القومية العربية أمام الأحداث القومية في العالم

مجلة شؤون عربية – جامعة الدول العربية – أيلول 1992
القومية العربية أمام الأحداث القومية في العالم
مدخل – عالم الحيرة والتعقيد
من المكرور القول إن أهم ما يسم عالم اليوم، عالم مَا بعد الحرب الباردة، هو عدم الاستقرار من جانب، وفقدان اليقين، نعني فقدان القدرة على التنبؤ بما سيجري من جانب آخر. ولا نغلو إذا قلنا إن عالمنا قد غدا عالم التفكك والبحران، وعالم المجهول الذي يولّد من الاحتمالات ما يصعب الإمساك به.
وإذا كان من المقدَّر على إنسان اليوم، كما يقول بعض المحللين، أن يتعامل مع الاحتمالات، وأن يكشف الحجب عن المجهول شيئاً بعد شيء عن طريق إدراك الاتجاهات المعقدة المتشابكة، حاضراً ومستقبلاً، كان لزاماً علينا، في علاجنا لمشكلة القوميات في العالم، أن نسلك تلك السبيل، وأن ندرك من خلال ما يبدو مفرطاً في التعقيد بعض الصُّوى الهادية.
وهكذا نستطيع أن نتبيَّن، من خلال ما يجري من مظاهر التحرك القومي في العالم، وما نشهد من بزوغ النزعات القومية أو فوق – القومية أو العرقية أو الإثنية أو الدينية أو سواها، ثلاثة تيارات تتحكم في مسيرة ما نشهد من ظهور كيانات لها هويتها الذاتية الجديدة، كما نرى في بلدان أوروبا الشرقية (ويوغوسلافيا بوجه خاص) وفي بعض مناطق آسيا وإفريقيا، بل في مسيرة الوحدة الأوروبية نفسها، فضلاً عما حققته الوحدة بين شطري ألمانيا من عود إلى طبائع الأمور.
وهذه التيارات الثلاثة متصارعة غالباً ومتكاملة أحياناً. غير أن التكامل بينها وتحليلها، كما سنرى، يقودان إلى أهمية البحث من جديد عن كيانات قومية راسخة، لها مقوماتها الثقافية الذاتية، إضافة إلى مقومات أخرى اقتصادية وسياسية، تكون بمثابة درع ووقاية من القوى الطاغية، سواء كانت اقتصادية أو عسكرية أو سياسية.
أولاً – التيار العالمي الاقتصادي الغازي
التيار الأول هو التيار العالمي الجامع الذي يرفض الكيانات القومية من حيث المبدأ، وينادي بعالم تغدو فيه الدول جزءاً من وجود إنساني عالمي شامل تحكمه مبادئ موحَّدة. وهذا التيار الذي يبدو في ظاهر الأمر مبدءاً تغذيه نزعة إنسانية تستهدف خير الإنسانية جمعاء، ما هو في حقيقته إلا تعبير عن «عالمية الاقتصاد» وعن «حرية التعبير الاقتصادي» على حد قول بعضهم. ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بحرية تدفق المعلومات. وفيه ترتد الحرية إلى حرية التجارة، ولو أدى ذلك إلى تركيز السلطة والمنافع في أيدي 20% من سكان المعمورة فقط، وجعلهم يمتلكون 80% من القوة الشرائية ومن الرساميل العالمية. وقد قام في الثمانينيات، كما نعلم، صراع بين الاتجاه الجامع الموحد الذي تقول به النزعة «العالمية التجارية» وبين الكيانات القومية والثقافية المختلفة. ولا يزال الصراع مستمراً، وسوف يظل من أهم العوامل المؤثرة في تكوّن بنية العالم وبنية الدول والقوميات فيها. بل لعل أهم خطر يواجهه العالم هو خطر تحكم هذا التيار، وهو خطر قد يقود إلى صراعات عنيفة متعددة الأشكال بين دول الشمال نفسها فضلاً عن الصراعات بين دول الشمال ودول الجنوب، الخاسرة الأولى في مثل هذا النظام التجاري العالمي الذي يعني استنزاف مواردها ونهب ثرواتها، ما دامت عاجزة عن منافسة القوى الاقتصادية الضخمة للشمال أو، بتعبير أدق، لمتموّلي الشمال المتكتلين والمتصارعين في آن واحد، عبر الدول والقارات.
وفي رأينا أن الدرس الذي ينبغي أن تستخلصه دول الجنوب بشكل خاص من بحثها في مخاطر هذا التيار العالمي المزيف هو أن تعود إلى ذاتها، إلى كياناتها القومية، إلى قدراتها الذاتية، تستقي منها جميعها القدرة على مواجهة هذه المخاطر وعلى السير المستقل في طريق التقدم بأشكاله المختلفة، بالتعاون مع بلدان الجنوب الأخرى وبالتعاون الحرّ مع العالم كله، دون أن يأخذ ذلك التعاون شكل الاتباع والاستسلام.
ثانياً – تيار التجمعات القومية الكبرى
والتيار الثاني الذي يوجه الكيانات الذاتية في العالم هو التيار الذي يطمح إلى أن يقيم «كياناً فوق الدول» دون أن يتجاوزها أو يلغيها. وأبرز مثال على هذا التيار الانطلاقة الجزئية والقلقة نحو الوحدة الأوروبية.
والحديث عن هذه الوحدة وعن بواعثها وعن أنصارها الأشداء وخصومها الألداء، حديث
لا يتسع له هذا المقام. وهنالك كما نعلم جدال وسجال طويلان بين أمرين: بين القول بالهوية الأوروبية وبين الأخذ بالنزعة العالمية التي أتينا على الحديث عنها، بين الغوص في الأعماق، أعماق الهوية الأوروبية، وبين الانفتاح والاتساع. وهنالك بعد ذلك مناقشات حول التوفيق بين الوحدة على المستوى الأوروبي الشامل وبين القوميات والمناطق والثقافات المحلية داخل هذه الوحدة من جانب آخر. غير أن كبار المفكرين، من أمثال المفكر الفرنسي «إدغار موران Edgar Morin» يصيبون جوهر الموضوع حين يبينون أن أوروبا «لا يمكن أن تكون مجرد سوق مشتركة، أو مكاناً للتصارع والتنافس الاقتصادي، أو فحص مشروع سياسي لا يزال في الأفق البعيد». ذلك أننا في أوروبا، كما يقول، «نعيش مرحلة من البحران والمخاطر، بل إننا عرضة لتهديدات تمسّ مصير الجماعة الأوروبية نفسه. ولن نستطيع أن نحمي ذلك المصير
إلا عن طريق وعينا المتزايد لوحدة مصيرنا، لا في الماضي فحسب، بل في الحاضر ومن أجل المستقبل»(1).
وهكذا عندما نتحرر، كما يقول أيضاً، من المرتكزات المحلية، والإقليمية والعرقية، نستطيع عند ذلك أن نوفق بين هذه الثقافات المختلفة من أجل توحيدها وإنقاذها. وكثير من التناقضات والصراعات التي لا يمكن حلّها في إطار الدول المستقلة، يمكن أن تجد حلاً لها عندما تصبح جزءاً لا يتجزأ من إعصار حضاري مشترك. ويستشهد موران في هذا بالمؤرخ الفرنسي الشهير «ميشليه Michelet» حين يقول عن فرنسا في القرن الماضي: «إن أوروبا إرادة، إنها كائن روحي».
وهكذا ندرك أن هذا الاتجاه الثاني الذي نشهده في حركة الكيانات الذاتية في أيامنا يقود في خاتمة المطاف إلى الأخذ بمبدأ الوحدة القومية، وإن تكن تلك الوحدة لا تتجاوز الدول بل تُحكم الترابط بينها، وتجزل عطاءها عن طريق التفاعل المشترك فيما بينها. وقد أصبح ذائعاً لدى كثير من المفكرين الأوروبيين في الأشهر الأخيرة بوجه خاص القولُ بأن الوحدة الأوروبية، في مسيرتها التدريجية الحذرة، لابد أن تنتهي عاجلاً أو آجلاً إلى أن تدرك أن الوحدة الاقتصادية وحدها لا يمكن أن تبني كياناً، وأن الوحدة السياسية نفسها، إن قُيض لها أن تأخذ بها، ستكون عسيرة المخاض متعثرة الخطى، وأن الذي يمنح للوحدة الاقتصادية معناها بالتالي وييسر الوحدة السياسية وسواها هو الإيمان الفكري العميق بوحدة الثقافة الأوروبية ووحدة المصير الأوروبي. وأياً كان الأمر، ستجد أوروبا نفسها، عاجلاً أو آجلاً، مدفوعة إلى رصّ صفوفها وبناء وحدتها الفكرية والثقافية، دفعاً لمخاطر الاتجاه الأول الذي تحدثنا عنه، والذي لابد أن يحمل أوروبا وسواها – بضرب من رد الفعل – إلى تحقيق الروابط القومية فيما بينها. وفي ظروف الهزات الكبرى، كما نعلم، ما يبقى عميقاً وثابتاً لا تزعزعه الفواشي في كيان الأمم، هو الروابط القومية. ومهما تتباين المنازع في أوروبا، ومهما يشتد الصراع بين أنصار العالمية وسواهم، وكذلك بين أصحاب الوحدة ودعاة الاتجاهات الإقليمية والمحلية، فإن تفاعل الظروف العالمية كما يبدو لنا لابد أن يؤدي في خاتمة المطاف إلى وحدة أوروبية اقتصادية سياسية ثقافية، تحترم التنوع الإقليمي والمحلي داخلها دون شك، وتعمل كذلك في إطار عالم إنساني أكثر تضامناً.
وليس مثال الوحدة الأوروبية المثال الوحيد على هذا المنزع الذي يحاول أن يقيم وحدة تعلو على القوميات دون أن تتجاوزها. فالدلائل تشير إلى أن مستلزمات اتقاء الصراع بين الدول الكبرى وتجاوزه قد تتمخض عن كتلة كبرى في المحيط الهادي ودول شرقي آسيا على رأسها اليابان. كذلك قد يتمخض السباق على احتلال مركز الصدارة في العالم عن ولادة كيان أوروبي أوسع من الكيان الذي يجمع بين دول أوروبا الغربية وحدها بحيث يضم بلدان أوروبا الشرقية، بل بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً. هذا إذا لم نتحدث عما يمكن أن يقوم من تكتلات في بلدان العالم الثالث. أما البلدان العربية فسنفرد لها جزءاً قائماً برأسه، وهي عندنا بيت القصيد.
ثالثاً – التيار المفتت للكيانات القومية
أما التيار الثالث والأخير الذي يظهر على الساحة العالمية فهو التيار الذي يبدو مفتتاً مولداً للصراعات الإثنية والعرقية والدينية، عاملاً على تحطيم الكيانات القائمة وتمزيقها أشلاء. وإذا نحن تركنا جانباً ما جرى في الاتحاد السوفياتي، على النطاق الواسع، وجدنا هذا التيار شائعاً بوجه خاص في يوغوسلافيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، فضلاً عما يجري في بعض بلدان آسيا (مثل سريلانكا) وإفريقيا. والاهتمام العالمي الذي يلقاه هذا التيار ليس صادراً في الواقع عن مدى انتشاره بمقدار ما هو صادر عن قابليته للانتشار وعما قد يحمله من روح التعصب الذي لا يرحم ومن الاقتتال الذي لا يبقي ولا يذر.
على أن أزمته الحقيقية، في رأينا، أزمة قومية، فالحرب الباردة عندما كانت قائمة جمدت منذ القرن التاسع عشر الصراعات التي أثارتها الدول القومية الأوروبية الاستعمارية أيام روسيا القيصرية وذلك من أجل أن تمدّ هذه الدول الأوروبية سلطانها عليها. وما نشهده اليوم من انكفاء على الهويات القومية في مجتمعات أوروبا في الدانوب والبلقان ما هو بالتالي، في كثير من وجوهه، سوى استمرار للحركات التي سميت «قومية» والتي أطلقتها فرنسا وإنكلترا وروسيا في القرن التاسع عشر. فالقوى التي احتلت البلقان، عدوة كانت أو صديقة، لعبت مرتين، أثناء الحرب العالمية الأولى وأثناء الحرب العالمية الثانية، بمُقدَّرات تلك الدول الصغيرة التي أنشئت في القرن الماضي، وزادت في الصراعات القائمة بينها. ومن هنا يصح القول إن ما يجري اليوم في يوغوسلافيا، ما هو إلا صورة مصغرة عن تاريخ لم يكتمل، مهما يكن تعيساً ومؤلماً، يعاود مجراه لا محالة بعد أن زال الجليد السوفياتي وذاب، فتكشفت البنى القومية على حقيقتها.
وليس قصدنا أن نسوق بحثاً تاريخياً متأنقاً في هذا المجال. وحسبنا أن نذكر أن جانباً من الحركات التي تأخذ شكل التفتت من أجل تجمع قومي جديد، كما في يوغوسلافيا أو سواها، ما هي في كثير من جوانبها إلا تعبير عن حقائق قومية طمسها الاستعمار، وجمدتها الحرب الباردة، على غرار ما جرى في البلاد العربية على يد السلطنة العثمانية، وعلى يد الاستعمار بعد ذلك بوجه خاص، وبتأثير الاستراتيجية الإسرائيلية بوجه أخص، تلك الاستراتيجية التي استهدفت الإيغال في تمزيق البلاد العربية دولاً صغيرة وطوائف محتربة متنازعة.
ولا يعني هذا كله أننا لا نستنكر ما يجري من احتراب بين القوميات والديانات في البلقان، بل يعني أننا نحاول فهمه، لأنه مثال لما يمكن أن يجري في كثير من بقاع العالم. وما نريد أن نقوله حقيقة ينبغي أن نفكر فيها ملياً، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومن خلال تفكك جمهورياته وانكفاء كل منها على ذاته، وهي أن الارتباط القومي (الذي لا يعني الشوفينية كما
لا يعني العدوان بل يملي التعاون الإنساني) ذو جذور عميقة لدى الشعوب، تضرب في أعماق تكوينها الجيولوجي إن صح التعبير، ولم تستطع القوة (قوة الاستعمار) من جانب كما لم يستطع الإغراء (إغراء الإيديولوجيات الكبرى كما في الشيوعية) من جانب آخر أن يقضيا عليها. ومن هنا لابد أن يُبني العالم الجديد من خلال هذا الارتباط القومي، وأن يكون عالماً تتعاون فيه القوميات التي اغتنت بعودتها إلى ذاتها من أجل توليد كيان إنساني لا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بما يقدمه من عطاء لأمته، وبالتالي للإنسانية جمعاء. ولابد أن تفشل، فيما نرى، أي محاولة تحاول القفز فوق الوجود القومي لتفرض مكانه عالم الأعلين الذين يحلو لهم أن يبنوا سلطانهم من خلال الإزراء بسواهم من الأمم. فالعالم «المسطح» الذي يستلب ثقافة الآخرين ويحلم بحضارة واحدة وحيدة ملساء، عالم يقضي على إمكانات الخلق والإبداع لدى سواه، ويحرم الإنسانية فضائل التنوع والتفاعل الخصيب بين الأمم، هذا إذا نحن افترضنا جدلاً أنه عالم ممكن الوجود.
وما يصدق على دول البلقان يصدق على نحو آخر على بلدان آسيا الوسطى التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، تلك البلدان التي تضم منطقة واسعة تمتد حدودها بين الصين وأفغانستان وإيران وتركيا (وتشمل جمهوريات أذربيجان وأوزبكستان وتركمانستان وطاجقستان وكيرغيزستان وكازاخستان). ولن نخوض في تفصيلات الحديث عن الولادة التاريخية لهذه الجمهوريات، وما كان من أمر رسم حدودها رسماً مصطنعاً منذ عام 1924، حين فُصِلتْ قوميات وكيانات إثنية على يد الشيوعية. والذي يهمنا أكثر من هذا أن استيقاظ الكيانات «الإثنية القومية» اليوم في تلك المنطقة سوف يكون مشكلة أساسية من المشكلات التي تعاني منها في السنوات القادمة. ذلك أن تلك المناطق الواسعة الملاصقة لتركستان القديمة قد أُلحق قسم منها في القرن التاسع عشر بالإمبراطورية الروسية وقسم آخر بالصين. وبعد عام 1917، أي بعد بداية الثورة البلشفية، أتمّ ستالين مهمة استعمارها والسيطرة عليها، تلك المهمة التي بدأها القياصرة، وقسمها إلى ست جمهوريات، تضم كل واحدة منها أكبر عدد من أبناء الجنس السائد على أرضها.
وهكذا نجد اليوم في تلك المنطقة أجناساً بشرية متباينة بينها صراعات قبلية أحياناً. ولكننا نجد فوق ذلك ووراء ذلك كله إرثاً ثقافياً واحداً مشتركاً يتجلى في انتسابها إلى الإسلام. ونجد انتشاراً واسعاً ومكانة خاصة للغة العربية. وهكذا ترتبط الحركة الإسلامية في تلك الجمهوريات (أذربيجان – أوزبكستان – تركمانستان – طاجاقستان – كيرغيزستان – كازاخستان) بالحركة القومية. ويجمع بين القبائل المختلفة والإثنيات المختلفة رباط موحّد، يلتقي عنده المؤمنون وغير المؤمنين، هو رباط الإسلام كتراث وثقافة. ولا يجد مفكر في أوزبكستان أو طاجاقستان مثلاً أي تناقض بين كونه غير مؤمن وبين كونه مسلماً بحكم انتسابه الثقافي.
ولعل هذا يعني أن الجمهوريات يمكن أن تكوّن كيانات «إثنية قومية دينية»، وأن تكوّن عدداً من الجمهوريات يغلب على كل منها جنس إثني في إطار وحدة تضم سائر الإثنيات قوامها الإسلام وثقافته. ولعل ذلك يؤدي إلى خلق جمهوريات متآخية بحكم جامع الثقافة الإسلامية فيما بينها.
رابعاً – المسألة القومية جوهر التصارع بين التيارات الثلاثة:
هكذا يستبين لنا من تحليل الاتجاهات الثلاثة التي تتصارع على الساحة العالمية حول بنية النظام العالمي المقبل، أن قلب المسألة وجوهرها في خاتمة المطاف، وعند التحليل الأخير، تلك المشكلة الحرجة التي تشبه ما يسميه المناطقة «الوقوع بين قرني الإحراج»، ونعني بها مشكلة التجاذب والتنافر في آن بين الهوية الذاتية للشعوب وبين الانفتاح العالمي المكشوف. إنها مشكلة الشعور بالهوية الذاتية والكيان الذاتي في مواجهة النزعة الشاملة العالمية. وهذه المشكلة من أهم العوامل التي تعطل القدرة على تنظيم المستقبل، بل على الإرهاص به. لقد عاد العالم بسببها، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ضرباً من المتاهة، محملاً بسيل من الاضطرابات والشقاق هنا وهنالك. ذلك أن مشروع قيادة واشنطن للعالم يواجه يوماً بعد يوم مقاومة مردّها إلى الخصائص القومية والدينية والإثنية وسائر القوى التاريخية التي تجمّدت طويلاً بفعل توازن الرعب، والتي تعود لتنفجر من جديد في هذه السنوات العاصفة من نهاية هذا القرن. وفي مواجهة ما تقوم به الولايات المتحدة ومعها دول الشمال إلى حد ما من حركات تجمع وتجميع للكتل التي تتجاوز الدول والقوميات، تقوم قوى نابذة لهذا التجمع وتنتفض (كما في الهند، وسري لانكا، والصين، وتشيكوسلوفاكيا) أو تتمزق (كما في الحبشة والصومال) أو تنفجر من داخلها وتتحطم (كما في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا). والسنوات القادمة سوف تشهد، كما يقول «إدغار موران» مشكلة الصراع المتعدد الأشكال بين قوى التجميع والتكتل والفدرالية والاتحاد من جانب وبين قوى الفصام والانفجار والقطع والصراع من جانب آخر، لا في أوروبا وحدها ولكن في العالم(2).
وأخطر ما في هذه المسألة أن النزعة «العالمية الشاملة» كما سبق أن ذكرنا، على نحو ما تتجلى لدى دول الشمال وعلى رأسها الولايات المتحدة، تزيد في غموض الموقف وخلط الأوراق. ففي مثل هذه النزعة انتقلت السلطة، كما يقول كاتب أمريكي، من الأمم والدول إلى رأس المال العابر للدول، بحيث اتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء في بلدان الشمال والجنوب. وشيئاً بعد شيء أصبح وصف الشمال أو الجنوب تحدده الطبقة الاجتماعية أكثر مما تحدده الجغرافيا. ولم يعد الشمال يمثل مجموعة من البلدان بل طبقات اجتماعية مرتبطة برأس المال العابر للدول، تقيس سلطتها على الاقتصاد العالمي بمقياس نجاحاتها الاقتصادية. أما الجنوب فيتكون من أولئك الناس – القاطنين في نيجيريا أو في نيويورك – الذين يُرمى بهم أكثر فأكثر على هامش هذا التطور.(3)
وهكذا ازداد، بعد زوال الاتحاد السوفياتي، الارتباط بين المناداة بالنزعة العالمية الشاملة وبين المضمون الذي تحمله – نعني اعتبار العالم منطقة للتبادل الاقتصادي الحر – بدلاً من قيام حوار عالمي من أجل لجم التنافس المجنون على الإنتاجية والإنتاج وجعلها في خدمة الإنسانية لا في خدمة زيادة رأس المال.
وإضافة إلى عجز الشمال عن منح النزعة العالمية معناها الإنساني الصحيح، تبدو هذه الدول، بسبب بنيتها الاقتصادية أولاً وقبل كل شيء، عاجزة عن تحقيق العدالة والديمقراطية والحرية في العالم بل في بلادها نفسها. وهذا كله يقود في النهاية إلى انكفاء الأمم على كياناتها الذاتية، تتخذها درعاً تتقى به مخاطر النزعة العالمية الجشعة وغير الإنسانية، وأرضية تخلق من خلالها نهضتها وتعبئ جهودها وإمكاناتها من أجل تحقيق تقدمها الذاتي، بالتعاون مع الكيانات القومية الأخرى التي تأخذ بمثل أهدافها القومية السليمة، ومن خلال الحوار مع العالم كله، وعبر العمل الجاد لتوظيف قواها المبدعة في خدمة الإنسانية جمعاء.
خامساً – القومية العربية والصراعات القومية في العالم
الصراع العالمي إذن في خاتمة المطاف صراع بين «عالمية المال» و«قومية الثقافة». الاقتصاد العابر للدول والقارات يغزو ويجمع ويفرقّ ويفتّت على هواه ووفق أغراضه المحضة في السيطرة، ويحاول أن يصوغ بنية العالم صياغة شاملة عرضانية المقطع يحددها النسب الاقتصادي والطبقة الاقتصادية وتضامن القوى والشركات الاقتصادية الكبرى في العالم. ويصطدم هذا المنزع بالجذور العميقة الصلبة للثقافات القومية التي تحرص على تأكيد ذاتها والحفاظ على كياناتها الذاتية في مواجهة ذلك التيار الذي ينظر إليها ويتعامل معها من خلال منزلتها الطبقية الاقتصادية ومدى إسهامها في تغذية كنوزها المالية.
والأمة العربية تقف وسط هذا العراك يتنازعها، كأشد ما يكون التنازع، التياران القويان الكبيران: تيار الثقافة القومية العريقة لدى الأمة العربية وما تحمله من بذور حضارة جديدة تعززها حضارتها التليدة، والتيار الاقتصادي العالمي الجامع الذي لا يرى فيها إلا نفطها ومواردها الغنية الكبيرة، والذي يعمل على جعل تلك الموارد جزءاً لا يتجزأ من «التيار الاقتصادي العالمي الحر» الذي تصب خيراته لدى حفنة من كبار مالكي الثروة العالمية. وكلا التيارين اللذين يتنازعانها قويُّ شديد البأس. فالقومية العربية، ومن ورائها الثقافة العربية الإسلامية، واقع تاريخي عريق، وحاضرٌ يفرض نفسه كحل وحيد لمشكلات الأمة العربية، ومستقبل محّمل بوعود حضارية كبيرة، والتيار العالمي الاقتصادي شبكة مخيفة من القوى الاقتصادية العظمى.
وقد يجنح الوجود العربي إلى الأخذ بالنظرة التي يسمونها، خطأً، بالنظرة الواقعية، فيؤْثر مجاراة التيار المسيطر، تيار «النزعة العالمية الاقتصادية» السائد، ويفتح بالتالي أبوابه «لحرية التعبير الاقتصادي» أي لاقتصاد السوق. ولكنه لا بد أن يعّرض نفسه بذلك عاجلاً أو آجلاً لصفقة خاسرة مع أصحاب هذا التيار القوي القادر، يبتلع فيها هؤلاء خيرات وموارد البلاد العربية، وينهبون ثرواتها. فالتبادل التجاري الحر في مثل هذا الحال لابد أن يكون لصالح مالكي القوة الاقتصادية العالمية الكبرى. وإضافة إلى ذلك سوف يجد الوجود العربي نفسه، إن هو آثر الأخذ بهذا التيار، وقد نمت فيه وترعرعت طبقية اجتماعية مخيفة، وفوارق طبقية متباعدة، الأمر الذي لابد أن يثير القلق والاضطراب عاجلاً أو آجلاً.
ولا بد أن تتقلص المعاني الإنسانية الحقيقة للعدالة الاجتماعية في مثل هذه الحال، مما يزيد ضغثاً على إبّالة. وعند ذلك لابد أن يقوم الصراع حاداً عنيداً بين الواقع الذي تفرزه في البلاد العربية سيطرة التيار العالمي الاقتصادي اللاإنساني وبين قيم التراث الإنسانية الخيرة والعادلة.
غير أن ما هو أخطر من هذا كله أن تيار الاقتصاد العالمي الحر يحمل معه الإعلام الحر والثقافة الحرة، ويكرّس الغزو الفكري والنفسي والعقدي للنزعة التي تدّعي أنها تودّ أن تخلق عالماً «مسطَّحاً» متشاكلاً من طينة واحدة ونمط واحد. وههنا تستيقظ المقاومة القومية العنيدة، ويشتد أوارها يوماً بعد يوم. وتجد الفكرة القومية ترجمة لها في الواقع نفسه، إذ تغدو ذات دور حيوي في محاربة ذلك الواقع. وقد علّمنا تاريخ الأمة العربية أن مشاعرها القومية، مهما تَبْدُ راكدة في بعض الفترات، تنتفض وتشرئب حية قوية عندما يتعرض كيانها الثقافي للخطر، وعندما يبلع حدُّ السيف تراثَها العربي الإسلامي وما يحمله من قيم إنسانية كبرى ومن قيم العدالة الاجتماعية والحرية الحقة والمساواة الصادقة بين البشر.
ويزيد في خطر الأخذ بهذا التيار العالمي الاقتصادي الكاسح، أن يغزو البلدان العربية فرادى، وأن يقوم التنافس بينه وبين كل دولة من الدول العربية على حدة، دون أن يكون ثمة تنسيق مشترك يخفف من مخاطر الاتباع والابتلاع. وفي وسع الدول العربية في هذا المجال أن تفيد من دروس الوحدة الأوروبية التي تهدف فيما تهدف إليه إلى مقاومة ذلك التيار المبتلع على شاكلتها وتبعاً لظروفها. هذا على الرغم من الفارق الكبير في الروابط القومية وفي القوة الاقتصادية بين الدول الأوروبية والدول العربية. وما يعنينا من أمر هذه المماثلة هو إدراك بلدان أوروبا أن القوة الاقتصادية والسياسية لكل منها تشتدّ وتخصب حين تنظمها إرادة مشتركة ومؤسسة ناظمة، هي فوق كل واحد منها دون أن تتجاوز أياً منها، كما رأينا. كذلك في وسع الدول العربية أن تفيد من مأساة دول البلقان وسواها من الدول التي تتعرض لهزات إثنية ودينية مؤسفة، وذلك بأن تدرك أن البنية الثقافية لأي بلد لابدّ أن تظهر من جديد، ولو جُمِّدت بالقوة
أو سواها، وأن البنية الثقافية للبلاد العربية التي يحكمها التراث العربي الإسلامي والتاريخ المشترك والمعاناة المشتركة، بنية مزقها الاستعمار، وجنت عليها الدولة العثمانية قبل ذلك، وأمعنت إسرائيل في تحطيمها، ولا سبيل بالتالي إلى نسيانها أو تناسيها، وسوف تظل كالبراكين التي تمور في أعماق الأرض وتنتظر لحظة الانفجار.
ومن هنا كان من تحميل الأشياء غير طباعها ومن ضياع الوقت الثمين على الأمة العربية أن يكون في هذا المجال تلكؤ أو ردة أو نكسة. فمغالبة هذه البنية القومية التراثية العميقة لدى الأمة العربية هو ضرب من السير في عكس خط التاريخ وفي عكس انطلاقة الشعوب وتحركها.
وجملة ما نريد أن نقوله إن تحليل الواقع العالمي والتدقيق في حركة القوميات في العالم والنظرة العالمية إلى الوجود العربي أمورٌ تقودنا كلها إلى نتيجة واحدة: وهي أن الأمة العربية في حاجة إلى أن تجمع قواها وإمكاناتها الذاتية، من أجل تأكيد أصالتها ومن أجل اجتناب مخاطر الغزو العالمي الاقتصادي الشرس (فضلاً عن بناء مستقبلها الحضاري)، وأنها في حاجة من أجل ذلك إلى سلطة جامعة (أدنى درجاتها سلطة كالسلطة التي تنظم شؤون الوحدة الأوروبية)، لها دور التنسيق الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي الجاد، وأنها في حاجة كذلك إلى التعاون الوثيق المتكافئ مع بلدان العالم، جنوبه وشماله، وإلى الانفتاح العالمي الثقافي بوجه خاص على التجربة العالمية. وهكذا قد يتخذ هذا التنسيق عن طريق مثل هذه السلطة شكل كيان أو كيانات كونفدرالية أو فدرالية أو سواها.
وإذا لم يكن من أهداف هذا التنسيق على المدى القريب أن يصل إلى كيان عربي واحد، فلابد أن يكون هذا الهدف الكبير هادياً له منذ البداية، منه يستمد أبناء الأمة العربية آمالهم وطموحاتهم ويجزلون عطاءهم وسعيهم، ومن أجل بلوغ غاياته ومطالبه تعمل الكيانات الكونفدرالية أو الفدرالية. وصورة الوطن العربي الموحد (على الشاكلة التي تحددها الظروف الآنية) الذي يضم زهاء خمسمائة مليون نسمة قبل منتصف القرن القادم، والذي تتجمع فيه الموارد الطبيعية التي تبذّ ما نجده في معظم البلدان، ينبغي أن تظل لامعة كالنجم في الأفق، نعدو نحوها ونكدّ في سبيل بلوغها.
إن موقف القومية العربية أمام أحداث العالم القومية واضح، إذن، وبسيط: لا للعالمية المزيفة التي تعني السيطرة الاقتصادية، لا للتعصب القومي أو العرقي أو الديني ولكل أنواع الشوفينية، نعم للتعاون العالمي الإنساني الحق الصادق والمتكافئ، نعم لتكوين الكيانات القومية ذات الجذور الثقافية الأصيلة التي تبدع وتعطي لنفسها وللعالم من خلال تربتها القومية، نعم للسير نحو تنسيق عربي كونفدرالي أو فدرالي تمهيداً للتوليد الطبيعي الخصب للكيان العربي الواحد.
خاتمة – تزايد أهمية الكيان القومي العربي
وبعد، هل أسهمنا في حل شبكة العلاقات العالمية المعقدة وفي تبيّن خيوط البنى القومية والإثنية وسواها؟ نرجو ذلك. ونرجو أن نكون قد وفقنا إلى بعض ما قصدنا إليه في بداية هذه الكلمة، نعني فك بعض ملامح البنية المعقدة للعالم الحديث، واستخلاص الاحتمالات الممكنة وسط طائفة من الاحتمالات التي لا حصر لها.
وفوق هذا وذلك، نأمل أن نكون قد استطعنا أن ننضو عن الفكرة القومية ما ران عليها من غموض وشك واضطراب، وأن نعيد الأمور إلى نصابها، مدركين الأجواء والتيارات العالمية الجديدة التي يتمخض عنها العالم، مبينين الموقف السليم للقومية العربية وسط ذلك البحران العالمي الذي يقترب من العماء.
إن لبّ ما وصلنا إليه هو أن الفكرة القومية بوجه عام والقومية العربية بوجه خاص تكتسب أهمية جديدة متزايدة بسبب الأحداث العالمية الجديدة، وأن طابعها التراثي الثقافي يتأكد يوماً بعد يوم، كما أن طابعها الإنساني يحمل زخماً جديداً، يبدو فيه التعاون بين القوميات من أجل الإنسانية ومن أجل العالم الصيغة الفضلى للعالم الإنساني المنشود. كذلك وصلنا من خلال التحليل، ومن خلال النقاش حول الوحدة الأوروبية بوجه خاص، إلى نتيجة أخرى هامة وهي
أن الصيغة القومية هي أفضل صيغة توفر الحفاظ على الخصوصيات المحلية والإقليمية والوطنية داخل الكيان القومي الواحد، وأنها تمثل أفضل حلّ لمشكلات الأقليات القومية والعرقية والإثنية والدينية داخل هذا الكيان، حيث يسود التنوع ويغدو التعدد عامل تلاقح خصيب.
وهذا لا يعني أن الوصول إلى الكيان القومي العربي وسواه أمرٌ ميسّر لا تعتوره الصعاب. فالعقبات في وجه ولادة مثل هذا الكيان أكثر من أن تحصى، وأعداؤها كثيرون وأقوياء، وقد كادوا له منذ عقود عديدة من السنوات، وعلى رأسهم العدو الصهيوني ومن ناصره. سوى أن وجود العقبات ينبغي أن يكون دوماً مبرراً لمزيد من الجهد. وسمة الشعوب الحية التي تريد تجاوز التخلف هي أن تتصف بالقدرة على التحدي على حد قول المؤرخ الشهير «توينبي»، التحدي للصعاب ولأمائر التخلف. وأياً كان الأمر، فالسؤال الحاسم الذي يقطع قول كل خطيب: إذا لم نركب مركب التحدي من أجل بناء كياننا الذاتي والحفاظ على هويتنا وثقافتنا فما البديل؟ إننا كلنا نعرفه: إنه الذل والمسكنة والتخلف أبداً.
مثل هذا الذل والتخلف هو الذي يرفضه الجسم العربي بتراثه وحضارته وآماله وطموحه نحو مستقبله. ولا نغلو إذا قلنا إن سلاح الدفاع عن القومية العربية هو في خاتمة المطاف عمق جذورها في نفوس أبناء الأمة العربية. وههنا يكمن الأمل، على أن نعمل من خلاله ونجهد في سبيله.