرغون للتعليم من الجنسين، وأصحاب المعاشات التقاعدية، (أقل من 65 سنة) الذين تركوا أعمالهم وأصبحوا يعتمدون بصفة أساسية على معاشات أو مكافآت أو تعويضات عن المدة التي قضوها في عملهم السابق، والزاهدون في العمل أي الذين لا يزاولون عملاً مثمراً ولا يبحثون عنه رغم قدرتهم عليه، وذلك بسبب اكتفائهم بما يحصلون عليه من دخول خاصة أو إعانات دورية، وأخيراً نزلاء السجون ومؤسسات الخدمات العامة كالمصحات والمستشفيات ودور العجزة وسواها.
إن هذا التذكير بالتعريفات المتصلة بالموارد البشرية لم نسقه لذاته ولتوضيح المفاهيم فحسب، بل لأن له نتائج تتصل بالإستراتيجية اللازمة للقوى العاملة وبتربيتها وتدريبها. ذلك أن من أغراض هذه الإستراتيجية كما نرى، أن توسع إطار المشتغلين (وهم يمثلون نسبة ضئيلة جداً من السكان في البلاد العربية تتحلق حول 26% من السكان وإن كانت تختلف اختلافاً يسيراً من قطر عربي إلى آخر)، وذلك عن طريق تشغيل المتعطلين والإفادة من النساء وربات البيوت في العمل المنتج، بل حتى الإفادة من أرباب المعاشات والزاهدين في العمل ونزلاء السجون وسواهم. ذلك أن البلدان العربية تواجه مشكلاً جاداً أساسياً في هذا المجال، نعني ضآلة نسبة المشتغلين (حوالي 26% من السكان كما ذكرنا) وما يلحق بها من ارتفاع نسبة الإعالة (1 إلى 3) ومعدلات المشاركة وضعف الإنتاج القومي. وحسبنا للتدليل على ذلك أن نذكر أن نسبة المشتغلين فعلاً في بعض البلدان المتقدمة (كالاتحاد السوفياتي) تصل إلى ما يقارب 50% من مجموع السكان، أي ضعف ما هي عليه الحال في البلاد العربية. ويرجع ذلك، فيما يرجع، إلى ضعف مشاركة المرأة في الإنتاج، فضلاً عن فتوة السكان في البلاد العربية. وإذا أضفنا إلى هذا المشكل الحاد مشكلاً آخر يزيد من ضراوته، نعني مشكل البطالة المقنعة التي تسود الأرياف خاصة، أدركنا أن الجهود العامة والجهود التربوية خاصة لا بد أن تتوفر على معالجة هذه المسألة باتباع جميع السبل الممكنة.
ويزيد الطين بلة أن كثيراً ممن يعتبرون من ” المشتغلين” فعلاً في البلاد العربية، لا يقدمون عملاً منتجاً حقاً، ولا سيما بعض العاملين في القطاع الحكومي. غير أن هذا أمر آخر، يتصل مباشرة بمحتوى التربية اللازمة لتنمية الموارد البشرية، وهو من أهم الجوانب التي سنتعرض لها في بحثنا.
3- المسألة:
لا نسرف إذا قلنا أن التربية في البلاد العربية – وفي معظم بلدان العالم النامية بل والمتقدمة – ما تزال مقصرة عن أن تضطلع بمهمتها السليمة المرجوة في تنمية الموارد البشرية. صحيح أن مسألة تنمية الموارد البشرية ليست مسألة تربوية فحسب، كما سبق أن قلنا، وإنما هي مسألة تتآخذ جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والتربوية، في إطار “نظام” علمي مترابط، لا بد أن يعالج معالجة كلية شاملة. غير أن من الصحيح كذلك أن الوضع الشامل العام للموارد البشرية هو في آن واحد نتيجة وسبباً للوضع التربوي. والعلاقة بينهما كما قلنا أيضاً دائرية، ولا سبيل إلى القضاء على هذا “الدور الفاسد” (كما يقول المناطقة العرب أو
“الحلقة المفرغة” كما نقول اليوم نقلاً عن الغرب) إلا عن طريق المعالجة المتوازية المتزامنة لكلا الوضعين. ومن هنا فإن ما سنكشف عنه من نقائص التربية في البلاد العربية، وما سنطرحه من حلول بعد ذلك، أمر يفترض قيام جهود موازية مصاحبة لمعالجة مشكلات القوى العاملة من جوانبها الأخرى.
ومن هنا حق لنا أن نتساءل عن الثغرات التي يشكو منها نظام التربية في البلاد العربية وعن انعكاس ذلك على تنمية الموارد البشرية، نتيجة لتقصير الجهود التربوية ونتيجة لتقصير الجهود الأخرى الخارجة عن نطاق التربية.
والحديث عن ثغرات النظام التربوي في البلاد العربية – من حيث إعداده للقوى العاملة – حديث قديم أبداً جديد أبداً. وقد تكاثرت الدراسات حوله، غير أن قليلها يطرح المسألة في إطار شامل كامل، بينما يومئ أكثرها إلى جانب دون جانب، أو يتريث عند وجه من وجوهها في معزل عن سواه. وما سنحاول القيام به في هذه الدراسة أن نعرض تلك الثغرات التي يشكو منها النظام التربوي – تمهيداً لاقتراح الحلول الممكنة لها – عرضاً متكاملاً ما وسعنا ذلك، انطلاقاً من حقيقة لا نني نؤكدها، نعني أن التربية “نظام” متآخذ -على كونه فرعاً من “نظام” كلي أشمل- وأن مشكلاته لا بد أن تعالج معالجة متكاملة، وأن أي عنصر من عناصرها وأي مقوم من مقوماتها لا يتخذ معناه ولا يصلح أمره إلا في إطار صويحباته وأترابه. ولعل معالجة مشكلات التربية فرادى هو الثغرة الأولى والأساسية في مسيرة التطور التربوي في البلاد العربية وفي كثير من بلدان العالم.
من هذا المنطلق الكلي المتعانق، في وسعنا أن نوجز الثغرات التي تشكو منها التربية في البلاد العربية – في إطار تنمية الموارد البشرية وإعداد القوى العاملة – في الأمور الأساسية الآتية:
1– ضعف الارتباط بين خطط التربية وخطط التنمية الشاملة.
2– تقصير التطور الكمي في ميدان التربية النظامية عن مداه المرجو.
3– ضعف العناية بالتربية غير النظامية.
4 – ضعف محتوى التربية – برامج وتقنيات وطرائق – وضعف ارتباطه بحاجات القوى العاملة.
5 – المشكلات الناجمة عن انتقال الكفاءات والخبرات بين البلدان العربية وعن هجرتها إلى خارج البلاد العربية.
6 – ارتفاع كلفة التعليم وتقصير الموارد المالية والبشرية اللازمة له.
وسوف نحاول أن نتريث عند كل من هذه المشكلات، واحدة إثر واحدة، علنا نخرج بنظرة كلية واضحة للمسألة برمتها، ممهدين بذلك لطرح الحلول التي يمكن أن تقدم لتجاوز تلك المشكلات. على أن إجادة طرح المسألة، كما يقول المثل اللاتيني، نصف الحل.
1– ضعف الارتباط بين خطط التربية وخطط التنمية الشاملة:
لا نقول جديداً إن ذكرنا بأن التخطيط التربوي ترعرع ونشأ في حضن التخطيط الاقتصادي بل استجابة لحاجات ذلك التخطيط. ولتلك النشأة فضائلها ومثالبها التي لا مجال للحديث عنها الآن. وما يعنينا هو أن نذكر بأن الأصل والمنطلق في مخاض التخطيط التربوي، إدراك التخطيط الاقتصادي (الذي شاع في مثل الاتحاد السوفياتي منذ الثلاثينات والذي انطلق وذاع في البلدان الغربية منذ الحرب العالمية الثانية بل نتيجة لها إلى حد بعيد)، بأنه لا يستطيع أن يبلغ مداه إن لم يرافقه تخطيط لتنمية الموارد البشرية وتخطيط للتربية والإعداد بالتالي، ما دامت تنمية رأس المال البشري، كما كشفت عنه الدراسات الكثيرة في ذلك الحين، هي رأس الحربة في تنمية رأس المال المادي، وما دامت التربية (وقد كان ذلك كشفاً جديداً آنئذ) توظيفاً مثمراً للأموال وليس مجرد خدمة استهلاكية.
ومن هنا قامت الخطط التربوية تترى في شتى بلدان العالم، وبدأت في البلدان العربية منذ أوائل الستينات، وعقدت المؤتمرات الدولية والعربية لتأكيد أهمية التخطيط التربوي، وقامت المراكز والمؤسسات لإعداد المخططين التربويين (وعلى رأسها المركز الإقليمي لتخطيط التربية في البلاد العربية الذي أنشأته البلاد العربية ببيروت بالتعاون مع منظمة اليونسكو).
ورغم هذه الجهود العديدة التي بذلت في البلاد العربية وسواها من أجل الانطلاق في مسيرة التخطيط التربوي، تعثرت هذه المسيرة، وشكت من ثغرات أساسية أهمها:
أ – وضع الخطط التربوية في معظم الأحيان في معزل عن خطط التنمية الشاملة (حتى ولو كونت أحياناً فصلاً من فصولها) ونعني بذلك بوجه خاص أن الجسر الأساسي الذي يتم به الربط بين الخطط الشاملة وخطط التربية، وهو جسر القوى العاملة وحاجاتها، لم يُبْنَ في معظم الأحيان. ذلك أن أول مستلزمات الربط بين التخطيط التربوي والتخطيط الشامل أن يقوم تقدير لحاجات القوى العاملة (انطلاقاً من مؤشرات خطة التنمية الشاملة) وإن تحدد المستويات التربوية اللازمة (إعداداً وأعداداً) للوفاء بتلك الحاجات، وأن تكون المهمة الأساسية للخطة التربوية بالتالي توفير ما انتهى إليه ذلك التقدير لحاجات القوى العاملة إعداداً ومستويات تربوية. ومثل هذا العمل الأساسي لم يتم في معظم الدول العربية، لأسباب كثيرة، وعلى رأسها عدم توافر بيانات إحصائية حول المستوى التعليمي لأفراد القوى العاملة (أي إحصاءات ذات مدخل مزدوج: الوضع المهني للسكان والمستوى التربوي لأصحاب المهن المختلفة في آن واحد). هذا بالإضافة إلى أن الإسقاطات المتصلة بمقدار الحاجة من القوى العاملة المدربة، على مختلف المستويات، خلال فترة الخطة الشاملة، لم تحظ بالعناية الكافية. ذلك أن معظم الخطط الشاملة التي تم وضعها عنيت بتحديد الاستثمارات اللازمة المتصلة بالقوى العاملة والموارد البشرية. ومن هنا كانت الخطط الشاملة في معظم الأحيان أشبه بميزانية تقليدية مدت إلى بضع سنوات بدلاً من اقتصارها على سنة واحدة.
ب – ونتج عن ذلك، فيما يتعلق بالخطط التربوية نفسها، إن هذه الخطط اكتفت في معظم الأحيان بإجراء تمرين حسابي آلي، قوامه مد الاتجاهات القائمة للنمو التربوي في مراحل التعليم المختلفة إلى المستقبل، وتحديد أعداد الطلاب الذين ينتظر أن يرتادوا كل مرحلة، وحساب ما يحتاجون إليه من صفوف وأبنية وتجهيزات ومعلمين، وتقدير نفقات ذلك كله. ومعنى ذلك، بوجيز العبارة، أن إسقاطات الخطط التربوية لم تبن على أساس إسقاطات الحاجات من القوى العاملة كما تكشف عنها خطط التنمية، بل بنيت على أساس تنبؤات إحصائية حول أعداد الطلاب المرتقبة في مراحل التعليم، استناداً إلى الاتجاهات الماضية والقائمة وما ستؤدي إليه خلال سنوات الخطة، واستناداً إلى أهداف التوسع التربوي كما ترسمه الخطة رسماً نظرياً، لا رسماً مستوحى من معرفة علمية بحاجات سوق العمل وقدرتها على الامتصاص.
جـ – وزاد الطين بلةً أن هذه الخطط التربوية، المبينة على أساس تلمس الحاجات وتخمينها لا على أساس معرفتها العلمية الدقيقة، لم تعن إلا بالجانب الكمي من التوسع التربوي (أعداد الطلاب وما يلحق بها)، وقلما عنيت بالجانب الكيفي النوعي (محتوى التربية من مناهج وطرائق). ومعنى ذلك أن الفصام لم يقم فقط بين الحاجات الكمية للقوى العاملة وبين ما تتنبأ به الخطط التربوية من أعداد يتم تعليمها على مختلف المستويات، بل قام أيضاً وخاصة – وهذا أدهى وأمر – بين الحاجات النوعية للقوى العاملة (نوع الإعداد والتدريب اللازم لها) وبين محتوى النظام التربوي، الذي ظل محتوى تقليدياً إلى حد بعيد، حتى فيما يتصل بإعداد الكفاءات المهنية والفنية.
د – يضاف إلى هذا كله أن اللحمة المرجوة بين التخطيط التربوي والتخطيط لحاجات القوى العاملة (كماً ونوعاً) لم تنعقد على النحو المرجو، مما أفقد الخطط التربوية إلى حد بعيد المعنى الأساسي لوجودها. ونستدرك هنا فنقول خوفاً من أي لبس، إننا لا نعتبر الوفاء بحاجات القوى العاملة الهدف الوحيد للتخطيط التربوي – فللتخطيط التربوي أهداف أخرى ثقافية عامة واجتماعية – غير أننا نعتبر ذلك أهم أهداف ذلك التخطيط. وبتعبير أوضح إن النمو التربوي كما ينبغي أن ترسمه الخطط التربوية لا بد أن يستهدف إعداد القوى العاملة إعداداً ملائماً كشرط لازم وإن لم يكن كافياً، غير أنه في الوقت نفسه لا بد أن يضيف إلى ذلك أهدافاً ثقافية واجتماعية محضة ( وإلا لم يكن تعميم التعليم الابتدائي أو الأساسي مثلاً مطلباً أساسياً من مطالب أي خطة تربوية، على الرغم من أن عطاءه الاقتصادي وعطاءه بالقياس إلى القوى العاملة ليس أساسياً. ومثل ذلك يصدق على تربية المرأة، حتى لو لم يؤد ذلك إلى ممارستها عملاً منتجاً).
2– تقصير التطور الكمي في ميدان التربية النظامية:
رغم الجهود الكبيرة بل الجبارة التي قامت بها معظم الدول العربية من أجل نشر التعليم النظامي بمراحله الثلاث وفتح أبوابه للجميع، ما زال الشوط بعيداً، وما زال هذا التعليم مقصراً عن مداه المطلوب. ونظرة سريعة إلى الجدول التالي (رقم 1) تغنينا عن كثير من التفصيل:
جدول رقم (1)
تطور معدلات التسجيل في البلاد العربية بالقياس إلى فئة العمر المقابلة
1980 1975 1970 1965 1960 المرحلة
66.9 60.5 51.8 48.1 39.1 الأولى (6 – 11)
44.4 36.0 29.4 24.5 17.9 الثانية (12 – 17)
16.2 13.5 8.7 6.2 3.8 الثالثة (18 – 23)
45.5 39.9 33.3 29.3 22.6 جملة
المصدر: إحصاءات اليونسكو، باريس 1982.
وإذا أردنا أن نقدم صورة حية عن هذه الأرقام وعن الواقع الكمي للتعليم في البلاد العربية، قلنا أن الإحصاءات تدل على أن جملة الأطفال الذين يستوعبهم التعليم الابتدائي (6 – 11 سنة) عام 1980، يبلغ زهاء 18 مليون طفل (من أصل 6.5) مليون طفل تقريباً في سن هذا التعليم) ومعنى هذا أن حوالي تسعة ملايين طفل ما يزالون دون تعليم.
أما في التعليم الثانوي (12 – 17 سنة) عام 1980 أيضاً، فيبلغ العدد المطلق للشبان الذين هم خارج المدرسة 12 مليون (من أصل 25 مليون تقريباً في سن هذا التعليم). وفي التعليم العالي (18 – 23 سنة) يبلغ هذا الرقم ثلاثة ملايين تقريباً (من أصل 16 مليون تقريباً).
ويرجع هذا التقصير في النمو الكمي، رغم الجهود المتعاظمة، إلى أسباب كثيرة، أهمها:
آ – فتوة السكان في البلاد العربية نتيجة لمعدل النمو العالي للسكان (حوالي 3%) ونتيجة لانخفاض الأجل المتوسط للسكان. فهنالك حوالي 49% من السكان في المتوسط دون الخامسة عشرة من العمر، وهنالك ما يربو على 57% من السكان في المتوسط دون العشرين من العمر. ومعنى ذلك أن العبء التعليمي الذي يقع على عاتق الدول العربية عبء كبير جداً، لا سيما إذا قيس بالبلدان المتقدمة (التي لا يجاوز السكان الذين دون العشرين فيها 35% من مجموع السكان).
ب- عجز معظم الدول العربية عن توفير النفقات الضخمة اللازمة لنشر التعليم/ ويكفي أن نذكر أن ميزانيات التعليم تبلغ حوالي 30% من ميزانية الدولة في بعض البلدان العربية وتناهز 5% من الدخل القومي في كثير منها. ومعنى ذلك أن معدل الإنفاق على التعليم في معظم البلدان العربية قد بلغ حداً يصعب تجاوزه، رغم أن الخدمات التعليمية ما تزال مقصرة عن الشأو المطلوب.
د– تدني معدل انتساب المرأة إلى التعليم (ولا سيما في المرحلتين الثانوية والعالية) لأسباب اجتماعية واقتصادية، على الرغم من أن هذا المعدل أخذ في التزايد سريعاً في السنوات الأخيرة.
هـ- ضعف انتشار التعليم لدى أبناء الريف وفي المناطق النائية رغم الجهود الاستثنائية التي بذلت في بعض الدول العربية بهذا الشأن.
و– ضعف العناية بتعليم المعوقين جسدياً وعقلياً، برغم أنهم يمثلون نسبة لا يستهان بها من السكان حوالي (5%).
3– قصور التطور الكمي في ميدان التربية غير النظامية:
لئن كان ارتباط نمو القوى العاملة بنمو التربية النظامية ارتباطاً وثيقاً، فهو بنموّ التربية غير النظامية أوثق وألصق، لأسباب كثيرة سبق أن بينا بعضها.
ذلك أن مفهوم التربية التي تتم مرة وإلى الأبد على مقاعد المدرسة النظامية (المراحل التعليمية الثلاث) مفهوم زال في عصرنا إلى غير رجعة. فالتربية النظامية – أمام تقدم المعارف والتقنيات وتسارعها وتكاثرها وتغيرها – أصبحت عاجزة عن أن تقدم الزاد اللازم من المعرفة والمهارة الذي يقتات به الفرد عبر حياته كلها والذي يلبي الحاجات المتجددة للقوى العاملة. ومن هنا ولد مفهوم التربية المستمرة، التربية من المهد إلى اللحد، كما سبق أن ذكرنا، وولد معه مفهوم ” المجتمع المتعلم المعلم”.
والتعليم غير النظامي هذا – وما يتبعه من تربية مستمرة – يشمل جوانب عديدة ويضم مؤسسات شتى يتكاثر عددها يوماً بعد يوم: مكافحة الأمية – تعليم الكبار (ولا سيما تعليم الكبار الوظيفي) – مراكز التدريب المهني والفني – الإعداد في مواقع الإنتاج نفسها – التربية من أجل التنمية الريفية – التربية السكانية – تربية الشيوخ من أجل الإفادة منهم في النشاط الاقتصادي والاجتماعي (العمر الثالث الذي تتزايد أعداده وتتزايد أهميته) – إعادة التدريب وتجديد التدريب أثناء الخدمة لجميع أفراد القوى العاملة – تربية رواد دور العجزة والسجون – التثقيف الشعبي – التربية المعادة – الخ.
وليس من الجديد القول أن هذه التربية غير النظامية بأشكالها المختلفة ما تزال في البلاد العربية وليدة تحبو، وإن الاهتمام بها يقصر كثيراً عن الاهتمام بالتربية النظامية، رغم شأنها الأكبر في تنمية القوى العاملة وزيادة فعاليتها ونتاجها. ولعل أسهل مركب وأخطره في آن واحد أن نعنى بالتربية النظامية، ظانين أن تعميمها في خاتمة المطاف هو وحده الذي يقدم العلاج لمشكلة التنمية جملة، وعلى رأسها تنمية القوى العاملة. ولئن كان إهمال التربية النظامية غير جائز، فإننا لا نغلو إذا قلنا أن عدم ربط هذه التربية بما يوازيها ويليها – نغني بالتربية غير النظامية – وعدم توفير العناية الجادة اللازمة لهذه التربية غير النظامية، يكادان يبطلان النتائج الخيرة المرجوة من التربية النظامية، بل من شأنهما أن يحددا دورها تحديداً خاطئاً. ويحتل هذا المطلب – مطلب تنمية التربية غير النظامية – شأناً خاصاً في البلاد العربية، إذا نحن ذكرنا أن نسبة القوى العاملة الفعلية (المشتغلين) فيها لا تتجاوز 26% من السكان (وتوسيع إطار هذه النسبة يعني تقديم تعليم غير نظامي للكثرة الباقية من أفراد القوة العاملة الممكنة)، وإذا ذكرنا فوق هذا وقبل هذا أن هذه النسبة الضئيلة من المشتغلين لا تملك المستوى التعليمي المطلوب والخبرة المهنية والفنية اللازمة – ولا ننسى أن البطالة ليست ظاهرة اقتصادية فحسب (تنجم عن عدم قدرة السوق الاقتصادية على الامتصاص) بل هي ظاهرة تربوية قبل ذلك، تنجم عن عدم توافر المعرفة والخبرة الفنية اللازمة لدى الراغبين في العمل. وليس من قبيل الصدفة أن نحد البلدان المتقدمة نفسها تلجأ – من أجل حل مشكلة البطالة – إلى إعادة تأهيل أفراد القوى العاملة بحيث يمكن تشغيلهم بعد ذلك في إعادة تأهيل أفراد القوى العاملة بحيث يمكن تشغيلهم بعد ذلك في مجالات العمل التي يكثر الطلب عليها ويقل العرض. وهذه الظاهرة ليست ظاهرة عابرة، بل ظاهرة بنيوية ترجع إلى تغير بنية سوق العمل وأدوات الإنتاج وأشكال الإنتاج في عصرنا، وإلى ظهور مهن جديدة بالتالي وإلى انقرض أخرى حكماً. وفي الدول العربية – والدول النامية عامة – ثمة سؤال أساسي يطرح: ما السبيل إلى الإعداد السريع للكفاءات المهنية والفنية التي يستلزمها دخول التكنولوجيا الغربية الحديثة في حياة الدول العربية ومؤسساتها الإنتاجية؟ بل ما السبيل إلى إعداد الأفراد اللازمين لعصر الأوتوماتية والسبرانية (التحرك الذاتي للآلة) والحاسبات الإلكترونية، ذلك العصر الذي أخذت آثاره تمتد إلى البلاد العربية والبلدان النامية إجمالاً؟ لا شك أن هذه المهمة السريعة والعاجلة لا يستطيع أن يفي بها التعليم النظامي (ولو افترضنا جدلاً أنه غير بناه التقليدية الجامدة) ولا بد للوفاء بها من تربية وإعداد وتدريب في إطار التعليم غير النظامي، بحيث يخلق هذا التعليم صيغاً جديدة ومبتكرة وعاجلة تلبي هذه الحاجات المتجددة.
وما أظننا في حاجة، بعد طرح هذا الموضوع طرحاً جذرياً وجوهرياً، إلى أن نتوقف عند بعض تفصيلاته، كأن نتريث عند مشكلة مكافحة الأمية أو تعليم الكبار أو مراكز التدريب أو سواها. ولا حاجة بالتالي إلى تقديم إحصاءات مكررة عن نسبة الأمية في البلاد العربية (59.9% عام 1980 لدى السكان فوق 15 سنة، يقابلها من حيث الإعداد المطلقة 55 مليون أمي في جملة البلدان العربية). وما هو أهم من هذا أن نذكر أن الجهود اللازمة لمكافحة الأمية ما تزال ضئيلة، وإن الحملات الشاملة لمحو الأمية لا نجدها إلا في بلدان عربية قليلة، وأن تعليم الكبار ما يزال يعد نفلاً زائداً، وإن التدريب أثناء الخدمة والعمل ما يزال في بواكيره، وأن مفهوم التربية المستمرة من المهد إلى اللحد لم تتخذ بعد طريقها الواضح بل مفهومها الصحيح في واقع التربية العربية.
ونزيد فنقول أن ما قد يظن عبئاً مالياً إضافياً في هذا المجال (مجال التربية غير النظامية) ما هو في حقيقة الأمر كذلك، بل إن الإنفاق على التربية غير النظامية (وهو إنفاق لن يكون ضخماً إذا استخدمت التقنيات السليمة اللازمة لهذه التربية وإذا ولدت صيغ جديدة للتدريب والإعداد تلقي العبء المالي والتربوي على مؤسسات الإنتاج، وتجند المتعلمين وأصحاب الخبرات من أجل تعليم سواهم وتجعل من كل فرد متعلماً ومعلماً في آن واحد، وإذا تمت الإفادة من كبار السن أرباب المعاشات وسواهم) نقول أن هذا الإنفاق على التربية غير النظامية – وهو مسألة تنظيمية وفنية قبل أن تكون مالية – هو الذي يرفع مستوى ومقدار العائدات الاقتصادية الناجمة عن التربية، ويزيد بالتالي في الطاقة المالية للدولة. بل إنه هو الذي يجعل الإنفاق على التربية النظامية إنفاقاً مجزياً يؤدي إلى عائدات اقتصادية فعلية. وإلا كان الجانب الأكبر من التمويل الذي يخصص للتربية النظامية هدراً من الناحية الاقتصادية والتنموية.
وجملة القول، لقد زال العهد الذي حسب الناس فيه أن هنالك إطاراً واحداً ووحيداً للتربية والإعداد، هو إطار المدرسة النظامية ذات الصفوف المتلاحقة، وأن هنالك عمراً واحداً للتربية والإعداد، هو عمر الدراسة، وأصبح من المحتوم اليوم أن تأخذ التربية ويأخذ الإعداد صيغاً متعددة ، لا تقتصر على مرحلة دون مرحلة أو على عمر دون عمر أو على شكل من أشكال التدريب دون آخر، بل تبتكر ما لا حد له من الصيغ الجديدة الملائمة لتطور العصر وتطور حاجات القوى العاملة وحاجات التنمية الشاملة فيه. ولهذا لا نعجب إن سمعنا بعض الأصوات المغالية في السنوات الأخيرة تنادي بإلغاء المدرسة النظامية أصلاً (أفكار “إيليش” و”ماك لوهان” وسواهما). لقد أصبح التغير والتغير السريع في كل شيء سمة عصرنا ومنطلق الحضارة الحديثة ، وهو يستلزم بالتالي تغيراً موازياً سريعاً في أساليب التربية والإعداد، بل في بنية المدرسة النظامية وإطارها ومحتواها وتقنياتها. لقد كانت هذه المدرسة النظامية، كما عرفناها ونقلناها عن الغرب، إفرازاً طبيعياً للثورة الصناعية الأولى. وقد أقبل العالم اليوم على الثورة الصناعية الثانية، ثورة العلم والتكنولوجيا القائمة على الآلة والتحرك الذاتي للآلة وحلولها محل الإنسان في كثير من النشاطات، ولا بد أن نرتب على هذه الثورة الثانية نتائجها التي تصدر عنها. وقد تكون الدول النامية، ومن بينها الدول العربية، مدعوة إلى أن تدخل عصر العلم والتكنولوجيا بضرب من “المقربة” (القادومية كما يقال في اللغة العامية)، أي دون أن تمر بمرحلة الثورة الصناعية الأولى، وعند ذلك لا بد من “مقربة” تربوية.
4- ضعف محتوى التربية:
على أننا إذا اقتصرنا على التربية النظامية وحدها، وجدنا، إلى جانب تقصير نموها الكمي، قصوراً أكبر في محتواها ومضمونها، ولا سيما إذا ربطنا ذلك المضمون بحاجات القوى العاملة.
لقد أصبحت التربية – بسبب الأعداد الكبيرة التي ترتادها – صناعة كبرى كما يقال. وفي هذا المصنع الكبير، مصنع التربية، كثيراً ما نعنى بالمدخلات (Inputs) كما يقال وأحياناً بالمخرجات (Outputs) من الناحية الكمية فحسب، وقلما نعنى بما يجري داخل المصنع، أي بأدوات الإنتاج وبرامج الإنتاج. والسؤال الأساسي ليس أن نسأل كم عدد الطلاب الذي يدخلون المدرسة، وكم عدد الطلاب الذي يتخرجون منها بالتالي، بل أي نوع من الطلاب تخرجه المدرسة وتقذف به إلى سوق العمل. أي إنسان نعد، وأي معرفة نقدم، وأي مهارة نكون، وأي اتجاهات فكرية ونفسية نخلق؟ ذلك هو السؤال.
وتحت هذا السؤال الكبير تندرج طائفة من الأسئلة الكثيرة، من خلالها يتحدد حكمنا على نظام التربية وصلاحه. وما دمنا نتحدث عن البلاد العربية، في وسعنا أن نوجز الثغرات التي يشكو منها محتوى التربية فيها في الأمور الأساسية التالية:
– ضعف التعليم المهني والفني.
– عدم ارتباط محتوى التعليم بحاجات المجتمع، ولا سيما المجتمع الريفي.
– عجز التعليم عن خلق المواقف والاتجاهات النفسية اللازمة للتقدم العلمي والتكنولوجي وللعمل والإنتاج.
– عجز التعليم عن خلق القدرة على الإبداع والابتكار.
– البنى التعليمية الصلبة والحواجز القاسية التي لا تسمح بالمرونة والانتقال فيما بينها.
– تقصير الجهود في ميدان إعداد القادة التربويين.
– تقصير الجهود في ميدان التدريب أثناء الخدمة لسائر العاملين في التربية.
وواضح أن كل مشكلة من هذه المشكلات في حاجة إلى دراسة قائمة برأسها.
ولهذا سنشير إلى أهم ما فيها إشارات خاطفة وبلغة أقرب إلى لغة البرقيات:
أ- ضعف التعليم المهني والفني:
رغم التقدم النسبي الذي تم في هذا المجال في البلدان العربية (وهو تقدم يتفاوت تفاوتاً واضحاً من بلد إلى آخر)، ما تزال نسبة المنتسبين إلى التعليم المهني والفني في البلاد العربية لا تجاوز (عام 1980) 14% من مجموع المسجلين في التعليم الثانوي. ويتوزع هؤلاء على مختلف أنواع التعليم المهني والفني كما يلي: 51% في التعليم التجاري أو الإداري و38% في التعليم الصناعي و9% في التعليم الزراعي و1% في مجالات أخرى. أما في التعليم العالي، فلم يحدث تطور خلال العقد الأخير في معدلات انتساب الطلاب إلى الدراسات العلمية والتقنية والمهنية، إذ كانت النسبة المتوسطة للمنتسبين إلى هذه الدراسات عام 1970 هي: 45.2% لدى الذكور و33.4% لدى الإناث (مقابل 54.8% لدى الذكور و66.6% لدى الإناث في الدراسات الأدبية والإنسانية) ثم غدت هذه النسبة عام 1980: 41.2% لدى الذكور و34% لدى الإناث.
على أن ما هو أخطر من ضعف إعداد المنتسبين إلى الدراسات المهنية والفنية بنية هذه الدراسات ومضمونها وطرائقها. ففروع التعليم المهني والفني في التعليم الثانوي لم يطرأ علها تغير يذكر، وما تزال هي الفروع التقليدية المعروفة (تعليم صناعي وزراعي وتجاري)، وتفريع التعليم الثانوي وتنويع اختصاصاته المهنية والفنية جهد ما يزال وليداً. وفروع الدراسات العلمية والتقنية والمهنية في التعليم العالي ما تزال أيضاً تقليدية إلى حد بعيد، والاختصاصات الجديدة التي تستلزمها بنية سوق العمل الحديثة لم تجد بعد سبيلها الواضح القوي في صلب التعليم العالي. والمناهج والطرائق في هذا كله أقرب إلى المناهج النظرية، ولا تقوى غالباً على تخريج كفاءات فنية وعلمية ومهنية مزودة بالأسلحة العلمية اللازمة. ولا أدل على ذلك من أن المهندسين أنفسهم – في شتى فروع الاختصاص الهندسي – أقرب إلى أن يتخرجوا مهندسين للتصميم والدراسة منهم إلى أن يتخرجوا مهندسين للتنفيذ والإجراء. هذا إذا ضربنا صفحاً عن جانب هام بدونه لا يتم تقدم مهني وتقني حقيقي، نعني البحث العلمي الذي ما يزال ضامراً كما نعلم في مؤسساتنا التعليمية – ولا سيما العالية – سواءً اتصل بالبحوث الأساسية أو التطبيقية.
وفوق هذا وذاك قلما يقدم محتوى التعليم المهني والفني – في المرحلة الثانوية والعالية – دراسات وأبحاثاً وخبرات مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشكلات الخاصة بالبلدان العربية ومنبثقاً انبثاقاً عضوياً من تلك المشكلات.
وينطبق هذا بوجه أخص على مرحلة الدراسات العليا في الجامعات، التي يُفترض أن تكون الاختصاصيين اللازمين لمعالجة المشكلات الخاصة بالبلدان العربية، والتي لا تعدو في الواقع أن تكون امتداداً للدراسات السابقة عليها، قد تقدم شيئاً من حصاد التجربة العالمية وقلما تقدم شيئاً يذكر من حصاد التجربة العربية وحاجاتها.
ب – عدم ارتباط محتوى التعليم بحاجات المجتمع ولا سيما المجتمع الريفي:
وينجم عما ذكرنا في الفقرة السابقة أن محتوى التعليم المهني والفني – ومحتوى التعليم عامة – غير مرتبط ارتبطاً عضوياً بحاجات المجتمع العربي – ومن أهم نتائج ذلك ما نشهد من بطالة لدى المتخصصين في الجوانب الفنية والمهنية نفسها، رغم حاجة المجتمع العربي من حيث المبدأ حاجة ماسة إليها. وقد سبق أن ذكرنا أن قدرة سوق العمل على الامتصاص ليست مسألة اقتصادية فقط (مدى توافر فرص العمل) بل هي مسألة فنية (مدى توافر الخريجين القادرين على تلبية الحاجات الفعلية لسوق العمل، بنية ومضموناً).
على أن ما هو أخطر من هذا كله أن التعليم – في أنواعه وفروعه المختلفة – ما يزال يصب عنايته على تطوير القطاع الحديث (الصناعة والإدارة خاصة)، أو ما يزال يهمل إلى حد بعيد القطاع التقليدي (الزراعة والتنمية الريفية)، على الرغم من أن نسبة سكان الريف في جملة البلاد العربية ما تزال حوالي 50% من السكان عام 1980 (دون أن ننسى الفوارق الكبيرة في هذا المجال بين بلد عربي وآخر، إذ تبلغ هذه النسبة حوالي 90% في بعض البلدان العربية بينما لا تتجاوز في بلدان أخرى 12%).
لقد قامت في بعض البلدان العربية جهود وئيدة لدمج التربية بالتنمية الريفية، وأسهمت اليونسكو في بعض هذه الجهود (في السودان والعراق خاصة). غير أن هذه الجهود ما تزال محدودة، كما أن الصيغة السليمة لربط التربية والإعداد في الريف بحاجات التنمية الريفية إجمالاً لم يتم وضعها على نحو واضح وفعال. ومن أخطر نتائج هذا الوضع بطبيعة الحال تزايد الهجرة من الريف إلى المدينة، حتى كادت تصبح التربية في كثير من البلدان العربية وسيلة لتهجير أبناء الريف وتحريرهم من العمل في إطار بيئتهم.
جـ – عجز التربية عن خلق الاتجاهات النفسية اللازمة للتقدم العلمي التكنولوجي ولخلق مجتمع العمل والإنتاج:
بدهي أن الحضارة العلمية التكنولوجية التي هي ضالّة المجتمعات العربية وضالّة سائر المجتمعات في العالم، لا يكفي من أجل توليدها وخلقها أن نعنى بالتوسع في التعليم العلمي والمهني والفني أو حتى بأن نعنى بمحتواه ومضمونه، بل لا بد أولاً وقبل كل شيء من خلق الاتجاهات النفسية والفكرية الملائمة لانبثاق هذه الحضارة. وعلى رأس هذه الاتجاهات احترام العمل اليدوي والمهني وتكوين العقلية العلمية والتكنولوجية، والإيمان بالعمل المنتج.
ولا حاجة إلى القول إن المجتمع العربي يشكو من إرث قديم ما يزال يجر ذيوله حتى اليوم، نعني الإزراء بالعمل اليدوي، واحتقار المهنة واعتبارها امتهاناً، بل نكران الحياة الحضرية أحياناً واعتبارها احتضاراً، فضلاً عن ضعف جذور الفكر العلمي والإيمان بالعمل. وكلنا يعلم أن هنالك حتى اليوم مجتمعات في البلدان العربية تأبى العمل المهني والفني وترفض العمل اليدوي بل تأبى الاشتغال بالزراعة أو بعض أنواعها أو تربية الدواجن أو سوى ذلك. وما نزال نرث الكثير مما عيّر به الفرز دق جريراً حين قال:
إني بني لي في المكارم أولي ونفخت كيرك في الزمان الأول
وحين غيّره بأنه ” القين وابن القين”.
ولا شك أن التغلب على هذا الإرث الذي أنكرته الحضارة العربية الإسلامية وإن لم تفلح في القضاء عليه، وتكوين الاتجاهات العلمية والمهنية والتكنولوجية اللازمة لبناء حضارة حديثة أصيلة، أمور لا تتم عفو الخاطر، وتحتاج، بالإضافة إلى السياسة الاقتصادية العامة وسياسة الأجور وسائر جهود التنمية، إلى جهود تربوية تبدأ منذ نعومة الأظفار منذ المرحلة الابتدائية بل قبلها، وتمتد عبر مراحل التعليم جميعها.
ولا يعني هذا مجرد الوعظ والتبشير، بل يعني أن يمارس الطفل والطالب منذ بواكير حياته جوانب من العمل اليدوي والنشاط شبه المهني ثم المهني، حتى في إطار الدراسات العامة في مراحل التعليم المختلفة وأن يعتاد أن يحيي حياة العمال وحياة المنتجين، وأن تتسخ يداه وأن يكتشف عن طريق الدربة والممارسة فضائل استعمال اليد وفضائل استخدام الأصابع الخمس وامتياح العقل الذي في اليد الذي يفوق العقل الذي في الرأس، على حد قول “غاندي”.
ومن أهم نتائج هذا الجهد أنه لا يقضي فقط على بقايا التأبّي على العمل المنتج ويخلق المواقف النفسية الملائمة للعمل والإنتاج، بل يساعد أيضاً على تعرف الأطفال على قابلياتهم الحقيقية كيما يسيروا في اتجاهها ويختاروا نوع الدراسة والمهنة الملائمة لها. وغني عن البيان أن التوزع الطبيعي للقابليات بين الناس هو توزع “سوي” عادي فيه توازن طبيعي بين أصحاب القابليات النظرية العلمية والفكرية وأصحاب القابليات المهنية الفنية العملية.
أما وسائل تكوين هذه الاتجاهات الملائمة فالحديث عنها يطول ولا تتسع له هذه الدراسة، وله مظانه الكثيرة.
د – عجز التربية عن خلق القدرة على الإبداع والابتكار:
لا شك أن الهدف النهائي للتربية خاصة وللتنمية عامة في البلدان العربية هو إبداع المعرفة والعمل والتكنولوجيا، والإسهام في مسيرتها العالمية، والانتقال من دور المستهلك للحضارة إلى دور المنتج لها والمبدع فيها.
وقد بينت دراسات نفسية حديثة كثيرة أن هنالك فارقاً أساسياً بين الذكاء وبين القدرة على الإبداع. فالأول يعني الفكر المقارب للمشكلات التي يتوفر على حلها، والثانية تعني الفكر “المباعد”، إن صح التعبير، الذي يتخيل ويطوف في عالم الرؤى الجديدة، كما بينت هذه الدراسات المسائل المساعدة على تكوين هذه القدرة على الإبداع، منذ نعومة الأظفار ودور المدرسة في ذلك.
ولا نغلو إن قلنا إن النقلة الأساسية التي ينبغي أن تتم في محتوى التربية وطرائقها في البلاد العربية، هي تلك التي تنتقل بالتربية من إطار التلقين وتقديم المعرفة والتحصيل على العلم، إلى إطار النقد والتساؤل والتجاوز. وتشتد الحاجة إلى مثل هذه التربية في مجتمعاتنا العربية التي ما تزال تسيطر لديها، في المنزل والمجتمع، روح الخضوع والاقتداء والمحافظة، وقلما تهبّ فيها روح التجديد والتحرر والأصالة.
ولا يصدق هذا على محتوى الدراسات العلمية والفنية والمهنية وحدها بل يشمل سائر الدراسات، بما فيها الدراسات الأدبية والإنسانية. ومما يلفت النظر ويثير التساؤل أن البلاد العربية ما تزال إلى حد بعيد في منزلة النقل عن المجتمعات الغربية حتى فيما يتعلق بتراثها نفسه بأبعاده المختلفة، وإن أفضل ما كتب حول هذا التراث ما يزال يسقى من جهود بعض المستشرقين الغربيين.
أما وسائل تكوين روح الخلق والإبداع هذه فالحديث عنها يطول أيضاً. على أن رأسها فيما نرى أن ننمّي القدرة على النقد “الخيال المبدع” على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي “برغسون” – عن طريق التعامل مع الواقع العربي الحي ومعالجة التربية لمشكلات المجتمع العربي، نعني النظر في الأشياء وفي الطبيعة وفي المجتمع، لا مجرد النظر في الكتب والأسفار. فالاتصال بالواقع الحي، وواقع المجتمعات العربية والاستلقاء الحق في أحضانه، من أهم عوامل توليد النظرات المبتكرة والحلول المبدعة. لقد كان الفضل الأول للحضارة العربية الإسلامية، كما يقول “راندال” في كتابه عن “تكوين العقل الحديث” أنها نقلت الفكر العالمي من الدوران حول العقل – كما في حضارة اليونان – إلى الدوران حول الأشياء، وولدت بذلك ما يعرف اليوم بروح “بيكون Bacon” روح المشاهدة والتجربة التي هي منطلق الحضارة العالمية الحديثة. وقد آن الأوان لكي نعيد إلى الزمن دورته وإلى أن نمتلك روح التعامل مع التجربة الشخصية والواقع الحي ولنقول بعد ذلك “هذه بضاعتنا ردت إلينا”.
هـ – البنى التربوية الصلبة:
في التربية في البلاد العربية حواجز وسدود، من شأنها أن تضعف الصلة بين هذه التربية وبين حاجات القوى العاملة. فهنالك حواجز كما ذكرنا بين التعليم النظامي والتعليم غير النظامي. وهنالك، داخل التعليم النظامي نفسه، حواجز بين أنواع التعليم ولا سيما بين التعليم المهني الفني والتعليم الأكاديمي العام. وفي داخل هذين الشقين (التعليم المهني والفني والتعليم الأكاديمي) هنالك حواجز وسدود بين الفروع القائمة في كل منهما. وفي التعليم العالي خاصة – حيث التخصص- تنعدم الصلات تقريباً بين فروع الاختصاصات المختلفة، وخاصة بين الدراسات العلمية والمهنية والتكنولوجية وبين الدراسات الإنسانية.
ونحن اليوم في عصر “تضامن المعرفة”، وقد أصبحت طبيعة العصر، طبيعة حاجات القوى العاملة فيه، تملي الأخذ بدراسات متآخذة بين المواد المختلفة، ولا سيما بين مواد الدراسة الإنسانية ومواد الدراسات العلمية والمهنية والتكنولوجية. ولم يعد من الممكن أن نتصور مختصاً في الدراسات الإنسانية لا يشدأ حظاً من الدراسات العلمية والتقنية، والعكس صحيح.
ولا يقتصر الأمر على التآخذ بين الدراسات والمواد، بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة تحقيق المرونة في الانتقال من فرع من فروع الدراسة إلى آخر، حسبما يستبين من قابليات الطلاب ومن حاجات سوق العمل. ولا بد بالتالي من إقامة “جسور عبور” بين أنواع الدراسات المختلفة، ومن وضع صيغ للتوجيه والإرشاد التربوي تمكن من “إعادة توجيه” الطالب، ومن التفكير في مثل ما يسمى باسم “التربية المعادة” (Recurrent education).
على أن أهم أشكال المرونة المطلوبة في النظام التربوي – وفاء بحاجات القوى العاملة – أن تقام صيغ يتم فيها “التناوب” بين الدراسة وبين العمل المنتج في مؤسسات العمل المختلفة، بحيث يقضي الطالب فترة في مؤسسات الإنتاج يعود بعدها إلى الدراسة، وهكذا دواليك.
لقد قلنا ونقول: لقد ولى الزمن الذي كان يظن فيه أن التربية والإعداد لحاجات سوق العمل يتمان مرة وإلى الأبد على مقاعد المدرسة النظامية ذات الحواجز القاطعة المحددة. والتربية والإعداد أصبحا اليوم جهداً موصولاً يأخذ أشكالاً متعددة ومرنة خلال التربية النظامية وخارجها. وقد تحطمت جدران الصف كما يقال بعد نمو وسائل الإعلام والبث الجماعية، فضلاً عن تغير بنية القوى العاملة وحاجاتها. ولا بد من التفكير الجدي في التغلب على ذلك النظام العمودي في التربية، الذي يعتبر المرحلة الابتدائية مجرد مدخل للمرحلة الثانوية، ويعتبر المرحلة الثانوية مجرد جسر للعبور إلى التعليم العالي، وكأن غاية المطاف في التربية كلها التعليم العالي والتعليم العالي الذي غدا في كثير من الأحيان بسبب هذا مجرد وسيلة لتأخير البطالة عدة سنوات ولرفع مستوى المثقفين العاطلين. والبطالة المثقفة يزداد خطرها دون شك كلما ارتفع مستوى أصحابها. والمرونة في نظام التربية التي توفر الانتقال والتحول من دراسة إلى أخرى وتوفر التضامن بين الدراسات، وتجعل من الإعداد عملية “تعديل” مستمر في تكوين الدارس تبعاً لقابلياته ولحاجات سوق العمل، تقوى في النهاية على ربط نظام التربية هذا بحاجات القوى العاملة المتغيرة والمتجددة وحاجات التنمية الشاملة بالتالي.
و- تقصير الجهود في ميدان إعداد القادة التربويين:
ولا شك أن هذه الثغرات التي ذكرناها لن يتم إصلاحها في النظام التربوي القائم إلا إذا توافر القادة التربويين المدركون لها القادرون على سدها. فلا تربية بلا مربين، وأثر كبار القادة التربويين، كأثر كبار القادة في أي مجال، أثر متئم تربو نتائجه أضعافاً مضاعفة، “كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة”، ولا نظلم الواقع العربي إن قلنا أن القادة التربويين الذين يملكون الخبرة الفنية المتخصصة في مجالات التربية المختلفة ما يزالون قلة نادرة، وأما الكثرة فمربون “عامون” غير متخصصين، ليست لديهم القدرة الفنية الصناع. أولسنا نشكو شكوى مرة من ندرة القادة المتخصصين في مثل التخطيط التربوي واقتصاديات التربية وتكنولوجيا التربية والخارطة المدرسية والأبنية المدرسية والتربية الخاصة (تربية المعوقين)، وتعليم الكبار، وتطوير المناهج (وفق الأصول العلمية الحديثة)، والإدارة التربوية وتقنياتها الجديدة، وغير ذلك كثير؟
ومن هنا كانت نقطة البداية في العمل العربي المشترك لتطوير التربية في البلاد العربية، في نظرنا، إنشاء مؤسسة تعنى بتدريب هؤلاء القادة على مستوى فني رفيع. ومثل هذه المؤسسة ينبغي أن توفر لها هيئات تدريسية رفيعة المستوى من داخل البلاد العربية ومن الكفاءات العربية المهاجرة إلى البلدان الغربية بل حتى من الخبراء والأساتذة الأجانب.
ز – تقصير الجهود في ميدان التدريب أثناء الخدمة لسائر العاملين في التربية:
بعد كل ما قلناه، من الواضح أن عملية الإعداد عامة، وإعداد العاملين في التربية خاصة، عملية مستمرة موصولة. والعاملون في ميدان التربية – أياً كان مستواهم وموقفهم بدءاً من المعلمين وانتهاءً بالقادة التربويين – ينبغي أن يعاد تكوينهم وإعدادهم وأن يجدد تبعاً لمستلزمات تطوير التربية. ولا شك أن البلاد العربية خطت خطوات كبيرة في هذا السبيل، ولكن من غير المؤكد دوماً أن أشكال التدريب أثناء الخدمة تتخذ الصيغة المطلوبة وتتم على المستوى الرفيع الجديد اللازم. وهذا يرجع بالدرجة الأولى إلى ندرة القادة التربويين الكبار كما ذكرنا في الفقرة السابقة. وأخشى ما نخشاه أن يؤكد هذا التدريب أحياناً المنطلقات الخاطئة ويزيد بالتالي من الداء القائم.
هذه بعض أوجه النقص في محتوى التربية في البلدان العربية، حين ننظر إلهيا من منظور حاجات القوى العاملة. وجملة القول فيه أنه محتوى ما يزال عاجزاً عن ربط التربية بالتنمية وبحاجات المجتمع عامة وبحاجات القوى العاملة خاصة، وما يزال مقصراً عن الهدف الكبير، هدف بناء مجتمع عربي حديث أصيل، بقوى أبنائه وطاقاتهم الذاتية.
5– انتقال الكفاءات وهجرتها:
في الوطن العربي ظاهرة خاصة جديرة بالاهتمام، تملي علينا أن نعالج موضوع العلاقة بين إستراتيجية التربية وإستراتيجية تنمية القوى العاملة من زاوية أخرى.
فهنالك – إذا توخينا بعض التبسيط للمشكلة – نمطان من الدول العربية: الدول العربية الغنية برأسمالها المادي، والدول العربية الفقيرة برأسمالها المادي. نقول هذا تبسيطاً للأمر دون أن ندخل عاملاً آخر في تصنيف الدول العربية – وهو عامل الموارد البشرية – الذي يجعلنا عند ذلك نقسم هذه الدول أنماطاً أربعة بدلاً من نمطين: الدول الغنية برأسمالها المادي والفقيرة إجمالاً برأسمالها البشري – والدول الغنية برأسمالها المادي والبشري معاً – والدول الغنية برأسمالها البشري والفقيرة برأسمالها المادي – والدول الفقيرة في كليهما.
وأهمية التقسيم الثنائي الذي اكتفينا به ترجع إلى أنه يضع إصبعنا على ظاهرة أساسية تتصل بالقوى العاملة وإعدادها، وبالتالي بالتربية. والظاهرة كما نعرفها جميعاً هي مشكلة انتقال الكفاءات من البلدان الفقيرة برأسمالها المادي والغنية إلى حد ما برأسمالها البشري، إلى البلدان الغنية برأسمالها المادي (الفقيرة غالباً برأسمالها البشري). ولهذه الظاهرة جوانب إيجابية كثيرة دون شك. فهي تؤكد التكامل والتعاون بين البلدان العربية وتؤكد الرابطة القومية المشتركة، كما أنها تيسر للبلدان الفقيرة مجالاً لتشغيل أبنائها مصدراً لزيادة دخلها. غير أن لها أيضاً جوانبها السلبية، إن تركت على عواهنها ولم يصحبها مفهوم سليم للتعاون. ونقول دون سرف أن بعض هذه الجوانب السلبية قد برزت آثارها، وهي في حاجة بالتالي إلى تقويم ومعالجة.
وهذه الجوانب السلبية تمس كلا الطائفتين من الدول:
فالاعتماد على الكفاءات العربية القادمة إلى البلدان الغنية من البلدان الفقيرة أدى في كثير من الأحيان إلى إضعاف قدرة البلدان الغنية على تطوير مواردها البشرية. هكذا تشير الإحصاءات إلى أن القوى العاملة الفعلية (المشتغلين) في الدول الغنية الست الأساسية المستوردة للكفاءات (وهي السعودية وليبيا والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين) بلغت عام 1975 (3.3 مليون) بينهم 51% من أبناء البلاد، وأن عددها هذا سيزداد عام 1985 ليبلغ 5.2 مليون بينهم 41% فقط من أبناء البلاد. ومعنى ذلك أن البلدان الغنية ستزيد بشكل واضح من اعتمادها على الكفاءات المستوردة. وتبين هذه الإحصاءات أن عدد العاملين المهاجرين إليها سوف يتضاعف (يبلغ الضعف) بين عام 1975 و1985 ويزيد بمقدار 1.4 مليون. ويزيد في حدة هذه المشكلة أن السياسة المتبعة – رغم الجهود الكثيرة والجدية التي بذلت في السنوات الأخيرة لتوطين الخبرات والكفاءات في البلدان الغنية ما تزال مضطرة، بحكم بعض الظروف الاجتماعية، إلى أن تجعل من استخدام أبناء البلاد خدمة اجتماعية ومالية قلما تعتمد على الخبرة والكفاءة.
يضاف إلى هذا أن هذه الدول أصبحت مضطرة – بحكم تزايد الحاجة لديها إلى العاملين المستوردين وبحكم بعض العوامل الأخرى – إلى أن تزيد من إستيراد القوى العاملة غير العربية، ولا سيما تلك القادمة من الشرق الأقصى، الأمر الذي يخلق مشكلات جديدة. وتشير بعض الإسقاطات إلى أن نسبة العاملين من أبناء البلاد العربية في هذه البلدان الغنية – إذا ما استمرت الاتجاهات الحالية – سوف تهبط بالقياس إلى مجموع العاملين المهاجرين من 75% عام 1975 إلى 40.5% عام 1985، هذا مع الزيادة في الأعداد المطلقة لكلتا الفئتين، بحيث يبلغ عدد العاملين القادمين من البلدان الآسيوية 1679400 عام 1985.
ومعنى هذا أن البلدان الغنية مدعوة عاجلاً إلى أن ترسم خطة فعالة لتنمية مواردها البشرية الذاتية، وإلى أن تضع حداً لاستخدام الكفاءات المهاجرة ولا سيما من البلدان غير العربية. وهذا يستلزم تغييراً جذرياً في نظامها التربوي بنية ومناهج ومحتوى، ويستلزم بشكل خاص توجيه الناشئة شطر العمل المنتج وخلق الاتجاهات الفنية اللازمة لذلك كما سبق أن ذكرنا.
أما البلدان الفقيرة برأسمالها المادي (والغنية برأسمالها البشري)، فقد أدى انتقال اليد العاملة والكفاءات منها إلى البلدان الغنية إلى حرمانها في كثير من الأحيان من الأيدي العاملة الغنية والكفاءات اللازمة لتنميتها نفسها. ولا نسرف إذا قلنا إن نظامها التربوي أصبح أحياناً شبيهاً بمصنع يعمل لحساب سواه. حتى إن بعض هذه البلدان المتقدمة في نظامها التعليمي بدأت تشكو منذ سنوات من افتقارها إلى المعلمين والأساتذة في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والعالي. وإذا نظرنا إلى الأمر من المنظور القومي ومن منظور الحاجة المالية لدى الدول الفقيرة، لم نجد حرجاً في ذلك. غير أن التكافل العربي السليم يفرض في الواقع حلاً آخر ذا شقين:
أولهما أن جهداً مشتركاً ينبغي أن يتم بين الدول الفقيرة والغنية لتنمية الموارد البشرية الذاتية في البلدان الغنية، لا سيما من أجل اجتناب الاعتماد المتزايد على الكفاءات غير العربية. وهذا يتطلب من جانب الدول الغنية مزيداً من التوجيه لسياستها التربوية نحو العمل المنتج والمهن الاختصاصية الفنية (بمعونة الدول العربية الأخرى نفسها وبسائر المعونات الممكنة)، ويتطلب من جانب الكفاءات القادمة من الدول الفقيرة أن تعنى عناية خاصة بتدريب أبناء البلاد الغنية تدريباً يمكنهم من الاستغناء عن الخبرة المستوردة تدريجياً.
وثانيهما أن يقوم جهد عربي مشترك – تموله الدول الغنية خاصة – من أجل الارتقاء بمستوى التربية في البلاد الفقيرة كماً وكيفاً. ويشمل هذا فيما يشمل إنشاء مؤسسات عربية لتدريب القادة ا لتربويين كما سبق أن ذكرنا، بل لعله يشمل إنشاء “صندوق مشترك لتمويل التربية في البلاد العربية” كما ورد في توصيات بعض المؤتمرات العربية الهامة (ولا سيما مؤتمر أبو ظبي عام 1977).
على أن هذا كله ينبغي أن يتم في نظرنا من خلال سياسة تعاونية أشمل بين البلدان العربية، تهدف إلى دمج الإمكانات المالية الموفورة في بعض البلدان إلى الإمكانات البشرية الموفورة في بلدان أخرى، من أجل توليد تنمية عربية شاملة ذاتية مشتركة. ويشمل هذا فيما يشمل إقامة سوق مشتركة للقوى العاملة في البلدان العربية، كما يشمل إعادة النظر في أهداف التنمية في البلدان التي تتوافر فيها شروطه، ويتم التركيز على الزراعة في البلدان التي تملك شروطاً أفضل لذلك، وعلى تربية الماشية في بلدان أخرى، وعلى الإدارة وتسيير الأعمال في بعض البلدان، وهكذا… ولا شك أن البلدان العربية قد خطت خطوات محمودة في طريق التكافل والتكامل، غير أن الشوط أمامها ما يزال واسعاً وبعيداً.
وإذا كانت مشكلة انتقال القوى العاملة في البلدان العربية تطرح مشكلات تربوية هامة، فلا شك أن هجرة الكفاءات من البلدان العربية تطرح مشكلات لا تقل أهمية. ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه المشكلة التي قتلتها الدراسات بحثاً دون أن تجد حلاً لها. وحسبنا أن نقول أن استرداد هذه الكفاءات المهاجرة والحيلولة دون نزيفها من جديد رهن بقدرة النظام التربوي على تجديد نفسه والإفادة بالتالي من هذه الكفاءات وامتصاصها، كما أنه رهن بتوفير الشروط المادية والعلمية والإنسانية اللازمة لاسترجاع الكفاءات ولمنع تفاقم هذه الظاهرة. وعندنا أن هنالك “دوراً فاسداً” بين مشكلة هجرة الكفاءات هذه وبين مشكلة تنمية القوى العاملة: فالكفاءات تمكن استعادتها ويمكن إبقاؤها عند توافر فرص من العمل مناسبة لاختصاصاتها الرفيعة (فضلاً عن توافر شروط أخرى مادية ومعنوية)، وخلق مجالات للعمل جديدة ومناسبة لتطور العصر تساعد عليه دون شك عودة هذه الكفاءات واستبقاؤها. ولا بد من أجل كسر الدور الفاسد من تطوير إستراتيجية التربية وفقاً لحاجات القوى العاملة المتجددة، تفيد من هذه الكفاءات وتمتصها في آن واحد.
6– كلفة التربية وتقصير الموارد عنها:
لا نغلو إذا قلنا أن من العسير أن يوفر أي بلد – مهما تكن موارده المالية – مستلزمات التطوير التربوي كاملة. فتنمية التربية جهد لا حد له، لا سيما حين نشمل التربية النظامية وغير النظامية والتربية المستمرة كما سبق أن ذكرنا. ولا أدل على ذلك أن تعميم التعليم بمراحله المختلفة وديمقراطية التعليم لم يتحققا حتى في أكثر بلدان العالم تقدماً وغنى.
على أن الأمر أدهى وأمر في البلدان النامية، حيث تقصر الموارد المالية والبشرية عن تعميم التعليم الابتدائي فضلاً عن تعميم التعليم المتوسط والثانوي والتوسع في التعليم العالي، هذا إذا ضربنا صفحاً عن التعليم السابق على المدرسة الابتدائية وتعليم الكبار ومكافحة الأمية وسائر أشكال التربية المستمرة.
وتزيد في صعوبة المشكلة في البلدان النامية، ومن بنيها البلدان العربية، فتوة السكان كما سبق وأن ذكرنا، تلك الفتوة التي تفرض على هذه البلدان أعباء مضاعفة تربو بمقدار الضعف تقريباً على أعباء البلدان المتقدمة حيث يتصف الهرم السكاني بضعف نسبة الأطفال والشبان بالقياس إلى الكهول والشيوخ.
ومن هنا نجد الموارد المالية اللازمة للتربية في البلاد العربية مقصرة عن الشأو المطلوب. وحتى في البلدان العربية الغنية بمواردها المالية، من غير الصحيح أن نقول أنها تستطيع أن توفر للتربية كل التمويل اللازم لنموها الكامل. فهنالك ميادين أخرى غير التربية، لا تقل شأناً عنها بل لا بد منها من أجل نمو التربية نفسها، لا بد أن توفر لها هذه البلدان حاجاتها من الموارد المالية والاستثمار.
من أجل هذا كله، نجد نسبة الإنفاق على التربية سواء بالقياس إلى الدخل القومي أو بالقياس إلى ميزانية الدولة نسبة عالية في معظم البلدان العربية. ولقد بلغ مجموع الإنفاق على التربية من ميزانية الدول العربية (14050) مليوناً من الدولارات عام 1979 (كما تشير إلى ذلك الإحصاءات التي نشرتها منظمة اليونسكو حديثاً) ، وهذا الرقم يمثل 4.9% من الناتج القومي الإجمالي (مقابل 5.6% في العالم بمجموعه، ومقابل 5.5% في البلدان الأوروبية بما في ذلك الاتحاد السوفياتي). وإذا ما نظرنا إلى عام 1979 نرى أن المتوسط العالمي هو (162) دولاراً، وأن المتوسط في البلدان المتقدمة (403) دولار، بينما لا يتجاوز المتوسط في البلدان العربية (90) دولاراً. ومع ذلك فهذا النصيب الضئيل من الإنفاق التربوي على الفرد من السكان في البلاد العربية، يمثل كما رأينا نسبة مرتفعة من الناتج الداخلي الإجمالي، بل يمثل نسبة مرتفعة جداً من ميزانية الدولة (تبلغ في بعض الدول العربية حوالي 28% من ميزانية الدولة، وإن تكن هذه النسبة متباينة تبايناً كبيراً بين بلد عربي وآخر (فهي لا تتجاوز 9% في بعضها وتتحلق في أكثرها حول 14%). ولا ننسى فوق هذا كله أن معظم الإنفاق على التربية في البلدان العربية ينصب على التعليم الابتدائي (إذ يمثل هذا الإنفاق نصف مجموع الإنفاق على التربية في كثير من البلدان، بل ويبلغ في بعضها 87% من مجموع الإنفاق).
ومن هنا تستبين المشكلة واضحة حادة، بل تستبين أزمة التربية في البلاد العربية، تلك الأزمة التي يمكن تلخيصها على النحو الآتي: إن القدر المحدود من الخدمات التربوية في البلاد العربية يكلف نفقات هائلة تنوء بحملها. وتنمية هذه الخدمات التربوية وتوسيعها بالتالي يلقيان على الدول العربية أعباء مالية لا طاقة لها بها.
ولا سبيل في رأينا لتجاوز هذه الأزمة إلا عن طريقين:
1 – أولهما تنمية اقتصاديات البلدان العربية وزيادة دخلها، وهذا يفترض فيما يفترض توجيه التربية نفسها توجيهاً جديداً يؤدي إلى تحقيق النمو الاقتصادي، فضلاً عن الاجتماعي والثقافي، وذلك خاصة عن طريق الربط الوثيق بين نمو التربية وبناها ومحتواها وبين حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وحاجات سوق العمل.
2 – الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتاحة للتربية، وهذا جوهر الأمر وبيت القصيد. ومن وسائل ذلك ما يأتي:
أ – تجديد بنية التربية ومحتواها وطرائقها وتقنياتها تجديداً يؤدي إلى تعليم أكبر عدد ممكن من الأطفال والكبار تعليماً أفضل بنفس الإمكانات المالية والبشرية المتاحة. ويساعد على هذا نمو تكنولوجيا التربية، وتطور الوسائل السمعية والبصرية وسواها، مما يساعد على توليد صيغ وبنى جديدة تتجاوز بنية الصف التقليدية وتخفف من وطأة خضوع التربية وخضوع تمويلها لعامل وحيد تقريباً هو عامل عدد الطلاب (الذي لا بد أن يكون محدوداً) الذين تضمهم حجرة صف واحدة ويعلمهم معلم واحد أو أكثر.
ب – زيادة فعالية الإدارة التربوية وتجديدها وتحديثها بحيث تقوى على تجنب الهدر والضياع في الإنفاق وتصل إلى استخدام الأموال المتاحة استخداماً ناجعاً. ويصدق هذا خاصة على الأبنية المدرسية التي يؤدي تطويرها وإنشاؤها وفق معايير سليمة اقتصادية وتربوية إلى تخفيض الإنفاق عليها بمقدار كبير، وإلى تخفيض الإنفاق على التربية بالتالي (ما دامت الأبنية تستهلك جانباً كبيراً من الإنفاق التربوي).
جـ – اجتذاب الهدر الناتج عن الرسوب والتسرب، وذلك عن طريق تجيد محتوى التربية وطرائقها والارتفاع بمستوى المعلمين فيها وتطوير نظام الامتحانات والتقويم.
على أن من الوسائل التي تساعد على حل أزمة التربية المالية في البلاد العربية، اللجوء إلى العمل الشعبي والإسهام الشعبي في تمويل التربية (عن طريق بناء المدارس خاصة)، واضطلاع القطاع الخاص والمؤسسات الاقتصادية جملة بتحمل جانب من نفقات التربية (عن طريق الاضطلاع بأعباء تدريب العاملين في المؤسسات الاقتصادية). وهذا وجه آخر من وجوه الارتباط بين تنمية التربية وتنمية العمالة.
وفي الجملة نستطيع أن نقول أن معالجة مسألة الإنفاق على التربية وتمويلها تستلزم بوجه خاص جهداً مشتركاً بين نظام التربية وبين سوق العمالة، وتستلزم الربط الوثيق بين النظامين، بحيث تصبح التربية في خدمة سوق العمالة (عن طريق تغيير بنيتها ومحتواها وربطها بالعمل المنتج والتناوب في مناهجها بين الدراسة وبين التدريب في مؤسسات الإنتاج)، وبحيث تصبح سوق العمالة ومؤسساتها الاقتصادية في خدمة التربية (لا سيما فيما يتصل بتمويلها وبتدريب العاملين في مواقع الإنتاج نفسها وفتح أبواب المؤسسات الاقتصادية أمام الطلاب أثناء الدراسة لاستكمال تدريبهم وجعله أكثر وظيفية).
4 – نحو إستراتيجية لتنمية التربية من أجل تنمية القوى العاملة في البلاد العربية:
إن كل ما أتينا على ذكره من مشكلات التربية ومن الحلول الممكنة لها يشهد على أن تطوير التربية تطويراً فعالاً ومثمراً لا يكون إلا بالربط الوثيق بينها وبين مطالب القوى العاملة، وذلك عن طريق تطوير بنيتها ومحتواها وطرائقها. كما يشهد بالتالي على أن هذه المهمة تستلزم وضع إستراتيجية متكاملة لتنمية التربية والقوى العاملة.
وهذه الإستراتيجية ينبغي أن تتم على مستويين متكاملين: أولهما المستوى العربي الشامل وثانيهما المستوى القطري الخاص بكل بلد عربي.
1 – على المستوى العربي الشامل:
أما على المستوى العربي الشامل، فلا بد من قيام جهد مشترك يعالج القضايا المشتركة التي تشكو منها البلدان العربية جميعها معالجة قومية شاملة. لا سيما إذا ذكرنا إن معالجة بعض المشكلات التي يشكو منها كل بلد عربي على حدة لا تجدي إلا إذا صاحبها تكافل عربي، قوامه التفاعل بين الموارد المالية المتوافرة في بعض البلدان مع الموارد البشرية الموجودة في بلدان أخرى.
وأبرز الجوانب التي يبدو لنا أن التعاون فيها بين البلدان العربية لازم في هذا المجال هي الآتية:
أ – إعداد القيادات التربوية العليا وتنميتها: وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك. فالقيادات التربوية الرائدة، القادرة حقاً على تجديد نظام التربية وزيادة فعاليته، ما تزال قليلة في البلدان العربية، وإن تكن في بعضها أكثر توافراً منها في بعضها الآخر. ومشكلة انتقال العمالة، ولا سيما العمالة المثقفة، تكشف لنا عن أن هنالك حاجة إلى تنسيق عربي في هذا المجال وجهد عربي مشترك. فالبلدان الغنية بمواردها المالية في حاجة إلى الكفاءات التربوية العليا المتوافرة في بعض البلدان الفقيرة غالباً بمواردها المالية. وهذه الأخيرة لا تملك فائضاً من هذه الكفاءات التربوية العليا بل تشكو هي نفسها من عوز فيها. ومن هنا كان على رأس الجهود التي ينبغي أن ينصب عليها العمل العربي المشترك إنشاء مركز رفيع المستوى لتدريب القيادات التربوية في البلاد العربية، كما سبق أن ذكرنا.
ب – ويلحق بهذا وضع خطة منظمة لتبادل الخبرات والكفاءات بين البلدان العربية، بدلاً من ترك الأمر لما تمليه سياسة الأجور المتباينة بين البلدان العربية فيما يتصل بهذه الكفاءات. ولا شك أن الاتفاقات التربوية والثقافية تحقق جانباً من هذا المطلب، ولكنها تظل اتفاقات ثنائية ولا تندرج في إطار خطة عربية شاملة.
جـ – التخطيط التربوي من أجل تلبية حاجات القوى العاملة تخطيطاً قومياً شاملاً: وهذا يستلزم النظر إلى حاجات القوى العاملة من زاوية حاجات الوطن العربي كله، ورسم السياسة القطرية بالتالي في ضوء تلك الحاجات العربية الشاملة بالإضافة إلى حاجات كل قطر.
ومن هنا كان لا بد من عمل عربي مشترك لوضع تنبؤات عن حاجات القوى العاملة في البلاد العربية جميعها خلال العقود القادمة، ومن الاستهداء بعد ذلك بتلك التنبؤات عند رسم السياسة التربوية وسياسة الإعداد في كل بلد عربي.
وقد قامت دراسات عديدة وشتيتة حول حاجات البلدان العربية من القوى العاملة ولا سيما في منطقة الخليج العربي . غير أن هذه الدراسات ما تزال في حاجة إلى أن تتكامل وأن توضع في إطار خطة شاملة لتنمية القوى العاملة في البلدان العربية، كما أنها في حاجة خاصة إلى أن تشتمل على بعد مستقبلي يحدد الحاجات خلال الفترة الزمنية المقبلة.
يضاف إلى هذا كله أن هذه الدراسات لم تترجم بعد إلى خطة تربوية مقابلة لها، ولم تستخرج منها بوجه أخص جوانب العمل العربي المشترك في مجال إعداد مثل هذه الخطة التربوية.
د – رسم خطة عربية مشتركة للتطوير العلمي والتكنولوجي الذاتي: وقد قامت جهود عديدة في هذا المجال وعلى رأسها الجهود التي تمت في إطار “كاستعرب”. على أن المسألة أعمق من هذا وأقسى. فتوليد حضارة علمية تكنولوجية عربية ذاتية يكاد يكون مطلب المطالب في الوطن العربي، وبدونه لا يتحقق النمو الذاتي للبلاد العربية والاستقلال الاقتصادي (والسياسي بالتالي) فضلاً عن الهوية الثقافية الذاتية. ومثل هذه المهمة لا يمكن أن تتم إلا من خلال جهد عربي مشترك. ولا شك أن من أهم نتائج مثل هذا الجهد العربي المشترك الإعداد السليم والصحيح، في المدرسة وسواها، للأفراد القادرين على تحقيق الاستيعاب الذاتي للعلم والتكنولوجيا وتوليدها فيما بعد ذلك في إطار حاجات البلدان العربية وواقعها ومطالبها الخاصة.
ولعل من أهم الخطوات التي يمكن أن يقوم بها العمل العربي المشترك في هذا المجال إقامة جامعة عربية رفيعة المستوى لتكوين الخبراء والاختصاصيين الممتازين في شتى جوانب المعرفة ولا سيما في مجال العلم والتكنولوجيا. وقد أوصى مؤتمر الوزراء المسؤولين عن التعليم العالي في البلاد العربية بإنشاء مثل هذه الجامعة، في مؤتمره الأول الذي عقد في الجزائر، بدعوة من المنظمة العربية للتربية وللثقافة والعلوم، خلال شهر نيسان/إبريل 1981.
ومن أهم وظائف هذه الجامعة المقترحة إعداد أساتذة التعليم العالي اللازمين للبلاد العربية إعداداً رفيعاً يستند إلى حاجات البلدان العربية وينطلق من واقعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ومن ضرورات التنمية فيها. وبلغة أخرى، تهدف مثل هذه الجامعة إلى جلب الخبرة الأجنبية والعربية إلى الأرض العربية لتعمل على تكوين ما يحتاج إليه الوطن العربي من كفاءات عالية إعداداً ينطلق من حاجاته.
هـ – إنشاء صندوق لتنمية التربية في البلاد العربية: وما دامت المشكلات المالية من أهم المشكلات التي تواجه نمو التربية في البلاد العربية، كان من الطبيعي أن توصي المؤتمرات العديدة – وعلى رأسها مؤتمر أبو ظبي لوزراء التربية والوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في البلاد العربية الذي عقد في تشرين الثاني/نوفمبر 1977) بإنشاء صندوق عربي لتمويل التربية في البلاد العربية. وقد أكدت هذا المطلب مؤتمرات واجتماعات تالية عديدة. ولا شك أن إنفاذه خطوة أساسية في طريق تنمية التربية في البلاد العربية، وبالتالي في طريق الوفاء بحاجات القوى العاملة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.
2 – على المستوى القطري:
أما على المستوى القطري، فلا بد من التفريق بين أنواع ثلاثة من البلدان:
– البلدان النفطية الغنية بالموارد المالية والفقيرة نسبياً بالموارد البشرية. وتشمل خاصة بلدان الخليج العربي وليبيا.
– البلدان الغنية بالموارد البشرية نسبياً والفقيرة غالباً بالموارد المالية وتشمل: الأردن وتونس والجزائر وسورية والعراق ولبنان ومصر والمغرب.
– البلدان الفقيرة لكلتا الموارد المالية والبشرية وتشمل: السودان والصومال وموريتانيا واليمنين وجيبوتي.
ونشير إشارات خاطفة إلى أهم عناصر الإستراتيجية اللازمة لكل نوع من هذه الأنواع:
أ – البلدان الغنية بالموارد المالية:
لا شك أن أهم مشكلة تعاني منها هذه البلدان هي نقص الموارد البشرية.
ومن هنا لا بد أن تتجه إستراتيجيتها إلى سد هذا النقص. وأهم ما ينبغي أن تسعى إليه في هذا المجال:
– تنمية الكفاءات والخبرات المحلية (وهذا يستلزم فيما يستلزم تطوير مواقف الناس فيما يتصل بالعمل المهني والفني واليدوي، وتطوير نظام التربية وتوجيهه نحو مزيد من العناية بالعمل المنتج، وتكوين الخبرات الفنية، وتطوير سياسة التوظيف بحيث يكون قوامها الخبرة والكفاءة الحقة الخ ..).
– الاعتماد على الخبرات العربية وتوطينها إن أمكن، والاستغناء تدريجياً عن الخبرات الأجنبية (الغربية والآسيوية)، وذلك في إطار الخطة العربية المشتركة لتبادل الخبرات والكفاءات كما سبق أن ذكرنا.
– توجيه النظام التربوي نحو تكوين الكفاءات اللازمة لاستيعاب العلم والتكنولوجيا (ولا سيما عن طريق تنمية قيم الخلق والإبداع في مقابل قيم الاستهلاك والنقل).
– توجيه مزيد من العناية إلى تعليم المرأة وتدريبها وإعدادها واستخدامها في العمل المنتج.
– تنمية التفاعل التربوي والتكامل التربوي بين بلدان الخليج، انطلاقاً من سياسة تنموية متكاملة لتوفير التنمية وحاجات القوى العاملة في الميادين التي تحتاج إليها هذه البلدان خاصة: علوم البحار – الطاقة الشمسية – تنمية المناطق القاحلة – النفط – الإدارة وتقنياتها الحديثة – البناء – الصناعات الملائمة – الخ.. ومن المأمول أن تتولى “جامعة الخليج” التي بدأت الجهود لإنشائها جانباً كبيراً من هذه المهمة.
ب – البلدان الغنية نسبياً بمواردها البشرية:
الموارد البشرية في هذه البلدان أفضل منها في سواها. ومع ذلك فإنها لا تفي بالحاجات المطلوبة، كماً ونوعاً. وتطويرها يحتاج بالإضافة إلى الجهد التنموي الشامل، إلى جهد خاص في مجال التربية، أهم جوانبه:
– الربط بين التخطيط التربوي والتخطيط الشامل ولا سيما بين حاجات التربية وحاجات القوى العاملة. وقد سبق أن أشرنا أكثر من مرة إلى أهمية هذا الربط وإلى أهمية وضع تنبؤات حول حاجات العمالة خلال العقود القادمة.
– تطوير بنية التربية ومحتواها وطرائقها وإدارتها، ولا سيما من منظور الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة.
– تطوير التعليم غير النظامي، والتربية المستمرة والتربية، والإعداد في مواقع العمل والإنتاج، والربط بين التربية وبين العمل المنتج. وقد سبق أن أشرنا إلى أهمية ذلك.
– العناية الخاصة بالتعليم العالي والبحث العلمي، وتطوير فروع الاختصاص في هذا التعليم وفق المتطلبات الحديثة لسوق العمل في العالم وفي البلاد العربية، ووفق أهداف التقدم العلمي والتكنولوجي خاصة. وينضوي تحت هذا تطوير سياسة الالتحاق بالتعليم العالي.
– العناية بالدراسات الإنسانية، في التعليم عامة وفي التعليم العالي خاصة، والسعي إلى تكوين اختصاصيين رفيعي المستوى في هذه المجالات الهامة للنمو الاجتماعي (والاقتصادي بالتالي)، تحقيقاً للصلة الوثيقة بين تطوير الدراسات الإنسانية والدراسات العلمية والتكنولوجية، وانطلاقاً من الإيمان بأن الثقافة والدراسات الإنسانية عامل أساسي من عوامل التنمية، وتأكيداً للهوية الثقافية العربية الذاتية.
جـ – البلدان الفقيرة بمواردها المالية والبشرية:
لا شك أن نقطة البداية في تنمية هذه البلدان هي تنمية الموارد البشرية، بوصفها مطلباً اقتصادياً واجتماعياً، وتعويضاً عن نقص الموارد المالية، لا سيما إذا ذكرنا أن معظم هذه البلدان غنية بمواردها الطبيعية التي يحول دون استغلالها نقص الكفاءات اللازمة. ومن هنا كان من أهم معالم إستراتيجية التربية فيها من أجل تنمية القوى العاملة ما يأتي:
– توظيف الجانب الأكبر من المساعدات المالية الدولية والعربية في ميدان التربية وميدان تنمية الموارد البشرية.
– الاهتمام باشتمال أي مشروع اقتصادي، يقوم بمساعدة الدول الأخرى أو بمبادرة الدولة نفسها، على جانب يتصل بتدريب الخبرات والكفاءات الوطنية اللازمة له.
– الاستعانة بالجهود الشعبية والمؤسسات الاقتصادية الخاصة والعامة من أجل سد بعض نفقات التربية التي تنوء بحملها.
– العناية بالتربية السكانية والتربية من أجل التنمية الريفية وإعداد الكبار إعداداً وظيفياً.
– اللجوء إلى تقنيات تربوية حديثة (ولا سيما الوسائل السمعية والبصرية ووسائل التعليم الذاتي) من شأنها أن تعلم عدداً أكبر من الطلاب بنفس الموارد المالية والبشرية المتاحة.
– توجيه عناية خاصة إلى تدريب القادة التربويين الكبار القادرين على تجديد نظام التربية وزيادة فعاليته.
– وأثر هؤلاء القادة، وهؤلاء المدربين للمدربين – كما سبق أن ذكرنا – أثر يؤتي ثمراته أضعافاً مضاعفة.
5 – خاتمة:
تشكو العمالة في البلاد العربية من آفات غدت معروفة، أهمها البطالة والبطالة المقنعة، وانخفاض نسبة المشتغلين فعلاً بالقياس إلى مجموع السكان (بسبب فتوة السكان وضعف مشاركة المرأة خاصة)، وارتفاع معدلات الإعالة، واختلال التوزيع القطاعي لقوة العمل (حيث نجد الكثرة الكاثرة في القطاع الأول، قطاع الزراعة، رغم ضعف إنتاجيته، إلى جانب القطاع الثالث، قطاع الإدارة الذي بدأ يحتل مكانة متزايدة ولا سيما في البلدان النفطية)، وانتقال اليد العاملة انتقالاً غير مخطط له، والعوز في المهن الفنية الجديدة التي يستلزمها تغير الإنتاج ووسائله في العالم، والنقص في مجال الخبرات العلمية والتكنولوجية، وضعف المستوى التعليمي لأفراد القوة العاملة، والخلل في سياسة الأجور والرواتب في القطاع العام، الخ.
ولا شك أن معالجة هذا الوضع يستلزم تعاوناً وثيقاً بين نظام التربية والإعداد وخطة تنمية القوى العاملة والموارد البشرية.
غير أن هذا التعاون ما زال إلى حد بعيد الحلقة المفقودة في البلدان العربية، ولم يتم حتى الآن إحكام الربط بين حاجات القوى العاملة وبين تطوير النظام التربوي.
ومن هنا كانت المهمة الأولى رسم خطط لحاجات القوى العاملة لفترة زمنية متوسطة الأجل وبعيدة الأجل، في ضوء مستلزمات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وبالتالي رسم خطط تربوية تستجيب لتلك الحاجات.
واستجابة التربية لتلك الحاجات لا يقتصر على توفير الأَعداد الكمية اللازمة، بل يتجاوز هذا إلى تطوير نظام التربية وتجديده، بنية ومحتوى وطرائق، بحيث توضع في صلبة أهداف تنمية القوى العاملة.
ولا نغلو إذا قلنا إن النظام التربوي السائد في معظم البلدان العربية ما يزال يعمل إلى حد بعيد في معزل عن حاجات القوى العاملة كماً ونوعاً، وإنه يزيد في كثير من الأحيان في مشكلات القوى العاملة، إذ يعمل على تخريج مثقفين عاطلين أحياناً، أو اختصاصيين لا تحتاج إليهم سوق العمل، أو كفاءات علمية وفنية يغلب عليها الإعداد النظري وقلما تملك التقنية المباشرة اللازمة.
ورغم الفوارق القائمة بين البلدان العربية فيما يتصل بمشكلات العمالة ونظم التربية والإعداد، فإنها تشترك مع ذلك في معظم المشكلات التي تعاني منها كل من العمالة والتربية. بل لعل التكافل بينها في هذه المجالات (على نحو ما هو قائم حالياً) يزيد من المشكلات الخاصة بكل منها أحياناً، على نحو ما يتجلى في انتقال الخبرات والكفاءات خاصة، ذلك الانتقال الذي ما يزال يتم على نحو عشوائي يخلق مشكلات للبلدان المصدرة والمستوردة معاً.
ومن هنا كان لا بد من تخطيط جديد واعٍ لتنمية القوى العاملة وتنمية التربية، له وجهان: وجه عربي شامل ووجه قطري، بحيث يتكامل الجانبان بدلاً من أن يتناقضا أحياناً.
ومن هنا أتينا في هذه الدراسة على أمهات المشكلات التي تعاني منها النظم التربوية في البلاد العربية – لا سيما إذا نظرنا إليها من منظور حاجات القوى العاملة – وأشرنا إلى بعض الحلول التي يمكن أن تقدم لها. وعلى رأس هذه المشكلات في نظرنا ضعف التعليم غير النظامي وما يتبعه من تربية مستمرة، وضعف مستوى التعليم وجوانبه النوعية سواءً كان نظامياً أو غير نظامي، وعدم توافر الموارد اللازمة للإنفاق على التربية، وندرة القادة التربويين الرواد.
على أن هذه المشكلات جميعها تنبع من مشكلة أم، طالما وقفنا عندها، وهي ضعف الصلة بين التخطيط التربوي والتخطيط للقوى العاملة.
لهذا لا بد أن تنصب جهود البلاد العربية، منفردة أو مجتمعة، خلال السنوات المقبلة على مواجهة هذه المشكلة الإنسانية، وعلى وضع خطط لتنمية التربية انطلاقاً من حاجات القوى العاملة، تضم كل النتائج التي تترتب على هذا الربط بين الميدانين، وعلى رأسها تطوير نظام التربية كماً ونوعاً.
ومع ذلك فمعالجة هذه المسألة لا تجدي فيها الحلول القطرية وحدها مهما يعظم شأنها، ولا بد أن يسعدها عمل عربي مشترك أشرنا إلى أهم جوانبه. والمنطلق في هذا كله حقيقة ينبغي أن تكون مائلة أمام الأنظار دوماً، وهي أن اجتماع الموارد المالية الوفيرة في كثير من البلدان العربية والموارد البشرية المتوافرة أو التي يمكن أن تتوافر في عدد من هذه البلدان هو الشرارة الحية التي من شأنها أن تطلق عملية التنمية في البلدان العربية جميعها، ولصالحها جميعها، وأن تؤدي بالتالي إلى استغلال الموارد الطبيعية الكثيرة استغلالاً كاملاً وإلى الإفادة من الطاقات البشرية الخبيئة وإلى تحقيق التنمية الذاتية العربية والحضارة العربية المرجوة.
إن من غير الطبيعي أن يتزايد اعتماد الدول العربية على المنتجات الزراعية والحيوانية المستوردة من الخارج، وأن يستمر نقل أدوات التكنولوجيا ونتائجها دون استيعابها وامتلاك ناصيتها والاتجاه نحو توليدها، وأن تضطر بعض البلدان العربية إلى استيراد الأيدي العاملة والخبرات الفنية حتى من البلدان الآسيوية، وأن تدخل البلدان العربية مُغذّةً سريعة في حلبة مجتمعات الاستهلاك دون أن تنتج إلا جزءاً يسيراً مما تستهلك، وأن تتعرض للتلوث الفكري والاستلاب الثقافي نتيجة لذلك كله، وأن تتعرض بالتالي لخطر فقدان هويتها وأصالتها.
وفي عصرنا هذا، عصر التجّمعات الكبرى، لا مناص للدول العربية من أن ترتب على المقومات الثقافية والتاريخية التي تجمع بينها أكثر مما تجمع بين المنتسبين إلى أي من التجمعات الأخرى في العالم، النتائج التي تلزم عنها فيما يتصل بخلق خطة متكاملة لتنمية الموارد البشرية تكون المدخل الطبيعي لسائر جوانب التنمية.
والجهود العربية في هذا المجال كثيرة، غير أنها متناثرة، فضلاً عن أنها لا تؤدي غالباً إلى وضع خطط إجرائية عملية لإنفاذ المبادئ والاتجاهات والتوصيات التي يكاد يجمع عليها المعنيون جميعاً بتنمية الموارد البشرية في البلاد العربية.
وفي رأينا إن مفتاح الحل هو في “التنظيم”، نعني تنظيم العمل اللازم لإنفاذ ما هو مطلوب. ونحن نعيش عصر “الإدارة والتنظيم والتسيير” بكل أبعاده وإمكاناته. ولعل الفارق الأساسي بين التقدم والتخلف يكمن في القدرة على التنظيم”.
إن من حقنا أن نتساءل، على سبيل المثال لا الحصر، ما هو مدى التنسيق القائم بين منظمة العمل العربية وبين المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أو بينها وبين منظمة الوحدة الاقتصادية أو السوق العربية المشتركة، أو بين هذه كلها وبين الواقع القائم في كل بلد من البلدان العربية ومدى تأثيرها فيه.
وفي رأينا أن هذه المنظمات العربية جميعها، رغم جهودها الطيبة، في حاجة إلى أن تبني عملها انطلاقاً من خطة مشتركة شاملة، تتصل بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة وبتنمية الموارد البشرية خاصة، تحدد في ضوئها المهمة الملقاة على عاتق كل منها لإنفاذ هذه الخطة، وترسم على نحو مشترك أساليب التنفيذ وخطواته ومراحله وأبعاده الزمنية.
قد نتساءل طويلاً عن أسباب التقدم البطيء في مسيرة تنمية الموارد البشرية في البلاد العربية. وقد ندخل في ذلك عامل الزمن الذي لا يجوز إغفاله. غير أن وراء ذلك كله في نظرنا أن عملية التنظيم اللازمة لزيادة فعالية هذه المسيرة وتيسير إنفاذها ما تزال تعوز البلدان العربية إلى حد كبير سواءً على المستوى القطري أو المستوى العربي الشامل.
ولعل هذا العمل الجليل الذي عزمت عليه منظمة العمل العربية، حين دعت إلى ندوة لإستراتيجية تنمية القوى العاملة العربية، منطلق هام يتكامل مع سواه، من أجل الوصول إلى تنسيق العمل اللازم وتنظيمه في سبيل تنمية الموارد البشرية. وهو عمل لا تجدي فيه إلا جهود المنظمات العربية مجتمعة وجهود البلاد العربية مؤتلفة.
ونرجو أن يعبقه عملان:
الأول جمع كل الجهود (من دراسات ومؤتمرات وندوات وسواها) التي قامت حتى الآن في ميدان تنمية القوى العاملة العربية والتأليف بينها والخروج بدراسة موحدة حول واقع هذه التنمية وحول أهدافها وحول مستقبلها.
والثاني عقد لقاء بين منظمة العمل العربية وسائر المنظمات العربية المعنية، وعلى رأسها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، من أجل تنظيم الخطوات اللازمة لإنفاذ إستراتيجية تنمية القوى العاملة العربية، ومتابعة الجهود في هذا المجال مرحلة مرحلة.
فالمهمة الملقاة على عاتق الجميع اليوم هي مهمة تنمية الموارد البشرية وبناء الإنسان، وقديماً قال الشاعر الجاهلي:
شتان بين قرى وبين رجال
يبني الرجال وغيره يبني القرى
عبد الله عبد الدائم
رئيس قسم مشروعات التربية
في البلاد العربية – اليونسكو