تحية إلى الثانوية التي ما زلت أنهل من عطائها

لعل تضخيم الأشياء هو أبرز مظاهر الحياة النفسية للطفل واليافع. فأبعاد المشاهد والرؤى تتجاوز قدرها ومقدارها، وصفات الناس من محاسن أو مثالب تجأر صارخة. ودفق الحياة المتوثبة العامرة بالفضول وحب المعرفة تشحذ زناد البصر والبصيرة، حتى لكأن الطفل واليافع يريان العالم من خلال مجهر فسيح الأبعاد.
من خلال هذه العين النهمة والمخترقة للحدود، أذكر السنتين اللتين قضيتهما في المدرسة السلطانية (المأمون حاليّاً) بحلب.
قضيتُ الصف السابع والصف الثامن فيها (أي ما يعادل الأول والثاني من المرحلة الإعدادية اليوم) وكان لي من العمر (13 – 14) سنة.
ما تزال الثانوية تبدو لمخيلتي قصراً منيفاً من طابقين، أجمل ما فيها مدخلها وباحتها التي أتصورها أشبه بملعب كبير جداً، والتي يقوم مسجد المدرسة في زاوية منها، وبالقرب منه بائع يختلف إليه الطلاب زرافات ووحداناً يبتاعون بعض الشراب أو الشطائر أو الحلوى.
وقد كنت في تلك الفترة التي قضيتها هنالك طالباً داخليّاً، يطيب لي الطعام حيناً وأعافه حيناً آخر، وأوثر عليه شطائر البائع. وكان أشق ما أعاني منه في حياتي، كطالب داخلي، النهوض المبكر عند الفجر مع الوضوء بالماء المتجمد تقريباً أيام الشتاء. وكانت أصابعي وأصابع رفاقي تتشقق من فرط البرد. ومع ذلك كان لساعات البكور جمالها وجلالها وصحوها الذهني النقي الذي ييسر لنا الدراسة، كما كان لطعام الإفطار الباكر مذاق خاص، لا سيما بعد الجهد وفعّالية البرد والصقيع.
أما أترابي في الدراسة، فكانوا نخبة طيبة من حلب ومن أقضيتها، أذكر منهم عطا النيال وميشيل عبود، وخالد علوان، وأديب سيرجية، وسواهم. ومن الذين كانوا يتقدموننا في سنوات الدراسة تشدّني الذكرى إلى المرحوم عبد المنعم شريف وإلى مصطفى رام حمداني، وكان أعدى من الشنفرى: كان يتدرب على العدو لمسافات طويلة، وأذكر أنه أخبرني يوماً بأنه أصبح قادراً على العدو يوميّاً مسافة تبلغ ثمانية كيلو مترات.
وأن أنسَ لا أنسَ عبد السلام العجيلي الذي كانت صناعة الأدب تداعبه منذ ذلك الوقت المبكر، حتى كان من أمره أن أصدر مجلة أدبية طلابية كنا جميعنا فخورين بها، وكنا نجد في قراءتها وفي الكتابة فيها أحياناً متعة ولذة.
كانت أجمل أحاديثنا، نحن الطلاب الداخليين في المدرسة، بعد العشاء وقبيل الوقت المخصص للدراسة. إذ كنا نتحلق حول المدفأة، نتبادل الأخبار، ويتحدث الكبار بيننا عن فتيات حلب، وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى الأدب المكشوف الذي يجعلنا نطرق حياء، نحن الأصغر سناً. وأذكر فيما أذكر أن أشعار الشاعر محمد الفراتي رحمه الله كانت سائرة على الألسن،
لا سيما ما كان منها ماجناً، وهو قليل.
أما أساتذتنا في تلك الفترة فكان على رأسهم مدير الثانوية وهبي الوفائي، الذي كان مثالاً مجسداً لصورة المدير ذي الهيبة والوقار. أذكر أن مقعدي كان خلفه في إحدى الحفلات الطلابية، وقد جلب نظري أن رأسه لم يهتز قيد أنملة أثناء الحفلة كلها، وأن شرابة طربوشه لم تتمايل ولو للحظات.
ومن الأساتذة الذين تركوا في نفسي انطباعات بينة الشيخ أمين كيلاني رحمه الله، أستاذ اللغة العربية، وقد كان فذاً في علمه وإتقانه لعلوم العربية،كما كان مثالاً يحتذى في الخلق والدماثة. وهو والد الصديق الدكتور هيثم كيلاني. ومنهم المرحوم الشيخ جميل العقاد أستاذ التربية الدينية، الذي كان ذا طبع حار، يهدر حين يتكلم كالنهر المتدفق، وكثيراً ما كان يتصبب عرقاً. وكان من فضائله حفظه لمئات الشواهد في كل ميدان، شعراً كانت أو نثراً، وما زلت أحفظ الكثير منها.
ومن أولئك العلماء الذين أفدت منهم علماً وأسلوباً وأدباً، أنيس هندية أستاذ التاريخ الطبيعي، وقد دربنا على اصطياد الحشرات من البراري بواسطة شبكة نصنعها، ومن ثم على تحنيط تلك الحشرات وتكوين مجموعة منها في صندوق زجاجي. وهكذا حبّب إلينا التاريخ الطبيعي (وكان دراسة جافة تعتمد على الذاكرة) لأنه جعل منه علماً حيَّاً.
كذلك كان بين أساتذتنا في اللغة العربية المرحوم الدكتور أسعد طلس، كان يطيب لي أن أطلعه على بعض ما أكتب، ولا سيما بواكير ما كنت أقرزمه من الشعر، كان يقرأ ذلك بإمعان، ويلقى طلبتي بابتسامة فيها الإشفاق والأمل مجتمعين.

ومن أساتذة الرياضيات القديرين عرفت نور الدين الحمصي، وكان قمة من القمم في ميدانه، كما كان واسع الصدر، يبذل وسعه من أجل إفهام الطلاب مالاً يفهم أحياناً. بل إني عرفت بين الأساتذة المرحوم الدكتور جورج حداد، غير أني لم أعرفه مدرّساً للتاريخ، بل عرفته مدرّساً للغة الإنكليزية. وكان ذلك حين صدر قرار وزير المعارف إذ ذاك المرحوم عيد الرحمن الكيالي بتعليم لغة أجنبية ثانية في المدرسة الثانوية. وأذكر أنه وطأ لنا دراسة اللغة الإنكليزية بالاستعانة بسلسلة الكتب المبسطة ذات المراحل المتدرجة. وكان أولها قصة عن الصبي الذي مضى إلى الصين للبحث عن مصباح.
ولابد أن أذكر أستاذ الرياضة البدنية المرحوم محمود البحرة، وكان بطلاً في الألعاب الجمبازية، وقد دربنا عليها ودرّبنا على سواها، وكان إيمانه بالرياضة إيماناً عميقاً حرص على أن ينقله إلينا، فهيأ لنا من الدربة والممارسة الشيءَّ الكثير، وكان لا يخلو من قسوة على المتقاعسين. ومعظم ما أعلمه اليوم من فنون الرياضة تعلمته على يديه، بفضل نظرته إلى الرياضة نظرة صاحب رسالة.
وبعد، فهذه نتف من ذكرياتي عن الثانوية السلطانية (ثانوية المأمون) في حلب أثناء عامين، لا ينظم بينها ناظم، آثرت أن ألقيها عفو الخاطر أطبعها على الورق كما انطبعت في ذاكرتي.
غير أني لا أكتم سراً إن قلتُ إنَّ اعتزازي اليوم بكوني طالباً سابقاً في تلك الثانوية (الكبيرة كبر أحلام الصبا) لا يقل عن اعتزازي بكوني طالباً سابقاً في كلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول سابقاً) بمصر بل قد يفوقه. ولا أدري إن كنتُ على حق حين أقول: إنَّ التكوين العلمي الحقيقي للطالب (فضلاً عن تكوينه الخلقي والشخصي) يتم أولاً وقبل كل شيء في مرحلة الدراسة الثانوية، حتى أن قيمة عطاء الطالب في المرحلة الجامعية هي بمقدار ما يحمل معه من زاد من المرحلة الثانوية.
وعلى أية حال، فالحقيقة كما خبرتها تدلني على أن ما يسر لي من تكوين علمي صلب في ثانوية حلب، ثم في ثانوية جودة الهاشمي في دمشق، وأخيراً في صف الفلسفة في ثانوية حمص، هو الذي أمدَّ دراستي الجامعية في مرحلة الليسانس بمصر والدكتوراه بفرنسة، وهو الذي أمدني ويمدني بجذور ثابتة من العطاء، ويجعل جديد فكري متكئاً على أرض صلبة من الثقافة الشاملة المكينة التي شدأتها في المرحلة الثانوية.

إن مدرسة المأمون في عيدها المائة جديرة بالتكريم حقاً، وحين أكتب هذه الكلمات المتواضعة لأرد بعض دينها عليّ، أفعل ذلك لأنني أؤمن أعمق الإيمان أن ابن الستينيات من العمر ما يزال يمتح من زاد ابن الثالثة عشرة والرابعة عشرة من العمر يوم كان طالباً في ثانوية حلب الوحيدة.
على أن ثانوية المأمون آنذاك لم تكن موئلاً للعلم وحده، بل كانت معقلاً للنضال ضد المستعمر الفرنسي. كان على مقربة منها مثوى الزعيم الوطني الكبير إبراهيم هنانو، وكثيراً ما كنا نحج إليه. ولقد عصفتْ بحياة الثانوية أكثر من مرة أعاصير التظاهرات والثورات ضد المستعمرين الفرنسيين وضد عملائهم من بعض حكام سورية في ذلك الحين.
لقد شهدنا، ونحن في ميعة الصبا، حميّا المعارك بين الطلاب ورجال الأمن، وأسهمنا في ذلك بالحجارة والمقلاع. حقاً، لقد كانت دار العلم الأولى في حلب رائدة النضال السياسي ضد المستعمر، منها تنطلق الشرارات الأولى وتنتشر في شتى أحياء حلب وتشتعل لهباً وغضباً.
وهكذا ندرك اليوم كيف كانت صلتنا بمدرستنا صلة عضوية حميمة، ولم تكن عندنا طريقاً نجوزه إلى سواه. لقد كونتنا وكوّناها وحملنا منذ ذلك الحين القيم المشتركة التي بنيناها معاً، قيَم الحق والحرية والتضامن. بل حملنا منذ ذلك الحين (ومنذ المدرسة الابتدائية قبل ذلك) الإيمان بالعروبة ووحدة نضالها، من خلال النضال الموحد لأقطارها كلها ضد عدو واحد هو الاستعمار، ومن خلال ارتباطها جميعاً بتراث عربي إسلامي عريق رضعناه أطفالاً، وقوَّت جذوره الأجواء القومية التي كانت تيسرها لنا المدرسة الابتدائية ثم الثانوية، في تحيتها للعلم، وفي أناشيدها القومية التي تؤكد وحدة أوطان العرب، «من الشام لبغدان، ومن مصر إلى يمن ومن نجد فتطوان». فضلاً عن عناية أساتذتنا ببث الروح القومية في نفوسنا دوماً وأبداً، وعن امتلاء كتب القراءة والمطالعة بما يذكر بوحدة الوطن العربي.
تلك هي ثانوية المأمون، تاريخ جيل بل تاريخ أمة. إليها أهدي هذه الكلمات، داعياً أقراني من طلابها السابقين إلى وقفة تأمل خاشعة تعيد إلينا روحها وريحانها، وإلى انحناءة صادقة أمام أساتيذهم يستعيدون بها بعض عطاء أولئك المعلمين الذين أفاضوا الخير والصدق والإخلاص، فكان تعليمهم رفعة، وكان تهذيبهم سموّاً بالإنسان نحو مزيد من قيمه الإنسانية، وكانت رسالتهم شحذ النفوس من أجل بناء غد عربي مشرق.