تعليم الكبار والقيم المستحدثة في النظام العالمي الجديد

مجلة تعليم الجماهير التي يصدرها الجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار
العدد /40/ – كانون الأول / سبتمبر 1993
تعليم الكبار والقيم الإنسانية المستحدثة
في ظل النظام العالمي الجديد
الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الدائم
أولاً – مدخل تاريخي:
مفهوم تعليم الكبار:
1- لا حاجة إلى القول أن »تعليم الكبار« (أو تربية الكبار) في هذا البحث يشمل أوسع معاينة مدى ومدة، نعني أنه يتناول مختلف الأعمار، بدءاً من الشبان الذين يغادرون المدرسة وانتهاء بالكهول والشيوخ.
غير أن ما لا مندوحة من التذكير به هو أن هذا المفهوم الذي امتد واتسع في نطاقه ومداه فشمل شتى أشكال التربية غير النظامية Non formal والتربية العفوية العارضة Informal (التي تتم عن طريق شتى وسائل التثقيف والأعلام السائدة في المجتمع) والذي التصق إلى حد بعيد بمفهوم التربية المستمرة طوال العمر، من المهد إلى اللحد، نقول: إن هذا المفهوم اتسع أيضاً في محتواه ومضمونه وأهدافه، فغدا يشمل ميادين تنتسب إلى أبحاث التنمية الشاملة للمجتمع وإلى القيم الإنسانية الأساسية، كالتربية السياسية والكفاح من أجل تقدم المجتمع، وكتعليم التقنيات الزراعية والصناعية والصحية والمهنية بوجه عام، وكالعناية بمبادئ تنظيم النسل، وكإيقاظ الوعي السياسي، وكالدُّربة على ما يتصل بالتربية المدنية وتكوين روح المواطنة، وكتوفير مشاركة المجتمع في شتى شؤونه، وكغرس الروح الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وكإشاعة روح التفاهم والتعاون العالمي، الخ… وهكذا كاد تعليم الكبار يحول المجتمع كله إلى مدارس بلا جدران، إلى مجتمع متعلم ومعلم في آن واحد كما يقال. وغدا هدفه الأساسي السعي إلى إعداد الأفراد للعمل من أجل بيئتهم ومجتمعهم ومن أجل الإنسانية جمعاء، والعمل على صياغتهم صياغة جديدة وفق هذا المطلب.
2- وقد بلغ تعليم الكبار هذا الشأو سعة ومضمونا وأهدافا على مراحل أملتها الظروف العالمية المتطورة والأحداث الدولية البارزة والتطور المستمر المتنامي في الفكر الإنساني وفي الحضارة العلمية التقانية بوجه عام، وتجدد التربية وسائلها وتقنياتها. ولا نغلو إذا قلنا أن كل مرحلة من مراحل التطور العالمي منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم عرفت جدائد ومستحدثات في تعليم الكبار ملائمة لها. وبشكل خاص كان لظهور الأيدلوجيات الكبرى في العالم ولتطورها انعكاسات واضحة على تعليم الكبار مقابلة لها.
تطور ميدان تعليم الكبار من خلال المؤتمرات الدولية الكبرى وتطور اهتمامه بالمبادئ الإنسانية:
3- وليس المجال مجال العرض التاريخي للتآخذ والتعانق بين تطور الواقع العالمي والحضارة العالمية والعقائد العالمية من جهة، وبين تطور مفهوم تعليم الكبار ومحتواه وأغراضه من جهة أخرى. ونجد في المؤتمرات الدولية الكبرى التي تناولت تربية الكبار إشارات واضحة إلى ذلك الترابط، تغنينا عن التفاصيل. ونعني بتلك المؤتمرات الكبرى:
المؤتمر الدولي الأول في (السينور (Elseneur) في الدانمارك (16-25 حزيران/ يونيو 1949) وكانت أوربا يومئذ تضمد جراح الحرب العالمية الثانية – ثم المؤتمر الثاني الذي عقد في (مونريال (Montréal) بكندا (22-31 آب/ أغسطس 1960) وقد كانت الكثير من دول آسيا وأفريقيا قد حصلت على استقلالها آنذاك – ثم المؤتمر الدولي الثالث في (طوكيو) عاصمة اليابان (25 تموز/ يوليه – 7 أب/ أغسطس 1972) وكانت موضوعات العلم والتكنولوجيا موضوعات سائرة على الألسن والأقلام حينئذ – ثم المؤتمر الدولي الرابع الذي عقد في باريس (19-29 آذار/ مارس 1985) وفيه ظهرت المنازع الإنسانية لمنظمة اليونسكو على أشدها.
4- وبإيجاز شديد، يكاد يكون مخلاً، نتحدث عن أهم السمات التي وسمت كل واحد من هذه المؤتمرات الأربعة، لاسيما فيما يتصل بالقيم الإنسانية التي تعنينا في بحثنا هذا.
4-1- لقد وجه مؤتمر (السينور) جل اهتمامه إلى ضرورة »تكوين مواطنين مستنيرين لمجتمع عالمي«. وتريث عند أهمية العناية بتكوين روح التسامح والتعايش (ولا سيما بين الشرق والغرب إذ ذاك) عن طريق معالجة المشكلات العالمية معالجة موضوعية.
كذلك توقف المؤتمر عند دور تعليم الكبار في »شحذ الروح الديمقراطية الحقة« وفي »تشجيع الحركات التي تحاول أن تولد ثقافة تضع حدا للتعارض بين ما يسمى بالكتل الجماهيرية وبين ما يسمى بالنخبة«.
وأنكر المؤتمر مظاهر التشويه والعزلة الموروثة من عصر الصناعة، ودعا المعنيين بتربية الكبار إلى »إحياء روح الألفة والتآلف والترابط بين أفراد الجماعة، تلك الروح التي خربها انقلاب لحمة المجتمع إلى ذرات متباعدة«.
4-2- أما مؤتمر (مونريال) فقد انتقل من مسألة التفاهم بين بنى البشر إلى مسألة توطيد دعائم السلم في العالم. وأدخل المؤتمر إلى ميدان تربية الكبار مسألة هامة، كانت وما تزال وستبقى على رأس القيم الإنسانية التي ينبغي أن يعنى بها العالم وأن يؤكدها تعليم الكبار، نعني مسألة المساواة. وأكد دون جمجمة أن مبدأ المساواة ينبغي أن يكون الشغل الشاغل للثقافة بوجه عام وللتربية سواء كانت للصغار أو للكبار. وأشار إلى ضرورة زوال الفروق بين المناطق الريفية والمناطق الحضرية.
ومن فضائل هذا المؤتمر أنه تطرق لمشكلة وضع المرأة وأوصى المعنيين بتعليم الكبار »بأن يسهموا في تحقيق المساواة المطلقة في الحقوق بين النساء والرجال في شتى قطاعات الحياة الاجتماعية«.
ولأول مرة في مجال تعليم الكبار، يطالب المؤتمر »بإفساح مجال واسع للتفكير في القيم المتصلة بوضع الإنسان ومصيره« وبخلاص الإنسانية.
ومن أهم ما أتى به المؤتمر التأكيد على أن مسألة التنمية ينبغي أن تكون محور الدعوة إلى تعليم الكبار في بلدان العالم الثالث.
وقد لخص المربون المجتمعون في»مونريال« جوهر ما أتوا به من منازع جديدة، حين أعلنوا أن التعليم للكبار ضروري أنى كان، بوصفه عاملاً حيوياً في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأي بلد، وبوصفه عملية جوهرية من أجل تطبيق مبادئ »الإعلان العلمي لحقوق الإنسان«، وبوصفه الشرط المسبق لتمتين روابط السلم بين دول العالم.
4-3- أما مؤتمر (طوكيو) عام 1972 فقد تريث بوجه خاص عند مسألة التوزيع العادل المتكافئ للخدمات التعليمية في سياسات التربية المتصلة بالكبار، كما عبر عن حماسة نادرة في الدفاع عن ضرورة الاهتمام بالمستضعفين والمنسيين من العمال والزراع والنساء.
4-4- وأما مؤتمر (باريس) عام 1985 فهو يعكس، كما سبق أن قلنا، ذروة عناية منظمة اليونسكو بالقيم الإنسانية والخلقية وبمبادئ حقوق الإنسان.
فلقد طالب المؤتمر، بزخم نادر، بأن تكون تربية الكبار منبعاً فعالاً للقيم الإنسانية، يساعد الفقراء والمستضعفين والمطرودين من ديارهم بشكل خاص، وعلى رأس أولئك المستضعفين والمطرودين والمنبوذين اللاجئون الفلسطينيون. وهكذا جعل المؤتمر على رأس مهمات تربية الكبار الإسهام الفعال في حل مشكلات العالم الكبرى، ومنها: البحث عن سلم دائم – التفاهم الدولي – حقوق الإنسان – التنمية الاجتماعية – المستوى النوعي للبيئة – تحقيق الديمقراطية في التربية وفي المجتمع بشكل عام – حماية البيئة.
وقد أحدث مؤتمر باريس حقاً جديداً يضاف إلى حقوق الإنسان التقليدية كما وردت في »إعلان حقوق الإنسان«، ونعني به »حق التعلم«.
القيم الإنسانية والتربية بوجه عام:
5- والحق أن القيم الإنسانية في مجال تربية الكبار تستقي جذورها من القيم الإنسانية، في مجال التربية بوجه عام. لذلك، ومن أجل مزيد من الوضوح، يحسن أن نتحدث بإيجاز شديد عن القيم الإنسانية على نحو ما دعت إليها المنظمات والمؤسسات الدولية في مجال التربية بوجه عام، والتي تصدق كما قلنا على تربية الكبار بوجه خاص.
ولعل مما يغنينا عن التنقيب في حصاد عمل المنظمات والمؤسسات الدولية أن نتحدث عن المنظمة الدولية الأم صاحبة الشأن في هذا المجال، نعني منظمة اليونسكو، وعن أبرز ما أكدته من اتجاهات إنسانية في ميدان التربية. ولا حاجة إلى القول أن المؤتمرات الأربعة الكبرى في مجال تعليم الكبار التي أتينا على الحديث عنها مؤتمرات دعت إليها منظمة اليونسكو نفسها.
ومن حسن الطالع أننا نجد، وسط جهود منظمة اليونسكو التي تكاد لا تحصى في مجال تأكيد القيم الإنسانية في التربية، جهداً فريداً وهاماً يكاد يغني عن سواه، ونعني به الوثيقة الأساسية التي أقرها المؤتمر العام لليونسكو عام 1974، والتي وضعتها المنظمة احتفالاً بالعيد الثلاثين لنهاية الحرب العالمية الثانية. وقد كان عنوان الوثيقة: »توصية حول التربية من أجل التفاهم والتعاون والتضامن بين الدول والسلم العالمي، وحول التربية المتصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية«.
ولن نلخص كل ما جاء في الوثيقة، وحسبنا منها بعض الصوى الهادية المتصلة اتصالاً وثيقاً بموضوع بحثنا.
5-1- تحت عنوان »المبادئ الرائدة« وردت توصيات هامة عديدة:
– منها أن على الدول الأعضاء أن تتخذ الإجراءات اللازمة من أجل أن تعمل، في إطار التعليم والإعداد والتكوين، على تعزيز وتنمية الاتجاهات والمواقف النفسية وأنماط السلوك الصادرة عن الإيمان بالمساواة وضرورة التواصل والتعارف بين الشعوب.
– ومنها أن على الدول الأعضاء أن تعمل على أن تصبح مبادئ »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« ومبادئ »الاتفاق العالمي حول القضاء على شتى أشكال التفرقة العنصرية« جزءاً ملتحماً بشخصية كل طفل ومراهق وشاب وكبير.
– ومنها أن على التربية أن تتضمن تحليلاً نقدياً للعوامل التاريخية والراهنة – ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية – التي تكمن وراء ضروب التناقض والخلاف والتوتر بين بلدان العالم، وأن تدرس وسائل التغلب على تلك التناقضات التي تشكل عقبة في طريق التفاهم وفي طريق التعاون الدولي الحق وتنمية السلم العالمي.
5-3- وتحت عنوان المشكلات الإنسانية الكبرى، وردت توصيات كالآتية:
– التوصية بأن على التربية أن تتجه صوب إلغاء العوامل التي تبقي على المشكلات الكبرى التي تمس بقاء النوع البشري ورفاهيته (كعدم المساواة والظلم، والعلاقات العالمية القائمة على استخدام القوة)، وأن تتجه في الوقت نفسه صوب الأخذ بتدابير دولية من شأنها أن تيسر حل تلك المشكلات. ومن أجل ذلك لابد أن تكون التربية بالضرورة متشابكة المناهج متكاملة المواد وأن تعنى، على سبيل المثال، بمسائل كالآتية: تساوي الشعوب جميعها في الحقوق، وحق الشعوب في تقرير مصيرها – الحفاظ على السلم، ورفض استخدام العلم والتقنية لأغراض الحرب، وجعلهما في خدمة السلام والتقدم – احترام حقوق الإنسان – النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية وربطهما بالعدالة الاجتماعية – محاربة الاستعمار والاستعمار الجديد – مساعدة البلدان النامية – محاربة المرض والجوع – الكفاح من أجل الوصول إلى مستوى عيش أفضل وإلى مستوى صحي أرقى – الحفاظ على الموارد الطبيعية – الخ…
تعليم الكبار والأهداف السياسية:
6- وهكذا نجد من خلال استعراضنا للمؤتمرات الأربعة الكبرى في مجال تعليم الكبار ومن خلال استقراء اتجاهات التربية بوجه عام في مجال حقوق الإنسان والقيم الإنسانية على نحو ما تبدت لنا من خلال تلك النظرة السريعة إلى بعض توصيات الوثيقة الأساسية التي أقرها المؤتمر العام لليونسكو عام 1974، أن التربية بوجه عام وتربية الكبار بوجه خاص قد تطور مفهومها ومضمونها وهدفها تطوراً واضحاً، وازداد يوما بعد يوم لصوقاً بالقيم الإنسانية وما تحمله من تأكيد على حقوق الإنسان. ولعلنا نستخلص في خاتمة المطاف، من استعراضنا للاتجاهات التي أخذها تطور تعليم الكبار (ومن ورائه التربية بوجه عام) خلال نيف وثلث قرن، حكماً أساسياً وهو أن تعليم الكبار، بوجه خاص شأن أيديولوجي إلى حد بعيد، وثيق الصلة بالأفكار والعقائد العالمية والقومية السائدة. وهذه الأيديولوجيا التي توجه تعليم الكبار خليط من النزعات العالمية والإنسانية والبراجماسية العملية. وهكذا جرى المعنيون بتعليم الكبار على أن يضمنوا برامجهم موضوعات كالسلم ونزع السلاح والحفاظ على البيئة والمساواة بين الأجناس وبين الإناث والذكور وحماية الضعفاء والمضطهدين في الأرض. كما حرصوا – من جانب آخر – في تعليم الكبار والشبان رجالاً ونساء، على تكوينهم تكوينا يجعل منهم أناساً أكفاء في مهنهم وأعمالهم وحياتهم العملية: سواء تم ذلك في إدارتهم لدخولهم، أو في تنظيم إنجابهم للأولاد، أو في تربية الدواجن، أو في حل مشكلات حياتهم الاجتماعية ومسائل التواصل فيما بينهم، الخ… على أنهم لا ينسون أيضاً أن يعلموهم القراءة والكتابة أن كانوا في حاجة إلى ذلك.
ومعنى هذا كله أن تعليم الكبار شأن سياسي في جوهره، لسياسات الدول وللسياسة العالمية دور أساسي في توجيه ورسم أولوياته وتحديد مضمونه.
ومعنى هذا بالتالي أن التغير السياسي الكبير الذي حل بالعالم بعد انتهاء الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي سابقاً، لابد أن يصيب تعليم الكبار ويغير من معالمه وأولوياته، لاسيما في مجال التفاهم الدولي والتعاون العالمي والقيم الإنسانية.
صحيح أن ثمة ثوابت انتهى إليها تعليم الكبار (ومن ورائه التربية بوجه عام) على النطاق العالمي، ولاسيما فيما يتصل بحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم العالمي والتفاهم بين الشعوب والحفاظ على البيئة وتنظيم النسل وسوى تلك مما رأينا عبر حديثنا عن المؤتمرات الدولية وعن حصاد عمل المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة اليونسكو. ولكن تغير بنية النظام العالمي تطرح هذه الثوابت من خلال نور جديد ونظرة جديدة. وهذا كله يقود إلى صلب موضوعنا.
ثانياً – أزمة القيم الإنسانية في النظام العالمي القائم:
1- لاشك أن ثمة – إلى حد بعيد – اتفاقاً نظرياً كما رأينا على المبادئ الإنسانية التي ينبغي أن تسود العالم والتي يتوجب بالتالي على التربية بوجه عام وعلى تربية الكبار بشكل خاص بثها وتعزيزها في شتى مجالات نشاطاتها. وليس هنالك من جادل بالأمس أو يجادل اليوم في أهمية المبادئ الإنسانية كما وردت في »الإعلان العالمي لحقوق الإنسان« وليس هنالك على وجه الخصوص من يماري في ما ورد حول التربية في البند 26 من ذلك الإعلان، ذلك البند الذي نص على:»أن على التربية أن تستهدف التفتح الكامل للشخصية الإنسانية«، وأن تعزز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأن تيسر التفاهم والتسامح والصداقة بين بلدان العالم جميعها وبين الفئات العرقية والدينية كافة، وأن تسهم في تنمية نشاطات الأمم المتحدة الهادفة إلى الحفاظ على السلم».
أبرز القيم الإنسانية المستخلصة من حصاد العمل الدولي في مجال تعليم الكبار:
2- وإذا نحن أردنا إيجاز أهم القيم الإنسانية التي نجدها في حصاد المؤتمرات والقرارات والنشاطات التي عنيت بتأكيد هذه القيم في مجال التربية بوجه عام وتربية الكبار بوجه خاص، أمكننا أن نوجه الأنظار إلى المبادئ والاتجاهات والقيم الإنسانية الآتية:
– كل ما يندرج تحت حقوق الإنسان، وعلى رأسها حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في السيادة على أراضيها، وحقها في الأمن، وحق الأفراد في الحرية والتعلم والمشاركة في الحياة السياسية.
– كل ما يندرج تحت مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والقضاء على التفرقة بأنواعها، ومحاربة الهيمنة والتسلط، والعناية بالفئات المحرومة، وتنمية البلدان المتخلفة.
– كل ما يتعلق بالتفاهم العالمي والتعاون بين بني البشر ودعم السلام.
– كل ما يتصل باستخدام العلم والتكنولوجيا من أجل الإنسان لا ضده، ويشمل ذلك فيما يشمل القضاء على الحروب ، ومحاربة التلوث بأشكاله المختلفة، وتوجيه وسائل الإعلام والاتصال لمصلحة الإنسان، والرقابة على الأبحاث اللصيقة بجوهر الإنسان كأبحاث الهندسية الوراثية وسواها من الدراسات البيولوجية.
– كل ما يتعلق بالمبادئ الخلقية وأهمها مبدأ العدالة بأشكاله المختلفة، سواء اتصلت بالأفراد أو الجماعات أو بالدول والعلاقات بينها.
– كل ما يتصل بالتنمية الشاملة وأشكالها وأدواتها المختلفة وما تفرضه من علاقات التعاون بين الأفراد في المجتمع وبين الدول على تباين مستوياتها في النمو.
أزمة القيم الإنسانية في النظام العالمي القائم:
3- ولا حاجة إلى القول أن هذه المبادئ كلها – وسواها مما أغفلنا – لا تعدو أن تكون قوة معنوية ضاغطة، ولم تجد تطبيقا له إلا لماماً وفي مجالات محدودة. يصدق هذا على العالم ذي القطبين قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، كما يصدق أكثر على العالم ذي القطب الواحد الذي أعقب الحرب الباردة.
ومن مكرور القول أن نذكر أن العالم الذي أعقب الحرب الباردة ما يزال تائها في بحران لا يعرف منتهاه، وأنه ما يزال يتلمس الطريق نحو نظام عالمي جديد، دون أن يقدم أي جهد جاد في سبيل ذلك، ودون أن يحاول أربابه أن يضعوا لبنات ولو صغيرة من أجل بناء صرح ذلك النظام المرجو.
بل لا نغلو إذا قلنا أن العالم بعد انقضاء الحرب الباردة أصبح أكثر بعداً عن المبادئ والقيم الإنسانية، وأن الدول الكبرى التي تسيطر عليه، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لم تبذل أي جهد صادق في سبيل بناء عالم تسوده مبادئ التفاهم الإنساني والتعاون وتقوده قيم الحق والعدالة.
4- وأهم مظاهر ذلك التراجع عن المبادئ الإنسانية بعد تداعي الاتحاد السوفياتي ما نشهده من روح الهيمنة والسيطرة لدى الدول الكبرى، ولدى الدولة العظمى الوحيدة، وما نراه من اتساع الهوة بين الشمال والجنوب سواء فيما يتصل بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو فيما يتصل بتضاؤل العون الذي يقدمه الشمال للجنوب، أو في الغطرسة السياسية التي تملي إرادتها على البلدان النامية بوجه خاص وإن لم توفر البلدان المتقدمة في كثير من الحالات، أو في تطوير تكنولوجيا الحرب والدمار تطويراً يخلق هوة واسعة بين الغاية والوسيلة، أوفي تزايد العدوان الاقتصادي على مختلف بلدان العالم ولاسيما البلدان النامية، إن لم نقل تزايد التخبط الاقتصادي وغلبة قوة المال على أي قوة أخرى.
كذلك من مظاهر التراجع عن المبادئ الإنسانية في عالم ما بعد الحرب الباردة وضع مبدأ »حق الشعوب في تقرير مصيرها« موضع البحث والتساؤل، وجعله مبدءاً نسبياً ظرفياً خاضعاً لتقلب الظروف ولمصالح الدول الكبرى التي تتباين من حال إلى حال ومن حين إلى آخر. ومنها جعل مبدأ الديمقراطية نفسه مبدءاً نسبياً أيضاً يصح في حال ولا يصح في أخرى، وما يتبع ذلك من تفرقة في هذا المجال وغيره، تتزايد لدى الدول الكبرى والدولة العظمى يوما بعد يوم، بين تعامل الدول الكبرى مع شؤونها الداخلية وبين تصرفها في علاقاتها الخارجية مع ما عداها من الدول الأخرى.
ومن مظاهر التراجع كذلك عن القيم الإنسانية التشكيك في مبدأ حق الدول في السيادة على نفسها، والتساؤل عن مصدر هذا الحق ومستنده. ومنها حساب المواقف السياسية استنادا إلى مبدأ »الكلفة والفائدة«، وانتهاج الطريق السياسي الأكثر نفعاً والأقل كلفة (كما في تصلب الولايات المتحدة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، بسبب الكلفة السياسية الحقيقية أو المتخيّلة التي قد تتكبدها). وفي الجملة لعل أبرز مظاهر هذا التراجع عن القيم الإنسانية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن الدول الكبرى والدولة العظمى ورجالاتها ما يزالون يبذلون جهوداً كبيرة من أجل تنظيم الحروب بدلاً من أن يوجهوا تلك الجهود نحو الاجتناب المسبق للعنف والعوامل المولدة للحرب.
5- والأمر أدهى وأمر أن نحن تجاوزنا المسائل المتصلة بالعلائق بين الدول واتجهنا صوب الأمور المتصلة بالحياة المباشرة للإنسان. ومن حقنا أن نفعل ذلك مادام المقياس الحق لأي مبدأ إنساني هو في النهاية واقع الحياة اليومية لكل إنسان.
وههنا نجد أن ذلك الواقع المتمثل في حياة كل فرد يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حتى في البلدان المتقدمة نفسها، بل حتى في الدول العظمى التي تقود العالم: فهنالك البطالة التي تستشري في البلدان المتقدمة والتي تقابلها ملايين الأفواه الجائعة في البلدان النامية. وهنالك – ولاسيما في البلدان المتقدمة – آفات التفكك الاجتماعي التي تتجلى في العزلة وتداعي كيان العائلة والافتقار الشديد إلى دفء التواصل وحرارة الألفة والأُلاّف. وهنالك العلل النفسية التي تستشري والتي تقود إلى الإدمان على المخدرات بأنواعها وإلى تعطيل جانب كبير من طاقات المجتمع الحية. وهنالك آلاف الملايين من الناس في شتى أنحاء العالم ممن يكدون وترهقهم مشقات الأعمال القاسية دون أن يمكنهم ذلك كله من الحصول على الحد الأدنى من العيش اللائق بالإنسان. وهنالك الملايين الذين يبيتون على الطوى ودون مأوى في البلدان المتقدمة نفسها ولا سيما في الولايات المتحدة.
وهنالك الملايين من ضحايا الجوع أو سوء التغذية أو الأمراض في البلدان النامية بوجه خاص، وحولهم حفنة معدودة ممن يقودون الاقتصاد العالمي عن طريق الشركات المتعددة الجنسية بوجه خاص، ويتبادلون يومياً مليارات الدولارات ويديرونها.
وفوق هذا، بل قبل هذا، هنالك الشكوك التي تعصف بالأخلاق وبالقيم والأيديولوجيات على مختلف أنماطها، تلك الشكوك التي تؤدي يوما بعد يوم إلى سيطرة الغرائز الإنسانية البدائية وما تقود إليه من جرائم وإرهاب وجشع ومن شتى ضروب العدوان التي تجعل »الإنسان ذئبا على أخيه الإنسان« على حد قول »هوبس Hobbes «، والتي تتجلى واضحة في سيطرة عصابات المافيا على مختلف أنواعها، وفي هيمنة القلة القليلة من القابضين على أعنة المال والاقتصاد في العالم، وفي تركيز السلطة والمنافع في أيدي 20% من سكان المعمورة فقط ممن يمتلكون 80% من القوة الشرائية في العالم ومن الرساميل العالمية، وفي الدعوة إلى ما يطلقون عليه اسم »حرية التعبير الاقتصادي«.
6- وليس المجال مجال تحليل واقع النظام العالمي القائم. وما قمنا به من لمسات رفيقة لا يعدو أن يكون جزءاً ضئيلاً من مشكلات أهم وأعم. وقد فعلنا ذلك تمهيداً للقصد الأساسي من بحثنا، نعني القيم الإنسانية التي ينبغي أن تسود لمواجهة التردي الإنساني في العالم ودور تربية الكبار في نشر تلك القيم.
ثالثاً – القيم الإنسانية اللازمة لخلق نظام عالمي جديد ودور تربية الكبار في توليدها ونشرها:
1- من الصعب القول أن ثمة قيما إنسانية تستحدث أو في طريقها إلى أن تستحدث في ظل النظام العالمي الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفياتي. فما ذاع وشاع من قيم إنسانية، ذكرنا بعضها، سواء قبل سقوط الاتحاد السوفياتي أو بعده، لا يبقى زيادة لمستزيد. والأمر في نظرنا أمر وضع هذه القيم والمبادئ الإنسانية الكبرى موضع التطبيق، وتوطئتها وتوضيحها بحيث تصلح للتطبيق في الحقبة الراهنة والآتية، وإعادة النظر في أولوياتها، وبيان الشروط اللازمة لصيانتها ونموها وازدهارها.
أهمية جلاء مضمون القيم الخلقية من أجل الاتجاه نحو النظام العالمي المرجو:
2- وأول ما يحتاج إلى توضيح وتوطئة في نظرنا القيم الخلقية. فلقد عصفت بهذه القيم رياح الشك. وتحدث الكثيرون عن ضعف جدوى التبشير بالقيم مهما سَمَتْ، لأن التبشير أو الأمر أصبحا عاجزين عن خلق المواقف اللازمة لمعالجة الواقع الفاسد إلا إذا صحبهما أو حل محلهما حوار عقلي يتناول أمهات المشكلات الخلقية التي تواجه الإنسان اليوم وينتهي إلى اقتناع مشترك بالمواقف »الخلقية« التي يمكن أن يتم تبنيها في مواجهة أي مشكلة.وهكذا نجد اتجاهات محدثة تتحدث عن »الأخلاق اللازمة لعصر الحضارة التكنولوجية«، وتجعل محورها وجوهرها مبدأ »المسؤولية«، على مختلف أشكالها، على نحو ما نُلفي لدى المفكر الألماني »جوناس Hans Jonas (1) «. كما نجد اتجاهات أخرى تنادي »بأخلاق الحوار«، والتي ينادي بها المفكر الألماني »هابرماس Habermas Jurgen(2) « ولا ننسى أن ثمة اتجاهات ومنازع سائدة في أوساط الشباب بوجه خاص في العالم الغربي تنكر وجود الأخلاق والقيم أصلا، وتعتبرهما قيوداً من صنع المجتمع. ومن هنا كانت معالجة المسألة الخلقية من أهم الأمور التي ينبغي أن تعبأ الجهود من أجلها. وهي بالتالي من الأمور التي ينبغي أن تتضح لدى المشرفين على تربية الكبار بوجه خاص وعلى الشأن التربوي بوجه عام.
أهمية توضيح مبدأ العدالة:
3- وفي رأينا أن المحور الذي ينبغي أن يدور حوله الحوار في مجال المسألة الخلقية، هو مبدأ العدالة وما وراءها من مساواة وتكافؤ في الفرص. ولعل جوهر الحقوق الإنسانية في النهاية هو الإيمان بتساوي بني البشر وبأن الناس سواسية وبأن الشعوب متكافئة في الشأن، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود. وقد أفرد المفكر الأمريكي »جون رولز John Rawls « كتاباً ضخماً للحديث عن »نظرية العدالة(3) «. ويعتبر كتابه هذا أهم كتاب معاصر باللغة الإنكليزية حول الفلسفة الأخلاقية والسياسية. ويمثل تحديا لأولئك الذين يعتقدون بأن العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية ضدان لا يلتقيان.
وأياً كان الأمر، يظل مبدأ العدالة أعمق المبادئ صلة بالإنسان، وأقدرها على احترام منازعه الإنسانية وعلى تحقيق ذاته. كما يظل أنجع المبادئ في خلق التلاحم والتراحم والتعاضد بين بني البشر، وفي بناء التعاون الإنساني. ذلك أنه يعني في خاتمة المطاف احترام الإنسان بوصفه إنساناً، وعن هذا الاحترام تصدر سائر القيم الخلقية الجديرة بالإنسان: كالتعاون، والعمل الجماعي المشترك، والبذل، والإيثار والتضحية، والتكافل والتضامن، واحترام القانون والعدل والأحكام، وسواها من القيم التي تعبر عن احترام الإنسان للإنسان، خليفة الله على الأرض، والنظرة إليه نظرة الشريك والند. بل عن مبدأ العدالة تصدر الديمقراطية الحقة، وتأخذ الحرية كامل معناها ومداها. ولا حاجة إلى القول أن مبدأ العدالة يشمل الأفراد كما يشمل الشعوب. وكما أن الخلل في توفير العدالة لأفراد مجتمع ما يقوض سائر القيم الخلقية بل يقوض وجود ذلك المجتمع، فإن الخلل في التعاون العادل مع الشعوب يخلق الاضطراب في النظام العالمي أن لم يولد الحروب والدمار. وصدق من قال منذ القدم: العدل أساس الملك.
أهمية توضيح مبدأ الحق:
4- وعن مبدأ العدالة يشتق مبدأ الحق. وهو – كمبدأ العدالة – مبدأ صادر عن طبيعة الإنسان العميقة. فالإنسان يرقى إلى إنسانيته الحقة عن طريق اجتيازه لمستويات ثلاثة من مقومات بنيانه: مستوى حياته الغريزية المحضة التي يهذبها المجتمع ويشذبها ليرقى بها، ومستوى طبيعته الاجتماعية التي يتلقاها من الإرث الاجتماعي من حوله والتي تعمل كما قلنا على ضبط طبيعته الغرزية من خلال الأقنية التي يرسمها المجتمع وأخيراً مستوى حياته الإنسانية الروحية التي يتطلع من خلالها إلى القيم الإنسانية الكبرى التي تعبر عن حقيقة إنسانيته وتفرق بينه وبين الحيوان. وكما أنه لا يكون إنساناً إذا هو ظل في مستوى حياته الغرزية ولم يهذبه المجتمع، كذلك فهو لا يكون إنساناً بأعمق ما في هذه الكلمة إذا هو لم يرق من المجتمع وبفضل المجتمع إلى القيم الإنسانية الكبرى التي تكاد تكون محفورة في نفس كل إنسان، وأن يكن الوصول إليها يحتاج إلى وعي وجهد. والتعلق بالحق – ومثله الخير – أحد مظاهر هذه الصبوة الإنسانية نحو عالم القيم الإنسانية الكبرى. ومن هنا كان لكلمة »حق« رنين خاص في نفوس بني البشر، وكان الاستمساك به والدفاع عنه بمثابة الأمر المطلق الصادر عن أعمق ما عند الإنسان، وكأنه بذلك شبيه »الأمر القطعي« الذي يحدثنا عنه »كنت Kant «، والذي لا يحتاج إلى تفسير أو تسويغ.
وعن مبدأ »الحق« تصدر مبادئ كثيرة رأينا طرفاً منها في المدخل، منها ما يتصل بالأفراد ومنها ما يتصل بالشعوب، كالحق في التعليم وفي العبادة وفي إبداء الرأي بالقياس إلى الأفراد (وقد اتسعت هذه الحقوق اتساعا كبيرا في العقود الأخيرة)، وكالحق في السيادة وفي تقرير المصير وفي الأمن وفي التقدم بالقياس إلى الشعوب. ومن الحقوق المحدثة إلى حد
ما – بتأثير التطورات التي تمت في السنوات الأخيرة ولا سيما في مجال الإعلام ووسائل الاتصال الجماعية – الحق في الأمن الثقافي الذي يعني اجتناب سيطرة ثقافة عالمية واحدة (أو بعض الثقافات) على ثقافة الشعوب جميعها، مما يؤدي إلى الاستلاب الثقافي وتهديد هوية الشعوب واغتيال العقول والأفكار والأفئدة، ومما يقود، إلى »تسطيح« الثقافات جميعها وردها إلى مستوى واحد وطبيعة واحدة، الأمر الذي يفقد التعاون العالمي غناه النابع من »حوار الحضارات« وتفاعلها تفاعلا متئماً خصيباً.
5- مبدأ العدالة ومبدأ الحق هما في نظرنا إذن المبدءان اللذان ينبغي أن تكون لهما الصدارة في النظام العالمي المأمول. وهما لا يحملان المعاني الإيجابية التي أشرنا إليها فحسب، بل يمثلان الرد الملائم على ما ينحدر إليه الكيان العالمي من تفريط بحقوق الأفراد والجماعات والشعوب ومن تراجع في تحقيق العدالة بين الشعوب بوجه عام وبين الشمال والجنوب بوجه خاص.
ومن هنا كان من واجب المعنيين بالنظام التربوي بوجه عام وبتربية الكبار بوجه خاص أن يعطوا أولوية واضحة لغرس هذين المبدأين وتعزيزهما وتوضيح شأنهما الخاص في مواجهة الوضع العالمي القائم وفي بناء النظام العالمي المرجو.
6- وقد نُحمّل التربية وتربية الكبار فوق ما تطيقان إن نحن لم نعزز جهدهما في هذا المجال بجهود عالمية في شتى ميادين الحياة. ومن العسير أن نوكل إلى تعليم الكبار الاضطلاع بنشر قيم العدل والحق وما يتحلق حولهما إذا كانت المنظمات العالمية الكبرى وعلى رأسها المنظمات السياسية تسير في عكس ذلك الاتجاه. وتظل التربية على أية حال نظاماً فرعياً من نظام كلي شامل قد تسهم في إصلاحه ولكنها لا تصلح بدون صلاحه.
وعلى رأس تلك المنظمات العالمية تأتي هيئة الأمم ومجلس الأمن. وإذا تجاوزنا مطلب الكثيرين من السياسيين والمفكرين الداعي إلى تعديل بنية هذه المنظمات ومهماتها بعد أن عفى عليها الزمن وبعد أن قامت ظروف جديدة، فلا بد أن نقول – على أقل تقدير – أن هذه المنظمات (منظمات هيئة الأمم وفي صلبها مجلس الأمن بوجه خاص) ينبغي أن تبحث بحثاً جديداً في معنى »الأمن الجماعي« الذي ينص على أن الدول جميعها، أو بعضها على أقل تقدير، مدعوة إلى أن تنتصر لأحد أعضائها في حال العدوان عليه وأن تعاقب المعتدي عليه. فلقد استبان من مجرى الأحداث، ولا سيما في يوغسلافيا، أن مبدأ الأمن الجماعي هذا لا يعمل إلا عندما تبدي دولة كبرى استعدادها للقيام بهذه المهمة. وهكذا يسقط مبدأ العدالة في حمأة مصالح الدول الكبرى.
كذلك لابد لهيئة الأمم ومجلس الأمن أن ينظرا بجد في رسم سياسة يكون رائدها استباق الأحداث والحيلولة المسبقة دون وقوع الكوارث والحروب، بدلا من أن يجعل مهمته الثواب والعقاب بعد وقوع كوارث كان من الممكن اجتنابها عن طريق العمل الدولي.
وبوجه عام لابد أن يتجاوز مجلس الأمن (ومن ورائه هيئة الأمم) ما في مواقفه من غموض واضطراب وازدواجية، وأن يحدد أولوياته تحديداً واضحاً. وقد يكون لزاماً عليه أن يبحث بحثاً مستأنياً عميقًا في أساليب التوفيق بين مبادئ إنسانية أربعة: الديمقراطية – السيادة – حق تقرير المصير – الدفاع عن حقوق الإنسان.
دور تعليم الكبار في تحديد معاني وأبعاد القيم الإنسانية وفي رسم أولوياتها:
7- دور تربية الكبار إذن في بث القيم الإنسانية اللازمة لبناء نظام عالمي جديد ينطلق من فهم النظام القائم والمعوقات التي تحول بينه وبين تحقيق القيم الإنسانية وتنميتها ومنحها دفعاً جديداً. ولهذا الغرض وقفنا وقفة قصيرة – ولكنها قد تبدو مقحمة على الموضوع – عند المنظمات العالمية وعند العجز الثاوي في بنيتها وأهدافها.
وتلك مهمة أولى من مهمات تربية الكبار: نعني التوعية بواقع النظام العالمي القائم وبابتعاده الكبير عن تحقيق القيم الإنسانية المكتوبة في دساتير الأمم المتحدة وقراراتها ومؤتمراتها وسوى تلك من نشاطاتها الواسعة.
وتأتي بعد ذلك – في رأينا – مهمة القبض على محور عملية تحديث القيم الإنسانية وتيسير تطبيقها. نعني التأكيد – من قبل المشرفين على تعليم الكبار – على أن منطلق أي حوار حول القيم الإنسانية وحول تطويرها وحول إنقاذها من التردي، الحوار حول مبدأين مترابطين لا يختلف عليهما اثنان، وإن حملا عند التأويل والتطبيق معاني مختلفة بل متباينة ومتناقضة، ونعني بهما مبدأ العدالة (فردية كانت أو جماعية) ومبدأ »الحق« (سواء اتصل بالأفراد أو بالشعوب). وفي رأينا أن أي سعي لبناء نظام عالمي جديد تشيع فيه القيم الإنسانية الجديرة بالإنسان والمولدة للتعاون الدولي الحق، لا يجدي إلا إذا انطلق من إيمان حقيقي بهذين المبدأين وإلا إذا سبقه حوار جاد حول محتواهما وما يترتب عليهما.
وهكذا فإن البحث العميق في هذين المبدأين على نطاق واسع مهمة ثالثة أساسية من مهمات تعليم الكبار. وأهم من ينبغي أن يضطلعوا بهذا البحث والتحليل مدربو مدربي تعليم الكبار، يليهم بالضرورة مدربو الكبار أنفسهم. على أن هذه المهمة كما سنرى ينبغي أن تكون مهمة عالمية تشارك فيها دول العالم جميعها، وقد تكون موضوعاً هاماً للمؤتمرات الدولية أو الإقليمية المتصلة بتعليم الكبار.
8- ولعل الأمة العربية مدعوة بوجه خاص إلى اقتحام هذه المهمة، لما بين التراث العربي الإسلامي وبين القيم الإنسانية من وشائج قلما تتوافر لدى أمم أخرى. وقد كتب الكثيرون عن »حقوق الإنسان في الإسلام« وعن القيم الإنسانية فيه، وتحدث الباحث السويسري المعروف »بوازار Boisard «حديثاً مفصلاً عن »إنسانية الإسلام« في كتاب يحمل هذا العنوان، ترجمته دار الآداب البيروتية إلى اللغة العربية.
9- وأخيراً من تحصيل الحاصل أن نذكر بتلك المقولة العامة وبتلك المهمة البدهية للتربية ولتربية الكبار ونعني بها تعزيز روح النقد والحوار وتكوين الفكر الناقد الفاحص. فتلك مهمة تربوية لا حاجة إلى تأكيدها. ولن نقول جديداً إن قلنا أن تعزيز القدرة على النقد والحوار وتكوين الرأي الحر وسائل أساسية وأدوات لازمة تمكّن الصغار والكبار من مجانبة مواقف الاتباع والتقليد وتقبّل ما يلقى عليهم من أفكار وتجعلهم يسيرون في طريق المساهمة الفعلية في فهم مشكلات العالم ومناقشتها والمشاركة في حلها. لاسيما أننا في عصر يغزو العقول والنفوس، كما سبق أن قلنا، بوسائل جبارة لا يقف في وجهها إلا جبروت العقل الحر الناقد.

رابعاً – خاتمة:
وبعد، هل وفينا الموضوع حقه؟ من العسير أن ندعي ذلك، فالموضوع ذو شجون، وفي المحنة العالمية شؤون وشؤون، وأمر القيم الإنسانية في عصرنا أعجز الكتاب والمنظرين.
وهيهات أن يستطيع تعليم الكبار أن يغير الكثير من واقع متجهم عصّي. ومع ذلك فإن كانت التربية بوجه عام لا تقوى وحدها على تغيير البلاد والعباد، فمن الصحيح في الوقت نفسه أن أي شيء لا يمكن أن يتغير بدونها.
ولا شك أن المربي بوجه عام ومعلم الكبار ومدربهم بوجه خاص يواجهان موقفاً لا يحسدان عليه. فأهم ما يفرضه عليهما واجبهما هو أن يغرسا القيم الإنسانية الصحيحة لدى الناشئة والكبار. ومع ذلك فالواقع من حولهما لا يسعفهما ولا يقدم نماذج فعلية قائمة تشهد على أهمية القيم التي يتوليان غرسها وتعهدها.
غير أن النداء الإنساني حي دائماً. وأعماق الإنسان المشرئبة أبدا نحو ما هو رفيع وعادل وحق وجدير بالإنسان، تظل الوتر الحساس الذي يستطيع المعلم أن يضرب عليه ألحانه. ولا نغلو إذا قلنا أن العالم المبتعد عن معاني الإنسانية يوما بعد يوم، والغارق في حمأة الطين، والضال وسط أدغال المال والسلاح والجنس، يكاد ينكر نفسه، ويكاد يشعر الكثيرون تجاهه بأنه ليس عالمهم. وفي هذا أفصح تعبير عن إكبار الإنسان للقيم الإنسانية حتى حين ينحرها، وعن عجزه بوصفه إنساناً عن أن يحيا في خواء نفسي وفراغ خلقي. ولا أدل على ذلك من أنه كثيراً ما يفر من خوائه وشعوره بإنسانيته المحطمة إلى عالم المخدرات وإلى عالم الملذات العنيفة الآنية والآبقة.
أمام تعليم الكبار إذن، مهما اكفهر الظلام، بل بسبب الظلام، مهمة كبرى في هذه المرحلة الانتقالية التي نرجو أن تقود إلى نظام إنساني حق. لاسيما أن نطاق تعليم الكبار قد اتسع وأن دوره قد اشتد. وهو بحق يكوّن همزة الوصل بين التربية والسياسة، فمن خلاله بوجه خاص تتم التوعية السياسية، ويتم بث القيم والمبادئ الإنسانية، ويتم إشراك الجماهير الغفيرة في صنع حياتهم وبناء مستقبلهم.
وحين نقول أن الأولوية في هذه المرحلة ينبغي أن تمنح لغرس مبدأين كبيرين من المبادئ الإنسانية وتحليلهما واستخلاص معانيهما، ونعني بهما مبدأ العدالة ومبدأ الحق، فإنما نقول قليلاً من الكلم محملا بكثير من المعاني. على أننا لم نخترهما عبثاً أو عفو الخاطر، بل تم اختيارنا لهما من خلال تحليل حاجات النظام العالمي القائم من جانب، ومن خلال الاعتماد على التطلعات الإنسانية الراسخة التي تكون جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان الأزلية الأبدية، من جانب آخر.
وهكذا يتحقق أهم ما انطلقنا منه في معالجة موضوعنا: نعني الواقعية التي تحلل الواقع، الواقع العالمي القائم وأزماته ومشكلاته من جانب، والتي تستند إلى طبيعة الإنسان الحقة وتطلعاته الأبدية من جانب آخر. ومثل هذه الواقعية هي التي نرى أن أي تربية ينبغي أن تصدر عنها، وأن فلسفة التربية للكبار والصغار ينبغي أن تعكسها وتعبر عنها. ومن حسن طالع الأمة العربية أنها ليست في حاجة إلى جهد كبير لغرس مثل هذه القيم الإنسانية، وأن تراثها وتاريخها حافلان بالأمثلة عليها. وهكذا فهي حين تجعلها من أهداف تعليم الكبار ومن أهداف التربية فإنما تستعيد ذاتها وهويتها. وهي حين تجعلها محور الحوار بينها وبين العالم، فإنما تؤكد رسالتها الإنسانية وإيمانها بتفاعل الحضارات وتمازج الثقافات ومسؤولياتها عن نفسها وعن سواها من بني البشر.
أهم المرجع العامة:
(1) H.S. Bhola: Tendanees et Perspectives mondiales de l’Education des Adultes. UNESCO, 1989.
(2) Perspectives. Revue trimestrielle de l’Education. UNESCO. N 55 et N 81.
(3) Quatriéme conférence internationale sur l’Education des Adultes. Rapport final – UNESCO, 1985.
(4) Jane Bowyer: Scientific and Technological Literacy Education for change. Aspecial Study for the World conference on Education for all (Thailand, 5-9 March 1990). UNESCO, January 1990.
(5) Staneley Hoffman: Les Illusions de l’ordre mondial. Esprit (Revue Internationale). N 184, Paris, Août-Septembre 1992.
(6) Hans Jonas: Le Principe de Responsabilité. Traduit de l’allemand. Editions du Cerf, Paris, 1992.
(7) Jürgen Habermas: De l’Ethique de la Discussion. Traduit de l’allemand. Editions du Cerf, Paris. 1992.
(8) John Rauwls: Théorie de la Justice. Traduit de l’Americain, Editions du Seuil, Paris, 1987.