القومية العربية ومستقبل النظام العالمي

شؤون عربية – العدد /74/ – حزيران/يونيه 1993
العرب والنظام العالمي الجديد
القومية العربية ومستقبل النظام العالمي
د. عبد الله عبد الدائم
مفكر تربوي وقومي – دمشق
مدخل
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن انحسار الإيمان بالقومية العربية، وعن الشكوك التي أخذت تعصف بالفكرة القومية نفسها في الوطن العربي. وتناقلت الألسن والأقلام بأن زوال الاتحاد السوفياتي وما رافقه من حرب الخليج هو العامل الأول في ذلك الانحسار وفي تلك الشكوك.
وقد ذهب الكثيرون إلى أن النظام العالمي الذي تكوّن بعد انتهاء الحرب الباردة نظام يرفض، بحكم طبيعته وجوهره، الأخذ بالفكرة القومية أنّى كانت، ويرى فيها أبشع مخلفات النظام العالمي القديم.
وأتت الأحداث القومية والعرقية والدينية في يوغوسلافيا والبلدان الآسيوية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، وفي تشيكوسلوفاكيا، وفي العديد من بقاع العالم، وكأنها تقدم الدليل الملموس والواقعي على مخاطر النزعات القومية، وعلى ما قد تحمله من مآسي التنابذ والفرقة والاقتتال.
وهكذا اعتبر بعضهم العزوف عن الفكرة القومية واللجوء في مقابلها إلى الإيديولوجية الديمقراطية الليبرالية التي اعتبرت مرادفة للنزعة الإنسانية، اتجاهاً محدثاً من جدائد النظام العالمي (الجديد) وإفرازاته.
غير أن المسألة في نظرنا غير ذلك كله، لأسباب عديدة نكتفي بذكر أهمها.
أولاً – أين هو النظام العالمي الجديد؟
أول هذه الأسباب، ولعله أخطرها، أننا لسنا أمام نظام عالمي جديد (وهو قول غدا مكروراً). وكل ما في الأمر أن العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة بوجه خاص، بل قبلها كما سنبين، تائه في سفينة لا قرار لها، يتلمس في زعمه طريق الخلاص، طريق بناء نظام عالمي جديد، فلا يفلح، لأنه يريد أن يفعل ذلك دون أن يغير منطلقاته التقليدية، الأنانية والعدوانية. والدولة القوية التي تود قيادة العالم لا تملك حتى ما يسمح لها بالسيطرة عليه، إذ تملك القوة ولا تملك المال، فضلاً عن أن تملك الأسس والقواعد والأنظمة والمعايير والقيم السليمة التي تتيح لها أن تجعل تلك القيادة قيادة إنسانية حقاً. بل إن هذه الدولة تبدو عاجزة حتى عن بعض الضبط للفوضى المستشرية في شتى بلدان العالم، لإصرارها على مداواة الداء بالداء.
ثانياً – الحِمَى القومي في مواجهة البحران العالمي
ومن هنا فإن الموقف الطبيعي لكثير من الأمم، أمام بحران النظام العالمي وضياعه ومخاطره، وأمام زيادة سلطان الدول العظمى وتكالبها على الدول الصغيرة والضعيفة، ولاسيما في العالم الثالث، هو الاحتماء بهويتها الذاتية وتحقيق التماسك القومي الذي يقيها شر الأخطار، وييسر لها سبل الخروج من ضعفها وتخلفها. ويصدق هذا بوجه خاص على الأمم التي تجمع بين أبنائها لحمة متينة من الثقافة الواحدة والتاريخ المشترك والأصول المتشابهة والأهداف المتحدة، كما هي الحال فيما يتصل بالأمة العربية التي ما اجتمع لأمة مثل ما اجتمع لها من مقومات الوحدة ومبرراتها.
ولا أدل على هذه الحقيقة التي أصبحت بدهية، من أن الدول المتقدمة نفسها تسعى إلى مواجهة ما قد يحمله النظام العالمي المقبل من تهديد لها ولمصالحها، عن طريق الالتئام فيما بينها وتحقيق مزيد من التماسك والتعاون المثمر، على نحو ما نجد في اتحاد أوروبا، وفي اتحاد الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وعلى نحو ما تشير إليه الأحداث من مخاض تحالفات جديدة وضروب من التعاون بين دول شرقي آسيا بوجه خاص، بل حتى بين بلدان آسيا الوسطى الخمسة التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي.
ثالثاً – سلطان اقتصاد السوق
وفوق هذا كله، بل قبل هذا كله، علينا أن نتذكر، ونحن نحلل الوضع العالمي القائم، أن ثمة اتجاهات كبرى تحكمه منذ سنوات عدة، وقبل نهاية الحرب الباردة بعقد من السنين على أقل تقدير، ولعلها وراء سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه. ونعني بتلك الاتجاهات النظام الذي فرضه منطق اقتصاد السوق على العالم، والذي يشتد ساعده يوماً بعد يوم، ويكاد يقف عقبة حقيقية في طريق توليد نظام عالمي جديد، جدير بالإنسان. فالدول التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية (وعلى رأسها الدول المتقدمة)، تفقد شيئاً بعد شيء أسباب سيادتها أمام إرادة القوى الاقتصادية العالمية الكبرى. والعالم كله يكاد يصبح أمام سلطة جديدة – غير سلطة الدولة ومؤسساتها الديمقراطية – هي سلطة الممسكين بزمام المال وما يرتبط به من سلطة السوق الاقتصادية الحرة، وما يؤيدها من سلطان القوة العسكرية.
وهكذا يدخل رأس المال المتعدد الجنسيات في صراع مع كيانات الدول، وتكاد تخضع النشاطات الاجتماعية والإنسانية في أي بلد (ومعها الإنسان نفسه) لقوانين الاقتصاد العالمي، يوماً بعد يوم. وهذه الظاهرة تحدث انقلاباً في المبادئ والمؤسسات التي تحكم المجتمعات الإنسانية، بل تضعها موضع التساؤل.
ولن نفصل الحديث أيضاً عن هذه الظاهرة التي غدت معروفة، وإن لم تتضح أبعادها كاملة للمعنيين بالنظام العالمي(1). وحسبنا أن نقول في وصفها إن آلاف مليارات الدولارات التي هي نتاج عمل أبناء الإنسانية ومدخراتها يضبطها ويديرها طغمة (تَخفَى حتى على الاختصاصيين والممتهنين) من ذوي السلطة المالية الذين لا يستندون في سلطتهم هذه إلى أي تفويض ديمقراطي. وثمة أكثر من ألف مليار من رؤوس الأموال العائمة، التي تفوق احتياطي أي عضو من أعضاء الدول الصناعية السبع، تنتقل من يد إلى أخرى كل صباح.
ومثل هذه السلطة ليس لها نظير في التاريخ. وهي سلطة غدت فوق الدول وفوق البرلمانات وقراراتها، وتكاد تؤدي يوماً بعد يوم إلى زوال الدولة، بعد أن تم إبعادها عن كثير من مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، وبعد أن أصبح المتحكم في هذه المجالات تلك الطبقات الأوليفارشية (المالية) المخيفة.
ولا حاجة إلى أن نقول بعد هذا كله إن هذه الطبقة الحاكمة الجديدة وغير المنظورة هي التي تكمن وراء المواقف السياسية للدول المختلفة، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومن هنا تأتي أهمية دور الكيانات القومية الكبرى، ولاسيما في البلدان النامية، في مواجهة مخاطر عالم تائه تسوده عبادة «العجل الذهبي»، وتسرح فيه قوى المال، وتحل فيه محل «المادية التاريخية» التي زالت بزوال الشيوعية، «المادية» وحدها، محطمة قيم الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وكل ما يمت إلى الإنسانية بصلة.
رابعاً – معالجة المسألة القومية تالية لصياغة النظام العالمي لا سابقة لها
ولعلنا نجمل هذا كله إن قلنا إن النظام العالمي الذي أعقب الحرب الباردة يريد أن يتصدى لمسألة القوميات، بل أن يقطع ببطلان الفكرة القومية ويندد بمخاطرها، قبل أن يغدو نظاماً عالمياً كاملاً تحكمه مبادئ إنسانية عالمية ثابتة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يزال النظام العالمي عاجزاً عن توضيح السبل العملية التي يود أن يسلكها لتطبيق ما ورد في شرعة حقوق الإنسان من مبادئ أساسية، على رأسها مبدأ السيادة القومية، ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومبدأ احترام حقوق الإنسان، بل إنه لم يثبت فعلاً إيمانه بمثل هذه المبادئ التي يزعم أنها موطن الخلاف الحاسم بينه وبين الاتحاد السوفياتي سابقاً، الأمر الذي يفترض أن تكون العمود الفقري للنظام الجديد. ومن الواضح أن الموقف السليم من الكيانات القومية المختلفة في العالم ينبغي أن يكون، من حيث الأصل والجوهر، منطلقاً من مثل هذه المبادئ الخاصة بالعلاقات بين الدول كما وردت في شرعة حقوق الإنسان، ومن إيجاد صيغ فكرية وعملية جديدة توفق بينها. فلا بد، أولاً وقبل كل شيء، من التوفيق بين مبدأ السيادة القومية ومبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولا بد من التوفيق بين الديمقراطية في الداخل (ولاسيما داخل الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة) وبين الديمقراطية في الخارج (ولاسيما في التعامل مع بلدان العالم الثالث والبلدان الضعيفة والفقيرة). ولا بد من التوفيق بين مفهوم «الأمن الجماعي» العالمي (على نحو ما يطبقه مجلس الأمن بوجه خاص بتوجيه من الدول الكبرى) وبين التدخل في شؤون الدول الأخرى. وغير ذلك كثير.
إن ما يحدث الآن، كما نشهد ونرى، ليس سوى ردود فعل آنية ظرفية، لا تنطلق من مبادئ متفق عليها ومن حلول شاملة، بل تختلف باختلاف المواقف والبلدان ومصالح الدول العظمى ومن يسير في فلكها. أما النظام العالمي الجديد المزعوم فليست هنالك مؤشرات تشير إلى اقتراب موعده. والطريق إليه – في نظرنا – ينبغي أن يكون البحث الجاد عن نظام يحقق لكل أمة من الأمم مبادئ خمسة متوافقة متكاملة: الديمقراطية والعدالة والسيادة وحق تقرير المصير والدفاع عن حقوق الإنسان أنّى كان.
إن الانطلاق من مبادئ عالمية إنسانية متكاملة هو وحده الذي يجلعلنا نملك القدرة على التفريق بين الكيانات القومية السليمة وبين الكيانات القومية العدوانية، وعلى التمييز كذلك بين النزعات القومية التي تؤدي إلى تفكك الدول وانفراطها وبين النزعات القومية الجامعة الموحدة.
خامساً – النظام العالمي في منطلقاته الحالية عاجز عن توليد سواه
غير أن المسألة كلها أن النظام العالمي – في بنيته الحالية – عاجز، بل غير راغب في بناء مجتمع إنساني تسوده المبادئ الثابتة المتصلة بحقوق الدول والأفراد على نحو ما ذكرنا. أفلا يضع الكاتب أندريه فونتين(2) عنواناً لمقاله الذي كتبه في وداع العام المنصرم: «العام 1992، عام الفوضى والتدخل»؟ أفلا يبين أن العالم يتجه نحو الفوضى، بخطى وئيدة ولكنها أكيدة؟
ويرجع هذا، في نظرنا إلى العوامل التالية بوجه خاص:
(أ) تعدد القيم في العصر الحديث وتنافرها وغموضها وتناقضها، بل غيابها في كثير من مجالات العمل الإنساني، جنباً إلى جنب مع تزايد مخاطر قدرة الإنسان حين لا يضبطها ضابط، في مجال البيئة والطب والبيولوجيا وعلم النسل والتقدم التكنولوجي وسوى ذلك. ويرتبط بهذا العجز القيمي تراجع «مبدأ المسؤولية» الذي يحدثنا عنه طويلاً «هانس جوناس»(3) والذي يعتبره أهم مبدأ أخلاقي في عصر التكنولوجيا.
(ب) قيادة التكنولوجيا العشوائية للإنسان ولنشاط الإنسان وحتى لأهدافه. تلك التكنولوجيا التي حدثنا عنها «نيقولا بردئيف Nicolas Berdiaeff» منذ ثلاثة أرباع قرن، والتي حذرنا من مخاطر سيطرتها قائلاً: «إن فكرة التقدم التكنولوجي الذي لا حد له ولا أهداف محددة تضبطه تحيل كل جيل إنساني، وكل فرد إنساني، وكل عصر من عصور التاريخ، إلى وسيلة أو أداة للوصول إلى غاية نهائية: هي توفير الكمال والقوة والسعادة للأجيال الإنسانية القادمة التي لن يكون لأحد منا نصيب فيها». وهكذا نصل، بسبب هذا التقدم التكنولوجي الأعمى، إلى مجتمع تقني يطرد يوماً بعد يوم عدداً متزايداً من الناس، وإلى تزايد في الإنتاجية على حساب اليد العاملة التي طردت من جهاز الإنتاج، وإلى تكاثر الآلات والأجهزة التي تزداد يوماً بعد يوم، والتي ينال خيرها حفنة من بني الإنسان، وإلى ما يدعوه «جيمبل Gimpel»، انطلاقاً من أمثلة محسوسة، «نهاية المستقبل»(4).
(جـ) عبادة المال وتكدسه في أيد معدودة ومؤسسات محدودة كما سبق أن رأينا، وانطلاق التنافس الشرس فيما بين الأفراد وفيما بين الأمم من أجل الحصول عليه. الأمر الذي أدى حتى إلى شل إرادة الدول نفسها، وعلى رأسها الدول الكبرى، والحيلولة بينها وبين أي سياسة اقتصادية تعارض مصالح الطبقة الأوليفارشية المتسلطة ولو بمقدار. أو لم تلوّح أوساط هذه الطبقة للرئيس الأميركي «كلينتون» منذ انتخابه بأنها له بالمرصاد، وأنها ساهرة على إعادة الاقتصاد إلى مجراه الطبيعي، لاسيما فيما يتصل بخفض الأسعار ورفع معدلات الفائدة على سندات الخزينة الطويلة المدى؟
وهكذا يكاد يكوّن اجتماع هذه الأبالسة الثلاثة، نعني: تنافر القيم، وسيطرة التكنولوجيا التي لا ضابط لها، وعبادة المال، العمودَ الفقري للحضارة العالمية، ومنها ينطلق إبليس الأبالسة، نعني سلطان القوة والسيطرة على العالم عن طريقها، وتسخير كل شيء لصالحها، وتحطيم الإنسان والمجتمعات والدول التي تقف في سبيلها.
سادساً – روح الحوار والتواصل بين الأمم هي سبيل الحل
ولا يكفي أن نقول إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يكون إلا بتجاوز هذه الشرور الكبرى. فهي شرور غدت بنيوية متعضّية في صلب تكوين المجتمعات المتقدمة ومسيرتها. وهي، بالتالي، في نمو ذاتي متزايد مستمر. والعمل الإنساني المشترك وحده، الذي يستطيع أن يشق طريقه بصعوبة رغم العوائق والشرور المقيمة التي أتينا على ذكرها، هو الذي يستطيع، تدريجياً، أن يحقق نقلة فعلية من نظام عالمي لا بد أن يزول إلى نظام عالمي جديد لا بد من السعي الدائب والعسير من أجل ولادته التدريجية.
وقوام مخاض النظام العالمي الجديد في رأينا هو القبول «بأخلاق الحوار» على حد تعبير «يورجن هابرماس»(5) في كتابه الشهير «نظرية العمل التواصلي». وفي الآية الكريمة «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا».
فتعميق روح الحوار والتواصل بين التجارب الإنسانية المختلفة وبين بني الإنسان أهم ما يمكن أن يمهد السبيل لولادة نظام عالمي جدير بالإنسان، قادر على تعبئته من أجل رسالة إنسانية حقة.
وليس المجال مجال البحث في سبل توليد النظام العالمي الجديد ومقومات بنائه. والذي قصدنا إليه من وراء هذا التريث عند بعض مشكلات النظام العالمي، أن ندرك أن مسألة القوميات ليست في مثل البساطة التي يتحدث عنها بعض المفكرين والسياسيين في الغرب، حين يظنون أن الروح القومية من أهم المخاطر التي تواجه النظام العالمي. بل العكس هو الصحيح. ذلك أن معالجة مشكلات العالم الخطيرة التي أشرنا إلى أهمها، عن طريق التواصل والحوار، يفترض، أولاً وقبل كل شيء، أن تكون الكيانات القومية وما تحتوي عليه من ثقافات تميزها أداة الحوار وصلبه. ولقد دعا الكثير من المفكرين في العالم منذ سنوات بعيدة إلى «الحوار بين الحضارات»(6). ورأوا في الإرث الحضاري القومي الذي تملكه أي أمة ذات حضارة عنصراً هاماً من عناصر بناء الصرح الحضاري العالمي، وعاملاً هاماً من عوامل إخصاب التجربة العالمية وإغنائها وإبداعها. والحوار الحضاري بين القوميات، إلى جانب شأنه الثقافي الذي لا يمتري فيه أحد، ذو شأن سياسي هام، فهو أداة التقارب العالمي، وهو سبيل بناء عالم إنساني متكامل متعاون.
لقد قرر الكاتب الأميركي «ستانلي هوفمان»(7) – كما قرر سواه – حقيقة موضوعية، حين قال إن القومية هي الأيديولوجيا الشاملة الوحيدة التي ظلت حية بعد انهيار الشيوعية. ولئن كانت هذه الحقيقة لا تروق للكاتب، فإنه يعترف بأن ما سواها لا يزال وهماً، وان النظام العالمي الذي يتجاوزها لم تستبن مقوماته بعد، ولا نعثر على ما يومئ إليه.
سابعاً – ما يجري في العالم حجة إلى جانب مبدأ القوميات لا حجة عليه
وهكذا نستطيع أن نوجز ما نود قوله بان نبين أننا لا نجد في النظام (أو اللانظام) العالمي الذي ولد بعد الحرب الباردة أي حجة تنهض ضد مبدأ القوميات. والعكس هو الصحيح: فجانب كبير من الفوضى السائدة في العالم مردها إلى أن النظام العالمي الذي جاء بعد عام 1945 والذي زال اليوم، لم يعالج مشكلة القوميات من الزاوية الصحيحة، بل طمسها وتجاهلها وقتلها أحياناً. ويكفي أن نذكر الكيد الشرس الذي كاده الاستعمار الغربي للقومية العربية، وعداءه الموصول لأي تقارب بين أبناء الأمة العربية، وتمزيقه أوصال الأرض العربية، وخلقه كيانات مجزأة بل مفتتة حتى داخل الدولة الواحدة (كما حدث أيام الانتداب الفرنسي يوم جعل المستعمر، في فترة من فترات حكمه، من كل محافظة سورية دولة: كدولة حلب ودولة اللاذقية ودولة دمشق ودول جبل العرب الخ…). وكثيراً ما ننسى أن الوحدة التي ناضلت من أجلها سورية في تلك الفترة كانت هي وحدة سورية!.
وحتى اليوم، لا يزال هدف الأهداف لدى الغرب (ومن ورائه إسرائيل) تمزيق الأمة العربية وجعلها دولاً تصطرع، وطوائف تحترب، ضماناً لمصلحته وأمنه وأمن إسرائيل.
إن قيام تعاون حقيقي وتكامل فعلي وتوحيد تدريجي عملي وطوعي بين الدول العربية، انطلاقاً من إيمانها العميق بهويتها الذاتية والمشتركة وبأصولها التاريخية والثقافية الواحدة وبمصيرها المتضامن ومستلزمات بناء مستقبلها وحضارتها، هو السبيل المثلى لمشاركة الأمة العربية في بناء عالم جديد متضامن.
والدول المتقدمة، كما قلنا في أكثر من موضع، تسعى إلى كيانات كبرى متضامنة متحدة، رغم عدم توافر سائر عناصر الوحدة فيما بينها، ورغم افتقارها إلى اللحمة الثقافية المشتركة. وها هي ذي أوروبا تحاول أن تتوحد، وتدرك أن كيانها الموحد لن يثب أمام النزعات القومية في البلدان المختلفة التي تكوّنها إلا إذا انطلقت من الوحدة الاقتصادية إلى الوحدة الثقافية، وأكدت يوماً بعد يوم أن لها ثقافة مشتركة هي الثقافة الأوروبية، الثقافة اليهودية المسيحية كما يقولون.
ونحن في البلدان العربية، تجمع بيننا، أولاً وقبل كل شيء، لحمة الثقافة العربية الإسلامية، التي هي ثقافة أبناء الأمة العربية مهما تكن ديانتهم. ومن خلالها، وعن طريق تنميتها وتعهدها بالرعاية، لا نوثق عرى الوحدة فيما بين أبناء الأمة العربية فحسب، بل نقدم زاداً حضارياً نحاور به الأمم الأخرى، ونتفاعل معها عن طريقه في سبيل بناء مجتمع إنساني يمدّ جذوره إلى القيم التي تشتمل عليها ثقافتنا، كما يمدها إلى القيم التي تسود في الحضارات الأخرى.
لقد كانت العروبة، منذ نشأتها بعد ظهور الإسلام، موئلاً للقيم الإنسانية الرفيعة، وأداة للتعاون وللتراحم بين الشعوب المختلفة. وعندما انطلقت نزعة القومية العربية منذ أواخر الحكم العثماني، أكدت منذ البداية، وعبر تطورها المديد، أنها قومية إنسانية، تلتحم فيها الأهداف القومية والأهداف الإنسانية، بل تتم عن طريق الإغتذاء بقيمها تغذيةُ التعاون والحوار والتفاعل بين الأمم المختلفة، وبناء مجتمع إنساني متعاون متضامن. ولم تحمل القومية العربية يوماً ما نزعات عدوانية، كما لم تزعم أنها متفوقة على سواها من القوميات.
ثامناً – الحوار بين القوميات سبيل النظام العالمي الإنساني الجديد
وهكذا ننتهي، في خاتمة المطاف، إلى القول إن البحث عن نظام عالمي جديد لا يكون إلا عن طريق الحوار بين القوميات المختلفة ومن بينها القومية العربية، من أجل الاتفاق على صيغة من التعاون والتضامن، تقوى على التغلب على آفات النظام العالمي القائم وما يشيعه من فوضى، وما يولده من عداء وخصام، وما يسوده من صراع وتسابق وتنافس على السلطة والمال. ويكون ذلك، بوجه خاص، عن طريق إيجاد صيغة توفّق بين مطالب خمسة، كما سبق أن ذكرنا: الديمقراطية والعدالة والسيادة وحق تقرير المصير والدفاع عن حقوق الإنسان.
إن مجتمعاً عالمياً لم يستطع أن يوفر هذه المطالب، بل خاصمها في معظم الأحيان،
لا يحق له أن يطلق أحكاماً مسبقة على مسألة القوميات، ناسياً أو متناسياً أن مثل هذا البحث في مبدأ القومية ينبغي أن يكون جزءاً لا يتجزأ من صيغة تعاون شامل يتم بين الأمم، وتتوافر فيه المطالب الخمسة التي أشرنا إليها. بل نحن نزعم أن البحث عن النظام العالمي الجديد يضيئه نور جديد يحلل بدقة وعمق، وبنظرة تاريخية ومستقبلية فاحصة، معنى القومية والأسباب التي تؤدي إلى عمق جذورها في حياة الأمم. وما يفعله النظام العالمي اليوم هو العكس تماماً: إنه يرهب القوميات، ويضطهدها على شاكلته، ويقف منها مواقف تتغير بتغير حاجاته وأهدافه، فيزيدها بذلك التصاقاً بجلدتها، ويجعل من المحتم عليها أن تحتمي من مخاطر النظام العالمي القائم بالالتفاف والتقوقع على ذاتها، وباللجوء إلى ما تقدمه لها هويتها الذاتية من وقاية وحماية.
ولئن كانت أصداء القوميات العادية المستعدة التي عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (وعلى رأسها النازية والفاشية) ما زالت ترنّ في مسامع أهل الغرب، وتجعلهم ينفرون من الكلمة نفسها أحياناً، فلقد آن الأوان لتبديد هذا الخلط الخاطئ، ولإدراك المعاني الحقيقية للقومية، ولاسيما في بلدان العالم الثالث. وكما قلنا ونقول، لا بد من دراسة تاريخية في معظم الأحوال. ومثل هذا التقري لتاريخ الحركات القومية يكشف لنا على نحو واضح، كيف أن الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا وسواها من بلدان العالم المتقدم لم يستقم أمرها ولم تكوّن حضارتها إلا من خلال سعي متصل وشاق في سبيل بناء الوحدة القومية في كل منها(8). وحسبنا مثالاً صارخاً على ذلك نشأة الولايات المتحدة نفسها(9).
ولئن كانت الحركة القومية العربية المعاصرة قد اضطرت إلى أن تلبس لبوساً عدائياً، في كثير من الأحيان، ضد القوى الأجنبية الغازية، فما ذلك إلا بسبب معاداة هذه القوى لأي عمل وحدوي قومي، وبسبب الكيان الصهيوني الذي فرضته على الأمة العربية، والروح القومية العدوانية التي تبدت وتتبدى دوماً لدى ذلك الكيان. بل لا أدل على قوة المشاعر القومية العربية وعمق جذورها من مثل تلك الوقفات الشامخة التي تقفها دوماً عندما يهددها الكيان الصهيوني أو عندما تواجه السلوك المتسلط للدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومثل هذه المشاعر القومية المتأججة أيام المحن، هي البرهان العكسي كما يقول المناطقة على أن المسألة القومية، لدى العرب وسواهم، مسألة عالمية كبرى، ينبغي حلها في إطار صيغة جديدة للعلاقات بين الدول العربية، وأن السبيل المثلى للتعلى للتعامل معها هي سبيل الحوار الإنساني العادل كما قلنا ونقول. وكل معالجة أخرى لمسألة القومية العربية جهل أو تجاهل. وهل يقبل العرب وغير العرب أن يكون معنى النظام العالمي الجديد، كما يقول «ميشيل جوبير Michel Jaubert»، أن توضع الأمة العربية والعالم الإسلامي والعالم الثالث تحت الوصاية. على نحو ما تتبدى عليه الأمور حتى الآن؟.
خاتمة
هل يحق لنا بعد هذا كله أن نقول إن معالجة المسألة القومية في هذه الحقبة الجديدة من تاريخ الإنسانية تعني معالجة بنية النظام العالمي بكامله؟ بل هل يحق لنا أن نقول، فوق هذا، إن معالجة مشكلات النظام العالمي الجديد تبدأ انطلاقاً من الاعتراف بشأن القوميات، ومن الحوار معها من أجل بناء مجتمع إنساني متضامن؟. وإلا فما البديل؟. هل يكون البديل تزايد الصراع والعدوان بين الدول المستقلة المختلفة، والعودة إلى القرون الماضية، يوم كانت دول أوروبا تحترب، ويوم كانت ولايات أميركا الثلاث عشرة تصطرع، ويوم كان العالم ممزقاً في كل مكان؟. لا بديل، حين تزول اللحمة القومية التي تجمع بين الشعوب، وحين يحل اضطهاد القوميات محل الحوار معها، إلا التفتت والاحتراب، والسير في عكس اتجاه الحضارة الإنسانية المنشودة.
والأمة العربية، التي أثبتت حيويتها وأصالتها دوماً، لا بد أن تسهم في بناء هذا العالم الجديد، عالم الحوار بين الأمم. ولا بد أن تبشر بهذا المنهج، ولا بد بالتالي أن تسير يوماً بعد يوم بخطوات متسارعة مطمئنة نحو التضامن والتكامل، تمهيداً لبلوغ أعلى مراتب التوحيد في شتى مجالات حياتها. وهي بذلك، تمهد الطريق أمام مستقبلها ومستقبل الإنسانية في آن واحد، وتمسك بزمام طاقاتها وقدراتها ومصيرها ومستقبلها الحضاري. وهذا كله يفترض تمتين الأواصر الثقافية وتوحيدها بين أبناء الأمة العربية جميعاً، والتفافهم حول غايات موحدة و«كلمة سواء». قوامها الإيمان بالقومية العربية الملتحمة التحاماً عضوياً عميقاً بالتراث العربي الإسلامي.