البرابرة الجدد

مجلة المستقبل العربي – العدد /160/ – حزيران/يونيو 1992
البرابرة الجدد
هل يغدو أبناء العالم الثالث البرابرة الجدد في النظام الدولي الجديد(*)
عبد الله عبد الدائم
عضو مجلس أمناء
مركز دراسات الوحدة العربية
مدخل
الحديث عن الترابط بين العالم المتقدم والعالم الثالث حديث تالد أبداً، طارف أبداً. وهو في كل مرحلة من تاريخ العالم يلبس لبوساً جديداً وزياً فريداً.
وحديثنا يهدف إلى إلقاء نظرات خاطفة على ذلك الترابط بين العالم المتقدم والعالم الثالث، أو بين الشمال والجنوب، كما جرى على الألسن في العقود الأخيرة. ومطمحه أن يبرز الطابع الفريد لتلك العلاقة بل أن يرهص بما هي ماضية نحوه وما قد تؤول إليه في العقود القادمة. والهم الأول لهذا الحديث أن يبيّن كيف يؤدي انتهاء الحرب الباردة بين الغرب والشرق إلى بداية استعار الحرب بين الشمال والجنوب، بحيث يكاد يولد شيئاً بعد شيء عالمان منفصلان، متناقضان، محتربان. أولهما، العالم المتقدم، عالم الشمال، الذي يتخذ شكل إمبراطورية آمرة ناهية، وثانيهما، العالم المتخلّف، عالم الجنوب الذي ترمقه تلك الإمبراطورية شزراً، والذي ترى في أبنائه برابرة محدثين يذكّرون بالبرابرة الذين تصدّت لهم الإمبراطورية الرومانية، بين القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد.
ونخف إلى القول، دفعاً لأي لبس، أن ما سنصف من أمر هذا التباعد والتصارع بين الشمال والجنوب، نزعة ما تزال وليدة وإن بدا كثيرٌ من ملامحها منذ الآن، وهي آخذة في النمو ممعنة فيه يوماً بعد يوم. والواقعة واقعة لا محالة لا تبقى ولا تذر، إذا لم يقيم جهد فذّ يتولاه العالم المتقدم والعالم الثالث في آن واحد. وحديثنا بالتالي لا يعدو أن يكون واحداً من الجهود التي تسعى إلى دق جرس الإنذار قبل فوات الأوان، ولعل الأوان قد فات أو كاد.
وعندنا أن هذه الصلة بين الشمال والجنوب هي الامتحان الحق لما يسمونه بالنظام الدولي الجديد. لاسيما إذا ذكرنا أن ثلاثة أرباع سكان الأرض يعيشون في بلدان الجنوب. والاتجاه الآخذ بالنمو، نعني الاتجاه إلى التمييز الصارم بين الجنوب والشمال، بين إمبراطورية الشمال التي تشبه الإمبراطورية الرومانية في القديم وبين البرابرة المحدثين، أهل الجنوب، يحمل في صُلبه وجوهره تطويحاً مريعاً بالقيم الإنسانية كما سنرى. فالحرية والديمقراطية والعدالة والرفاهية للشمال، والعسف والخسف والنهب والسلب وجائحات الجوع والمرض للجنوب.
أولاً: تقرير «ولي برانت» وصحبه عن الشمال والجنوب
ولكي يستبين لنا التحوّل بل الانقلاب الذي حدث في العلاقة بين الشمال والجنوب. قُبيل الحرب الباردة بقليل وبعدها، لنرجع إلى عشر سنوات خلت لا أكثر. لنرجع إلى التقرير الشهير الذي يحمل عنوان «الشمال والجنوب، برنامج من أجل البقاء» وهو تقرير «اللجنة المستقلة المشكلة لبحث قضايا التنمية الدولية» برئاسة «ولي برانت Willy Brandt» مستشار ألمانيا السابق وحامل جائزة نوبل للسلام لعام 1971. والتقرير طويل وهام، استغرق إعداده عامين، وتمّ تقديم الصيغة الأولى منه عام 1980، والصيغة الثانية المنقحة عام 1983. وقد كتب في فترة كانت ضالة النظام العالمي فيها مساعدة البلدان النامية من أجلها ومن أجل العالم المتقدم نفسه.
وهكذا يرى التقرير أن إعادة تشكيل العلاقات التي تربط الشمال والجنوب على نطاق العالم أجمع قد أصبح التزاماً يتوقف عليه مصير الإنسانية(1)، وأن النظام العالمي الجديد المطلوب إذ ذاك هو العالم الذي يولد من العلاقات الجديدة بين العالمين. ذلك أن هناك، كما يقول التقرير، ما يضاهي الحرب خطراً، ألا وهو احتمال انتشار الفوضى نتيجة انتشار الجوع وحلول النكسات الاقتصادية وإصابة البيئة بالكوارث وتفشي الإرهاب(2).
«فعالمنا اليوم – كما يقول التقرير – عالم يتفشى الفقر والجوع في مناطق شاسعة منه. عالم يواصل تبديد ما لديه من الموارد دون الالتفات لإمكان تجددها»(3). ومن أبسط مقتضيات الإنسانية والمروة أن نعمل على قهر الجوع والأمراض خلال تلك الفترة التي تفصلنا عن القرن الحادي والعشرين. وذلك حتى نقيم البرهان على خطأ هؤلاء الذين يتنبأون بأن العالم سوف يشهد في مطلع ذلك القرن محنة مئات الملايين من البشر الذين سوف يعانون انتشار المجاعات وتفشي أمراض كان يمكن الوقاية منها(4).
ومما نقرؤه في هذا التقرير الهام: «والواقع أنه لا يوجد فرق من الناحية الخلقية بين قتل كائن من الكائنات نتيجة للحرب وقتله جوعاً نتيجة لعدم مبالاة الآخرين بمصيره»(5).
على أن المقولة الأساسية التي تتحلّق حولها الأفكار الواردة في التقرير هي أن تنمية الجنوب تيسّر المنافع للشمال، وأنها شرط لزيادة تنميته، وأن «الدول الصناعية في حاجة الآن إلى زيادة اهتمامها بتوسيع أسواقها في العالم النامي». ذلك أن المرء إذا أراد أن يحصل، على حد تعبيره، على شريحة أكبر من الكعكة الاقتصادية الدولية فإن من غير المعقول، إن كان جاداً، أن يعمل على إنقاص حجمها.
هذا طرف ممّا جاء في التقرير. وهو يعكس تياراً كان ذائعاً وشائعاً في العقود الماضية، نفضته الأقلام وطوته الصحف، وظهر فيه كثير الكثير من الدراسات التي تدعو إلى إقامة نظام عالمي اقتصادي جديد، يحقق التعاون العادل بين الدول المتقدمة والدول النامية، ويحمّل الدول المتقدمة كثيراً من جرائم تخلّف العالم الثالث.
ذلكم عهد قد خلا، ويحل محله، بخطى ثابتة بل سريعة، عالم يكاد ينقض منطلقاته العالمية الإنسانية. ولم يقتصر التحوّل على التزام الصمت حول مساعدة العالم الثالث، وعلى مجرد الإحجام عن تقديم العون له، بل ولدت، بعد تراجع الحرب الباردة وزوالها، فلسفة قوامها الخوف من الجنوب، الخوف من فقره وآفاته وعلله، والخوف من تكاثره وتوالده، والخوف مما سيفجره الفقر والتكاثر والمرض من صراعات واضطرابات وقلق داخل ذلك العالم، لا بد أن تنعكس على الدول المتقدمة. ومن هنا كان لا بد، في نظر تلك الفلسفة، من لجم أمائر الفوضى وعدم الاستقرار لدى البرابرة الجدد، أهل الجنوب، بشتى الوسائل المتوافرة وعلى رأسها العنف والترغيب والترهيب، كيما تنام عين أبناء العالم المتقدم راضية مطمئنة، وكيما يحافظ ابن الشمال على طراز حياته الناعمة ومتعة اللَّذة.
شاهد من أهل الشمال:
ومن أجل الدخول في وصف هذه الوجبة غير الشهية التي يقدمها أبناء الشمال لأبناء الجنوب. نودّ أن نمهّد لذلك بوصف أدبي رائع لها نستقيه من خطاب جذّاب ألقاه الكاتب الألماني «كريستوف هاين Christoph Hein» (المنشق عن ألمانيا الشرقية سابقاً) في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 1991 إبّان تظاهرة ضد العرقية وكره الآخرين، نظّمها مجمعا الآداب في برلين الغربية والشرقية. وفي ذلك الخطاب الساخر، يتحدث الكاتب عن أولئك الذين يشنون الحملات على المغتربين من بلدان العالم الثالث في ألمانيا وسواها(6)، غير أن حديثه يصدق على الصلة بين الشمال والجنوب بوجه عام. ونجمل في ما يلي، مع القليل من التصرف، بعضاً من أقواله التهكمية المعبرة:
«يقال إن الألمان والأوربيين والأميركيين قد أصبحوا كارهين لمن عداهم، أشداء على سواهم، ومعتدين شرسين. لقد كذب من قال ذلك.. وكل ما في الأمر أننا نعادي الذين يهددوننا، وعلينا أن نعاقبهم أشد العقاب إذا أردنا أن نجنب أنفسنا المخاطر والدروب العسيرة».
ويعاود مثل هذا القول، الذي يكاد يكوّن اللحن الناظم لخطابه، ويؤكد مرة أخرى: لا لسنا معادين للآخرين. يا لها من شائعة مغرضة، بل إننا نحب زيارة البلدان الغريبة، وكثيراً ما يطيب لنا ما فيها من مآكل لا نعرفها، ولطالما أغرانا طراز لباسها أو نمط سلوكها. وكل ما هنالك أننا نكره الفقر. ومن الحق، واحسرتاه، أن بعض هذه البلدان فقيرة كأقسى ما يكون الفقر، ونحن نخشى جرثومة الفقر، ونخشى أن نلتقطها. إن خوفنا من أن نصير فقراء خوف يبلغ الهلع.
وبمثل هذه المعاني يٌخاطب أبناء البلدان الفقيرة، أبناء الجنوب. ومما يقوله: لا، ليست كراهية الغرباء هي التي تجعلنا قساة عليكم. إننا نريد أن نحافظ على رخائنا، مهما يكن متواضعاً، ولزام علينا أن نحميه منكم. لقد بدأتم تعلنون الحرب علينا، عن غير علم منكم. إن عالمكم هو الذي غزا عالمنا. وإذا نحن لم نوفر الحماية لعالمنا هذا، العالم المصنّع الغالي على نفوسنا والذي لن نتخلى عنه، فإنه سوف يتداعى في الهوة السحيقة لعالمكم الثالث. إننا مضطرون إلى أن نقفل دونكم أبوابنا وبيوتنا – التي تبدو لكم قصوراً – لنصدّكم عنها. فعالمنا، إذا امتزج بعالمكم، تردّى وسقط في الدرك الأسفل.
ويتابع فكرته هذه على نحو آخر فيقول: إن سكان الولايات المتحدة يمثلون 5 بالمئة من سكان المعمورة، وهم في حاجة إلى 27 بالمئة من ثروات هذا الكوكب. ونحن الأوربيين (وعدد سكاننا 10 بالمئة من سكان الأرض) نستهلك مع أمريكيي الشمال أكثر من نصف مجموع الثروات الطبيعية في العالم. إن الواحد من عندنا يستهلك كل عام 230 كلغ من الورق. فإن نحن تركناكم وشأنكم تستهلكون قدر ما نستهلك، فسلام على المناطق الخضر بعد سنوات عشر، تلك المناطق التي نعتبرها لازبة لحياتنا، وسلام على قطعان الحيوانات التي تتوقف حياتها على حياة الفيافي المعشوشبة. ولو كان لدى كل واحد منكم جهاز مبرّد، أو كان يستخدم رذاذ الروائح والمستحضرات الكيماوية المعطرة أو سواها مما ينبث في الجو، إذن لتهدمت طبقة الأوزون التي نحتاج إليها جميعاً، ولذهبت أدراج الرياح إلى غير رجعة، قبل أن تكملوا دفع أقساط جهاز التبريد الذي ابتعتموه. ولو كان لكل منكم منزل أو سيارة، غابت المروج والبراري والغابات ولم يبق لأطفالنا حلبة للعب. إنكم تصرّون على أن تشاركونا حياتنا، وهذا عدوان علينا، عدوان على رخاء مجتمعاتنا، عدوان على ثقافتنا.
لا، لا بد أن نبني بيننا وبينكم سدّاً. ولن يكون ذلك السد من الحجارة أو الصّفر أو زبر الحديد، فكل سدّ، مهما يكن منيعاً، لن يقينا بؤس العالم الثالث. ولهذا اصطفينا أمتن ما نملك من سدود، سدّاً لا يقوى أحد على الغلبة عليه، هو سد المال.. تعالوا إلينا إن كنتم قادرين على توظيف أموالكم عندنا. أما إن أعوزكم المال فلا أقلّتكم أرضنا ولا أظلّتكم سماؤنا. وإن فعلتموها، وجئتم إلينا فاغري الأفواه خاوي الوفاض، فاعلموا أنكم تبادهوننا بالعدوان وتحملوننا على أن نصدّكم صدّاً عنيداً. ولن نكون عندها المجرمين أو البادئين بالجريمة. إنكم أنتم المجرمون، حين أعجزكم أن توظفوا أموالكم في اقتصادكم.
إن الذي يأتي إلى هذه الدنيا في إسطبل، والذي يرقد في معلف بدلاً من السرير، سوف نصلبه، لأننا نخاف أن نأتي بأطفالنا إلى الدنيا يوماً في إسطبل. إن صلاتنا ودعاءنا ونسكنا وعبادتنا للمال وحده. وديننا هو هذا الجدار الصلد المانع القادر على حماية حدود عالمنا، عالم الشمال، عالم الأخيار، في وجه المعوزين الذين يظنون أن الاستمساك بحقوق الإنسان لا بد منقذهم، والذين أضلّتهم وسائل الإعلام فحسبوا أن بلدان الشمال لا تعوزها إلا المعرفة، المعرفة بأحوالهم وحاجاتهم وبؤسهم.
ثانياً: تقرير مؤتمر الأمم المتحدة من أجل التجارة والتنمية
ولكن، لندع هذا الوصف الساخر للمشكل، على روعته وعمق معناه. وما أردناه إلا توطئة لدخول الموضوع من أبوابه، وما أكثرها.
وإن شئتم قبل أن نطرق الباب، أن نتأكد من ملامحه فلا نضلّ عنه. إليكم بلغة أدق، بعض ما نجده في التقرير السنوي الأخير، لمؤتمر الأمم المتحدة من أجل التجارة والتنمية (UNACTAD) ذلك التقرير الذي نشر في السادس عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1991. وفيه نقرأ نصّاً وحرفاً: إن الجنوب قد خسر فضائله الأساسية وتناقص الاهتمام به في زحمة الهموم والمشاغل الآنية التي تطغى على الساحة العالمية. وبينما نجد الشرق على حد قول التقرير يسأل طالباً الجواب عن مشكلاته، لا يثير العالم الثالث أي اهتمام بعد أن كان في الماضي يلهب النفوس. ذلكم أن العالم الثالث لا يثير من الاهتمام إلا ما تولده المخاوف منه: كالخوف البيئي الذي يثير الرعشة كلّما هوت شجرة في غابات الأمازون، والخوف من مرض نقص المناعة المكتسبة (إيدز Aids) الذي يخطف رؤوس الأفارقة، والخوف من الهجنة وامتزاج الدماء، ومن التدافع على حدود أوروبا، الذي يزيد فيه تفكك بلدان أوروبا الشرقية، والخوف الديمغرافي السكاني ولاسيما من العرق الأصفر والأسود، في مواجهة غرب يضم قلة القلّة من السكان بينما تتكاثر فيه الثروات وتتجمع. لقد أصبح حضور الجنوب في النفوس، كما يقول التقرير، حضوراً لمجرد الذكرى ، بل حضوراً ساخراً هدفه أن يهدينا إلى الطريق التي ينبغي ألاّ تتبع.
ويضيف التقرير أن العالم الثالث يزداد فقراً يوماً بعد يوم، ما خلا البلدان النفطية. ذلكم أنه ليس سيد مصيره، وهو الخاسر الأكبر في حلبة التبادل التجاري، لاسيما عندما يكون التبادل حراً يحكمه قانون السوق كما تريد بلدان الشمال. إنه الخاسر دوماً لأنه يواجه منافسين أقوياء يضمنون لأسواقهم الربح بألف ألف وسيلة، وينادون بالانتقال الحر لبضائعهم. ولا عجب بعد ذلك أن تبلغ ديون العالم الثالث عام 1991 نيفاً وثلاثمئة وثمانية عشر مليار دولار. وبدلاً من توليد حلول خاصة بكل بلد، على وفاق مع مرحلة النمو التي يمر بها ومع قيمه وثقافته، ومع مواطن الضعف والقوة لديه، يُجَرّ العالم الثالث، عالم الجنوب، وراء الحبل الليبرالي الذي تمدّه إليه واشنطن دون ما اكتراث بالكوارث الإنسانية التي تولّدها هذه الحال، والتي غدت هيئة الأمم ومنظماتها تعرفها حق المعرفة. وهكذا اضطرب الحوار بين الشمال والجنوب، وغشيه الغموض والضباب من خلال مثل هذه الصيغ المتناقضة، التي يقدمها الشمال والتي تمد يد المساعدة في الظاهر، بينما تؤثر التجارة والربح على العون والإيثار في حقيقة الأمر. ويسائل التقرير في خاتمة المطاف: لماذا نُكره عدداً من الدول الفقيرة على الاستمرار في سياسة التبادل الدولي للمنتجات الأساسية ولمّا تبلغ بعد درجة كافية من الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء؟
هل تريدون المزيد من الشواهد؟ إنها أكثر من كثيرة. وهل تريدون فضلاً من الأرقام والإحصاءات التي تشير إلى تعاظم الهوة بين الجنوب والشمال؟ ما أكثرها وما أحفل الكتب والدراسات بها. حسبنا منها رقم واحد، ورد في تقرير اجتماع «الصندوق الدولي للتنمية الزراعية» في جنيف، وهو تقرير حديث صدر في السادس من شهر شباط/ فبراير 1992. يقول التقرير إن المرأة بوجه خاص عرضة للفقر في المناطق الزراعية في العالم الثالث. يشهد على ذلك أن ثمة خمسمئة وخمسين مليون امرأة في العالم (من أصل 950 مليون إنسان) يعشن دون خط الفقر، أي أن عددهم يبلغ عدد سكان أوروبا وسكان الولايات المتحدة مجتمعين. أو لم ير بعض الباحثين أن الفجوة بين الشمال والجنوب تبلغ 65-100 سنة حضارية، وأنها مع ذلك ماضية في الاتساع يوماً بعد يوم؟ أفلا نعلم جميعاً أن متوسط دخل الفرد في الشمال يفوق متوسطه في الجنوب مئة مرة أو تزيد؟ أفلا تشير الإحصاءات إلى أن متوسط العمر في الشمال يتحلّق حول خمس وسبعين سنة، بينما لا يتجاوز خمساً وأربعين سنة في الجنوب؟ على أن الأرقام في هذا المجال غدت مبذولة مكرورة، وليست هي قصدنا.
ثالثاً: إمبراطورية الشمال في مواجهة برابرة الجنوب
لندع إذن هذه القرزمات الأولية لنمضي إلى صلب موضوعنا، موضوع الولادة التدريجية التي يتكشف عنها النظام الدولي لإمبراطورية يبنيها الشمال في مواجهة برابرة الجنوب. وهي ولادة، كما قلنا ونقول، ما تزال في المخاض، ولكن كل شيء ينبئ بأنها آتية لا ريب فيها إن لم يقم جهد جبار في سبيل مقاومتها، لاسيما أننا نجد الكثير من تباشيرها منذ اليوم. ويزيد في احتمالات استشراء مثل هذه العلاقة الخصامية بين الشمال والجنوب، زوال الصراع بين الغرب والشرق، الأمر الذي يؤدي في عُرف كثير من المحللين الثقات إلى الاعتقاد بأن الصراع بين الشمال والجنوب هو البديل الذي يحل محله. وكثير من الأحداث تشهد على ذلك. وهل لروما، على حد القول المأثور وجود لولا أعداؤها؟ إن أي حضارة لا تستطيع أن تتأمل طويلاً ما حولها من فراغ دون أن تمتلكها فكرة موتها هي نفسها. والعالم المحيط بإمبراطورية الشمال عالم بربري لا يعرف الحضارة ومن واجب روما (وروما اليوم هي إمبراطورية الشمال) أن تقدم لذلك العالم الحضارة كما تفهمها، أو أن تحاربه إن هو أبى وتابع مسيرته البالية، وكان مصدر قلق وتهديد لتك الحضارة. إن الزوج المؤلف من الإمبراطورية والبرابرة زوج متناقض في كل شيء في زعم أصحاب هذا المنزع، فروما تريد أن تكون ضامنة للسلم والوفاق، بينما البرابرة يحتربون من غير حدّ. وهي موحّدة في ثقافتها وحضارتها، بينما هم شتات كثير. وهي تؤمن بالعقل والعلم، ودينها يسهم في نظامها الاجتماعي، بينما تعصف بهم رياح العصبية والتعصب. وهي تمارس العدالة وتحترم القانون والحق، أما هم فلا تردعهم إلا القوة والبطش.
ولا يشهد على التناقض بين الشمال والبرابرة المحدثين مجرد الضجيج الذي نسمعه لمناسبة صراع معين. إنما الذي يشهد عليه ما نلمس من صورة شاملة جديدة متكاملة أخذ العالم المتقدم يكوّنها عن العالم الثالث في مختلف الميادين السكانية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وأسطورة تنمية الجنوب بعون من الشمال، تلك الأسطورة التي داعبت النفوس ردحاً من الزمن، تمزّقت للمرة الأولى، كاشفة الغطاء عن حقيقة طال إخفاؤها وطمسها: وهي أن الصلة بين الشمال والجنوب ليست صلة المتقدِّم بالمتأخر الذي يحاول اللحاق به، وإنما هي صلة الضدّين اللذين يسير كل منهما في عكس اتجاه الآخر.
1- ولادة الجنوب؟
ولنقف قليلاً عند الجنوب:
لقد دخل الجنوب التاريخ منذ زمن قريب لا يعدو ثلاثة قرون. أو بتعبير أدق، لقد دخل التاريخ الأوروبي الجنوب في ذلك الحين. ومن هنا تبدأ الحكاية: الجنوب يدخل التاريخ مسرحاً للأحداث، ولا يدخله صانعاً لها. وتبدأ المغامرة الاستعمارية التي لا تعدو أن تكون سلسلة من الصراعات بين القوى الأوروبية لا شان لأبناء الجنوب بها إلا شأن المستعبد المستغلّ. وتدوم هذه المغامرة ثلاثة قرون أي حتى بداية القرن الحالي. وعندما يدرك الشمال انه ليس عالمياً شاملاً (من خلال صراع السلطة على الكون بين قطبيه، قطب الدول الغربية وقطب الدول الشرقية) يصبح التاريخ الذي يعنيه هو التاريخ المحصور في حدود معينة، نعني الحدود التي تفصله عن الجنوب. أما ما وراء ذلك فلا قيمة له ولا شأن.
ثم تأتي الأحداث تلو الأحداث، والشمال يُعرض عن الجنوب وينأى عنه دون أن ينأى عن مصالحه فيه واستغلاله لخيراته. وهكذا تولد رويداً رويداً إيديولوجيا الفرقة والانفصال، ولاسيما بعد نهاية الحرب الباردة. وهي إيديولوجيا تجذب إليها من يخيفهم الجنوب. وفي مواجهة الكوارث التي تبدأ بالذيوع في الجنوب والتي سيشتد أوارها، فيما يرهص أصحاب هذه الفكرة. ومن أجل مقاومة العداء الذي يحمله الجنوب في زعمهم لقيم حضارة الشمال، لا بد من إقامة حدّ فاصل، يكون بمثابة حزام استقرار وأمن، يعزل الشمال عن الجنوب، ويطمئن أبناء الشمال وينزع الرعب من قلوبهم. وما دام الشمال عاجزاً عن اجتناب المآسي والكوارث التي تفرّخ في العالم الثالث، فليبعدها إذن وليجعل بينه وبينها حجاباً. وحضارة الشمال تفضل دون شك أن تضيق حدودها في المكان على أن يقصر عمرها في الزمان.
2- مناطق الجنوب الأساسية
وزيادة في الإيضاح يرى بعض الكتّاب، من أمثال جان كريستوف روفان
Jean-Christophe Rufin(7)، في كتاب له حديث أثار ضجة كبرى يحمل اسم الإمبراطورية والبرابرة الجدد، أن الجنوب يضم مناطق ثلاثاً: أولاها هي تلك التي تقع على خط التماس المباشر مع الشمال، وفيها نجد دولاً كالمكسيك وكوبا وبلدان المغرب العربي وتركيا وإيران والهند والصين وما شابهها. ففي هذه المناطق جميعها نجد التماس بين العالمين مباشراً والخطر بالتالي في ذروته.
ووراء تلك المناطق نجد دولاً أشبه بالمحطات التجارية للشمال، ولهذا فيها مصالح اقتصادية أو سياسية مباشرة. ومن أبرزها إفريقيا الجنوبية وإسرائيل.
وأخيراً تتكون المنطقة الثالثة من أعماق القارات والأراضي المجهولة. وهي لا تعني الشمال إلا بمقدار ما تخيفه.
ولنتريث قليلاً عند المنطقة الأولى التي تقع على خط التماس المباشر مع الشمال، كما ذكرنا. إنها موضع اهتمام بالغ من قبل الشمال، سواء كان هذا الاهتمام دبلوماسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً. ويطلق عليها روفان اسم المناطق العازلة. وهي مناطق من الجنوب تكوّن جزءاً من العالم البربري. ولوقوعها بين الشمال وبين أعماق عالم البرابرة، تتنازعها الصراعات والتناقضات الديمغرافية والاقتصادية والسياسية. ومهمتها، في نظر الشمال، أن تمتص تلك الصراعات وأن تذيب الفوارق القائمة في صلبها. وعليها بعد ذلك، بل فوق ذلك، أن تثبّت جماهير الجنوب وتخفّف من قدرتهم على التدافع خارج الحد الفاصل بين الشمال والجنوب. وبتعبير آخر، إن مهمتها في نظر الشمال أن توفّر الرقابة الاجتماعية على شعوبها وتحول دون تحركها، وأن تعقد علاقات سلمية طيبة مع الشمال. ويقول موجز إن على الدولة العازلة أن تحقق الاستقرار. وأياً كان حجمها، وأياً كانت مواردها وكان تاريخها ونظامها السياسي، فإن الفضل الوحيد الذي تقدمه، هو فضل لا يقدّر بثمن، هو الاستقرار.
أما المنطقة الثانية وراء الدول العازلة، نعني منطقة الدول التي تشكل محطات تجارية واقتصادية وسياسية للشمال، كإسرائيل وجنوب إفريقيا وباناما، ومانيلا وجاكارتا وجزر المالوين وسواها، فشأنها معروف، ودورها واضح للعيان. إنها تغور في أعماق الجنوب ولا تربطها بالشمال إلاّ شبكة من المصالح المتبادلة.
وتأتي المنطقة الثالثة والأخيرة، وهي التي تحمل من صراع الشمال والجنوب وزره الأكبر. إنها عالم الأشباح البعيد جداً عن حدود الشمال، والتناقض بينها وبين الشمال على أشدّه. وتلك الأعماق البربرية، كما يقول روفان أيضاً، أعماق يسودها التمزّق، ويغلب عليها العود إلى حال التوحّش، كما نرى في ليبريا والحبشة وجنوب السودان والصومال وجيبوتي وكثير من أجزاء أفريقيا السوداء، أو في بعض أعماق شرقي آسيا. وما يثور في تلك المناطق من عنف أمر يصعب ضبطه. وتخلُّفها الاقتصادي الذريع يشبه الإفلاس الكامل. ونمو القوى الخفية والمجرمة فيها نمو متسارع. وكأن ثمة علاقة مالتوسية لديها بين خصوبة في النسل لم تهبط معدلاتها أبداً وبين الكوارث والجائحات الكبرى التي تخطف ملايين السكان، كالأمراض والحروب ونقص الغذاء. غير أن موتاها لا يثيرون أحداً ما دام الشأن شأن الجنوب وما دام الشمال في منأى، وما دام الموت لم ينل من دماء أبنائه. وكلنا يعلم أن موت راهبتين شقراوين أو صحفي أمريكي في الجنوب يثير من الاستنكار والنقمة ما لا يثيره موت الآلاف من أبنائه الأصليين. فالحياة في الجنوب لا قيمة لها. ولئن كانت المساعدات الإنسانية للجنوب قد ولدت في بيافرا Biafra، فإنها ماتت في ليبريا Liberia، على حد تعبير كليمان Clement. وما جرى في ليبريا مثال للانقطاع الذي حدث لدى جمهور الشمال بين مشهد البؤس وبين الانفعال أمامه. فالانفعال قد زال لدى جمهور الشمال، معبراً عن عدم الاكتراث بما يحدث في العالم البربري «النائي». حتى لكأن الإنسان لا يوجد إلا في الشمال. أما في سواه فالشخوص المتحركة التي نجدها وسط خرائب البلدان المهدمة، ليسوا بشراً بل هم صور. إن مشهد محنهم باقٍ تنشره وسائل الإعلام، لأن الشمال يستهلك ما لا يقدر من الصور والمشاهد، ولا بد أن تجد الأعاصير والمجاعات والحروب الأهلية مكاناً في هذا الجهد التصويري المتأنق. غير أنهم لا يثيرون أي بقية من حميّة ومن تضامن إنساني.
رابعاً: العقد بين الشمال والجنوب
وجملة القول إن إمبراطورية الشمال ، وهي المزدهرة والشامخة في آن، تنزع إلى ما ينزع إليه أفرادها: ألاّ تتكاثر، وأن تبقى أطول مدة ممكنة يحتضنها دفء الثروة والسلم. وفلسفة الشمال أن بلدان الجنوب ينبغي أن تقدم له أغلى شيء عنده، نعني الأمن والطمأنينة. ولكن هذا يفترض قيام عقد بين الجانبين. وقوام العقد أن الشمال، وكأنه فاوست جديد، إذا أراد الحياة الأبدية فعليه أن يدفع ثمنها عن طريق بعض التنازلات الظاهرية. عفواً، إنها ليست تنازلات، والتضحية المطلوبة ليست جسيمة ما دام الثمن الذي يطلبه في العقد مقابل ذلك هو أن يسلب الآخرين، أهل الجنوب، سعادتهم وصحتهم وحياتهم. ومن لا يجنح إلى الكرم والإسراف إذا كان ما ينفقه هو من حساب كائن مجهول؟ وإذا كان ثمة حرج في مثل هذا العقد، فلن يكون إلاّ حرجاً أخلاقياً، وهو حرج لا يشعر الشمال أمامه بالذنب ما دام الجنوب مسرحه.
لقد كنّا نعتقد حتى عهد قريب، في ما يقول روفان أيضاً، أن الأمن والعدالة مطلبان يمكن التوفيق بينهما، بل كنا نرى فيهما هدفين متكاملين. أما في العقد الجديد فلا بد أن نختار بين أمرين ما فيهما حظ لمختار. فعلى الشمال كما يرى أنصار الفلسفة الجديدة، أن يحجم عن أن ينشر في العالم كله نموذجه السكاني الديمغرافي، ومثله العليا الديمقراطية، ونزعته إلى زيادة الإنتاج ورفع مستوى الإنتاجية. وعليه أن يتبع في الجزء الأخير من العالم طرائق مختلفة وقواعد خاصة. عليه في ذلك الجزء الآخر أن يجترح العنف إذا لم يكن سوى العنف مركب، والبؤس والكوارث القاتلة عندما يكون ذلك مفيداً، والحرب إذا هي اقتصرت على حرب ذوي القربى وعلى احتراب أبناء الجنوب في ما بينهم، وإذا كانت نائية بعيدة عن أعين الشمال.
والتنازلات التي يقدمها الشمال في العقد الموعود الذي يأخذ طريقه سرباً على مهل ولكن دون استحياء. هي إذن مجرد «طوبياء»، نعني إخفاء العدالة الإنسانية. فماذا يجني الجنوب إذن في مقابل هذا الوهم والسراب، في مقابل اللاشيء؟ إنه يحصل على ما يضمن أن يتركه الشمال يحيا في سلام ويكف عنه عدوانه وأذاه.
ومن خلال ذلك يتوجب على إمبراطورية الشمال أن تقيم توازناً عسكرياً على الحدود الفاصلة بينها وبين الجنوب. وعليها بعد ذلك أن تضمن عدم قيام أخطار بعيدة، تلك التي تقع في أعماق عالم البرابرة. وعليها أخيراً أن تمارس على طول حدود الجنوب ديبلوماسية قوامها التفاوت وعدم المساواة.
ويرى روفان أن هذه الشروط اللازمة لتحقيق إيديولوجيا الشمال ممكنة التحقيق. ولن نمضي في تفنيد ذلك. وحسبنا أن نستخلص من هذا كله أن العقد المطروح أمام أبناء الشمال عقد متين وجادّ وصادق في نظرهم، وإن يكن فظاً غير أخلاقي. إنه يقول بإيجاز: إذا رفض الشمال العدالة فإنه سيحصل على الأمن والطمأنينة. وهكذا فالتعارض بين إمبراطورية الشمال وبين برابرة الجنوب هو بحق في رأي أصحاب هذه الفلسفة، نظام دولي جديد متوازن. وإيديولوجيا هذا النظام الجديد هي الآتية: الاعتراف بالتعارض بين الحق والحرية واحترام الإنسان والتقانة (التكنولوجيا) من جانب وبين نقيضها، نعني الدوران والتخريب والعنف السياسي والعصبية من جانب آخر، أو بتعبير موجز بين الحضارة التي يرعاها الشمال وبين البربرية المحدثة في عالم الجنوب. ويضم هذا النظام الدولي الجديد، على أنقاض الحرب الباردة، جميع من يودون مجتمعين وقاية أنفسهم من مخاطر هذه البربرية الجديدة، والذين يملكون الاستعداد، من أجل الوصول إلى ذلك، للتعاون مع الولايات المتحدة ومن والاها. إنه نظام يرسم قواعد جديدة، يختلف شأنها باختلاف العالمين. ففي الشمال، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص، ينبغي أن يسود القانون والحق والحرية والتضامن. وفي التعامل مع الجنوب، يسود أكبر قدر من الواقعية والبراغماتية، ولكل حال لبوسها، ولكل ظرف قواعده شريطة أن تكون ناجعة فعّالة. والهام في هذا كله هو الغاية لا الوسيلة. وهكذا ندخل عصر النزعة العالمية المحدودة: فالحق والديمقراطية والعدالة الاجتماعية مُثل عليا مشروعة وواجبة للجميع، ولكن في حدود الإمبراطورية وحدها، نعني الشمال. والعقد القائم على الأمن من دون العدالة أخذ يفرض نفسه شيئاً بعد شيء.
خامساً: كيف يواجه الجنوب ما يبيّت له؟
وبعد، لقد جلنا جولة طالت أكثر مما قدرنا لنتحدث عن بدايات ولادة هذا المنزع أو تلك الفلسفة التي بدأت تتضح معالمها، ويخشى أن يستشري داؤها سريعاً ونحن عنها غافلون. ومع ذلك لم نوفِ الحديث عن هذه الفلسفة الجديدة طرفاً من حقها، ولم نطرق غير شعاب قليلة من دروبها الكثيرة. ولم نتريّث بوجه خاص عند نظرة هذه الفلسفة إلى كل دولة من دول العالم الثالث المتباينة في أوجه كثيرة، المتقاربة في معظم الأوجه، وهكذا اقتصرنا على الأعم الأعم، ورسمنا صورة هيكلية كنا نتمنّى أن يتّسع المجال لنملأها باللحم والدم.
على أن ما يعنينا من هذا كله هو موقف دول العالم الثالث وموقف البلدان العربية بوجه خاص من هذه الفلسفة الزاحفة.
وقبل أن نمضي في هذا، نود، دفعاً لأي لبس، أن نقول كلمة موجزة جداً عن منهجنا في معالجة هذه المشكلة العالمية أو سواها. ذلك أننا لا نرتضي المنهج «الانبغائي» منهج التمني والأمنيات، ونتخذ المنهج الموضوعي العلمي لنا أسلوباً. وقوام نهجنا العلمي في معالجة موضوع العلاقة بين الشمال والجنوب وفي معالجة إمكانات تغييرها وتطويرها بوجه خاص، هو أننا نرى مع كثير من الكتّاب والباحثين اليوم، أن عالمنا الراهن هو عالم عدم اليقين، وأن إطار القلق الاستقرار قد شمل أبعاد المعمورة كلها في شتى الميادين وجعلها في حال الالتباس وعدم التحديد. ومن هنا فالاحتمالات مفتوحة، ولكن من خلال تحليل الواقع تحليلاً موضوعياً. والمعقّد، لا البسيط، هو طابع الأحداث في كل شيء، كما تقول نظرية المفكر الفرنسي ادغار موران Edgar Morin(8). ولزام على المرء في عصرنا وأيامنا أن يعمل منطلقاً من أن كل شيء محتمل. وجهد المرء، وجهد الدول أن تختار من بين الاحتمالات أفلها وأقربها إلى التحقق، وتناضل في سبيل ما تختار.
ولنعد أدراجنا إلى حيث تركنا موضوعنا، أي إلى البحث عن الموقف الذي يتوجب على بلدان العالم الثالث، ولاسيما البلدان العربية، اتخاذه أمام احتمالات الصراع المتزايدة مع الشمال.
ونقول بادئ ذي بدء، إذا كانت للشمال أسلحته الماضية ضد الجنوب، فللجنوب أيضاً أسلحة تقلّ عنها مضاء ولكنها قادرة على أن تهزّ أركان إمبراطورية الشمال دوماً وأبداً. ولنذكر من هذه الأسلحة بعضها:
1- في مواجهة التوازن العسكري الذي يريد أن يقيمه الشمال على طول الحدود الفاصلة بينه وبين الجنوب، لنذكر أن كثيراً من بلدان الجنوب تملك جيوشاً، وأن بعضها حصل أو قد يحصل على السلاح النووي، مهما تكن الرقابة الدولية على ذلك. ثم إن كلاًّ منّا يعرف كيف تستطيع حركات مقاومة مسلحة غير منظمة أن تزعج جيوشاً مجهزة بأحدث الأسلحة. يضاف إلى هذا أن الجنوب يستطيع أن يفيد من كتلته البشرية الهائلة ومن تفوقه الديمغرافي، وهو تفوق قادر على إثارة الاضطراب بل إشعال الثورات ضد الشمال وأعوانه، على الرغم من التفوق التقاني للشمال. وفوق هذا وذاك، كلنا يعلم أن نظرية الحد من الأسلحة ما تزال أمنية بل وهماً، وأن أي دولة تستطع اليوم الحصول على السلاح بضروبه المختلفة ومن شتى أنحاء العالم، إن هي ملكت ثمن هذا السلاح. وإننا لا ننسى أن كبريات دول الشمال، وعلى رأسها الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، هي المصدّرة الكبرى للسلاح، وهي الحريصة على الإتجار به دعماً لاقتصادها أو إنفاذاً لسياساتها. ويشتد هذا كله في الدول التي أطلقنا عليها اسم «المناطق العازلة» حيث تصعب الرقابة على السلاح. وفوق هذا كله، ينضاف إلى المنطق التجاري لدول الشمال المنطق التجاري لدول الجنوب، حيث نجد بلداناً عديدة تنتج الأسلحة وتصدّرها (كما في البرازيل والأرجنتين والصين والهند ومصر، على سبيل المثال لا على سبيل الحصر). وإن يكن الجنوب في مجمله ضعيفاً. فالمناطق العازلة بين الجنوب والشمال تنطلق كما نعلم انطلاقاً متوفزاً ديناميكياً نحو التسلح، بصرف النظر عن أغراض تسلحها.
2- ولندع السلاح الحربي، ولنمض إلى ما يسود لدى الشمال من نزوع إلى الابتعاد عن الجنوب، كما رأينا عبر هذه المحاضرة. ولنسائل: إلى أي حد يستطيع الشمال أن يهرب من الجنوب ومشكلاته؟ فلئن حزم أمره على مقاومة الإرهاب وحقق خطوات محدودة في هذا السبيل، فأنّى له أن يواجه مشكلة المغتربين عنده ومشكلة اللاجئين؟ أين يمضي على سبيل المثال بخمسة ملايين أفغاني هجروا بلادهم أثناء الحرب وذهبوا إلى أوروبا والولايات المتحدة؟ وكيف يجتنب بعد ذلك ما يصله من الجنوب من تجارة المخدرات، وكيف يتقي شر المحن البيئية؟
3- يضاف إلى هذا أن في وسع الجنوب أن يفيد من التناقضات وضروب التنافس القائمة بين بلدان الشمال نفسها، وهي تناقضات آخذة في الاتساع وسوف يشتد أوراها يوماً بعد يوم.
4- وأخيراً لا آخراً، حتى متى يستطيع الشمال أن يمارس ضد الجنوب سياسة تقوم على الظلم، ودبلوماسية تنطلق من عدم المساواة؟ وما عساه يصنع مثلاً ببلدان المغرب العربي القريبة إليه، المتشابكة معه، وبتركيا تلميذته، وبالمكسيك التي تحلم بإقامة سوق مشتركة مع الولايات المتحدة إذا ما سمح للكتل البائسة فيها أن تنتقل بين بلدها وبين الولايات المتحدة انتقالاً حراً. وإلامَ تستطيع أن تستمر تلك القسمة الثنائية الفاحشة في عصر يدّعي أنه عصر العالمية والإنسانية، نعني القسمة التي تقصر الحق والديمقراطية والعدالة الاجتماعية على الشمال، وتدع للجنوب القتل والقتال والبؤس والمرض، ولا تكترث لديه بأي قيمة من القيم الإنسانية؟
ذلكم طرف من أسلحة الجنوب في وجه الشمال. غير أن أمضى الأسلحة وأهمها هي التي تقبل على معالجة الصراع والانقطاع معالجة إيجابية. ونعني بذلك ما يتوجب على أهل الجنوب أن يفعلوه بأيديهم وجهدهم وعرقهم إن هم أرادوا ألا يكونوا حثالة النظام العالمي الجديد. وقد يقال إن الشمال، ولاسيما بعد كل ما ذكرناه من نواياه العدوانية السخية، لن يدع للجنوب مجالاً يتحرك فيه وفق إرادته من أجل بناء التنمية الشاملة الحقة في بلدانه المختلفة. ولكن الهامش المتروك للجنوب، على ضيقه، يتيح له أن يعمل جاهداً لتوسيعه، إن هو عزم على ذلك واختار الدرب السليم، درب بناء طاقاته الإنتاجية الذاتية وتطويرها. ومن الوهم أن يظن أن المجتمع الدولي أقدر على تحقيق العدالة والرفاهية في هذه البلدان من الجهود الوطنية، ولا بد أن يدرك أن إقامة نظم دولية ووطنية جديدة والأخذ بالإصلاحات اللازمة ينبغي أن يتم من خلال جهود تبذل وتنسق على الصعيدين الدولي والوطني مجتمعين.
ومن العسير علينا، في هذا الوقت القصير، أن نتحدّث عما يمكن أن تفعله بلدان الجنوب. ومثل هذا الحديث قمين بدراسة برأسها بل بأكثر من دراسة، وقد أشبعه الكتّاب بحثاً وقلّبوه على وجوهه المختلفة ولم يبقوا فيه بقية لمستزيد. ونقول بإيجاز مُخلّ إن على بلدان الجنوب أن تعي واقعها وواقع العالم وما تتعرض له من أخطار لا حدّ لتزايدها. وعليها أن تدرك أن التنمية العميقة الحقّة فيها لا تكون إلا بالجمع الوثيق بين الديمقراطية وبين محاربة التخلف الحضاري بأشكاله المختلفة، وعلى رأسه التخلف الناجم عن أنماط سلوكها البالية. على أن يتم ذلك في إطار الجهد الذاتي المستقل، سواء من أجل تحقيق تنمية ذاتية مستقلة أو من أجل القضاء على ضروب التخلّف في القيم والأفكار والسلوك والحياة الاجتماعية. وفوق هذا وذاك لا بد لكل بلد منها أن يعمل متضامناً مع سائر البلدان النامية، ولاسيما في ما يتصل بالدفاع المشترك عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون. وقد أمعن في تفصيل الحديث عن المهمات التي يتوجب على الجنوب الاضطلاع بها ذلك التقرير الشهير الذي عرف باسم تقرير لجنة الجنوب(9) والذي دبّجه علماء من قارات الجنوب جميعها برئاسة يوليوس نيريري وصدر في أيار/ مايو من عام 1990. وفيه نجد تأكيداً على أهمية الاعتماد الذاتي الجماعي المشترك بين بلدان الجنوب، أي على تعزيز التعاون بين الجنوب والجنوب، كما نجد عناية خاصة بأهمية «ردم فجوة المعرفة» بين الجنوب والشمال، دون أن يُنسى دور التكافل والتكامل العالمي. غير أن هذا التقرير، على حداثته، قد سبقته الأحداث وتجاوزته لسوء الحظ. وتغيّرت العلاقة بين الشمال والجنوب في فترة وجيزة تغيراً جذرياً، كما سبق أن رأينا عبر هذه الكلمة، وهي آخذة سبيلها نحو المزيد من التغير والتجهم. والتقرير نفسه يشير إلى انهيار الحوار بين الشمال والجنوب منذ الثمانينيات، بعد أن بدأ على استحياء منذ عام 1974 ويتحدث مطولاً عن الشكوك الكثيرة التي تعصف بمستقبل العلاقة بين هذين العالمين.
ومثل هذه الدعوة نجدها في تقرير أحدث، هو ذلك الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجية دول عدم الانحياز في قبرص، والذي أنهى أعماله في الرابع من شهر شباط/ فبراير 1992. وهو كما نعلم اجتماع تمهيدي للقمة العاشرة لدول عدم الانحياز المزمع عقدها في أيلول/ سبتمبر المقبل في العاصمة الأندونيسية، جاكارتا. ويشير هذا التقرير إلى التكتلات والأحلاف الجديدة التي قامت في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، وإلى ما نجم عنها من اتساع الهوة بين الشمال والجنوب، نتيجة عدم التكافؤ في المعاملات التجارية بين البلدان الغنية والبلدان النامية، ولأسباب أخرى. ومن أراد المزيد في هذا الشأن، حسبه أن يطلع على أعمال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الذي انعقد في مدينة قرطاجة، بكولومبيا في مطلع شباط/ فبراير 1992 والذي أنهى أعماله في الرابع والعشرين منه، وعلى ما كشف عنه من انشغال الشمال عن الجنوب، سواء نتيجة اهتمامه بدول الاتحاد السوفياتي المنحل، أو لغرقه في معالجة مشكلات الانحدار الاقتصادي في الولايات المتحدة، وفي معظم بلدان الشمال، وعجز دوله عن مساعدة «طالبي الدولار من أجل الاستقرار» أو لإعراضه عن الجنوب ومهانته عنده.
وآية هذا كله أن المستقبل، مستقبل العلاقات بين العالمين، ليس قدراً محتوماً، وأنه سوف يولد من رحم قوى كثيرة متفاعلة، أهمها القوى التي يستطيع الجنوب أن يجندها من أجل تحقيق تنميته الذاتية، ومن خلال سعيه الجاهد لممارسة قصارى جهده للتأثير في مجرى الأحداث، مستهدياً برؤيته وتصوره لنوع العالم الذي يريده، ومسترشداً بالمصالح ابعيدة المدى لشعوبه وبوصفه يؤلف الأغلبية الساحقة من سكان البسيطة، ومن حقه وواجبه أن يقوم بصياغة الطاقة السياسية والاقتصادية والفكرية الكبرى التي يملكها، وأن يجعلها في مواجهة التحديات المسلطة فوق رأسه وفي خدمة الأغراض الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للعالم كله، وعلى رأسها الأغراض الإنسانية.
على أن ما هو أهم من هذا كله أن نعي أن انتهاء الحرب الباردة قد يجعل الجنوب، كما ذكرنا طوال هذه الكلمة، هو البديل، أي هو حلبة الصراع التي يجد فيها الشمال الكتلة التي يصطدم بها، لأسباب كثيرة ذكرناها، وعلى رأسها بحثه عن كتلة صلدة بديلة يثبت بها ذاته ويشعر من خلالها بقوته. لاسيما أن الولايات المتحدة، كما يبين بول كنيدي Paul Kennedy في كتابه الهام صعود القوى الكبرى وسقوطها(10)، تؤرقها فكرة أفول حضارتها. ذلك أنها اكتشفت أن اقتصادها لم يعد الحصن الوطني المنيع الذي يضمن لها التفوق العالمي. ففي عام 1945 كانت الولايات المتحدة تنتج نصف الإنتاج العالمي في عالم ما يزال يشكو من آثار الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1985 تنتج الولايات المتحدة ربع الإنتاج الاقتصادي العالمي الذي تضاعف خمس مرات منذ عام 1945. ويعزو كينيدي ذلك إلى حقيقة تكاد تأخذ عنده صيغة القانون: وهي أن ممارسة القوة العسكرية أمر مكلف اقتصادياً.
ولا يعنينا هنا أن نوغل في هذه الأقوال المكرورة أو أن نفندها. وما نودّ قوله أولاً وقبل كل شيء هو أن على بلدان الجنوب أن تعي الواقع من حولها، وأن تدرك من خلاله كيف ينزلق الشمال رويداً رويداً نحو البحث عن كبش الفداء وعن كتلة التصادم لدى أبناء الجنوب. وهذه الحقيقة تنقلنا إلى جوهر ما نود قوله: وهو أن هذا الواقع العالمي الذي تتعرض فيه بلدان الجنوب وسواها أحياناً، كبلدان أوروبا الشرقية، إلى مخاطر العدوان بأشكاله المختلفة، يدفع الكثير من الدول إلى الاحتماء بكيانها الذاتي وهويتها القومية، تردّ بهما عوادي الزمن. وهكذا بدأ العالم يشهد في الاتحاد السوفياتي وفي بلدان أوروبا الشرقية عوداً إلى الكيانات القومية، تتقي من خلالها العدوان والتفتت العرقي والديني والطائفي وسوى ذلك. كما أخذ العالم يشهد ولادة كيانات جديدة تتجاوز الدول المحلية إلى كتل جامعة مشتركة، كما يحدث في مسيرة الوحدة الأوروبية. وهدف هذه الكيانات أيضاً حماية بلدانها من شتى أنواع العدوان والصراع من خارجها، ولاسيما العدوان الاقتصادي، وحمايتها كذلك من أن يؤدي بقاؤها دولاً مستقلة منطوية على نفسها إلى عودة الاقتتال في ما بينها، تنافساً على المال والسلطة السياسية والعسكرية، على نحو ما كانت عليه في القرن الخامس عشر والسادس عشر وما بعدهما من احتراب لا يكل وتنازع لا تلين له قناة.
سادساً: البلدان العربية ومشكلة الجنوب
وتتخذ العودة إلى الهوية والذات معنى خاصاً لدى البلدان التي يجمع بينها إرث مشترك وثقافة مشتركة، فضلاً عن المصير المشترك. وعلى رأسها تأتي البلدان العربية التي ما توافر لأمة مثل ما توافر لها من عناصر الوحدة الثقافية، والتي تستمد جميعها نسغها وحيويتها وكبرياءها من الجذور العربية الإسلامية المشتركة.
وتؤيد ضرورة السعي إلى احتماء البلدان العربية بكيانها المشترك طائفة من الحقائق منها:
1- ما أتينا على ذكره من ضرورة احتمائها بذاتها، دفعاً لما تتعرض له من أخطار، واجتناباً لأن يغدو مصير الكثير منها مصير الدول المفرطة في البؤس والفقر في أعماق الجنوب.
2- الاتجاه العالمي، بعد الحرب الباردة، إلى عود القوميات ذات التراث الأصيل إلى ذاتها أولاً، ومخاطبة العالم من خلال هذه الذات.
3- الاتجاه في بعض المناطق ولاسيما في أوروبا، إلى التأكيد على أهمية تجاوز الدول المستقلة عن طريق خلق كيان «فوق الأوطان Super-National». وفوق الدول سواء اتخذ شكل الفدرالية أو الكونفدرالية أو الكومنولث أو غير ذلك.
4- مواجهة الأمة العربية مجتمعة لنزعات إسرائيل الاستعمارية والاستيطانية ولبغيها وعدوانها على الأمة العربية.
5- مطالب النهضة الحضارية العربية المرجوة.
ولا حاجة إلى القول، بعد هذا كله، إن هذا الالتفاف حول الكيان الذاتي والهوية الذاتية في بلدان الجنوب بوجه عام وفي البلدان العربية بوجه خاص، لا يعني الأخذ بنزعة انعزالية شوفينية، ولا يعني فتح حلبة صراع مع النظام العالمي، بل يعني على العكس حماية الذات والانطلاق منها من أجل تكوين نهضة حضارية تمدّ جذورها إلى التاريخ والتراث وتنطلق من معرفة وثيقة بالواقع العربي والواقع العالمي ومن إرهاص دقيق بالمستقبل، وتتعاون مع سائر شعوب العالم من أجل بناء حضارة إنسانية حقاً، يزول فيها التفريق والتمييز، وتكون العدالة مبذولة للجميع على حد سواء، ويصبح الجنوب فيها عوناً لنفسه ولغيره من بلدان الشمال من أجل الخروج من هذا الترجح القلق بين الانتصار للحق والعدالة والمساواة وبين حرمان أكثرية بني البشر منها.
لقد كانت حضارة الأمة العربية الإسلامية حضارة إنسانية خلال تاريخها الطويل، وقيّض لها بفضل مبادئها أن تمزج بين ثقافتها وثقافات الأمم الأخرى، وقدمت بفضل منازعها الإنسانية معارفها وعلومها ولاسيما بواكير ما سمي بعد ذلك بالعلم الحديث وبالمنازع التجريبية لحضارة الغرب.
وهي اليوم، حين تأبى أن يكون العالم عالمين، وأن يدق الإنسان أبواب القرن الحادي والعشرين مخلّفاً وراءه كتلة بشرية تجاوز أربعة مليارات إنسان يبيتون على الطوى، وتأكلهم الأمراض، وتجتاحهم الكوارث، فهي إنما تؤكد مرة أخرى منازعها الإنسانية وتدعو نفسها وأترابها من أبناء الجنوب إلى بذل جهود جادة لا كلامية في هذا المضمار، وتدعو الشمال، وهو الذي كان وسيظل مسؤولاً إلى حد كبير عن تردّي الجنوب وتخلّفه، إلى تعاون صادق، جوهره جعل العالم في خدمة الرجال أنّى كانوا، وجعل الثقافة والعلم مقصودين من أجل تنمية العالم، كل العالم.
وقد يسخر بعض أبناء الشمال حين يستمعون إلى مثل هذه الأمنيات الطيبة، وقد يقولون إن التمسك بالحق والعدالة والخير غدت في عصرنا من أوهام الدول الفقيرة. ولكن كثيراً منهم ينادون معنا صادقين: كلٌّ مسؤول عن كلٍّ، وآفات العالم الثالث إما أن يقهرها العالم وإما أن تقهره، والإنسان واحد أنّى كان، فإن غالب إنسانيته لن يربح أي شيء، ولا بد أن يخسر اقتصاده وبيئته الطبيعية ومقومات وجوده على الأرض، بل لا بد أن يخسر سعادته وطمأنينته الجسدية والنفسية أنّى كان.