«قراءات في الفكر القومي، الكتاب الأول القومية العربية: فكرتها، مقوماتها»تجديد الفكرة العربية بنقلها من عصبية أقوامية إلى رابطة سياسية نوعية

يتفق المعنيون بالشأن العربي العام أن الشعور الوطني في طول العالم العربي وعرضه تبلور في العقود الأخيرة من هذا القرن عبر مسارين: محلي وشامل.
المسار المحلي تمثل في الانتماء لجماعة كبرى تمد جذورها في التاريخ البعيد للمنطقة العربية. والمسار الشامل تجلى في التعامل مع دولة تستمد قوتها وشرعيتها من تشكيلها عنصراً في نظام دولي، سياسي واستراتيجي واقتصادي، يتجاوز قدرة الفرد وقدرة الجماعة نفسها على فهمه، والتحكم العملي به.
لم تكن مسألة العلاقة بين المسار المحلي والمسار الشامل، أي مسألة العلاقة بين الجماعة والشكل السياسي الذي يدير شؤونها، أي الدولة، تطرح نفسها في الماضي عندما كانت علاقة الجماعة، قطرية كانت أم قومية، بالسلطة علاقة خضوع وخنوع. أما اليوم فالمسألة تطرح نفسها بحدة بعد أن استفاق الوعي وأدرك أن السلطة على المستوى القطري
أو القومي هي تجسيد لإرادة الجماعة، وتمثيل لنزوعها الديموقراطي باتجاه الحرية والعدالة والمساواة.
إن تصور الجماعة، أو لنقل الجماعات نفسها وذاتها والصورة التي تصوغها عن عالمها، ونوعية العلاقات التي تربطها بالطبيعة والسلطة والزمان والمكان، والقيم الأساسية التي تجسد إرثها الحضاري ومخيّلتها التاريخية، هي التي حملتها على صياغة الفكرة القومية في مطلع هذا القرن وهي التي تحملها على إعادة صياغة هذه الفكرة في منتهاه.

حاولت الفلسفة القومية منذ بدايتها أن تكون حجر الرحى في بناء المجتمع والأمة، فانتدبت نفسها لتعيين السياسات العربية جميعاً، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأرسلت أفكارها في كل ناحية وصوب، داعية إلى قيام دولة الوحدة والحرية التي تخلص المجتمعات العربية من أمراضها ومثالبها وعجزها التاريخي، إلا أن هذه الفلسفة التي واجهت في بناء المجتمع والدولة مقاومة النظم والبنى القيمية والمعرفية والثقافية القديمة في مجتمعاتنا، كما واجهت مقاومة النظم والبنى السياسية القائمة على التحلل الأخلاقي والتخلي عن الهوية الثقافية والاقتداء التبعي للدول والمجتمعات الصناعية الغربية المسيطة، تشعر اليوم أمام الانهيارات التي أصابت العالم العربي أنها بحاجة إلى التذكير بطروحاتها، وإعادة صياغة أهدافها الوطنية والقومية الحديثة في الاستقلال والسيادة والتنمية والوحدة والحرية. وهذا ما يقوم به «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت من خلال إصداره الكتاب الأول حول «القومية العربية: فكرتها ومقوماتها».
تتعلق مقالات «الكتاب» بصورة مباشرة «بموضوع القومية العربية، والتعريف بكل ما تنطوي عليه عليه العبارة من معنى: ما القومية العربية، وما معناها، وكيف نقدمها إلى القارئ المبتدئ» وتهدف مقالات الكتاب التي كتبها الرعيل الأول من مؤسسي الفكرة القومية إلى الشرح والإيضاح ونشر الوعي القومي في الفترة الأولى من النهضة القومية، خصوصاً خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. وساهم بشكل ملحوظ في كتابة هذه المقالات، كما ينوّه واضعوه المثقفون القوميون الأوائل في العراق عن طريق مجلة «عالم الغد» ومطبوعات «نادي المثنى» والمثقفون القوميون في سوية، وفي طليعتهم ميشال عفلق، والمثقفون الآخرون وفي مقدمتهم ساطع الحصري.
شرح هؤلاء الكتاب معنى القومية العربية وعالجوا موضوع علاقتها بالمواضيع ذات الأهمية في الوضع العربي كالعلاقة بالإسلام، ومسألة القومية والإنسانية، إلى جانب الاهتمام الذي أولوه لشرح مقومات القومية العربية، وإيضاح خصوصية تلك المقومات مقارنة مع مقومات القوميات الأخرى في العالم.
يكتب ساطع الحصري عن القومية وحقها في الوجود قائلاً: «يتوهم البعض أن فكرة «حقوق القوميات» انتهت من عملها في هذا القرن، ودخلت في أغوار التاريخ، والعالم الآن قد تعدى مرحلة «التنظيم القومي» ووصل إلى مرحلة «التكتل الدولي والأممي». يقول ذلك عدد كبير من المفكرين الأوربيين، ويأخذ عنهم هذا القول – على علاته – عدد غير قليل من الكتّاب والمفكرين في مختلف الأقطار العربية.. ولكن الأمر لم يكن كذلك في البلدان الشرقية بوجه عام، وفي البلدان العربية بوجه خاص.. ولا نغالي إذا قلنا إن هذه الفكرة لا تزال حديثة العهد في هذه البلدان. إنها لا تزال في بدء نشوئها وفي الصفحات الأولى من تأثيرها الفعال. فلا يزال أمامها عمل طويل، سيؤدي إلى انقلابات معنوية وسياسية هامة، في جميع أنحاء الوطن العربي وبين جميع الشعوب العربية».
ويتحدث ميشال عفلق عن الوحدة وعن ضرورتها قائلاً: «الوحدة مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها. يناضل من أجلها، يتابع رسالتها على الأسس الصحيحة، على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب ما يطمح إليه.. وعندما يسعى هذا الجيل ويتابع نضاله من أجلها وينشره في كل قطر فلا شك أنها ستصبح من دون أخطاء وتبعد عنها الأخطار وتزال عنها الشبهات. فالوحدة ليست ترفاً للعرب، فلا يمكن أن يصل القطر الواحد إلى استقرار وإلى تقدم ملموس واستقلال متين ما دامت أقطارنا متفرقة، وما دام الاستعمار يستطيع أن يلعب بنا ويستغل فرقتنا. فالوحدة ضرورة حيوية قاهرة، ولولاها ولولا أهميتها لما تكاتف الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية وخلقوا عقبة كبيرة في طريقها هي إسرائيل».
ويذكر مطاع صفدي أن التجربة القومية انفتاح مثّلت نحو معطيات الماضي، ومعطيات الحاضر، وانفتاح يساير امتداد الحرية والمثل الأعلى في القلق العربي من أجل وجود عربي مشروع. ويشير نديم البيطار إلى فكرة الدولة الواحدة. ويتحدث نقولا زيادة عن العروبة في ميزان القومية، وقسطنطين زريق عن الوعي القومي، والياس فرح عن عنصرية الصهيونية وإنسانية القومية العربية. ويكتب محمد المجذوب عن القومية العربية ومبدأ اصطراع الأضداد، وبديع الكسم عن المثالية والواقعية في التفكير القومي. كما يقدم كتّاب آخرون مساهماتهم، في تعريف القومية وتحديد مقوماتها، وتفنيد علاقاتها بالإسلام والغرب. ويتكلم حسن حنفي عن المخاطر التي تهدد الفكر القومي، وهي التبعية لا الريادة، التبرير لا النقد، الازدواجية لا الصراحة، الإنشاء لا الإخبار، التكرار لا الإبداع، التجميع لا التحليل. ويرد عبد الله عبد الدائم في بحث في عنوان «الإيديولوجيا القومية بين التجديد والترشيد والردّة» على الذين يعتبرون القومية العربية أيديولوجيا مصنوعة أو مقلّدة، أو رومانسية حالمة
أو طوباوية، كما يرد على الذين يشككون بالإيديولوجية القومية وقدرتها على انتشال العرب من عجزهم التاريخي.

يكتب عبد الدائم عن مصدر هذه الأفكار الناقدة قائلاً: «إن مصدر كثير من هذه الأفكار الناقدة يعود إلى انتكاسة الوحدة السورية – المصرية ووقوع كارثة الانفصال، فقد أعقب هذا الحدث الأليم تركيز قوي على أخطاء الوحدة استهدف منه بعضهم تكوين قناعة فكرية بأن أخطاء الوحدة نابعة من صميم العقيدة القومية القائمة إذ ذاك وأنه لا يمكن إزالة هذه الأخطاء إلا بالإقلاع عن تلك العقيدة أو تعديلها في جوهرها أو الخروج منها».
والحال كما يقول المفكر السوري أن كثيراً من الشعوب أصابها الفشل في سعيها القومي، ولكنها لم تيأس، بل إن هذا اليأس قادها إلى مزيد من العزيمة والإرادة في تحقيق مشروعها الحضاري عن طريق الانفصال عن الواقع الفاسد، وتعزيز وحدة النضال وتعبئة الجهود الرسمية والشعبية، ولا يتحقق ذلك كما يقول إلا بإعادة الثقة إلى جماهير الأمة العربية بإمكانية الوحدة، والقضاء من ثم على ذلك التأزم المخيف الذي يخلقه في نفوسهم الصراع بين شعورهم العفوي بأهمية الوحدة وواقعيتها، وبين ما يجدونه في الواقع القائم من ابتعاد عن هذه الوحدة.
إذا كان عبد الله الدائم يرد على الأفكار الناقدة للفكر القومي التقليدي في وجوهه كلها: ابتداء من النقد الذي يعتبر أن الفكر القومي العربي كان ناقلاً للفكر الغربي ولمفاهيم القومية الأوروبية، خلال القرن الثامن عشر، إلى النقد الذي يعتبر الفكر القومي رومانسياً وغير واقعي بدعوته الفورية إلى الوحدة الاندماجية، فإن المفكر العراقي سعدون حمادي يعدد التحديات التي تواجهها الفكرة القومية والوحدة العربية في الآن نفسه، ويعتبر أن من أولى التحديات التي واجهتها الفكرة القومية هي الماركسية التي قدمت نفسها بمثابة حل كامل للمشكلة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع العربي. لكن بريق الماركسية سرعان ما ضعف تحت مجهر الواقع العربي وتلاشى أمام تناقضاته. أما التحدي الثاني الذي تواجهه الفكرة القومية، فهو التحدي الديني المتمثل بالحركات الإسلامية السلفية التي انتعشت بقيام الثورة في إيران. «إن أخطر ما في هذا الاتجاه – على ما يقول حمادي – هو أنه وضع الإسلام في مقابل العروبة كبديل وجعل العلاقة بينهما سلبية بعكس ما كان عليه الحال عند ظهور الإسلام عندما كانت العلاقة في منتهى الإيجابية».
أما الفكرة القومية الحديثة – على ما يضيف الباحث العراقي – فلم تنفعل إزاء السلفية الإسلامية وفهمها الخاطئ لدور الدين، فلم تأخذ موقفاً لا دينياً إلحادياً كما انفعلت الماركسية إزاء رجعية الكنيسة ووقوفها مع الطبعات الغنية المستغلة، كما أنها لم تقلد القومية الأوروبية بإهمالها موضوع الدين إذ أن للدين الإسلامي مكانة خاصة في التاريخ العربي وحياة المجتمع العربي. وبدلاً من كل ذلك اتخذت الموقف الإيجابي الصحيح «فحمت الدين الإسلامي من أخطار التحجّر ومن أخطار الإلحاد، رغم الأوضاع المؤاتية لها من حيث ارتفاع نسبة الأمية والركود النسبي للمجتمع الموروث من عصور التخلف، ورغم الهزات التي حدثت في المنطقة المجاورة».
أما التحديث الثالث الذي يواجه الفكرة القومية كما يقول حمادي فهو واقع التجزئة الذي خلقته جملة من الظروف الداخلية والخارجية، وجعلت منه بديلاً للوضع الوحدوي القادر على أن يحمي الأمن العربي الذي تهدده إسرائيل، والقادر على أن يحمي التنمية العربية التي يهددها التخلف.
كتاب مركز دراسات الوحدة العربية عن الفكر القومي بصفحاته التي تقرب من
900 صفحة يذكّرنا بكتابات مؤسسي هذا الفكر وما فيها من طروحات وتوجيهات تطول المفاهيم والسلوك والمواقف، يذكرنا بأن هذا الفكر في حاجة إلى تركيز أكثر حول مسألة الذاتية والهوية والخصوصيات التاريخية، وأواليات التحكم والسلطة، إذ لا يكفي من أجل فهم اشتغال كينونة ما، سواء كانت فرداً أم جماعة التوقف عند تحليل واقعها الموضوعي، بل يجب الانتقال إلى فهم واقعها الذاتي، أي كيف ينظر – كما يقال – الفاعلون الاجتماعيون والتاريخيون هم أنفسهم إلى نشاطهم، وكيف يعيشون شرطهم الموضوعي، من خلال عناصر لا مرئية عقلانية ولا عقلانية، عناصر تختلط فيها مشاعر الحب والتعاون والخوف والانفعال.