مقابلة صحفية أجراها الدكتور عبد الله أبو هيف مع الدكتور عبد الدائم

مقابلة صحفية أجراها الدكتور عبد الله أبو هيف
مع الدكتور عبد الدائم
بتاريخ 2/7/1992
للنشر في مجلة الموقف الأدبي التي يصدرها اتحاد الكتاب العرب

س1- في ظل الوضع العربي بعد حرب الخليج، وبالنظر إلى المتغيرات الدولية العاصفة والمتسارعة، ما تأثير ذلك على المثقف العربي في نهايات القرن؟
ج1- أبرز ما يتصف به الواقع العالمي الجديد، بعد زوال الاتحاد السوفياتي، القلق والحيرة وفقدان اليقين. فلا أحد يعرف ما سوف يتمخض عنه هذا الواقع، على المدى القريب والبعيد.
ومن هنا فإن أكبر مهمة تقع على عاتق المثقفين العرب وسواهم، الإسهام في بيان شتى الاحتمالات التي يرهص بها ذلك الواقع العالمي، والكشف عن شبكة المجاهيل المختلفة التي قد يكون لها فعلها وأثرها في تشكيل العالم، والعمل بالتالي، من خلال الاحتمالات والمجاهيل على اختيار أفضلها وتوجيه أصحاب القرار نحو هذا الاختيار الأفضل (أو الاختيارات الفضلى). وهذا يستلزم من المثقفين الاستخدام الأمثل لزادهم العلمي والثقافي في شتى مجالات المعرفة، ورصدهم لمسيرة العالم في شتى المجالات، ومتابعة أحداثه متابعة حية ناقدة محللة، وتسخير معطيات العلوم الإنسانية وطرقها في البحث والتنبؤ في سبيل تفتيق الاحتمالات، وذلك كله سعياً نحو تخيّر السبل الفضلى والمصير المرجو.
أما في الوطن العربي بوجه خاص، فأهم ما يتصف به الواقع القائم بعد انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج سيطرة الشعور بالعجز إلى حد كبير وغلبة روح القنوط والاستسلام. ومن هنا كانت المهمة الأولى للمثقفين العرب إعادة قدرة العقل العربي على التكيف تكيفاً إيجابياً فاعلاً بدلاً من التكيّف السلبي المنهزم. ويكون ذلك عن طريق زيادة قدرة العقل العربي والوجود العربي على التحدي زيادة تشتد وتقوى بمقدار اشتداد المشكلات والعقبات، لاسيما عن طريق الكشف التدريجي الواضح عن المعنى الحقيقي للأحداث وعن أساليب مغالبة الصعوبات. وييسر ذلك تريث المثقفين العرب عند حقيقتين:
أولاهما أن ما حدث للأمة العربية فشلٌ مرحلي تصاب به الأمم في كثير من مراحل حياتها، وما هو بالانهزام الذي لا تقوم لها بعده قائمة.
لا سيما أن قصة سقوط الدول والإمبراطوريات وبزوغها قصة أزلية أبدية، تحدث عنها حديثاً مسهباً وموثّقاً عام 1988 المؤرخ الأميركي الشهير “بول كيندي” في كتابة “بزوغ القوى العظمى وسقوطها”. وثانيهما أن لا مخرج من هذا المصير الضائع الذي آلت إليه الأمة العربية ولا مخرج من الطريق المسدود الذي تواجهه في شتى ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والعسكرية، ولا حامي لها من مخاطر الأمم الكبرى التي تداعت عليها كما “تداعى الآكلة على قصعتها”، إلا بالاحتماء بقواها الذاتية مجتمعة والعودة إلى جذورها وأصولها وتراثها وهويتها تستمد منها العزم على بناء كيان مستقبلي مشترك.
س2- ستشهد المرحلة الراهنة انحساراً واضحاً في الخطاب القومي والأيدلوجي، كيف تقوم ذلك في فاعلية الأدب والفن في التسعينات؟
ج2- منذ عقدين من الزمن على أقل تقدير يتحدثون في الغرب عن موت “الإيديولوجيات” ويرى بعض مفكريهم أن زمن وضع “مشروعات” إيديولوجية لبناء المجتمعات زمن قد مضى وولّى. بل يتحدث بعضهم عن “موت الدولة” نفسها كسلطة مركزية ناظمة لحياة الناس، بانية لنموذج اجتماعي معين، حتى كاد يصبح شعار تحقيق الحد الأدنى من الدولة Minimum d’état ” شعاراً ذائعاً على الألسن.
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي اعتبر الكثيرون أن هذا الانهيار يعني سقوط الإيديولوجيات نهائياً ونهاية العالم” على حد تعبير “فوكوياما Fukuyama “.
وينحسر هذا الاتجاه المغالي شيئاً بعد شيء، فيما نعتقد. وهاهم أولاء صانعو الوحدة الأوروبية يعودون فيؤكدون على شأن الإيمان بأوروبا وبالثقافة الأوروبية في نجاح تلك الوحدة. وهاهو ذا مفكر فرنسي شهير مثل” إدغار موران” (وهو واحد من كثير) يؤكد أن الذي يمنح الوحدة الاقتصادية الأوروبية معناها وييسر الوحدة السياسية وسواها بالتالي هو الإيمان الفكري العميق بوحدة الثقافة الأوروبية ووحدة المصير الأوروبي. ويستشهد في هذا المجال بقولة المؤرخ الفرنسي الشهير “ميشليه”: “إن أوروبا إرادة، إنها كائن روحي”.

وهكذا تعود الإيديولوجية القومية وفوق القومية Supra national” على حد التعبير الشائع مؤخراً إلى الظهور في الغرب. وإذا تجاوزنا الوحدة الأوروبية، وجدنا أصداء واضحة للإيديولوجية القومية لها فيما يجري في دول البلقان وتشيكوسلوفاكيا والجمهوريات الإسلامية في جنوب شرق الاتحاد السوفياتي سابقاً، وفي دول عديدة في آسيا ليس المجال مجال الحديث عنها.
أما الإيديولوجية الاشتراكية، فهي تعاني من أزمة عسيرة دون شك بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. والعالم اليوم في حال ترجّح مضطرب بين الاشتراكية وبين اقتصاد السوق. على أن تجربة اقتصاد السوق بدأت تتكشف نقائصها ومخاطرها عند التطبيق، ولن تستطيع أن تكون الحل السحري لمشكلات الاقتصاد في العالم كما يريد الداعون لها. وهي على أية حالة “إيديولوجية” مناقضة للاشتراكية من جهة، ومفضّلة من أجل سيطرة الكتل والمؤسسات والكارتيلات الرأسمالية الكبرى على العالم ونهب ثرواته ولا سيما ثروات العالم الثالث. ولا أدل على أنها “إيديولوجية” بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان سياسية واقتصادية وعسكرية، من أنها تكاد تقسم العالم كله (بما في ذلك العالم الثالث) قسمة عرضائية، يسيطر فيها حوالي 20% من أصحاب الثراء على ثروات ومقدرات 80% من المعوزين.
زد على ذلك أن ثمة رفضاً ذائعاً (من قبل الاشتراكية وسواها) للمنطلق الأساسي للرأسمالية ونعني به الليبرالية الاقتصادية، تلك الليبرالية التي تجعل من الرأسمالية نظاماً “طبيعياً” (بل إلهياً) تضطلع فيه اليد الخفية للسوق بتحقيق الاتساق والانتظام. ومما يزيد من الرفض الذائع أن الرأسمالية نفسها قد تغالب الرأسمالية وترفض منطلقاتها، وأن ثمة اليوم رأسماليتين متعارضتين، على أقل تقدير، كما يقول “ميشيل ألبير” صاحب كتاب “رأسمالية ضد رأسمالية”: الأولى هي الرأسمالية الأميركية الجديدة والثانية هي الرأسمالية الألمانية. وليس المجال مجال التفصيل في الفوارق بينهما، وحسبنا أن نقول إن قوام الأولى “النجاح الفردي والكسب المالي السريع على المدى القصير”، بينما تمجد الثانية “النجاح الجماعي والاتفاق والوفاق والعمل على المدى البعيد”.
يضاف إلى هذا كله أن العالم المتقدم نفسه بدأ يشعر شعوراً متزايداً بأهمية البحث عن نظام اجتماعي جديد يوفق بين الديمقراطية وبين العدالة الاجتماعية. وقد نسج كثير من المفكرين والساسة في العالم على غرار الباحث الأميركي “راولز Rawls” في كتابه: “نظرية العدالة”، وعلى غرار “هابرماس Habermas” وسواهما ممن بحثوا ويبحثون عن “إيديولوجية” ديمقراطية تتوافر فيها العدالة الاجتماعية. وهذا يعني عوداً إلى الاشتراكية في ثوب جديد، بل يعني تجديد البحث عن ذلك المنزع الذي كان منزع معظم الإيديولوجيات الكبرى خلال هذا القرن، نعني منزع التوفيق بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية، وهو منزع لابد أن يختلف من بلد إلى بلد، ما دامت هنالك دوماً وأبداً طرق عديدة نحو الاشتراكية. وليس ما يسمى “بالاشتراكية الديمقراطية Social- Démocratie“ (السائد في بعض دول أوربا) إلا شكلاً من أشكاله.
س3- زاد الحديث كثيراً عن موت الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والأنظمة الاشتراكية. هل سقطت الاشتراكية حقاً؟ وكيف تنظرون إلى قضية الفكر الماركسي في ضوء الوقائع الأخيرة؟
ج3- لقد أجبت على الشطر الأكبر من هذا السؤال في الفقرة السابقة. يبقى أن أضيف أن الذي مات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليس هو النظام الاشتراكي والفكر الماركسي، بل شكل من أشكال الاشتراكية والماركسية طبق في بلد معيّن في ظروف دولية معينة، وأصابه من الانحراف والتشويه من داخله ما أصابه ومن المكائد اللاصقة بطبيعته الرأسمالية ما طوّقه وحطمه. وسوف يظهر تطور الأحداث أن النظام الرأسمالي المسيطر في العالم، لأسباب لا مجال لذكرها وتحليلها، لن يقوى، في حال تبني الجمهوريات السوفياتية الجديدة له وسواها من الدول الاشتراكية، على إنقاذها من التردي والانهيار من جديد، للأسباب نفسها تقريباً التي جعلت ذلك النظام الرأسمالي قادراً على إفشال تجربة الاتحاد السوفياتي وسواها من التجارب الاشتراكية. وهذا لا يعفي طبعاً نظام الحكم الذي كان سائداً في الاتحاد السوفياتي من المسؤولية، بل من معظم المسؤولية (لا سيما حين طوّح بالديمقراطية السياسية باسم ديمقراطية اجتماعية منقوصة بالضرورة)، ولكنه يبين في الوقت نفسه الدور الكبير الذي كان للنظام الرأسمالي العالمي ممثلاً بقواه العظمى في انهيار ذلك الحكم، بسبب ما قيض لذلك النظام الرأسمالي من إمكانات وثروات استمد الكثير منها من طبيعته اللاأخلاقية ومن ابتزازه لخيرات العالم، ومن نهبه للمستعمرات وللموارد الطبيعية للعالم الثالث، وعلى رأسها البترول، ومن تنكره لحقوق الأمم والشعوب، واتخاذه العالم مسرحاً “للعبة الأمم”، ولعل قانون “غريشام” في النقد يصدق ههنا إلى حد كبير” “العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق”.
س4- يتحدثون الآن عن نظام عالمي جديد، بينما كنت سباقاً لنقد هذا النظام كيف تقومه وكيف ترى مصائرنا القومية من خلاله؟
ج4- بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح هنالك واقع عالمي جديد، سمّي خطأ أو قصداً بالنظام العالمي الجديد. فليس هنالك في الواقع ما يصح أن نسميه “نظاماً”، بل هنالك بحث وبشكل واقعي عملي تدريجي عن شكل من أشكال النظام لمّا تتضح معالمه بعد. وموطن الجدة في هذا الواقع العالمي هو الانتقال من عالم القطبين إلى عالم القطب الواحد، وإن تكن سيطرة القطب الواحد الأميركي سابقة في حقيقة الأمر على انتهاء الحرب الباردة، ولا يعدو الأمر أن تكون تلك السيطرة قد وصلت إلى كمالها وتمامها بعدها.
ومن هنا قال بعضهم إن ما يدعى بالنظام العالمي الجديد جديرٌ بأن يسمى “نظام العالم الجديد” حيث يعني “العالم الجديد” الولايات المتحدة.
ولا تخلو الساحة ممن وصف هذا الواقع الحالي بأنه “اللانظام العالمي الجديد”. والحق إن أهم ما يَسِمُ هذا الواقع، كما ذكرنا في جوابنا على السؤال الأول، هو البحران والاضطراب والشك وافتقاد الرؤية الواضحة لمسيرة العالم.
ومن العسير، كما سبق أن قلنا، أن نتنبأ بما سيؤول إليه الواقع العالمي الجديد وباب الاحتمالات مفتوح على مصراعيه. غير أن من الواضح منذ الآن أن سيطرة القطب الواحد سوف تؤدي يوماً بعد يوم إلى قيام تكتلات تحدّ من تلك السيطرة أو تحول دون عدوانها. والحديث قائم حول الوحدة الأوروبية ودورها، وحول تكتل دول المحيط الهادي الآسيوية بزعامة اليابان، وحول دور الصين والهند (التي كادت تشق عصا الطاعة منذ الآن)، وحول تكتل بعض الدول الإسلامية الذي قد يضم بعض الجمهوريات الإسلامية التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي وتركيا (أو إيران) وأفغانستان وباكستان.
وإلى جانب هذه التكتلات الكبرى سوف تؤدي مخاطر عدوان القطب الواحد إلى احتماء كثير من القوميات الأساسية الهامة في العالم بجلدتها وذاتها وكيانها الثقافي الموحّد، وإلى ظهور كيانات قومية هامة.
ومن هنا فإن الدول العربية لابد أن تجد نفسها، أمام المخاطر الخارجية وأمام مطالب حاجاتها المتزايدة ونزعتها إلى النهوض من تخلفها، مدعوة إلى توظيف العلائق الثقافية والسياسية والاقتصادية القائمة بينها من أجل مزيد من التفاعل والتكامل تمهيداً لقيام اتحاد فدرالي (أشبه ما يكون بالاتحاد بين دول الوحدة الأوروبية على أقل تقدير) أو لما يتجاوز ذلك على طريق الوحدة وفقاً لما تمليه التجربة والمعاناة وما يفرضه تطور الأحداث.
وهكذا فإن مسيرة نظام القطب الواحد سوف تقود في معظم الأحيان إلى استيقاظ النزعات القومية، وسوف تجد القومية العربية، التي تعود أصولها إلى ثوابت تاريخية وراهنة، والتي تستمد زخمها من مطالب المستقبل ومستلزمات بناء النهضة، مدفوعة إلى المزيد من القوة والإيمان بدورها وشأنها وسط هذا العالم الذي لا بقاء فيه إلا للكتل الكبيرة وللكيانات المؤمنة بأهدافها المشتركة ومصيرها الواحد.
س5- منذ القديم، وطموح النظام الأقوى في العالم يتماهى مع إحلاله موقع الحكومة العالمية، أو حكومة كل العالم، وفي النظام العالمي الجديد، يتماهى النظام الأقوى مع دور الأمم المتحدة التي ينبغي لها أن تكون هي حكومة كل العالم.
بتقديركم كيف تحقق البلاد الفقيرة تنميتها وتصون استقلالها وتحمي مصالحها في مواجهة هيمنة القوة الغاشمة للنظام الأقوى؟
ج5- هنالك نزعة متزايدة في العالم كله نحو رفض منطق القوة. ومن فضائل نظام القطب الوحيد أنه خلق ردود فعل شاملة ضد تغليب القوة على الحق. وزادت ردود الفعل هذه ضراوة حين تبدّى للجميع أن القطب الواحد يملي إرادته حتى على المنظمات والهيئات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن. والتقت هذه المشاعر بمشاعر الغبن لدى بعض الدول الكبرى والهامة التي ما تزال مبعدة عن أن تكون بين دول القرار في مجلس الأمن، وعلى رأسها ألمانيا واليابان. وأجّج تلك المشاعر بقاء روسيا بين تلك الدول صاحبة حق “الاعتراض”، على الرغم من أنها أصبحت مجرد ظل للولايات المتحدة.
ولهذا لابد أن تلد السنوات المقبلة تغييرات في كيانات هيئة الأمم وفي كيان مجلس الأمن بشكل خاص. وهكذا لابد أن ينحسر تدريجياً الدور الحاسم للنظام الأقوى في مجلس الأمن. ويدفع إلى ذلك الانحسار، كما سبق أن ذكرنا، عاملان متكاملان: الأول تزايد رفض منطق القوة من قبل الشعوب المختلفة، المتقدمة والمتخلفة. والثاني تغير موازين القوى بين الدول المتقدمة وترقب ظهور كتل كبرى وبلدان قوية تفرض نفسها على الساحة الدولية وسواها. ومما يساعد على هذا الانحسار للدور الحاسم الذي يفرضه القطب الواحد على منظمات الأمم المتحدة وعلى سائر شؤون العالم ، تعاون دول العالم الثالث فيما بينها وفرضها إرادتها المشتركة في المحافل الدولية وغيرها. لا سيما أن العنف الدولي سوف ينصب على بلدان الجنوب بوجه خاص، وأن أبناءه سيصبحون المنبوذين والمضطهدين في عالم يسيطر عليه الشمال، وأن العداء الذي كان موجهاً ضد الاتحاد السوفياتي سابقاً سوف ينصب عليهم قبل سواهم.
س6- حقوق الإنسان هي النغمة السائدة لانتهاك حقوق الأمم والشعوب، باسم الأمم المتحدة، وهو ما يحدث الآن مع ليبيا. ما تقويمك لقضية حقوق الإنسان في العلاقات الدولية ومستقبل العرب؟
ج6- طبيعي، ما دامت الأمم المتحدة، كما سبق أن ذكرنا، مرتهنة للقطب الأوحد، أن تكون الشرعية الدولية مجرد تعبير عن إرادة هذا القطب، وأن تكون حقوق الإنسان التي تدعي الشرعية الدولية حمايتها كلمة حق يراد بها باطل.
وقد قيل الكثير وكتب الكثير في السنوات الأخيرة عن تفريط الولايات المتحدة بحقوق الإنسان، داخل الولايات نفسها وفي تعاملها مع الدول الأخرى بوجه خاص. والكتب التي ألّفها عالم الألسنيات الأميركي “شومسكي Chomsky” منذ سنوات، وعلى رأسها كتابه حول “الاقتصاد السياسي لحقوق الإنسان” (الذي ظهر عام 1981) وكتابه الأخير “إعاقة الديمقراطية” الذي ترجم حديثاً إلى العربية، من أهم ما يشهد على حقيقة تعامل الولايات المتحدة مع شرعة حقوق الإنسان.
والحق إن الديمقراطية الأميركية في أعماقها هي النظام المفصّل من أجل حماية حرية أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة ومن أجل سيطرة اقتصاد السوق. وهي حين تدعو إلى الديمقراطية العالمية إنما تضمر وراء ذلك السيطرة الاقتصادية على العالم ونشر اقتصاد السوق فيه من أجل ابتلاع خيراته، ما دامت الأقوى والأقدر على الربح في حلبة الصراع الحر على الموارد والثروات الاقتصادية. وليس هنالك بالتالي تلازم عندها بين الديمقراطية وبين الحفاظ على حقوق الإنسان، بل ثمة تعارض وتناقض جوهري في معظم الأحيان. ويكفي أن نقرأ كتاب “نيكسون” الأخير “لنهتبل الفرصة” (أو “الفرصة التاريخية للولايات المتحدة” كما جاء في الترجمة العربية للكتاب من قبل الصديق الدكتور محمد زكريا إسماعيل) لنرى تأكيداً لما نقول من أمر إزراء الولايات المتحدة بقيم الحق والعدالة، ولا سيما على المستوى العالمي، تقديساً للقيم الأميركية الأساسية كعبادة الثروة والنجاح والتفوق والسيطرة.
وما يفعله مجلس الأمن بقيادة الأمم المتحدة، على مرأى ومشهد من دول العالم جميعها، من الكيل بمكيالين في أكثر شؤون العالم، ولا سيما في المنطقة العربية، شاهد صارخ على انتهاك حقوق الإنسان باسم الشرعية الدولية. وحسبنا من ذلك كله موقفها من المشكلة الفلسطينية والقرارات الجائرة التي اُنتزعت ضد ليبيا.
س7- أي عقل في القانون الدولي اليوم، وأي مصير للعرب في عالم اليوم، ما دامت الشرعية الدولية مطالبة بشهادة حسن سلوك من النظام الأقوى؟
ج7- سبقت الإجابة على هذا السؤال في الفقرة السابقة. حسبنا أن نقول إن الخضوع للشرعية الدولية المزيفة، أصبح من نصيب الضعفاء في العالم. ويحضرني في هذا المجال بيت الشاعر القروي الشهير:
أتيناهم بإنجيل المسيح فجاؤونا بآيات الفتوح
ولا تثريب على الضعفاء في ذلك، شريطة أن يعبئوا قواهم من أجل الدفاع عن شرعية دولية حقيقية غير مزيفة. والأمة العربية بوجه خاص، وهي صاحبة الرسالة التي تدعو إلى الحق والخير والعدل وتنادي بالمساواة بين بني البشر، مدعوة إلى أن تقف وقفة جريئة مشتركة حازمة ضد أي محاولة لتزييف الشرعية من قبل القوى الكبرى سواء تم هذا التزييف على حسابها أو على حساب سواها من الشعوب. وفي سبيل هذه الوقفة الحازمة المشتركة قمين بها أن تتذكر قول الشاعر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسّرت آحاداً.
س8- عود إلى قضية ضاغطة على الوجدان العربي هي قضية الحداثة. ما مفهوم الحداثة برأيكم، وما موقفكم من محاولات تعريب الحداثة؟
ج8- هذا سؤال يمضي بنا بعيداً، وقد لا يكون هذا مجاله، لا سيما أن الحديث عن الأصالة والحداثة أو عن الأصالة والمعاصرة قد ملأ الأسفار وضجّت بأصدائه أروقة المؤتمرات والندوات في السنوات الأخيرة. غير أن من الحق أن يطرح هذا الموضوع على الساحة الفكرية دوماَ وأبداً، على الرغم من كل ما قيل فيه، وذلك لسببين: أولهما أن المثقفين في البلاد العربية اتفقوا منذ القرن الماضي على القول بالصلة بين الأصالة والمعاصرة، ولكنهم على الرغم من هذا الاتفاق ما يزالون يراوحون في مكانهم وما يزالون يعاودون حديثاً مكروراً، ويجترون ما سبق أن قيل. وثانيهما أن هذه الصلة بين الأصالة والمعاصرة لابد أن تتجدد دوماً وأبداً بتجدد العصر ومعطياته.
على أن ما يثير التساؤل العميق أن الحديث عن هذه الصلة ما يزال حديثاً مكروراً إلى حد بعيد كما قلنا منذ حين، وأن تجديد البحث فيها لم يأخذ بعد طريقه الواضحة. وما نزال في الجملة نتحدث حديثاً عاماً غامضاً عن التوافق بين الأصالة والمعاصرة، دون أن نحدد أشكال هذا التوافق في عصرنا، ودون أن نقدم أمثلة محسوسة تبيّن لنا كيف نُطور الأصيل كيما يلتقي بالمحدث وكيف نطور المحدث كيما يلتقي بالأصيل. وكأننا حتى الآن أمام صبغة دبلوماسية تمت صياغتها صياغة عامة، تحتمل المعاني المختلفة ويؤولها كلُّ على شاكلته. وعندنا أن هذه الصيغة الدبلوماسية ينبغي أن يحل محلها حوار صريح، يتجلى فيه بشكل ملموس مشخص ما يتوجب على الأصالة أن تفعله بالتراث، بحيث تنضو عنه ما علق به من شوائب، وما يتوجب على الحداثة أن تضطلع به من جهد لكي يكون المشروع الحضاري الذي تبنيه مشروعاً ذاتياً أصيلاً لا هجنة فيه ولا يشوبه استلابٌ للهوية الخاصة. وفي هذا المجال ينبغي أن يحتل أمر تحديد المقصود بالأصالة والتراث المقام الأول.
س9- عنيت كثيراً بقضية أصالة الثقافات والهوية القومية في الأدب، وقدمت في كتابك “في سبيل ثقافة عربية ذاتية” مشروعاً يضع هذا المشروع في موضعه من العمل العربي المشترك، كيف ترى هذا المشروع. وهذه القضية في ظل انهيار النظام العربي اليوم؟
ج9- سبق لي أن تحدثت وكتبت عن هذه المسألة في أكثر من مناسبة ومجال. وقد أوجزت جانباً من وجهة نظري في كتابي “في سبيل ثقافة عربية ذاتية” الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1982، ثم في كتابي الأخير “نحو فلسفة تربوية عربية” الذي صدر في خاتمة عام 1991.
وقد جربت في المحاولتين أن أخطو خطوة ملموسة إلى أمام في مجال الحديث عن الأصالة والمعاصرة والهوية الثقافية للأمة العربية. فلقد قمت بدراسة تحليلية لأهم منطلقات التراث العربي الإسلامي ولأبرز قيمه. وبحثت جاهداً عن المنطلقات والقيم التي يمكن أن يشكل إحياؤها وتجديدها رأس الرمح في معركة الأمة العربية من أجل الخروج من التخلف إلى التقدم. وقمت بمثل هذا التحليل فيما يتصل بالثقافة الغربية والقيم الغربية مع تقديم نظرة ناقدة إليها. ومن كلتا المجموعتين من القيم، قيم التراث البارزة الحية المحملة بالقدرة على العطاء والابتكار، والقيم العالمية الإيجابية التي تثوي وراء التقدم العلمي والثقافي، استخلصت المنطلقات والقيم الديناميكية المجددة التي تجمع بين قيم التراث وقيم العصر على نحو ما قمت بتحليلها، والتي من شأنها في نظري أن تجعل المجتمع العربي قادراً على تجاوز تخلفه. وليس المجال مجال تعداد المنطلقات والقيم التي استخلصتها. وحسبي أن أعدّد بعضها (وهي قيم من شأن التربية النظامية وغير النظامية ومن شأن الثقافة الاجتماعية بوجه عام أن تضطلع بغرسها ورعايتها):
– تكوين روح الخلق والإبداع – تكوين القدرة على التغير والتغيير والتحرر من سلطان الماضي – تكوين الفكر الناقد – تكوين روح التسامح والتآلف ونبذ العصبية والتعصب – تكوين روح السيطرة على المستقبل – تكوين روح الانتظام والتنظيم – الخ ….
وقد أشرت في كتابي “نحو فلسفة تربوية عربية” إلى وسائل تكوين مثل هذه القيم وإلى معانيها. وقد كتبت هذا الكتاب قبل “حرب الخليج” ومع ذلك فإن منطلقاته عندي تزداد أهمية بعد هذه الحرب وبعد ما آل إليه الوجود العربي من تمزق وضياع.
وإذا أردت أن أوجز رأيي في الطريق المثلى لنقل الأمة العربية من حال التخلف إلى حال التقدم قلت إن ذلك يستلزم اللقاء بين جهدين كبيرين أساسيين: أولهما التمهيد لبناء الثورة العلمية التقانية عن طريق تبني طراز القيم الملائمة لذلك، وعلى رأسها قيم الإبداع والإيمان بالعلم والإيمان بالعمل وممارسته. وثانيهما تعبئة الإرادة القومية المشتركة من أجل الاضطلاع بمهمة التحديث هذه، وتكوين الشحنة الانفعالية التي يغذيها الإيمان بالهدف ووسائل بلوغه، في سبيل شحذ تلك الإرادة وتوفير التوثب اللازم لها. وهذان الجهدان الكبيران ينبغي أن يتما جنباً إلى جنب وعلى نحو متكامل بحيث يُغني أحدهما الآخر.
س10- عنيت، على مدار ثلاثة عقود من الزمن، بتخطيط التربية في الوطن العربي، وبنيت على ذلك آمالاً كبيرة في تغيير المجتمع العربي حسب تعبيرك بوصفك عالماً تربوياً، ما مآل التخطيط التربوي في الواقع العربي، وأي أمل في ترشيد مسار التربية العربية؟
ج10- لقد قُيِّض لي أن أكون أحد رواد الدعوة إلى التخطيط التربوي في البلاد العربية منذ عام 1962، أي منذ القرزمات الأولى للتخطيط التربوي في البلاد العربية. وكان التخطيط التربوي إذ ذاك – وما يزال – يحمل معنيين أساسيين: أولهما التأكيد على أن التربية ليست مجرد خدمة استهلاكية وإنما هي توظيف مثمر للموارد المالية والبشرية يعطي أُكُلَه أضعافاً مضاعفة عن طريق ما يعِدّ من كفاءات علمية وتقنية ترفد التنمية الشاملة. وقد ساد في ذلك الحين بالتالي القول بأن التنمية الاقتصادية والمادية لا تعطي ثمراتها إلا إذا رافقتها تنمية للموارد البشرية، وأن أهم عناصر التنمية الشاملة التنمية التربوية، على أن ترتبط أهدافها وخططها بأهداف التنمية الشاملة وخططها. وثاني المعنيين نتيجة لأولهما وهو القول بأن التربية لا تكون توظيفاً مثمراً لرؤوس الأموال ولا تسهم إسهاماً حقيقياً في التنمية الشاملة إلا إذا ربطت أهدافها الكمية والنوعية بأهداف التنمية الشاملة، وإلا إذا انعقدت الصلة بينها وبين حاجات القوى العاملة. وتلك هي مهمة التخطيط التربوي،
لا سيما حين يرتبط ارتباطاً عضوياً بالتخطيط الاقتصادي والاجتماعي الشامل.
وقد أقبلت معظم الدول العربية منذ الستينيات على اصطناع التخطيط التربوي واتخاذه منطلق التوسع التربوي الكمي وأساس التجويد النوعي للنظام التربوي في سائر مقوماته. غير أنها لم توفّر في معظم الأحوال الأسس العلمية والفنية اللازمة لوضع الخطط التربوية، كما أنها لم تنجح بشكل خاص في تحقيق الربط بين الخطط التربوية وخطط التنمية الشاملة، لأسباب لا مجال لذكرها.
وقد كانت النتيجة الطبيعية لهذا الفراق بين أهداف الخطط التربوية وأهداف الخطط الشاملة في معظم البلدان العربية، قيام تناقض بين التوسع التربوي وبين حاجات سوق العمل وحاجات التنمية الشاملة. الأمر الذي أدى في معظم البلدان إلى انتشار بطالة المثقفين، وإلى تضاؤل دور التربية في إعداد المهاد العلمي والتقاني اللازم للخروج من التخلف إلى التقدم. فضلاً عن ابتلاع التربية لنسبة عالية من ميزانيات الدول ومن دخلها القومي، دون أن يتناسب ذلك مع عطائها المحدود للمجتمع وللتنمية وللتقدم العلمي والتقني والتقاني.
ومن هنا فإن ترشيد مسيرة التربية العربية يستلزم سدّ هذه الفجوة القائمة بين التربية والتنمية، عن طريق تحقيق تكامل عضوي بين الخطط التربوية والخطط العامة. وفوق هذا وذاك، لابد أن يتم في إطار هذا التخطيط التربوي العقلاني تحديد أوضح للأهداف والغايات التربوية والاجتماعية الكبرى، بحيث ينطلق العمل التربوي كله من خلالها. وهذا يستلزم مزيداً من العناية بالفلسفة التربوية في البلاد العربية، على نحو ما أشرت في الفقرة السابقة، وعلى نحو ما فصّلت الحديث في كتابي “نحو فلسفة تربوية عربية”.
دمشق في 2/7/1992
الدكتور عبد الله عبد الدائم