نظرة عجلى إلى منطلقات الحوار القومي الإسلامي

نظرة عجلى إلى منطلقات الحوار القومي الإسلامي
للدكتور عبد الله عبد الدائم
الكلمة التي ألقاها في المؤتمر القومي الإسلامي الأول (بيروت 1994)
(أولاً) المنطلقات المشتركة بين التيارين القومي والإسلامي:
هنالك حقائق أساسية، بل لعلها بدهية، تنطلق منها الاتجاهات السليمة الغالبة، لدى كلا التيارين الإسلامي والقومي، نورد أهمها فيما يأتي:
(1) أولاً: إن الصلة بين العروبة والإسلام، أو بين الإسلام والعروبة، صلة عضوية متكاملة، بحيث يصح القول بأن لا عروبة بلا إسلام، ولا إسلام بلا عروبة. فكل منهما ولد في بوتقة الآخر، وكل منهما صنع الآخر.
(2) ثانيا:ً يصدق هذا على بلدان الوطن العربي كما يصدق على بلدان العالم الإسلامي. فالبلدان العربية يشتد تمسكها بعروبتها بمقدار ما يشتد تمسكها بتراثها الإسلامي. والبلدان الإسلامية يكتمل سعيها بمقدار ما تحرص على شد أزر العرب وتقوية شوكتهم وإبراز دورهم الرائد في حمل رسالة الإسلام، ولا سيما دورهم الثقافي الكبير.
(3) ثالثاً: إن الجماهير الشعبية العربية، بوجه خاص، بفعل حسها وبفضل تمثلها العريق للتراث العربي الإسلامي الملتحم، وبفضل دروس معركتها مع الاستعمار الغربي، تعبر عن ولائها للعروبة حين تعبر عن ولائها للإسلام، كما تعبر عن ولائها للإسلام حين تعبر عن ولائها للعروبة.
(4) رابعاً: لابد من التفريق بين الإسلام كدين وبين الإسلام كتراث. فولاء العربي للإسلام قد يعني الولاء لكليهما، وقد يعني الولاء للإسلام بوصفة تراثاً فقط. ولا فرق بين المنزلتين، سواء في نظر الإسلاميين أو في نظر القوميين.
(5) خامساً: كلا التيارين الإسلامي والقومي يؤكدان على العداء المزمن والمستمر من قبل القوى الاستعمارية الغربية لكلا التيارين، ويدركان أن من أهم أسلحة تلك القوى فصم العرى القائمة بين التيارين، سواء تم ذلك عن طريق الانتصار لأحدهما في مواجهة الآخر، أو عن طريق مقاومتهما مجتمعين أو متفرقين. ومن هنا يدرك التياران خطأً الظن الذي يوهم بأن انحسار أحدهما يعني انتعاش الآخر وظفره، ويؤمنان بأن أي تقدم حقيقي، باق ومتطور لأي منهما، لا يمكن أن يتم على حساب الآخر، أو بدون الآخر.
(6) سادساً: كلا التيارين يبرزان أهمية الحفاظ على الهوية الذاتية والاستقلال الذاتي للوطن العربي، في مواجهة التغريب والاستلاب والغزو الثقافي وسواه، ويؤكدان دور الدرع الثقافية المكينة، المكونة من التراث العربي الإسلامي، في حماية الوطن العربي من مخاطر النزعة العالمية الحديثة التي تهدد كيان الأمم ثقافياً وإعلامياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وهما ينكران بالتالي شتى أنواع التبعية، وعلى رأسها التبعية الثقافية والاقتصادية.
(7) سابعاً: على أن كلا التيارين يؤمنان بأن المواجهة الناجعة لتلك النزعة العالمية اللاإنسانية، تكون بالدعوة إلى ولادة عالم إنساني جديد، مكون من قوميات متآخية متعاونة، تسوده القيم الأخلاقية والإنسانية التي هي قوام الدعوة الإسلامية وصلبها، كما أنها قوام معظم ديانات العالم الكبرى، وجوهر عطاء الفكر الإنساني في كل عصر ومصر.
(8) ثامناً: كلا التيارين القومي والإسلامي يؤمنان بأن التراث الإسلامي كأي تراث، تراث من صنع البشر، على الرغم من أنه يستمد روحه ومنطلقاته من الدين الإسلامي. ولا يمكن اعتباره بالتالي تراثاً مقدساً، بل هو تراث تطور ويتطور بتغير الأزمان، ولا يعنينا منه إلا ما كان قابلاً لأن يكون جزءاً حياً من الحاضر. وهذا التراث لا يزكو وينمو إلا بتجديده، من خلال منطلقاته الأصيلة، وتجاوزه إلى تراث جديد ذاتي، نصنعه بأيدينا، ونولّده من دروس الماضي وتجارب الحاضر ومطالب المستقبل، ومن حصاد التجربة العالمية والحضارات العالمية كلها، ومن الحوار بين حضارتنا وتلك الحضارات.
(9) تاسعاً: ومن هنا يجمع التياران على أن جهدهما الأكبر ينبغي أن ينصب على بناء المستقبل بناءً جديداً، من خلال ما ذكرنا من منطلقات ومعطيات، وأن صياغة المشروع الحضاري العربي المشترك صياغة واضحة متفقاً عليها تأتي في رأس أولويات التعاون بين التيارين.
(10) عاشراً: يؤمن التياران إيماناً راسخاً، تؤكده التجارب المديدة والمريرة، بأن العدو الأول للعروبة وللإسلام معاً هو الصهيونية ومن وراءها من القوى الأجنبية، وأن العمل لتحطيم القومية العربية ولإلغاء الوجود العربي الملتحم المتكامل الموحد يمثل الاستراتيجية الثابتة للحركة الصهيونية. ومن هنا يؤمنان بضرورة العمل معاً من أجل الحيلولة دون ما تحيكة الصهيونية، ومن وراءها، من مؤامرات تستهدف إلغاء الوجود العربي عن طريق خلق نظام أو نظم جديدة بديلة. وهما يدركان أن هذا العمل المشترك من أجل مقاومة هذه المؤامرة مطلب أعظم شأناً في حال السلم منه في حال الحرب. وعلى رأس عناصر تلك المقاومة تأتي المقاومة الثقافية.
(11) حادي عشر: يؤمن التياران بأهمية القيم الأخلاقية والإنسانية في بناء المستقبل العربي، ويمنحان شأناً خاصاً لتربية الأجيال الجديدة تربية تؤدي إلى استمساكها بقيم التراث العربي الإسلامي الكبرى، وبالقيم الإنسانية الشاملة، وإلى تكوين المواقف السليمة لديها تجاه المشكلات الخلقية في العصر، وإلى تعزيز روح التضامن والتكافل والمسؤولية لديها، وإلى توثيق ارتباطها بالأسرة والمجتمع والوطن والإنسانية. وذلك كله من خلال منطلقات المشروع الحضاري العربي المستقبلي المأمول.
(12) ثاني عشر: يرى كلا التيارين أن العدالة الاجتماعية عنصر أساسي من عناصر القضاء على التخلف وبناء المجتمع العربي المنشود. كما أنها شرط لازم لقيام حضارة عالمية إنسانية حقاً، ومقوّم أساسي من مقومات قيادة العالم قيادة متكافلة جديرة ببني البشر، وعامل جوهري في اجتناب الصراع بين أبناء المجتمع الواحد وطبقاته، وبين القوميات المختلفة في العالم، وبين الشمال والجنوب بوجه خاص.
(13) ثالث عشر: يعتبر التياران أن مقومات الحياة الإنسانية الكريمة على وجه البسيطة تكمن في الحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية على نحو ما وردت في شرعة حقوق الإنسان، وعلى نحو ما دعت إلى ذلك المبادئ الأصيلة للحضارة العربية الإسلامية ولسواها من حضارات العالم. وعلى رأس تلك الحقوق: حرية التعبير والتفكير، وحرية الاعتقاد، والمساواة، وعدم التمييز بين الأجناس أو الديانات أو الفئات الاجتماعية، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض الظلم والعدوان على الأفراد والشعوب، وإنكار اضطهاد القوي للضعيف، وسوى تلك.
(14) رابع عشر: يؤمن التياران بأن مبدأ الديمقراطية مبدأ إنساني حاسم، وصلت إليه الإنسانية بعد نضال طويل، وما تزال تعمل جاهدة من أجل تطويره ومن أجل تطبيقه على نحو يكتمل يوماً بعد يوم. ولذلك فهما يسعيان سعياً مشتركاً حثيثاً من أجل سيادة هذا المبدأ في واقع الحياة العربية، ومن أجل توليد الصيغ الملائمة لتطبيقه تطبيقاً فعلياً وصادقاً ومتنامياً، دون أن يعني ذلك الاستمساك استمساكاً حرفياً بصيغ قديمة أو حديثة جاهزة، ودون أن يعني في الوقت نفسه نسيان روحه ومنطلقاته الأساسية التي أكدها تاريخ العالم عبر التجارب الطويلة. وعلى رأس المبادئ الديمقراطية التي يؤمن بها الفريقان، مبدأ الحوار، والدعوة الفكرية القائمة على الحكمة والموعظة الحسنة، ورفض العنف إلا في الحالات التي يستلزمها رد العدوان، أو مقاومة محتل غاصب.
(ثانياً) بعض نقاط الخلاف وبعض الأمور الملتبسة بين التيارين:
واضح من العرض السابق أن جوانب اللقاء والوفاق بين التيارين العربي والإسلامي واسعة جداً، وهي تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم. ولا يُنقص من شأنها إلا وجود بعض أوجه الخلاف التي قد يرجع معظمها إلى تعدد الاجتهادات لدى أصحاب كل من التيارين، أو إلى سوء تفاهم بينهما، أو إلى طرح بعضهم لمشكلات زائفة لا سند لها.
وغني عن البيان أننا عندما نتحدث عن أوجه الفراق هذه، فإنما نستهدف تنقية الجو بين التيارين تنقية صادقة نزيهة، لكي لا تحول المشكلات القائمة، ومعظمها جانبي، دون اللقاء الفعّال بين الفريقين حول المشكلات الراهنة الهامة والكبرى التي تواجهها أمتنا في هذا المنعطف الخطير من تاريخها، ودون تعبئة جهودها المشتركة من أجل التصدي لمخاطرها.
ولعل في وسعنا أن نرد أوجه الخلاف أو المشكلات الملتبسة إلى أربعة كبرى هي الآتية:
1- نظام الحكم في الإسلام وما يلحق به من مشكلة الخلافة:
وليس المجال مجال البحث المتعمق الموثق حول هذا الموضوع، لا سيما أن كثيراً من الكتاب الإسلاميين بوجه خاص قد كفونا مؤونة هذا البحث. وقد تزايد الأدب الذي تطرق لهذه المسألة في العقود الأخيرة، وغدا أدباً ذائعاً.
وحسبنا أن نقول – انطلاقاً من معظم تلك الدراسات – بأن جوابنا على من يسأل: “هل الإسلام دين ودولة معاً” ؟ هو “نعم ولا” في آن واحد.
أما “نعم” فلأن الحكم فيه لابد أن يستمد منطلقاته وروحه من مبادئ الإسلام. وأما “لا” فلأن الحكم في الإسلام ليس حكماً “ثيوقراطيا” إلهياً، والحاكم فيه غير معصوم، وسلطته لا يستمدها من الله بل من الأمة والشعب. ولابد من التفريق بين “مدينة الله” التي قد تقوم في أذهاننا، وبين “مدينة الإنسان” التي لا تُناقض في روحها مدينة الله، ولكنها بناء جديد من صنع البشر يصوغونه تبعاً للظروف والحاجات ومصلحة المجتمع التي هي جزء من أصول الشريعة، بل معيار الصدق والصحة فيها.
وأما ترويج الخطأ بين الناس بأن الخلافة جزء من الدين، ومن “عقائد التوحيد”، فهو، كما يقول فهمي جدعان، “أمر قد اخترعه الملوك والسلاطين جناية واستبداداً وذوداً عن مصالحهم وعروشهم”. بل لعل الحكومة الدينية في كثير من الأحيان، “ليست إلا أداة من أدوات الاستبداد” على حد قول خالد محمد خالد.
وعلى أية حال لا يوجد، ولا يجوز أن يوجد، نظام كامل جاهز وثابت للدولة الإسلامية. “فقضايا النظم الحكومية من سياسية وإدارية واقتصادية واجتماعية، متروك أمرها إلينا بتفويض من المولى عز وجل” على حد قول محمد خلف الله أحمد، وإن ما ننتهي إليه من نظم، على حد قوله أيضاً، يصبح شرعياً لأنه صادر عنا بتفويض من الله، ويصبح أيضاً قابلاً للتغيير، من حيث أن الله سبحانه وتعالى لم يترك هذه الأمور لنا….. إلا خلاصاً من التحجر عند صيغ بعينها”.
2- العلمانية:
هذه المسألة الثانية موضوع لخلاف أكبر بين بعض القوميين وجل الإسلاميين. ولعل مرجع ذلك إلى ما في مفهوم العلمانية من غموض ولبس.
والحق أن مبدأ العلمانية مبدأ غريب على حضارتنا. وهو مبدأ عزيز على العربيين، إذ تم التوصل إليه بعد صراع عنيد بين سلطة الكنيسة وسلطة الملوك أو الحكام. ولا شك أن فصل الدين عن الدولة في الغرب كان خطوة هامة في طريق التقدم، ذلك أن الكنيسة المسيحية في الغرب كانت تملك نفوذاً طاغياً، وتنسب لنفسها سلطة إلهية تفوق سلطة الحكام. كما أنها كانت في الوقت نفسه، إبان العصور الوسطى، بوجه خاص، عقبة في طريق تقدم العلوم وتقدم الحضارة، تدعي لنفسها حق حماية أفكار أرسطو وسواها من الأفكار التي تجاوزها العلم.
أما في الإسلام فليس ثمة كهنوت، وليست هنالك طبقة مستقلة من رجال الدين أو سلطة إلهية لهم. ومن هنا لا يحق لمن يدعون أنفسهم رجال الدين أن ينسبوا إليهم وحدهم حق رسم صورة لدولة يقولون أنها إسلامية، كما لا يحق للحكام أن يدّعوا أنهم هم الذين يحددون معالم مثل هذه الدولة. والأمر أمر اجتهاد، من خلال أصول الدين، ومن خلال مصلحة المجتمع وتطويره، يقوم به المجتمع كله، من حكام ورجال دين وسواهم، يلتمسون من خلاله الصورة المثلى للحكم ومؤسساته وشرائعه، في إطار تغير الأحكام بتغير الأزمان.
وبهذا المعنى وحده يمكن أن نصف نظام الإسلام بأنه نظام علماني، ما دام الحكم فيه لما يرسمه المجتمع كله، انطلاقاً من مبادئ الدين وسواها من المبادئ المحدثة السليمة، التي تفرضها مصلحة الجماعة.
وبقول موجز، تعني العلمانية نفي صفة القداسة عن أي نظام في الحكم، واعتبار الحكم أياً كان شأنه وشأوه، مستمداً من الناس، أي من اجتهادهم وإدراكهم لمستلزمات التوفيق بين مطالب الشريعة وبين مطالب الحكمة والتطور ومصلحة الأمة، انطلاقاً من المبدأ الذي أجمع عليه كثير من الفقهاء المتقدمين، والذي عبر عنه ابن القيم الجوزية بقوله: “إن شريعة الله كاملة مطابقة للعقل والحق والعدل، فإذا ظهرت أمارات العدل وقامت أدلته وأسفر صبحه عن أي طريق كان، فذلك شرع الله ودينه”.
3- إنكار المبدأ القومي:
وعلى الرغم مما ذكرناه عن إدراك التيار الإسلامي السليم إدراكاً عميقاً للصلة بين العروبة والإسلام، نجد عند بعض المغالين من أنصاره إنكاراً للمبدأ القومي، ظنّاً منهم أن هذا المبدأ يتعارض مع عالمية الإسلام، وكونه دعوة للناس كافة، وعدم تفضيله لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
على أن الكثير من الكتاب الإسلاميين بينّوا تهافت القول بالتعارض بين عالمية الإسلام ومبدأ القومية. وفي هذا يقول محمد عمارة: “إن عالمية الإسلام كدين لا تعني إنكاره الواقع الذي يعيش فيه الناس. والقومية بعضٌ من هذا الواقع الذي تعيش فيه الجماعات البشرية، يستوي فيه المسلمون وغير المسلمين”. ويضيف إلى ذلك قوله: “بل إننا لواجدون بين “الإسلام كدين” وبين “العروبة” ما هو أكثر من تعايشه معها كحقيقة وقبولها كواقع”. و”موقع العرب كطليعة للدين الإسلامي يتعدى نطاق وطنهم وموطنهم إلى حيث يصبحون “طليعة” هذا الدين على نطاقه العالمي”. ولن نعيد ههنا أفكاراً مكرورة حول القومية وكونها الإطار الطبيعي لحياة الجماعات البشرية، وحول الارتباط العضوي بين القومية الصحيحة والإنسانية الصحيحة. وحسبنا أن نذكر أن أحداث المرحلة الراهنة في العالم، تؤكد ما أكدته حياة الشعوب عبر التاريخ، من عمق جذور الرابطة القومية لدى الشعوب. وحسبنا أن نذكّر بأن الدعوة القومية العربية، وهي دعوة تستمد جذورها من التراث العربي الإسلامي، لم تكن في يوم من الأيام دعوة إلى عصبية جاهلية أو إلى “شوفينية” تدّعي التفوق والاستعلاء، بل كانت دوماً دعوة إلى بناء كيانات قومية حرة متآخية في إطار نظام عالمي إنساني حق.
نقول هذا رداً على بعض الأفكار التي يجنح إليها فريق ضئيل من أصحاب التيار الإسلامي يبلغ به الأمر حد اتهام من يقول بالقومية بالكفر، إذ يخلط بين الدعوة إلى أن يحب الرجل قومه وبين عصبية الجاهلية القائمة على الرباط العرقي وحده، والتي سماها الرسول (ص) “دعوى الجاهلية”، والتي قال فيها “دعوها فإنها نتنة”. بينما كانت العروبة منذ البداية “الوعاء الحضاري والثقافي للإسلام” على حد قول حسن حنفي.
ونحن نتريث بعض الشيء عند هذه النقطة، لأننا نشعر اليوم، بعد نهاية الحرب الباردة، بما يمكن أن تكوّنه الدعوات المعادية للقومية من خطر على كيان الأمة العربية، تلك الدعوات التي يحاول الغرب بثها ليستبدل بها الدعوة إلى سفح الحدود بين البلدان، بل غزوها ونهبها باسم “حرية السوق” و”حرية الاقتصاد” التي تحقق مصالحه، وحرية تنقل المال والثقافة والإعلام بالتالي. الأمر الذي يؤدي في خاتمة المطاف إلى جعل العالم كله في خدمة الأقوى، وإلى تعزيز “قوميات الأقوياء” أو “قومية الأقوى” وانسحاق ما عداها باسم نزعة عالمية مزعومة.
4- احتكار الصواب:
ومن أوجه الخلاف بين التيارين ما نجده من نزعة لدى غلاة الإسلاميين إلى احتكار الصواب، وإلى فرض الرأي بالقوة بل بالعنف أحياناً، وإلى تكفير المخالف لما يرون في كثير من الأحيان.
وعندنا، أن هذا الاتجاه المغالي عقبة أساسية في وجه تقدم الإسلام، وأداة مسمومة من أجل تعطيله، وإبطال أثره، وتعبئة النفوس ضده. فضلاً عن أنه من أخطر الصيغ التي تؤدي إلى تجميد الفكر الإسلامي، وتحول دون فهم الإسلام من خلال محدثات الزمان والمكان، وتعرقل تجديده وتمنع عنه بالتالي الحركة والحياة.
ولا شك إن الإسلام لن يستطيع الاستمرار في أداء وظيفته في بناء المجتمع العربي الإسلامي والعالمي إذا لم ينطلق فيه الفكر الحر الطليق، يبحث ويجتهد، ويخطئ ويصيب، دون أن يكون ثمة إرهاب ديني، بل حوار ومجادلة بالتي هي أحسن، ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.
وتتبع هذه المواقف المغالية المحتِكرةُ للصواب، التي تنسب إلى أصحابها العصمة دون سواهم والرأي الصواب دون غيرهم، المواقفُ التي ترفض التعددية، وترفض حرية الاعتقاد، وتقول برأي واحد وعقيدة واحدة. ومثل هذه المواقف تحطِّم أهم أسس الديمقراطية، وتؤدي في صورتها النهائية إلى ديكتاتورية دينية ذميمة، وتلقي بإمكانيات التقدم في المجتمع في قرار عميق مظلم، وفي غيابة الإرهاب والخوف، وتعطل فوق هذا وقبل هذا الطاقات الخلاقة للإسلام، وتحول دون توالدها وانبعاثها.
وتزداد هذه الاتجاهات المغالية خطراً إذا ذكرنا أنها كثيراً ما تضع في قائمة المحرمات والمنكرات التي ينبغي إزالتها بالعنف، ضروباً من أنماط السلوك المرتبطة بأمور أكثرها شكلي، ومعظمها يحتمل الاجتهادات المتباينة ولا تتفق آراء أصحاب الدعوة الإسلامية حول مدى قربه من الدين أو منافاته له: كسلوك المرأة، من قبيل المثال لا الحصر، فيما يتصل بالحجاب والعمل وحتى العلم.
خاتمة:
لعلنا استطعنا في هذا العرض الموجز، الذي يكاد لإيجازه أن يكون مخلاً بالغرض، أن نطلق حكماً موضوعياً على واقع التعاون بين التيارين الإسلامي والعربي وحول إمكانات تطويره ووعوده المستقبلية.
ولعله قد استبان لنا أن جوانب الوفاق بين التيارين تفوق بكثير جوانب الخلاف. فضلاً عن أن جوانب الوفاق هذه تكاد تكفي لاجتماع التيارين على كلمة سواء بينهما وعلى مشروع حضاري مشترك وعلى خطة عمل مشتركة.
ثم إن معظم جوانب الخلاف التي وقفنا عندها لا يقع وزر الفضاء عليها على عاتق أي من التيارين على حدة، بل يقع على كليهما مجتمعين. ونحن نعلم جميعاً أن عدداً غير قليل من كبار رجالات التيار الإسلامي، ولا سيما التيار الإسلامي المجدِّد، يؤيد معظم ما قلناه حول نظام الحكم في الإسلام، وحول أهمية القومية العربية واحتضانها للإسلام واحتضان الإسلام لها، وحول إنكار مبدأ احتكار الصواب. ونأمل أن يكون فهمنا للعلمانية أيضاً قريباً من فهم رجالات التيار الإسلامي.
وما يمكن أن نستخلصه بالتالي في خاتمة هذا التحليل الخاطف، أن التقارب كبير بين أصحاب التيار الإسلامي السليم، ولا سيما المجددين منهم، وبين أصحاب التيار القومي المخلص لاتجاهاته ومنطلقاته الأساسية، حول الترابط العضوي المكين بين العروبة والإسلام، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين.
سوى أن بعض المواقف المغالية، ولا سيما لدى القائلين بحرفية التراث وثباته، أو الذين يقصّرون عن إدراك مقاصد الدين على حقيقتها. تسيء دون شك إلى محاولات التعاون والتضامن بين التيارين. ولابد من متابعة الجهود في هذا السبيل وتعزيزها من قبل أصحاب التيار الإسلامي المستنير.
كذلك لابد من جهد يقوم به أصحاب التيار القومي من أجل توضيح ما يحمله اللقاء بين التيارين، عندما يتم على نحو موضوعي وصريح وصادق، من إمكانات التقدم الحقيقي في الوطن العربي، ومن تزايد القدرة على التأثير في مسيرة جماهيره، ومن تعاظم القدرة على حمايته وصونه، ومن إخصابٍ وإغناءٍ للعمل على تحقيق رسالته القومية الإنسانية.
ولا شك أن إيمان اتباع الدعوة القومية العربية بأهمية التعاون بينهم وبين التيار الإسلامي يتعاظم ويزداد بمقدار ما تستبين لهم قدرة هذا التيار على التطور وعلى إبراز روحه التقدمية وتعزيزها، وقدرته بالتالي على التخلص من مخلفات عصور الركود الطويلة التي أصابت الحضارة العربية الإسلامية. وفي مقابل ذلك لا شك أن إيمان أبناء التيار الإسلامي بأهمية اللقاء مع التيار القومي العربي لقاء جاداً وفعالاً، سوف يزداد بمقدار ما يخلص هذا التيار لمنطلقاته الأساسية التي تربط بين العروبة والإسلام، وبمقدار ما يولَد الاقتناع الصادق لدى اتباعه بأن هذه الرابطة بين قطبي الحياة العربية، لا تولّد التحجر والجمود اللذين خيّما على عهود الركود، بل تولّد شرارة الإبداع، والقدرة على تحويل المجتمع العربي وتحريره على حد سواء من آفات الردة إلى خلف، ومن آفات الردة إلى أمام، في غياب ضياء التراث ودروسه والينابيع التي يستطيع أن يفجرها.
دمشق في 7/10/1994
عبد الله عبد الدائم