مداخلة الدكتور عبد الله عبد الدائم في المؤتمر القومي الإسلامي

قدمتُ ملاحظات حول الورقتين المتصلتين بحال الأمة والمقدمتين من التيار الإسلامي والتيار القومي. وقد طبعت هذه الملاحظات وأرجو أن توزع عليكم.
وقد أكدت فيها على تلك الحقيقة البدهية والمكرورة، أعني الترابط العضوي بين العروبة والإسلام.
وأؤثر في هذه المداخلة أن أتحدث عن الدروس المستفادة من الحوار الخصيب الذي تمّ حتى الآن في جلسات هذا المؤتمر.
أهم هذه الدروس كما تبدو لي، هي الآتية:
1- أكسبنا هذا الحوار مزيداً من المعرفة بأفكارنا وتصوراتنا المشتركة. وعلى الرغم من التعارف المستمر والبعيد بين التيارين (وهو تعارف يبدو لي مع ذلك ناقصاً) فقد ازدادت معرفة كل منهما للآخر خلال هذا المؤتمر.
2- أدركنا من خلال ذلك الحوار – أن هنالك اتفاقاً واسع النطاق بين التيار الإسلامي السليم الذي يمثله الإسلاميون المجددون المعتدلون، وبين التيار القومي الأصيل، في منطلقاته الإسلامية الأساسية البديئة التي ولدت معه منذ أن ولد، والتي ازدادت وضوحاً على مر الزمن.
3- أدركنا أن هنالك بعض الفروق بين التيارين، ولكنها فروق في الدرجة لا في الطبيعة. وتتصل هذه الفروق بوجه خاص بموضوعي الديمقراطية والقومية.
4- وأهم من هذا وذاك أدركنا المبرر الأساسي العميق الذي يثوي وراء اجتماعنا هنا:
وأعني بذلك المبرر الحاجة الماسة لاجتماع الأمة العربية بقواها المختلفة في هذه المرحلة الخطيرة وأمام هذا المنعطف المخيف، وذلك لمواجهة خطرين محدقين كبيرين ومتكاملين:
أولهما الخطر الصهيوني في ثوبه الجديد الأكثر نجاعة والأعمق أثراً.
وثانيهما الهجمة العالمية على الثقافات والهويات القومية، ولاسيما الثقافة والهوية العربية الإسلامية.
ذلك أننا أمام موقف يشبه ما حدث في الماضي من اجتماع قوى العروبة والإسلام عندما تنزل بالأمة نازلة من الأخطار الكبرى (ولاسيما الأجنبية)، ولكن في إطار جديد. لقد انتفض الإسلام والعروبة في مواجهة الحكم العثماني المتردي، ولاسيما أمام محاولات التتريك. ولقد انتفض الجسم العربي الإسلامي ووقف وقفة موحدة في مواجهة الاستعمار الغربي.
واليوم يحدث ما حدث في الماضي، وينتفض الجسم العربي ويهتز في مواجهة الصهيونية ومن وراءها، وفي مواجهة المحاولات الغربية التي تكاد تستبدل العداء للإسلام بالعداء للشيوعية بعد سقوطها.
جملة القول أن الأمة العربية، حين تتعرض لخطر كبير من خارجها، تعود على نحو غرزي إلى أصالتها، إلى هويتها العربية الإسلامية. في مثل هذه الظروف تحتمي الأمة بجلدتها الأصيلة، وتستند إلى بنيتها الجيولوجية إن صح التعبير، وتحتمي بدرعها الثقافية. وفي مثل هذه الظروف لا يجوز التلهي بالمناقشات البيزنطية، والعدو على الأبواب.
5- ومع ذلك، ورغم أن الموقف يستدعي استبعاد المناقشات الفكرية والإيديولوجية، لا بد من الاعتراف بأن أي موقف عملي لا ينطلق من أساس فكري واضح موقف ناقص غير ولود وغير خصيب. فالفكر من دون العمل مُقْعد، والعمل من دون الفكر أعشى بل أعمى.
6- ولا يعني هذا أن نثير ما قد يكون هنالك من قضايا خلافية بين التيارين، لاسيما أن معظمها قد تمت تسويته واقتربت وجهات النظر حوله. ولكنه يعني التركيز على الأولويات الفكرية التي يتطلبها العمل في هذه المرحلة.
ومن أبرز هذه الأولويات التأكيد على أهمية التحديث وضرورته في هذه المرحلة. فنحن في مرحلة من الخطر لم تعد تكفي فيها مواجهة العدو بالتراث والهوية الذاتية والإيمان، على أهمية ذلك كله. بل لا بد من تحديث حياتنا ومجتمعاتنا في شتى الميادين، من خلال المعرفة والعلم والثقافة. فالخطر الذي نواجهه في هذه المرحلة يختلف طبيعة وجوهراً عن الأخطار التي واجهناها في الماضي في مقارعة الغزو الاستعماري بأشكاله المختلفة، قديماً وحديثاً.
7- ولن أتحدث عن موضوع التحديث وأشكاله، فهذا أمر يطول. ولقد أشارت إليه دراسات كثيرة ومؤتمرات كثيرة، ولاسيما المؤتمر الذي عقده مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة عام 1984 حول “التراث أمام تحديات العصر”.
ولكن ثمة جانباً من التحديث لا بد من التريّث عنده، وعلينا أن نمنحه أولوية خاصة، أعني تحديث الثقافة العربية بالمعنى الواسع للكلمة (المعنى الانتروبولوجي).
فالثقافة العربية القائمة مصدر هام من مصادر قوتنا، ودرع وحماية دون استلابنا ومحو هويتنا ووجودنا.
ولكن للثقافة العربية القائمة وجهها الآخر، وجهها السلبي. ففي مجتمعنا معوقات فكرية ونفسية واجتماعية وثقافية تقف في وجه التقدم، وفي وجه المنعة والقوة، وفي وجه امتلاك القدرة على مواجهة مخاطر العالم الحديث.
إن كثيراً من مواقف الناس واتجاهاتهم التي ورثوها من عصور الانحطاط مواقف خاطئة ومنحرفة ومعطلة للقوة المادية والمعنوية التي ينبغي أن نمتلكها. ومن الأمثلة عليها:
– النظرة إلى العمل والمهنة والحرفة، لدى كثير من أبناء المجتمعات العربية، واعتبار المهنة امتهاناً.
– التواكل والاستسلام، وهو غير التوكل.
– نفي فكرة التقدم والقول بأن العالم يسير من سيء إلى أسوأ.
– الإيمان بالحلول الغيبية.
– التعصب والعصبية بأشكالها العائلية والقبلية والحزبية والسياسية وسواها.
8- بإيجاز، نحن في حاجة إلى ثقافة جديدة أصيلة مسلّحة بأسلحة العصر. فالثقافة الأصيلة ليست هي التراث الماضي وحده، بما له وما عليه. وليست ثقافة نكتشفها، ننبشها نبشاً كما ننبش الجوزة من قشرتها. وإنما هي بناء، بناء ذو أعمدة أربعة:
أولها التراث بعد أن نعرفه ونجلوه وننضو عنه ما ليس منه، ونستبعد ما لا علاقة له بمشكلات الحاضر.
وثانيها الواقع العربي القائم ومشكلاته ومستلزمات تطويره.
وثالثها الواقع العالمي، وما يمليه من أخذ وعطاء، واستبعاد ما فيه من مخاطر على ثقافتنا ووجودنا.
ورابعها المستقبل العربي واحتمالاته ومرتجياته.
9- لقد شاع وذاع – في العقدين الأخيرين بوجه خاص – أن الثقافة ليست أداة التنمية والتقدم فحسب، بل هي غاية التنمية والتقدم. فلنجعل من ثقافتنا العربية – الإسلامية أداة للتنمية والتقدم، ولنجعل التنمية والتقدم في خدمة ثقافتنا.
10- ولا ينسيني هذا المواقف السياسية العملية التي ينبغي الخروج بها من هذا المؤتمر. ومن الأمثلة عليها ما يأتي:
– مواقف سياسية عملية في مواجهة الصهيونية الجديدة ومخططاتها المحدقة وما وراءها. مع بيان الآلية والأداة، وعلى رأسهما التوعية الشعبية.
– مواقف سياسية عملية في مواجهة الثقافة “المنمّطة” المتشاكلة التي تسودها ثقافة الدول الأقوى، بل الدولة الأقوى، وما تستلزمه من جهود خاصة لاسيما لدى الأطفال والشبان.
– مواقف سياسية عملية في مواجهة نمط الاقتصاد الغازي الذي يُفْرَض على العالم، أعني اقتصاد السوق وما يلتحم به ويؤيده من تقنيات الاتصال المتقدمة.
– مواقف سياسية عملية فيما يتصل برفض النزعة العالمية اللاإنسانية التي يأخذ بها الغرب، والدعوة إلى عالمية إنسانية حقيقية، تتكون من قوميات لها سيادتها، تتآخى في إطار الأهداف والقيم الإنسانية الصادقة.
– مواقف عملية سياسية قوامها التعاضد في مواجهة الاضطهاد الذي تمارسه معظم الحكومات العربية على شعوبها.
– مواقف عملية سياسية من أجل إبقاء القضية الفلسطينية حية وجعلها دوماً محور العمل العربي المشترك، ودعم قواها الصادقة وتعزيز طاقاتها.