الفكر القومي العربي والفكر العالمي

شؤون عربية – جامعة الدول العربية – مارس / آذار 1995 م
الفكر القومي العربي والفكر العالمي
د. عبد الله عبد الدائم
مفكر تربوي وقومي – دمشق
أولاً – مدخل
في هذا العالم القلق، الباحث عن مصير لم يستبنْ من معالمه الجديدة إلا القولُ بالليبرالية الاقتصادية وحرية التجارة، يحاول بعض المنظرين والمفكرين في شتى أرجاء المعمورة أن يستخلصوا، قبل الأوان ودون أية أدلة واقعية، جملة من النتائج والمبادئ والنظريات التي يقود إليها، في زعمهم، سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ولن نقوى في هذا المقام على الحديث عن جملة هذا الضرب من النتاج الفكري العالمي. وحسبنا أن نشير إلى ملامحه التي تعنينا والتي تتصل اتصالاً وثيقاً بالنظرية القومية بوجه عام والقومية العربية بوجه خاص:
1 – موت الإيديولوجيات:
ونبدأ بذلك الادعاء العريض، الذي استشرى أمره في السنوات الأخيرة، نعني القول بأن عصر الإيديولوجيات (القومية أو سواها) قد انتهى. وينطلق القائلون بذلك من التأكيد بأن زوال الاتحاد السوفياتي يعني زوال الفلسفات السياسية التي تنادي بصياغة نظم اجتماعية شاملة أو مشروعات مجتمعية كبرى، كما أنه يعني بالتالي سيطرة الإيديولوجية الوحيدة التي انتصرت على الاتحاد السوفياتي، نعني الإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية. وكلنا يذكر ما كتبه «فرانسيس فوكوياما» بهذا الصدد، ولا سيما كتابه «نهاية التاريخ»(1).
2 – عالمية الاقتصاد:
ويؤيد هذا الادعاء عند العديد من الكتاب ادعاءٌ آخر وثيق الصلة به، نعني الادعاء الذي يلخصه القول بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الاقتصاد والمال، بعد أن كان القرن العشرون قرن الأيديولوجيات. ويرى أصحاب هذا المنزع أن «عولمة» الاقتصاد إن صح التعبير (أي اتجاهه إلى أن يكون عالمياً شاملاً)، التي تأخذ طريقها مطمئنة قوية، والتي تصيب العالم المتقدم كما تصيب العالم الثالث، لا تفسح المجال لبزوغ أي إيديولوجية خاصة أو عامة، ولا سيما الإيديولوجية القومية. فالغزو الاقتصادي (وما وراءه من غزو ثقافي وسياسي) الذي تمثله هذه «العولمة» يبطل، فيما يرى القائمون بهذا التحليل، أي إيديولوجية لا تزال تتوهم أن في وسعها أن تدافع عن معنى «السيادة» و«الاستقلال القومي» وسوى تلك من القيم المتصلة بالحفاظ على هويات الشعوب وكياناتها الذاتية.
3 – بطلان الإيديولوجية القومية:
ويضيف بعض المفكرين إلى القول بموت الإيديولوجيات، وإلى القول بما تؤدي إليه «عالمية» الاقتصاد من إلغاء أي إيديولوجية سواها، القول بأن ما تم في عصرنا من تقدم علمي وتقاني يجعل من المناداة بالإيديولوجيات بوجه عام وبالإيديولوجيات القومية بوجه خاص، ضرباً من الاستمساك بإرث تقضى زمنه، بل ضرباً من الحنين العاطفي إلى ماضٍ تجاوزته الأحداث. ويوضح آخرون جانباً من هذا الرأي الأخير حين يقولون إن الإيديولوجية القومية وليدة الثورة الصناعية الأولى، تسعى إليها المجتمعات الزراعية كي تحقق تصنيعها، وأن الثورة العلمية التقانية، ثورة «ما بعد الصناعة»، أو «الموجة الثالثة» (على حد تعبير «توفلر A.Toffler» في كتابه الشهير «الموجة الثالثة»)(2)، تضع الفكرة القومية موضع التساؤل.
ولن نمضي في تعداد الأفكار التي شاعت وذاعت في السنوات الأخيرة، والتي تتحلق جميعها حول فكرة واحدة تكاد تضمها جميعها: وهي القول بأن آفاق المستقبل العالمي تشير إلى انتصار إيديولوجية واحدة ووحيدة، هي الإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية التي تأخذ بحرية الاقتصاد والتجارة وبعالميتهما وباقتصاد السوق وسلطانه على البلدان المختلفة. ومن هنا فإن كل بحث عن إيديولوجية أخرى بحث تجاوزه الزمن، وكل محاولة لبناء مشروع اجتماعي
أو إيديولوجي جديد، خاص ومتميّز، سيرٌ في عكس اتجاه التطور وتنكر لمنطق التاريخ.
ثانياً – نظرة نقدية
لا شك أن مناقشة مثل هذه الأفكار مناقشة شافية أمر عسير ولا تتسع له صفحات هذه الدراسة. وحسبنا أن نضع بعض الصوى على هذه الطريق.
1 – لا حتمية في التاريخ:
ونبدأ بما ورد في عبارتنا السابقة من إشارة إلى منطق التاريخ، مسائلين: هل هنالك حقاً حتمية في مسيرة التاريخ؟ وهل هنالك حركة عقلانية للتاريخ؟ هل هنالك اتجاه مرسوم ومحتوم للتاريخ نحو الأفضل؟
ولن نغوص في الفلسفات التي تحدثت عن هذا الموضوع الشائك، ولن نشير إلى الصراع الذي قام دوماً بين اتجاهين بهذا الصدد: أولهما الاتجاه الذي يرى أن للتاريخ وجهةٌ هو مولّيها، وأنه سائر دوماً نحو مصير أفضل، وأن ثمة قوى (اقتصادية أو فكرية) تقوده إلى ذلك (على نحو ما نجد عند «ماركس» و«هيجل» بوجه خاص). وثانيهما الاتجاه الذي يرى أن التاريخ لا وجهة مسبقة له، وأنه يخضع للمد والجزر، والتقدم والتخلف، وليست ثمة حتمية في سيره دوماً إلى الأمام. ومناقشة هذين الاتجاهين العريقين اللذين شغلا طويلاً الباحثين في فلسفة التاريخ بوجه خاص، أمر يتجاوز حدود بحثنا. وما نود أن ننتهي إليه هو أن المناقشة الموضوعية لهما تخلص إلى موقف قوامه أن الحكم على أي نزعة عالمية سائدة في فترة من الزمن بأنها نزعة وليدة منطق التاريخ، وأنها بالتالي نزعة المستقبل، حكم بعيد عن أي تحليل علمي وفلسفي وموضوعي. وبوجه خاص، نود أن نخلص إلى القول بأن جمهور الباحثين الذين قاموا بتحليل واقع العالم المعاصر ونزعاته ومستقبله قادهم ذلك التحليل إلى تأكيد حقيقة أساسية: وهي أن هذا العالم المعاصر عالمٌ سِمتُه فرط التعقيد، وأن العوامل التي تحدد مسيرته عوامل متشابكة متكاثرة لا تتوافر الإحاطة بها، وأن البحث في مستقبله ومصيره لا يعدو رسم طائفة عديدة من الاحتمالات والعمل من خلالها من أجل تحقيق أمثلها. فعالمنا هو «عالم المعقد المتشابك»(3)، عالم الاحتمال، وعلينا أن نعتاد على صياغة مشروعاتنا المستقبلية من خلال ذلك.
2 – الإيديولوجية بناء مستمر:
ومعنى هذا أن سيطرة الديمقراطية الليبرالية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن تعني «نهاية التاريخ» ونهاية أي إيديولوجية أخرى، كما يدعي «فوكوياما» وأمثاله. فالتاريخ لا نهاية له، ونعني بذلك تاريخ الأفكار والإيديولوجيات. والصيغة المثلى لحياة الإنسان على وجه البسيطة هي دوماً أمامنا لا وراءنا، نبنيها بناء ولا نكتشفها اكتشافاً. وأمام أي تقدم المزيد من التقدم. ذلك ما يتكشف عنه تاريخ الإنسان، وذلك ما تحدثنا عنه بوجه خاص المرحلة الحالية التي يمر بها العالم المعاصر.
3 – تخبط النظام الليبرالي الديمقراطي القائم:
ذلك أن هذه المرحلة – في نظر معظم المحللين – مرحلة تلمس للطريق، بل مرحلة تخبط وفوضى. وزوال الاتحاد السوفياتي، في نظر هؤلاء المحللين، فاجأ العالم بموقف جديد لم يعدَّ العدة له، وأوقعه في البحران والضياع. وبدلاً من أن يؤدي سقوط الشيوعية إلى استقرار العالم، قاد، في نظر الكثيرين من هؤلاء المحللين، إلى زعزعة الاستقرار العالمي. والغرب الذي تم بناؤه خلال ما يزيد على نصف قرن بفضل الخوف من الشيوعية، يجد نفسه اليوم عارياً خاوياً. بل إن الليبرالية نفسها، كما يقول العديد من الكتاب، قد فقدت، بسبب زوال الشيوعية، أكبر سند لها. وكأننا نعود، كما يقول الكاتب الفرنسي «مينك Minc» إلى قرون وسطى جديدة(4)، يحلّ فيها مبدأ القوة محل مبدأ الحق والقانون، وتزداد فيها عوامل الصراع، وتسيطر عليها عبادة المال، وتتحطم على صخرتها المبادئ الإنسانية الكبرى، وتتراجع القيم الخلقية المبنية على الحوار والمسؤولية والعدالة. وكأننا أبعد ما نكون عن حضارة علمية تقانية يحكمها العقل. بل لعلنا نشهد على نحو مذهل تراجع العقل وسيطرة اللامعقول بأشكاله المختلفة، الاقتصادية والساسية والاجتماعية والفكرية. ونشهد من وراء ذلك سيطرة قوى التعصب بأشكاله العديدة، وسيطرة قوى المال المتعجرفة، وما تجر معها من أزمات اقتصادية، وسيطرة المال «الأسود» إن صح التعبير، المال الذي تتحكم به عصابات المخدرات وسواها، وتزايد أعداد العاطلين والمهمَّشين والمنبوذين، الخ.. لعلنا نشهد، كما يرى «جورج قرم» انهيار قيم عصر «التنوير» في الغرب، مع كل ما تحمله من إيمان بتقدم البشرية عن طريق تأكيد المساواة بين بني البشر، بغض النظر عن الدين والطائفة والعرق والمهنة(5).
4 – نتائج حرية التبادل التجاري:
وقد أصبحت التناقضات الداخلية التي تثوي داخل الديمقراطية الليبرالية (التي أصبحت تعني عند أصحابها، في خاتمة المطاف، «اقتصاد السوق» وحرية التبادل التجاري)، ظاهرة للعيان، بعد أن بدأت نتائجها بالظهور، في بلدان العالم جميعها، ولا سيما في بلدان العالم الثالث. ولا حاجة إلى القول إن بلدان العالم الثالث هي المتضررة الأولى بآثار هذه النزعة، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي. فهي الخاسرة الكبرى في معركة «حرية التجارة» وعالميتها. على أن الدول المتقدمة نفسها أخذت تعاني من مساوئ هذه النزعة، ولا أدل على ذلك من الصراعات التي قامت وتقوم فيما يتصل باتفاقية «الغات» الشهيرة. ولا أدل على ذلك أيضاً مما آل إليه موقف الاتحاد السوفياتي وموقف الكثير من بلدان الكتلة الشرقية السابقة من رفض أو تعديل لاقتصاد السوق، بعد أن استبانت لها نتائجه الضارة.
ويشير الكاتب الاقتصادي اللبناني جورج قرم إلى بعض مظاهر التخبط الاقتصادي الذي يتجلى في هذه الليبرالية الجديدة، وإلى ما رافقه من «تخبط سياسي عام أسهم في نشر جو من الإحباط والشك لدى فئة واسعة من السكان عالمياً، في إمكانية تحسين المستقبل والوصول إلى حالة من الاطمئنان والازدهار»(6). ويبين أن أهم مظاهر هذا التخبط السياسي، تلك المفارقة في تصرف الدول الرأسمالية الكبرى التي تشجع تقوية التكتلات السياسية والاقتصادية مثل منطقة التبادل الحر بين أمريكا وكندا والمكسيك (نافتا) وتجمع التعاون الاقتصادي في المحيط الهادي (APEC) أو الاتحاد الأوروبي من جهة، كما تشجع من جهة ثانية وفي الوقت نفسه تفتت الكيانات السياسية، كما حصل في الاتحاد السوفياتي وسواه، أو تندّد بمحاولات تكوين تكتلات قومية.
5 – الكيانات القومية درع ووقاية:
والحق، وهذا جوهر الأمر عندنا، أن الأيديولوجية الديمقراطية الليبرالية، وما وراءها من حرية الاقتصاد وعالميته، أدت لدى كثير من دول العالم المتقدمة والنامية، إلى ردود فعل أهمها ضرورة مواجهة نقائص هذه الأيديولوجية ومخاطرها عن طريق تأكيد كيان «الدولة القومية» كما يقولون في الغرب، والاعتماد على ما توفره الرابطة القومية (سواء داخل الدولة الواحدة،
أو بين عدد من الدول المتقاربة) من حماية لاقتصاد الدول فضلاً عن حماية ثقافاتها وكياناتها المستقلة الذاتية. وتبدو «الدولة – القومية» ذات السلطة المركزية الموحدة، لدى العديد من المفكرين اليوم، الصيغة الملائمة لمواجهة مشكلات العصر وبناء المستقبل، ولا سيما بفضل ما توفره من حماية اقتصادية، ومن صيانة لوحدة المجتمع وفئاته، ومن عدالة اجتماعية لا معنى لأي شكل من أشكال الديمقراطية بدونها. يضاف إلى هذا ما توفره «الدولة – القومية» من إشباع لمحرك أساسي من محركات التاريخ ومن عوامل تقدم الحضارات، كما يرى «هيجل»، نعني رغبة الأفراد والجماعات في أن يعترف الآخرون بشأنهم ومكانتهم (The desire of recognition كما يقال). فالإطار القومي (عندما يلبس لبوسه الإنساني الصحيح) يوفر لأبنائه الكرامة حين يعاملهم كأكفاء بعضهم لبعض، كما يوفر للدول والأمم احترام بعضه بعضها الآخر. إنه، بوجيز العبارة، لا يفضل عربياً على أعجمي ولا أبيض على أسود، كما في تراثنا، وكما ورد في الحديث الشريف.
ثالثاً – القومية العربية في مواجهة الأفكار العالمية
وإذا ما انتقلنا، بعد هذا الحديث العام، إلى الحديث عن القومية العربية، وجدنا فيها خير مثال على ما ذكرنا من أهمية الاحتماء بالدرع القومية من أجل مواجهة مخاطر العالم المعاصر الحائر، ومن أجل الإسهام في بناء مستقبل عالمي أفضل. وهذا ما تبينه الحقائق الآتية:
1 – مخاطر الاختراق الاقتصادي على الدول العربية:
إن قوة الاختراق التي يحملها نظام الاقتصاد الحر، وما وراءه من مَدَد يأتيه بفضل تقنيات الاتصال الحديثة بوجه خاص، تعرّض البلاد العربية إلى خطر داهم بدأنا نشهد آثاره: نعني انفراط عقد التعاون والتضامن، ولا سيما في مجال الاقتصاد والثقافة، بين الأقطار العربية، واتجاه كل قطر أكثر فأكثر نحو الاهتمام بالتعاون الاقتصادي بينه وبين القوى الاقتصادية العالمية، وعلى رأسها الشركات متعددة الجنسية والشركات عابرة القارات، فضلاً عن التعاون مع شتى شبكات الاقتصاد والمال الدولية. وتبين الكثير من الدراسات أن الاندماج القطري بالسوق الرأسمالية العالمية قد تزايد بشكل فاضح في السنوات الأخيرة في الكثير من الأقطار العربية. ويشير بعضها إلى كثير من القوانين السخية بشأن تيسير الاستثمار الأجنبي في بعض البلدان العربية. بل إن بعض تلك الدراسات تبين كيف أن النمو الاقتصادي في الكثير من الأقطار العربية قد أصبح تحت رحمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي وشركاته العملاقة(7).
وقد حلّ هذا التعاون، إلى حد كبير، محل التعاون فيما بين الدول العربية، وكرّس عن طريق الاقتصاد تباعد الأقطار العربية بعضها عن بعض، وكاد يؤدي إلى انفراط عقد النظام الإقليمي العربي، وغدت آثاره بيّنة واضحة في ميدان السياسة.
ولا شك أن هذا الاختراق الاقتصادي العالمي للكيان العربي تتسارع خطواته منذ انتهاء الحرب الباردة، لا سيما بعد أن جنح إلى أن يلبس زياً خاصاً، هو زي التعاون الاقتصادي الشرق أوسطي، كما سنرى. ومن أخطر نتائج هذا الاختراق العالمي للاقتصاد العربي، كما ندرك جميعاً، ارتباطه بالضرورة باختراق سياسي، قوامه إقامة حلف اقتصادي سياسي بين عدد من الأقطار العربية وبين الغرب، يحمي المصالح الاقتصادية التي تكاد تغدو مشتركة بين تلك الأقطار وبين القوى الاقتصادية والسياسية العالمية.
2 – تجارب بعض البلدان النامية المتقدمة:
وكثيراً ما يلجأ بعض المنادين بضرورة ارتباط البلدان العربية بشبكة الاقتصاد العالمي الحر، إلى حجج واهية لتبرير دعوتهم، على رأسها الاستشهاد بما جرى في بلدان منطقة البحر الهاديء ولا سيما شرق آسيا (النمور الثمانية كما يقال)، من تقدم اقتصادي سريع بفضل الانفتاح على السوق الاقتصادية العالمية. غير أن أصحاب هذه الحجج يجهلون أو يتجاهلون أن انفتاح مثل هذه البلدان (كوريا الجنوبية – سنغافورة – تايلاند – تايوان – ماليزيا – أندونيسيا إلى حد ما – وسواها) تمّ في إطار تحديد الحاجات القومية لكل بلد من هذه البلدان، وأنها لم تفتح أبوابها على الاقتصاد العالمي منذ البداية، بل تبنت سياسة اقتصادية موجهة، ولم تُشْرِع الأبواب إلا عندما تأكدت من أن اقتصادها الوطني الذاتي قد اشتد عوده. بل نذهب إلى أبعد من هذا لنقول إن أكبر عامل في التقدم الاقتصادي لمثل هذه الدول (ومن قبلها اليابان) كان توافر الثقافة القومية التي أتاحت للاقتصاد أن ينمو، وبناء الاقتصاد بالتالي من خلال تلك الثقافة القومية (ودعوتها إلى العمل والعلم بوجه خاص)، ومن خلال الترابط والتضامن القومي الذي تؤكده تلك الثقافة منذ القدم(8).
ومعنى هذا أن الانفتاح الاقتصادي على العالم (وهو انفتاح لابد منه) لا يثمر ولا يؤدي نتائجه المرجوة في البلاد العربية إلا إذا كان هنالك اقتصاد عربي ذاتي الكيان محدد الأهداف، وإلا من خلال خطة اقتصادية عربية الوجه واللسان في منطلقاتها وأهدافها.
3 – ارتباط المخاطر الاقتصادية بالمخاطر السياسية في الوطن العربي:
على أن الاقتصاد العالمي الليبرالي يتجاوز في مخاطره على البلاد العربية تلك المخاطر التي أشرنا إليها والتي تشترك فيها كل الدول في العالم، ولا سيما في البلدان النامية. ذلك أن هذا الاقتصاد العالمي الحر مرتبط ارتباطاً عضوياً بالنظام السياسي العالمي السائد والذي ينادي بالديمقراطية الليبرالية، ويجعل من الاقتصاد عدته الأساسية لنشر تلك المنازع الديمقراطية الليبرالية الجديدة في أقصى صورها وبكل ما تشتمل عليه من سيطرة على العالم، وإلغاء للهويات القومية، ونشر لثقافة واحدة ووحيدة هي الثقافة الغربية، وإقامة كيانات سياسية تابعة وخادمة لسياسات الدول المتقدمة ولسياسة الدولة العظمى بوجه خاص.
وترجمة هذه السياسة الليبرالية ومقوماتها الاقتصادية فيما يتصل بالبلدان العربية، تعني أولاً وقبل كل شيء عند أصحاب هذه السياسة استبدال النظام الشرق أوسطي بالنظام الإقليمي العربي، عن طريق الاقتصاد بالدرجة الأولى. وواضح أن مثل هذا المطلب عصب الاستراتيجية الصهيونية – الأميركية ماضياً وحاضراً. فمنذ القديم (منذ عام 1943 على وجه التحديد) طرحت الولايات المتحدة وبريطانيا فكرة التعاون الاقتصادي بين بلدان الشرق الأوسط من خلال إقامة دولة لليهود في فلسطين تمثل حجر الزاوية في مشاريع الدول الغربية(9). بل إن مؤسس الفكرة الصهيونية «تيودور هرتزل» قد دعا منذ بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى «رابطة» اقتصادية شرق أوسطية يكون فيها لمشروع دولة إسرائيل الموعودة دور قيادي. ولا حاجة إلى الإشارة إلى المحاولات المتكررة التي قامت بها الولايات المتحدة من أجل إقامة نظام شرق أوسطي، يكون بديلاً للنظام الإقليمي العربي. وحسبنا أن نذكّر بمشروع قيادة الشرق الأوسط، وحلف بغداد، ومشروع آيزنهاور.
واليوم نسمع على لسان قادة إسرائيل، وعلى لسان «شمعون بيريز» بوجه خاص، رائد الدعوة إلى نظام اقتصادي شرق أوسطي، كلاماً واضحاً لا لبس فيه عن أهمية المشروع الاقتصادي الشرق أوسطي، وعن كونه عصب عملية السلام مع الدول العربية بل غايتها وهدفها الأساسي. وتبرز مقاصد هذه الدعوة إلى نظام اقتصادي شرق أوسطي في كتاب «شمعون بيريز»: «الشرق الأوسط الجديد»(10). فإسرائيل الكبرى، كما يقول «بيريز» هي في «حجم اتساع السوق التي تسيطر عليها». وإسرائيل في زعمه هي نصف الشرق الأوسط قوة ونفوذاً، «ومن كان يملك نصف الشرق الأوسط يستحق نصف موارده»(11).
وهكذا غدونا نسمع كلاماً كثيراً عن مشروع كمشروع «مارشال» يتم تنفيذه في الشرق الأوسط. وقد أصبح واضحاً، ولا سيما بعد انعقاد «المؤتمر الاقتصادي العالمي لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في الدار البيضاء (بين 30 تشرين الأول/أكتوبر – والأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1994) أن المشروع الاقتصادي الشرق الأوسطي الذي تم الإعداد له ولآلياته في ذلك المؤتمر، هو مشروع يقوم في إطار عالمي شامل، ومن خلال منطق الاقتصاد العالمي الحر، وبواسطة التعاون بين سائر المعنيين باقتصاديات الشرق الأوسط في البلاد العربية وإسرائيل والعالم، من خلال معادلة قوامها، كما يقول «بيريز»، «النفط السعودي والأيدي العاملة المصرية والمياه التركية والعقول الإسرائيلية»، ومن خلال الشبكة العالمية الاقتصادية والسياسية الواسعة التي تكمن وراءها.
وغني عن القول إن مآل هذا كله ضمان الهيمنة الإسرائيلية الاقتصادية والسياسية على بلدان النظام الشرق الأوسطي الجديد. فإسرائيل، كما يقول الدكتور محمود عبد الفضيل(12)، «تمتلك الخبرة التقانية المتقدمة، والتفوق النووي والمعلوماتي، والشراكة الاقتصادية والحضارية واللوجستية مع أمريكا والعالم الغربي عموماً، مما سوف يمكنها من اختراق الاقتصاديات العربية وإعادة هيكلة تلك الاقتصاد في إطار نمط جديد من تقسيم العمل يعمّق قانون النمو غير المتكافئ». ولقد كان «بيريز» واضحاً في التعبير عن أهداف الصهيونية من قيام النظام الشرق أوسطي حين قال: «تواجه إسرائيل خياراً جاداً: أن تكون إسرائيل الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم أو أن إتكون سرائيل الكبرى على حجم اتساع السوق التي تحت تصرفها».
4 – إلغاء دور العرب:
هذا الاختراق الخطير للاقتصاد العربي عن طريق الاقتصاد العالمي، وما يمثله من ترجمة عملية للإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية التي يراد فرضها على العالم، يزداد خطراً إذا نحن أدركنا الارتباط الوثيق بينه وبين الاختراق السياسي. إذ أن أهم مقاصد هذا الاختراق الاقتصادي، في نظر ساسة الغرب وساسة إسرائيل، محاولة إلغاء دور العرب في التاريخ الجديد للمنطقة، كما يقول الخبير الأمريكي في شؤون الشرق الأوسط «برنارد لويس»، لمصلحة قوى إقليمية أخرى، في طليعتها إسرائيل وتركيا(13). وهل أخطر على الرابطة القومية العربية من ارتباط اقتصاد الأقطار العربية باقتصاد شرق أوسطي يمده اقتصاد عالمي شامل، يحلّ محل قيام اقتصاد عربي متكامل موحّد يكوّن العماد الأساسي للتعاون العربي في شتى المجالات، ويؤدي في خاتمة المطاف وعبر الجهود الموصولة إلى قيام كيان عربي متعاون فعال في إطار مشروع حضاري عربي مشترك؟
5 – خلاصة القول:
وجملة القول، إن ما نود أن نخلص إليه من هذا التحليل هو تأكيد حقيقتين:
أولاهما: أن الدعوة الديمقراطية الليبرالية، وما يتبعها من دعوة إلى سوق عالمية مشتركة مفتوحة، تحمل في ثناياها مخاطر أساسية على الكيانات القومية والمصالح القومية، ولا سيما في بلدان العالم الثالث، وأن النظام الاقتصادي الخصيب في أي من هذه البلدان، هو النظام الذي يرسم حدود الانفتاح على الاقتصاد العالمي من خلال حاجاته ومصلحته ومطالب نهضته القومية.
وثانيتهما: أن استسلام الأقطار العربية لليبرالية الاقتصادية العالمية الجديدة المفرطة دون التفات إلى حقيقة حاجاتها ومطالب مستقبلها الحضاري، لا يؤدي فقط إلى ضياع اقتصادي، وكوارث اقتصادية، بل يؤدي أولاً وقبل كل شيء إلى تفتيت وحدة الوجود العربي والقضاء على تكامله، والتطويح بمصيره المشترك، وبدوره الحضاري. فارتباط الاقتصاد العربي بالاقتصاد العالمي ارتباطاً غير موجه بحاجات الأمة العربية الحقيقية، يؤدي إلى تيسير السبيل أمام الأغراض الصهيونية والغربية التي تود أن تجعل الاقتصاد الشرق أوسطي سلّماً لإلغاء الروابط القومية العربية العريقة والمطامح القومية العربية المشتركة.
رابعاً – عود على بدء
وبعد لم يكن قصدنا أن نتريث عند مخاطر الدعوة الغربية والإسرائيلية إلى قيام نظام اقتصادي وسياسي شرق أوسطي. ولقد قادنا إلى ذلك بالضرورة ما هدفنا إليه منذ بداية هذه الكلمة، نعني إدراك مخاطر بعض أنماط الفكر العالمي المحاربة للقومية، والمنادية بفتح السدود والحدود بين الدول، سواء في عالم الاقتصاد أو عالم السياسة أو عالم الثقافة والإعلام أو سواها.
ولقد انطلقنا منذ بداية حديثنا من حقيقة وقف عندها العديد من المفكرين، وهي أن الأخذ بالديمقراطية الليبرالية الجديدة بما تحويه من إنكار للهويات الذاتية للشعوب ومن إغفال لمصالحها المستقلة، ليس الخيار الوحيد المطروح أمام الإنسانية عند تباشير القرن الحادي والعشرين. فلقد بيّن الكثير من المفكرين، كما ذكرنا، أن ثمة صيغاً متعددة ممكنة، وأن، مجال الاختيار مفتوح أمام الدول تبعاً لظروفها وحاجاتها، وأننا لا نستطيع أن نفرض إيديولوجية مسبقة في عصرٍ صفته التعقد وطابعه الاحتمال. وكل ما يستطيع أن يفعله أي بلد في العالم هو أن يفصّل على قده ومن خلال حاجاته وإمكاناته، نظامه المرجو، وأن يستعين بعد ذلك بكل ما في الإطار العالمي من رفد له.
ولئن كانت الإيديولوجية الشيوعية الشاملة التي كانت تطمح إلى أن تجمع العالم تحت لواء عقائدي واحد، قد زالت بعد فشلها، فهذا لا يعني أن الإيديولوجية المقابلة لها، نعني الإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية، ينبغي أن تسود وحدها. لا سيما أن ما نشهد من نتائجها لا يقوى على توليد الاطمئنان لها والثقة بمستقبلها، بل يوحي على العكس بولادة نظام جديد من خلالها، يتجاوزها ويصححها.
وأهم من هذا كله، في نظرنا وفي نظر عدد من المفكرين في العالم، أن الإيديولوجية القومية عميقة الجذور لدى الشعوب، وأن «الدولة – القومية» كما سبق أن ذكرنا تبدو الإطار الطبيعي لمعالجة مشكلات العصر الحديث. ولا ينقص من شأن القومية، كما يخيل إلى بعضهم، ما نجده من صراعات إثنية وعرقية ودينية مرذولة ومرفوضة. فالقومية، لا سيما في بلدان العالم الثالث، وبوجه أخص في الوطن العربي، لم تكن في يوم من الأيام دعوة إلى الشقاق والصراع بين القوميات، ولم تقل بتفوق أمة على أمة أو باستعلاء شعب على شعب، بل كانت دعوة إلى التعاون الإنساني في إطار القوميات ومن خلال العمل القومي الذي يفتّح طاقات الأفراد حتى أقصى مداها، ويجعلها في خدمة الأمة والإنسانية في آن واحد، والذي يؤدي إلى الحوار الخلاق والتفاعل المبدع بين الحضارات، «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
خاتمة – أهمية التضامن العربي
لقد قادنا تحليل الفكر العالمي، فيما يتصل بما يقال عن زوال الإيديولوجيات بوجه عام والإيديولوجية القومية بوجه خاص، وفيما يتصل بنقد الإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية وما وراءها من نزعة تحكمية تسلطية، وما تشتمل عليه من إغفال لحقوق الشعوب ولمطالب سيادتهم واستقلالهم، وفيما يتصل بالدعوة إلى التبادل التجاري الحر الذي يلتهم ثروات البلدان النامية بوجه خاص، نقول قادنا هذا التحليل إلى نتيجة أساسية هي الآتية:
لا يمكن القول بأن ثمة إيديولوجية واحدة ووحيدة هي التي ستتولى قيادة العالم. وعالمنا المعقد المتشابك المليء بالاحتمالات لا يقبل مثل هذا الجزم بسيطرة إيديولوجية واحدة. وواقع هذه الإيديولوجية وبلاؤها لا يوحيان باشتمالها على طاقات البقاء. ومنطق التاريخ لا يقبل أصلاً مثل هذه «الجبرية» التاريخية.
كذلك قادنا التحليل إلى أن مبدأ الاقتصاد الحر وحرية التجارة المرتبط بهذه الإيديولوجية مبدأ محمَّل بالمخاطر، ولا سيما لدى الدول النامية، وأنه، في البلدان العربية، محمّل بمخاطر اقتصادية وسياسية وثقافية، أفدحها تهديد الوجود العربي أصلاً وإحلال النظام الشرق أوسطي محله.
والموقف الذي نود أن نستخلصه من هذا كله يرتد إلى أمرين:
أولهما أن انفتاح الدول العربية على الاقتصاد العالمي (وهو انفتاح لابد منه) ينبغي أن تكون صيغته وحدوده مرسومة من خلال حاجات الأقطار العربية منفردة ومجتمعة.
وثانيهما الحاجة إلى التعاون العربي – ولا سيما في مجال الاقتصاد – وهو تعاون هام وأساسي دوماً – تغدو اليوم، بعد أن سار ركب السلام، وبعد أن سبقت مسيرة هذا الركب خطوات اقتصادية سريعة لإقامة نظام اقتصادي شرق أوسطي مرتبط بالاقتصاد العالمي الشامل، مطلباً قومياً له الصدارة. فهذا التعاون العربي، هو الذي يقوى على رسم إطار العمل الذي من شأنه أن يخفف من مخاطر مقاصد الصهيونية العالمية وما ترجوه من الخطط التي ترسمها للمنطقة. وهو الذي يستطيع، إن صدقت النيات وصحّ العزم، أن يشكّل الظروف الجديدة تشكيلاً يؤدي إلى تمتين الروابط الاقتصادية وسواها بين الأقطار العربية. لا سيما إذا صاحب ذلك كله وعي شعبي، وتوعية شعبية، وتوظيف للثقافة العربية المشتركة السائدة لدى جماهير الأمة العربية من أجل جعل أي تعاون مع الآخرين في خدمة مصالح الأمة العربية أولاً وقبل كل شيء. وفي مقابل العقيدة الصهيونية التي تريد أن توظف التعاون الاقتصادي مع الأقطار العربية من أجل خدمة هدفها الأكبر، هدف خلق إسرائيل كبرى اقتصادية، لابد أن يقوم عمل عربي مشترك، رسمي وشعبي، يستهدف توظيف أي شكل من أشكال التعاون يتفق عليه أبناء الأمة العربية من أجل تحقيق وحدة الاقتصاد العربي وتضامنه سعياً لبناء المشروع الحضاري العربي المشترك. وإذا كان السلم يعني لدى إسرائيل الوصول إلى الأهداف الصهيونية التي لم تستطع الوصول إليها عن طريق الحرب، فلزام أن يعني السلم لدى الدول العربية تحقيق أهدافها القومية المشتركة، والإفادة من الإطار الجديد لبناء الكيان المستقبلي العربي. ومثل هذا المطلب ممكن، إذا توافرت الخطة العربية المشتركة العلمية والواضحة في هذا السبيل.
إن أول وآخر ما نود التأكيد عليه، في هذه الكلمة، أننا لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. وحين نضع خطتنا العربية المشتركة، في أي إطار كانت، لابد أن نصل إلى استخراج نتائجها، إن سعينا إلى ذلك سعياً علمياً وصادقاً ومحمّلاً بطاقات الإيمان بعروبتنا وتراثنا ومستقبلنا.