القومية العربية والنظام العالمي الجديد

نشرته مجلة شؤون عربية – العدد /69/ – آذار / مارس، 1992

القومية العربية والنظام العالمي الجديد

أولاً: نظرة إجمالية:
1- المقولة التي ننطلق منها في هذا البحث هي أن ما يسمى بالنظام العالمي الجديد – وهو النظام الذي أعقب انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية – لابد أن يقود، بالضرورة، إلى بزوغ متجدد نام للهويات الثقافية الذاتية للشعوب ولكياناتها القومية بالتالي. لقد كثر القول بعكس ذلك في الآونة الأخيرة، وحسب الكثير من المفكرين والمنظرين والسياسيين، أن من أمائر النظام العالمي الجديد أنه سوف يؤدي إلى تفتيت الشعوب والقوميات من جانب، وإلى تعاظم النزوع نحو العالمية، نحو نظام عالمي متشاكل متشابه، هو الذي تفرضه القوى الكبرى في العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من جانب آخر. ورأى بعضهم فيما يجري من تفرق إثني وديني في الاتحاد السوفياتي نفسه وفي يوغوسلافيا، بداية لاتجاه نحو تفتت كثير من الكيانات القائمة، بحكم المنازع الدينية أو العرقية أو الإثنية أو سواها. بل إن ثمة من رأى أن ما حدث في لبنان، خلال السنوات الطويلة الماضية، يمكن أن يعد أنموذجاً لما يحدث أو لما سوف يحدث في بقاع أخرى في السنين المقبلة، بعد إضافة عناصر تمزيق أخرى غير الدين، كالاتجاهات الأيديولوجية أو الأصول الإثنية أو سواها.
أما منطلقنا فهو أن السنوات المقبلة قد تشهد مثل هذه الضروب المريضة من التمزق، ولكنها ستشهد في غالب الأحوال صعود نزعات قومية سليمة، تنطلق من الهوية الثقافية الذاتية للشعوب.
2- ذلك أن الكيانات القومية الأصيلة، ذات الجذور الثقافية العميقة، ستجد نفسها مدفوعة – أمام تهديد الدول القوية ولا سيما الولايات المتحدة، وأمام محاولات السيطرة الشاملة على العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وعسكرياً، وبعد أن زال الأثر المعدَّل للاتحاد السوفياتي – إلى الاحتماء بجلدتها الأصيلة، بهويتها الذاتية، بكيانها الثقافي الحضاري المتميز. فالضد يستدعي الضد. والابتلاع الاقتصادي للعالم، ومحاولة «تسطيحه»، وفرض نمط واحد من الثقافة عليه، لابد أن يجد جوابه والرد عليه في احتماء القوميات الحية بثقافتها، وفي جعل هذه الثقافة الذاتية رأس الرمح في معركتها ضد محاولات الإذابة والدمج والاتباع بل والابتلاع. ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن الطابع العالمي للاقتصاد، بوجه خاص، يستلزم ويستدعي نزعة قومية ثقافية يريدها أصحابها علاجاً ضد النزعات العالمية الجشعة، كما يأملون من خلالها أن تولد مواقف سياسية أصيلة رافضة.
3- وسوف يبرز هذا بوجه خاص لدى الأمم التي تملك تراثاً ثقافياً عريقاً. ففي مثل هذه الأمم لابد أن تصبح الأولوية في خاتمة المطاف للتكوين «الجيولوجي» للأمة، إن صح التعبير. ولابد أن يتغلب هذا التكوين، عاجلاً أو آجلاً، على ما تتخذه إرادة السياسيين من قرارات. فقد تستطيع السياسة أن تأمر، غير أن السلطة والقوة أخيراً هما للأصول والينابيع.
وهكذا، فما يدعى، بشيء من التهكم، بالنزعة إلى الماضي، كثيراً ما يحمل في ثناياه القوى الحية القادرة على صنع الحاضر والمستقبل. ولا سيما لدى الشعوب العريقة بحضارتها وثقافتها. ومن هنا لا نغلو إذا قلنا، بعد هذا كله، إن الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة (أي بمعنى الحضارة الذاتية للأمة) سوف تكون هي الأداة الأولى في السياسة الخارجية خلال السنين المقبلة. والجذور الثقافية لدى أمة من الأمم جذور صلبة عصيّة على الاقتلاع، بل إنها كثيراً ما تقتلع من يحاول اقتلاعها. بل إن هذه الجذور الثقافية هي العدّة الحقة من أجل التحديث ومواكبة التطور العلمي التكنولوجي في العصر. وهل كان من الممكن أن تنطلق اليابان نحو غزو الأسواق العالمية لو لم تتابع مسيرة ماضيها وثقافتها؟
وجملة القول، إن ما يحاوله بعضهم، في بناء النظام العالمي الجديد، من خلط بين تحقيق الترابط والتعاون بين الشعوب و الكيانات، وبين إلغاء إرادة الاستقلال لديها، خلط غير واقعي لن يلبث حتى يتداعى. ومن الخطأ الظن بأن الطابع العالمي الذي يأخذه الاقتصاد وسواه، يعني أن عصر القوميات آذن بالأفول. وعلى العكس من ذلك نرى أن لمعان القوميات سوف يكون الرد الطبيعي على محاولات إخضاع الشعوب لسلطة واحدة وحيدة.
ولا يعني هذا طبعاً الأخذ بنظرية شوفينية، ترفض التعاون العالمي، بل يعني عكس ذلك تماماً. إنه يعني جعل هذا التعاون حقيقياً وجدياً ومثمراً، بفضل بزوغ الكيانات الثقافية الغنية وتفاعلها مع العالم.
ذلك أن البديل عن ذلك هو التنافس والصراع، لا بين الدول المتقدمة وبين الدول النامية فحسب، بل بين الدول المتقدمة نفسها. وههنا تصدق إلى حد كبير تلك الأطروحة التي يطرحها آلفن توفلر (Alvin Toffler) في كتابه الجديد «تحول السلطة Power Shift» أو «السلطات الجديدة» كما جاء في الترجمة الفرنسية (من منشورات دار فايار Fayard عام 1991). وقوام تلك الأطروحة أن التحولات الجذرية الجديدة التي شهدناها في أوروبا وفي الاتحاد السوفياتي، ليست سوى قرزمات هينة بالقياس إلى ما ينتظر العالم من ضروب الصراع الشاملة من أجل السلطة (ص 10 في الترجمة الفرنسية).
ثانياً: الهويات الثقافية والصراع بين الشمال والجنوب:
1- ومن المقدر أن تعرف هذه النزعة نحو تأكيد الذات انطلاقاً واضحاً في بلدان الجنوب بوجه خاص (بلدان العالم الثالث). ويزيد في تعاظم هذه النزعة القلق المرير الذي خلفه تراجع الاتحاد السوفياتي، تلك الدولة التي كانت تمثل درعاً وحماية للشعوب النامية ولحركات التحرر في العالم، مهما تكن آفات نظامها الداخلي. فبعد تراجع دور هذه الدولة العظمى، أصبح دور الجنوب «دور البرابرة الجدد»، على حد تعبير «روفان Rufin»(1)، في مواجهة الشمال الذي يفترض أن يكون موحداً وإمبريالياً وحاملاً في زعمه لقيم الحضارة العالمية الليبرالية والديمقراطية. ويرى بعض المحللين الغربيين، أن زوال منافسة الاتحاد السوفياتي حرم الولايات المتحدة من «كتلة صلدة» تصطدم بها وتؤكد عن طريقها ذاتها ووجودها، وأنها أصبحت بالتالي في حاجة إلى كتلة صلدة بديلة. وهذه الكتلة هي «الجنوب». ويتساؤل بعضهم بهذا الصدد قائلاً: ما عسى أن تكون روما (القديمة) بدون أعدائها؟. وهكذا أصبح الجنوب هدف العدوان الأميركي بوجه خاص (وهذا ما ورد في رسالة الرئيس «ريغان» إلى الأمة الأميركية منذ ثلاثة أعوام) والدول المتقدمة التي تسير في ركابه. وأصبح دور الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد، كما تراه، الحيلولة دون انتهاك القانون الدولي (من قبل دول الجنوب بوجه خاص)، دون ما اكتراث بالمضمون الإيجابي لهذا القانون.
2- والتعارض الأساسي بين الشمال وبين «البرابرة الجدد»، أهل الجنوب، ليس في حقيقة الأمر ذلك التعارض الذي تثور حوله الضجة بمناسبة أزمة معينة، وإنما هو معاداة الشمال للصورة الإجمالية للعالم الثالث على نحو ما تتبدى وتتكون في الميادين الديمغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وأسطورة تنمية العالم الثالث تتمزق وتنفجر للمرة الأولى، وتظهر وراءها واقعاً طال إخفاؤه: وهي أن الصلة بين الجنوب والشمال ليست صلة تقدم أو تأخر نسبي. وواقع الأمر أن كلا منهما ينمو في اتجاه معاكس للآخر. وبدلاً من الأخذ بمثل أعلى هو المساعدة على نمو العالم الثالث (كما كان شائعاً من قبل في المحافل الدولية وسواها)، تظهر إلى الوجود سياسة انتقائية قوامها الاكتفاء بمساعدة «الدول العازلة»، أي تلك الدول الواقعة على الحدود بين العالم المتقدم والعالم الثالث، والتي يرجى منها أن توفر الأمن والطمأنينة للعالم المتقدم. أما الكتلة الكبيرة المتبقية من العالم الثالث، فهي من فقر إلى فقر، ومن تمزق إلى تمزق. وهي في صراع دائم مع قوى العالم المتقدم، لا يعنيه منها إلا مواردها الطبيعية وسيرها، فيما يرجو، وراء المنازع الليبرالية التي تنادي بها الولايات المتحدة. والأزمة الاقتصادية العالمية تنعكس عليها قبل سواها. والتبادل التجاري معها تبادل غير متكافئ يزيد في فقرها. وقد بلغ مجموع ديونها (318) مليار دولار. وقواعد السوق الحرة لا تتفق بالتالي مع كياناتها الاقتصادية التي يعتريها الوهن يوماً بعد يوم. وقد طرح مؤخراً في «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED» الذي عقد في باريس خلال شهر أيلول/سبتمبر 1991، التساؤل الهام الآتي: لماذا نجبر عدداً من الدول الفقيرة على أن تستمر في طريق التبادل الدولي للمواد الأساسية بينما لم تصل بعد إلى درجة كافية من الاكتفاء الغذائي؟
3- ولا نود ههنا أن نجول في شعاب مشكلات العالم الثالث، فقد ملأ الحديث عنها مئات الكتب والصفحات. وكل ما أردناه هو أن نبين أن العالم الثالث الفقير، والذي سيزداد فقراً، لابد أن يجند قواه لمواجهة الصراع مع بلدان الشمال، إذا هو أراد الاحتفاظ بثرواته وتحقيق تقدم اقتصادي مستقل، بفضل ما يولده رد الفعل الثقافي لدى أبنائه من تعبئة لقوى العمل والإنتاج، وبفضل التعاون المثمر بين بلدان العالم الثالث نفسها. فالمأساة لابد قادمة، إن هو لم ينجح في مقاومة المواجهة العنيفة بين الشمال والجنوب، تلك المواجهة التي تحل محل التنافس بين الشرق والغرب. ويزيد في حدة تلك المواجهة التكاثر السكاني في بلدان الجنوب، وما يثيره من مخاوف لدى الشمال، تجعله منذ اليوم يتحدث عن «غزو» المهاجرين له من العالم الثالث، واجتياحهم لأراضيه، كما سمعنا ونسمع في الآونة الأخيرة، لا سيما في فرنسا وألمانيا. لقد دعا مستشار ألمانيا السابق «ويلي برانت Willy Brandt» منذ سنوات، في كتابه عن «الشمال والجنوب»، القوتين العظميين إذ ذاك إلى أن تتخليا عن التنافس فيما بينهما، وإلى نزع السلاح وتخصيص النفقات الضخمة التي تصرف عليه من أجل تنمية الجنوب. أما اليوم فالشرق السوفياتي هو الذي يطلب العون من الغرب من أجل نموه. بينما يصبح التسلح موجهاً نحو الجنوب وحده. وكل ما هو ضد الإمبراطورية الجديدة يغدو «بربرياً».
هذا الجنوب الفقير، لابد له، ونقول هذا مرة بعد مرة، أن يحمي كياناته الذاتية من خطرين: خطر التفتت والتمزق والخضوع الذليل، إن هو ترك الأمور تجري على عواهلها، وخطر غلبة الشمال والتهامه لخيراته ووجوده. ولا يتأتى له هذا إلا إذا استمسك بجذوره، واستبدل التماسك بالتفتت، واحتمى بهويته، ورسّخ كياناته القومية.
ثالثاً: القومية العربية والنظام العالمي الجديد:
1- وما يصدق على بلدان الجنوب بوجه عام يصدق أكثر على بلدان الأمة العربية. فهي أيضاً، بل خاصة، ستجد نفسها مدعوة إلى المزيد من تأكيد هويتها الثقافية والاستمساك بأصالتها وجذورها وبناء كيانها الذاتي المستقل. ولئن كانت هذه النزعة إلى تأكيد الذات نزعة قديمة عريقة لدى الأمة العربية، فلقد منحها ما يدعى بالنظام العالمي الجديد معنى خاصاً. ذلك أن زوال الحماية التي يوفرها لها الاتحاد السوفياتي، وبزوغ قوة عالمية واحدة ووحيدة تود أن تفرض هيمنتها عليها، والغزو الاقتصادي العالمي لها بأشكاله المختلفة، هذه وسواها أمور تدعوها إلى مزيد من الاستمساك بهويتها الثقافية الموحدة، وبجذورها القومية المشتركة، تلتمس عندها النجاة من اقتناص العالم لها، والانطلاق نحو العصر وجدائده ومحدثاته.
2- وتاريخ الأمة العربية حافل بمثل هذه المعاني: إذ كان جوابها دوماً على غزو الأجنبي وعلى محاولات طمس الاستعمار لوجودها، في المشرق العربي وفي المغرب العربي بوجه أخص، الاحتماء بالثقافة العربية الإسلامية، واتخاذها درعاً دون محاولات إذابتها (ومثال الجزائر ومعها تونس والمغرب وليبيا أبرز مثال على ذلك). لقد كانت الثقافة العربية الإسلامية في أحقاب الخطر الكبير هذه سلاحاً ماضياً استطاع أن يعطل الغزو الاستعماري بركبه ورجله وأسلحته الفتاكة.
3- واليوم، وسط النظام العالمي الجديد كما يسمونه، أو وسط نظام «العالم الجديد»
(أي الولايات المتحدة) كما يجدر أن يسمى، تقف بلدان الأمة العربية أمام احتمالين: أولهما – وهو احتمال ضعيف عندنا – هو المزيد من التفكك والتفتت والابتعاد عن درع القومية والانهزام المعنوي أمام الغازي إلى جانب الانهزام المادي. والثاني – وهو الحتمي في نظرنا، انطلاقاً من أصالة الأمة العربية وعمق وجودها الثقافي – هو الاتجاه المتزايد نحو تثبيت الكيان القومي والهوية القومية، بسبل متعددة ومتطورة مع الزمن. ولكي لا نتهم بالطوباوية، أو لكي ننضو عن «الطوباوية» ما علق بها من معان سلبية ليست منها، لنقل، مع كثير من المفكرين، وعلى رأسهم المفكر الفرنسي «إدغار موران Edgar Morin»، إننا نعيش في عالم الاحتمالات المتعددة الممكنة، ولا سبيل أمامنا إلا أن نتعامل مع ما يبدو لنا، من خلال البحث والتنقيب، أكثر احتمالاً. ومن هنا فإن عالم الاحتمالات العديدة ينبغي ألا يؤدي إلى تعطيل الإرادة والفعل، بل ينبغي أن يستدعي العمل من خلال تحليل الاحتمالات واختيار أفضلها وأدناها إلى التحقيق. وبتعبير آخر، وكما يقول «موران» أيضاً، لابد من أن نحلم، وأن نسعى إلى تحقيق ما نحلم به، شريطة ألا يبتلعنا الحلم وينسينا الهدف الأساسي. والتاريخ هو دراسة الممكن وغير الممكن. وبفضله، وبفضل الدراسات الاجتماعية يمكن أن نختار الطريق الممكنة ونعمل لها.
4- بل لنمض خطوة أخرى في هذه الطريق، عائدين إلى أفكار «موران» مرة أخرى، متريثين بشكل خاص عند نظريته الشهيرة، نظرية «المركّب الملتحم»: تلك النظرية التي كادت تغير مجرى الأبحاث الاجتماعية والفلسفية منذ نيف وعشرين سنة، والتي أدت إلى ظهور «نزعة عقلانية علمية جديدة»، تضع موضع التساؤل المفهوم التقليدي للجبرية. ولن نخوض في ميادين هذه النظرية المعقدة(2). وحسبنا أن نقول، في حدود أغراض بحثنا، إن نظرية «المركّب الملتحم» التي يحاول «موران» أن يمد تطبيقاتها من ميدان العلوم الفيزيائية إلى ميدان العلوم الاجتماعية، تقرر فيما تقرر، أن أي مشروع سياسي في خاتمة القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين لابد من أن يكون جزءاً لا يتجزأ من تحليل كامل للمجتمع يأخذ بعين الاعتبار آخر جدائد العلم المعاصر.
ويعنينا من هذا كله، بعبارة بسيطة، أن نبين أن الاحتمال الذي نتوقعه في بلادنا العربية والذي ندعو إليه، لابد أن تصاحب تحقيقه دراسة علمية موضوعية منظمة لأساليب تحقيقه وخطوات إنجازه. ولئن كانت لدينا جملة من المعطيات التي تدل على صحته، وعلى رأسها عمق الروابط الثقافية التي تربط بين البلدان العربية، فإن تحقيقه لا يترك للصدف، بل لابد من سعي علمي ونضال قومي من أجل رسم سبل الوصول وخطوات السير نحو المصير الواحد والكيان العربي الموحد. بتعبير آخر، ينبغي أن نخرج من حيرة التعقيد إلى وضوح الرؤية، وأن نكتشف شبكة الواقع، وأن نكشف بذلك عن «الدروب الحرجة»، على حد قول أصحاب طريقة «التحليل الشبكي» (أو طريقة بيرت Pert)، وأن نرسم من خلال ذلك تدريجياً، وعن طريق المراجعة المستمرة، شبكة الوصول إلى الهدف النهائي.
5- والحق، أننا لم نكن في حاجة إلى دخول معارج هذه الجوانب الفنية التي أتينا على ذكرها، لولا أن هنالك الكثيرين ممن يمنحون شكل الوصول إلى الكيان العربي الموحد أهمية أكبر من تأصيل هذا الوجود وإغنائه واتخاذ النضال في سبيله الوسيلة الناجعة لتحقيقه.
ووراء هذه الجوانب الفنية، لنعد إذن إلى الأصل والجوهر. الأصل والجوهر هما الثقافة العربية الإسلامية العريقة التي لابد أن تكون الحمى والملجأ دون مخاطر الغزو الدخيل ومنزلقات الضياع وأمائر اليأس. ولا نغلو إذا قلنا، انطلاقاً من تلك الثقافة، إن العرب بطبعهم وتاريخهم أمة ذات رسالة، ولا تحيا من دون رسالة، بل إنها مدعوة إلى تبليغ رسالتها إلى العالم. ولعلها تفوق في هذا كثيراً من الأمم الأخرى. وعربي البادية قبل الإسلام، والعربي بعد الإسلام وفي عهود الدولة العربية الإسلامية يأبى، بحكم تكوينه، أن يلصق بحمأة الأرض، وأن يحيا حياة السوائم، وأن تسكن نفسه «اللحم والعظم»، على حد قول المتنبي. ومن هنا فهو، لهذه الأسباب وسواها، لا يمكن أن يقبل نظاماً عالمياً لا يكتفي بإخضاعه – أي إخضاع العربي – واستغلاله فحسب، بل يريد منه أن يغلّب الربح والكسب والمال على أي شيء آخر. لقد قامت الحضارة الأمريكية الحديثة على أفكار الفيلسوف الأمريكي «وليام جيمس William James» وتلامذته. وقوام هذه الأفكار أن الحقيقة هي الشيء الذي يؤدي إلى الكسب والربح، وكل ما لا يؤدي إلى الكسب والربح فلا وجود له. بل إن وجود الله، عز وجل، في نظر هذه الفلسفة، أمر معياره مدى فائدة فكرة الإله. وظلت هذه الفلسفة تنمو وتشيع في المجتمع الأمريكي، حتى أصبحت القيم الوحيدة التي تحكمه (إن صح أن تسمى قيماً) هي الربح والنجاح والنجاعة.
ومن هنا فإن الهيمنة الأجنبية على البلاد العربية تلفظها الثقافة، إن لم تلفظها السياسة.
6- ولا يعني هذا تقوقع الوطن العربي على نفسه. فالأمة العربية الإسلامية انفتحت على الثقافات والكيانات الأخرى منذ أقدم القدم. وسمي عصرها الذهبي، نعني القرن الرابع الهجري، عصر تمازج الثقافات. والقومية العربية الحديثة أكدت، منذ نشأتها، منازعها الإنسانية، واختلافها الجذري في هذا عن القوميات التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر بوجه خاص. ولكن الاحتماء بالذات، أو بآليات الدفاع عن الذات كما يقول علماء النفس، رد فعل طبيعي يزداد حدة عندما تزداد المخاطر الخارجية. واحترام حقوق الإنسان مطلب أكده الإسلام، وكان جزءاً من رسالة العرب أثناء الفتوحات وبعدها، وإن انتهكه بعض أصحاب السلطان في بعض الفترات. وقد كتب الكاتب السويسري «مارسيل بوازار Boisard» كتاباً هاماً، ترجم إلى العربية عنوانه «إنسانية الإسلام». وكتب غيره كثيرون في هذا الباب. والدعوة إلى السلم والسلام عريقة الجذور أيضاً في الحضارة العربية الإسلامية، واضحة الأصول في القرآن والسنة. غير أن السلام كثيراً ما يُدعى الضعفاء إلى احترامه دون الأقوياء، شأن كثير من القيم الإنسانية التي أصبحت شعار الضعفاء والفقراء، بل أداة لإخضاعهم وذلهم. وفي هذا يصدق الشاعر القروي:
حتى يدين بحبه أقوانا أما السلام فإننا أعداؤه
7- ونعود مرة أخرى فنقول، دفعاً لأي لبس، إن هذا كله لا يعني رفض التجربة العالمية، ورفض التعاون الدولي، بل يعني، على العكس، الدعوة إلى تعاون دولي حقيقي، والإسهام في تصحيح التجربة العالمية(3). ولسنا من القائلين بأن التجربة العالمية مرذولة بقضها وقضيضها، بل نحن على العكس نرى أن هذه التجربة التي انحرفت عن مسيرتها الإنسانية لا يمكن إصلاحها إلا من داخلها، عن طريق مزيد من الوعي لمحاسنها ولمزالقها. وهو وعي قد يسهم فيه بوجه خاص من هو بعيد عنها، ومن ينظر إليها من خارجها. والأمة العربية – التي حققت في حضارتها التوازن الفعال والغني بين المنازع العلمية التجريبية وبين المنازع الإنسانية الخلقية – جديرة بأن تدلي دلوها بين الدلاء في هذا المجال.
8- ولعل القارئ يدرك، من وراء هذا كله، أننا لا ننحو المنحى الذائع في تبرير العمل العربي المشترك وما قد يعقبه من خطوات على طريق الكيان العربي الموحد. ونعني بذلك المنحى الذائع القول بأن الموقف الواقعي والسياسة الواقعية ينبغي أن تؤكدا في هذا المجال أهمية المصلحة المشتركة والتعاون والتكامل الاقتصادي والاستثمارات وتجميع الموارد وسوى ذلك مما تلهج به الألسن أيامنا هذه. ولسنا ممن ينكر أهمية الاقتصاد والتكامل الاقتصادي بين البلدان العربية وضرورة الانطلاق فيهما انطلاقاً موضوعياً واقعياً، معياره مصلحة جميع الأطراف المتعاونة. غير أننا لا نرى في ذلك التعاون الاقتصادي وحده المنطلق الأساسي والمكين للوجود القومي والكيان القومي. فالمسألة القومية ليست مسألة اقتصادية، ولا هي مسألة مصالح مشتركة، على أهمية ذلك كله وضرورة عدم إهماله. إنها مسألة وجود أو عدم وجود، وإن قوامها هو التراث الثقافي. ومن هنا جاء الترابط العضوي بين العروبة والإسلام. والقوة الاقتصادية، كالقوة العسكرية، لا تكفي لتثبيت الكيانات ولرد الغزوات. والمدماك الحقيقي هو القوة الثقافية. ولا نود الإطالة في هذا الجانب، وقد وقف عنده العديد من المفكرين، وعلى رأسهم الدكتور نديم البيطار في كتابه الشهير «النظرية الاقتصادية والطريق إلى الوحدة العربية»(4). وقد أكد البيطار وسواه على أهمية العامل السياسي الذي ينبغي أن ينبعث من الإيمان القومي الموحد، والذي يخلق الظروف السياسية الملائمة لنجاح العامل الاقتصادي. ولا أدل على ذلك من أن قرارات مؤتمر القمة بعمان عام 1980، وهي جلها اقتصادية، قد عطلتها الإرادة السياسية.
المسألة المطروحة اليوم حقاً، كما ذكرنا عبر بحثنا كله، هي مجابهة الغزو الدخيل، وصراع الشمال ضد الجنوب، عن طريقة تقوية البنية الثقافية القومية للبلدان العربية.
9- وقد يكون من المفيد أن نذكر – تأكيداً لأهمية تكوين الكيانات القومية في المرحلة التي يمر بها العالم اليوم – أن ثمة دعوة في أوروبا، إلى تجاوز الدول القطرية من أجل تكوين «أوروبا الكبرى» وذلك عن طريق إيجاد صيغة كونفدرالية تضمن للدول استقلالها ولكن في إطار ترابطها وتضامنها. ومما يلفت النظر أن نقرأ في إحدى المقالات التي تتحدث عن ذلك(5)، أن أوروبا «لا يمكن ولا ينبغي أن تكون مجرد سوق مشتركة، ومكاناً للتنافس أو التفاهم الاقتصادي، ومجرد مشروع كيان سياسي. فنحن نعيش عصراً من الاحتمالات الكثيرة والمخاطر، بل وضروب التهديد، التي تهدد مصير المجموعة الأوروبية. ولن نستطيع أن نرسم هذا المصير أو نحميه إلا بأن نقوي وعينا بوحدة مصيرنا، لا في الماضي والحاضر فحسب، ولكن في المستقبل.. وكما كان يقول المؤرخ ميشليه Michelet، أوروبا إرادة، وكيان روحي».
10- وإلى مثل هذا يذهب الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» حين يدعو إلى ما يشبه الكونفدرالية الأوروبية. فقد أكد في غير مناسبة أن الوحدة الأوروبية هي «مستقبل أوروبا»، وأن لا مناص من العمل الدائب في سبيل ترسيخ كيانها. وفي حديث جديد له على التلفزيون الفرنسي (على القناة الخامسة، يوم 10/11/1991)، يجيب المذيع الذي يتولى الحوار معه، حين يسأله عن سبب هذا الإيمان العميق لديه بالوحدة الأوروبية رغم كل ما يكتنف ذلك من صعاب، فيؤكد في جوابه أهمية هذه الوحدة، بل يبين أن لا بديل عنها. فبديل أوروبا الموحدة، في رأيه، هو الصراع بين الدول الأوروبية، والتنافس الشرس بين مصالح دولها المختلفة. البديل عنده هو عودة أوروبا إلى ما كانت عليه في القرون الماضية، أي دولاً وإمارات ومقاطعات تحترب. ويرجع ذلك إلى غياب سلطة مركزية فدرالية (أو كونفدرالية) تتسق وتكون بمثابة الحَكَم عند نشوب ضروب النزاع بين الدول الأوروبية. ومن هنا كان لابد من وجود مثل هذه السلطة الناظمة التي توجه سياسات الدول الأوروبية في اتجاه التكامل والتعاون، شيئاً بعد شيء، شريطة أن تكون هذه السلطة سلطة فعلية وقوية لها مؤسساتها الاتحادية الفعالة والقادرة.
هذا إضافة، طبعاً، إلى ما في الوحدة الأوروبية من جوانب إيجابية خلاقة وغنية، جوهرها قيام كتلة اقتصادية وعسكرية وسياسية كبرى في عصر لا حياة فيه إلا للكتل الكبرى.
ومما جاء في حديثه بالحرف الواحد: «إذا لم يكن هنالك تنظيم مشترك ينظم حياة أوروبا، فإن الدول التي تتألف منها سوف تبقى دون شك، ولكنها سوف تنطلق نحو مزيد من التنافس الشرس الوحشي فيما بينها. ولن يكون هنالك إذ ذاك قانون مشترك. وسوف تعود أوروبا القرن التاسع عشر والقرن السادس عشر، أي أوروبا التنافس بين الأوطان، تنافساً لا تضبطه قاعدة، ولا يسوسه قانون ولا يحقق أي مصلحة مشتركة».
ويتساءل المرء عندما يسمع هذا التقويم الموضوعي لأهمية الوحدة بين دول متقاربة في الزمان والمكان وموحّدة في المصير كدول أوروبا، وعندما يقرأ أنها حين تصنع الوحدة تجتنب التمزق والشتات وتصنع المستقبل، لماذا لا يقبل الساسة الغربيون هذا المنطلق عندما يتصل الأمر بالوطن العربي وبالدول العربية، التي تقوم بينها من أواصر الوحدة الجغرافية والثقافية والاقتصادية وسواها ما لا نجده في أي مجموعة أخرى من الدول في العالم؟
11- وتذكرنا أقوال «ميتران» وسواه بنظائر لها في تاريخ الولايات المتحدة، يوم كانت ثلاث عشرة ولاية منفصلة ومستعمرة. ثم ظهر فيها، في مواجهة التيار الانفصالي، تيار اتحادي(6) بيّن فضائل الوحدة. ومما يدعو إلى التأمل اليوم أن نذكر بعض الحجج التي أتى بها الاتحاديون في مقالات ظهرت حوالي عام 1787، تذكّرنا بما يجري في نطاق الوحدة الأوروبية إلى حد ما، وتذكّر بوجه خاص بما يمكن أن يجري في إطار الوطن العربي: فمما نقرؤه في المقال الثاني (من مقالات هؤلاء الاتحاديين): «أيهما أقدر على صيانة منافعنا وأكثر أمناً لنا؟ حكومة اتحادية عامة تنظم الولايات أجمع، تعيش في ظلها أمة واحدة، أم ولايات تتمتع بالسلطان عليها رؤوس عديدة، تتشابه وظائفها وتتماثل؟ حكومة قومية واحدة أم حكومات وطنية عدة؟»(7).
ومما نقرأ في المقال الثالث: «والشعب الأمريكي شعب حصيف عارف، استقر منذ تكوّن أمة على أن تكون له حكومة اتحادية تعبر عن قوميته، لأنه كان يدرك منذ البدء أن هذا النوع من الحكومة وحده يحقق له مصالحه ويحقق له غاياته في النمو والتقدم.. وقد انتهى بعد التفكير الراجح إلى أن الأمن الأمريكي والسلامة الوطنية لا يمكن لهما أن يكونا إلا تحت حكومة قومية واحدة»(8).
ونقرأ بقلم دعاة الاتحاد هؤلاء ما يبين مخاطر الانفصال بين الولايات، وما ينجم عن ذلك من صراع (كالصراع الذي يحدثنا عنه ميتران اليوم فيما يتصل بانفصال الدول الأوروبية). ومن الجدير بالتأمل العميق في هذا الصدد المقال السادس حول الدول المتجاورة، وقد جاء فيه: «إن الذي يتوقع الألفة والانسجام بين دول متجاورة مستقلة، لكل منها سيادتها التي لا تحيد عنها، يغفل حوادث التاريخ، ويتجاهل الخبرة التي كسبها الإنسان عبر مر العصور». وجاء فيه أيضاً: «لقد صار من المعطيات في السياسة، أن التجاور بين الدول لا يقود إلى الوئام قدر ما يقود إلى الخصام». وقد قال كاتب ذكي: «الأمم المتجاورة أعداء فيما بينهم بالطبيعة. ولا يحميهم من إيقاع الأذى بعضهم ببعض إلا إحساسهم بالضعف وجمعهم أنفسهم في جمهورية مؤتلفة. إن دستور هذه الأمة هو أمانهم ضد الخلافات التي يثيرها الجوار بين الدول. وهو الذي يطفئ تلك الجذوة التي تتقد في نفس كل دولة للتوسع على حساب الجوار»(9). أو ليس مثل هذا هو الذي يعنيه «ميتران» اليوم حين يبين أن الوقاية من التنازع والتنافس بين الدول الأوروبية لا يتم إلا عن طريق وجود سلطة ناظمة أعلى من الدول (مع الحفاظ طبعاً على استقلال الدول) هي التي ترسم الخطوط المشتركة، وتنسق العمل، وتتولى تحقيق التكامل بدلاً من الشتات والصراع؟ وما أغنى الدروس التي يمكن أن تستقيها الدول العربية من هذا كله؟ حسبنا من ذلك أن نقتطف النص التالي الذي ورد أيضاً في المقال الحادي عشر لدعاة الاتحاد الأميركي، وكأنه موجه إلى الدول العربية: «تعالوا أيها الأمريكيون. لقد مضى الوقت الذي كنتم فيه أدوات تسخرها أوروبا لعظمتها. تعالوا إلى اتحاد واثق بين الولايات الثلاث عشرة لا انفصام له، لتبنوا معاً نظاماً أمريكياً يقهر العناصر التي تغلبت علينا عبر المحيطات، ويملي عليها، بعد اليوم، شروط الاتصال بين العالم القديم والعالم الجديد»(10).
رابعاً: خاتمة:
1- يستبين من كل ما قلنا أن الدول النامية بشكل خاص، ومن بينها الدول العربية، سوف تجد نفسها، بحكم أبعاد النظام العالمي الجديد ونزوعه إلى الهيمنة والسيطرة، مدعوة إلى مقاومة محاولات الإخضاع العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي التي تمارسها الدول المتقدمة القوية ضدها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومدعوة أيضاً إلى تحقيق قواها الذاتية عن طريق مزيد من الانغماس في مشاعرها القومية، والاستمساك بهوياتها الثقافية. وسوف تقرّ لديها القناعة الواعية أو الكامنة في أعماق اللاوعي الجماعي بأن مخاطبة العالم والعصر، وتحقيق الثورة العلمية التكنولوجية، وصون التضامن العالمي السليم، وتوفير التبادل الاقتصادي المجدي، أمور لا تتم إلا من خلال الأوبة إلى الذات والجذور، منها تستمد التعامل المتكافئ والكريم مع الآخرين، إضافة إلى التوفز نحو الإنتاج والعطاء والعمل من أجل كيانها الذاتي الذي استلهمته وآمنت بضرورة الدفاع عنه وتنميته وتحديثه.
2- على أن الأمة العربية، وسواها من دول الجنوب، لا تؤوب إلى ذاتها كرد فعل محض على النظام العالمي، ذلك النظام الذي يحاول محو مقومات وجودها عن طريق دمجها في مسيرة عالمية، اقتصادية وسياسية وثقافية، تخدم مصلحة الأقوياء على حساب الضعفاء. بل هنالك أسباب أبعد وأعمق. فالأمة العربية – ومثلها كثير من البلدان النامية – تحرص من خلال تحقيق ذاتها على توجيه عناية خاصة لقيم غالية عليها، على رأسها قيم الحق والعدالة والحرية. وقد يشط بنا الحديث إن نحن أردنا أن نتوقف عند مفهوم الأمة العربية لهذه القيم الإنسانية الكبرى. غير أن الذي نود أن نقوله، في حدود بحثنا، إن النظام العالمي الجديد، كما تبدو معالمه، يناقض هذه القيم. فهي قيم ترفضها بنية البلدان القوية، لأنها تناقض الأسس التي تبني عليها حياتها الاقتصادية وتفوقها السياسي والعسكري. وقد كُتب الكثير في الآونة الأخيرة عن قصور الديمقراطية والعدالة والحق لدى هذه الدول، ولا سيما لدى الولايات المتحدة. ونذكر على سبيل المثال كتاب «نعوم شومسكي Naom Chomsky» الأخير وعنوانه «إعاقة الديمقراطية»(11). وشومسكي – كما نعلم – يهودي من أصل بولوني، وهو «عالم لغة»، ولكنه كتب كتباً سياسية عديدة، معظمها يتضمن نقداً للديمقراطية الأميركية(12). وفي كتابه الأخير هذا يفضح ممارسات الغرب المنافية لمبادئ الديمقراطية الغربية ولأحكام القانون الدولي، ويشير إلى اتساع الفجوة بين القول والفعل في صفوف ليبرالي الغرب ومسوؤليه السياسيين. ويتوقف في هذا الكتاب بشكل خاص، وهذا هام، عند ارتباط هذا الواقع الديمقراطي المنحرف في الولايات المتحدة بالنظام الذي يكمن وراءه، وهو نظام يطلق عليه مصطلح «الاقتصاد السياسي للهيمنة». ويضيف «شومسكي» أن هذه «الديمقراطية الرأسمالية» التي يأخذ بها الغرب وتأخذ بها الولايات المتحدة تجعل السياسيين فيها في صراع مع بلدان العالم الثالث، كما تجعلها في خشية من نجاح المنظمات الشعبية في إقامة أساس لديمقراطية ذات معنى، ولإصلاح اجتماعي يهددان امتيازات أهل الثراء والنفوذ.
وإلى جانب كتاب «شومسكي» يحسن أن نذكّر بكتاب «بول كنيدي Paul Kennedy»، الذي أثار ضجة في الولايات المتحدة وفي العالم، لما اشتمل عليه من نقد وتجريح للولايات المتحدة، وعنوانه «صعود القوى العظمى وسقوطها»(13). وقريب من ذلك نجده لدى المفكر الأمريكي «جون رولز John Rowls»(14)، الذي يعدّ في الولايات المتحدة وسواها من دول الغرب، من أهم المفكرين الداعين إلى «الاشتراكية الديمقراطية Social Democratic». وفيه يتريث بوجه خاص عند الديمقراطية في علاقتها بالعدالة الاجتماعية والفوارق بين الطبقات.
3- وآية هذا كله أن الأمة العربية – ومعها كثير من البلدان النامية – لا تجد ذاتها من خلال القيم الإنسانية على نحو ما يريدها الغرب وعلى نحو ما تطبق فيه، وأن استمساكها بذاتها وهويتها – رداً لمخاطر العدوان عليها – يعني في الوقت نفسه استمساكها بهذه القيم الإنسانية، من حق وعدل ومساواة وحرية، في أصالتها وصفائها، وعلى نحو ما قرّت في الينابيع الأصيلة للثقافة العربية الإسلامية ولسائر الثقافات الإنسانية العريقة.
4- إن النظام العالمي الذي يسمونه جديداً عالم عاجز إذن عن إرواء نزوع الشعوب نحو عالم إنساني مترابط سعيد. ولابد لها أن تمتح من جديد القيم التي ترجوها لذاتها من خلال ذاتها، بعد أن تصطدم بعجز القيم الغربية وخداعها، وتدرك الروابط المتشابكة بين هذه القيم وبين النظام الاقتصادي والسياسي والثقافي الذي يراد فرضه. وإضافة إلى ذلك، فإن النظام العالمي، على نحو ما ظهرت بواكيره، يحمل في ثناياه بذور اصطدامه بالعالم الثالث، وبحركة القوميات المستقلة فيه. ولا خيار للقوميات، بوجه عام، وللقومية العربية بوجه خاص، إلا أن تدرك أبعاد التحدي وأعماقه، وأن تواجهه عن طريق مزيد من الوعي لذاتها والاستمساك بثقافاتها الأصيلة في اتجاهاتها الإيجابية الكبرى، ليكون ذلك منطلقها نحو تجديد ذاتها تجديداً أصيلاً وحديثاً معاً، قادراً على مواجهة العصر ومواكبته في آن واحد. إن المعركة مفروضة على البلدان النامية شاءت أم أبت، وإن مقاومة الحركات القومية مطلب حيوي في السياسة الغربية، حيث الخشية من بروز القوميات الحية خشية تتردد على ألسن المسؤولين وعبر أقلام السياسيين. والخشية من القومية العربية كانت دوماً قائمة، لأن مخزون هذه القومية من الثراء المعنوي والمادي والحضاري جملة مخزون يخيف الغرب. ومنذ الحرب العالمية الأولى، غدا من ثوابت السياسة الغربية الحيلولة دون نهضة الأمة العربية، ودون تحقيقها للكيان القومي الذي ترجوه. واليوم، يشتد أوار الهجمة الغربية على الأمة العربية، وتزداد المخاوف، بل يزداد الهلع والجزع من أي إمكانية تشير إلى سيرها في طريق النهضة العربية والتقدم والوحدة.
إن وعي هذه المخاطر بداية إدراك الطريق. إنها مخاطر جادة تهدد الأمة العربية في وجودها ومستقبلها، وتسعى إلى أن تجعل من البلدان العربية «برابرة جدداً» يسيرون في ركب «الإمبراطورية» الصاعدة، على حد تعبير «روفان».
ولقد عانت الأمة العربية في تاريخها من هجمات متعددة وخطيرة ضد وجودها. وكان النصر لها بفضل قوة إدراكها لذاتها وإيمانها بثقافتها وقيمها، نعني بفضل الدرع الثقافي المتين الذي تمثله الثقافة العربية الإسلامية، كما سبق أن قلنا، وبفضل عمق شعورها بالمصير المشترك الواحد. وأخطر هزيمة يمكن أن تمنى بها الأمة العربية اليوم ألا تدرك وسط هذا العالم المعقد الحائر ما لكيانها القومي من شأن، وما لارتباطها بوحدة مصيرها من قوة، وما لعودتها إلى الجذور من دور في مدّ حياتها كلها بالنسغ المشبع بماء الحياة.
أما الواقع، مهما يكن متجهماً، فقيمته تنبع من فهمنا له ومما نضعه فيه. إن فهمه وإدراكه ليسا مقصودين لذاتهما بل هما مقصودان لنجعل منهما عدتنا لكتابة تاريخ الغد. وتاريخ الغد، مهما تكن العقبات، ومهما تكن شبكة الاحتمالات، سوف يعكس أولاً، وقبل كل شيء، مقدار إيماننا بغدنا نحن، وبذاتنا وقيمنا ووحدة مصيرنا.