نماذج عالمية في ربط التعليم الأساسي بالتعليم الثانوي

ضمن كتاب: “التعليم الأساسي وربطه بالتعليم الثانوي عربياً وعالمياً” مقدمة:
لن نوغل في شعاب الحديث عن المقصود بالتعليم الأساسي، وعن تطور معانيه إطاراً ومحتوى ومدة (1).
وحسبنا أن نقول موجزين، أن هذا التعليم الأساسي – أياً كان وأنى كان – تعليم يميزه من سواه، أنه يهدف منذ السنوات الأولى للتعليم إلى الربط الوثيق بين التعليم وبين حاجات التنمية الشاملة، وإنه بالتالي يريد أن يجمع بين مختلف جوانب إعداد الفرد، سواء كانت نظرية أو عملية. ومن هنا فهو تعليم موحد للجميع، يشتمل على الحّد الأدنى الذي ينبغي أن يناله الفرد، وإن اتسم بالمرونة والتنوع تبعاً لحاجات كل فرد وإمكاناته، وتبعاً لحاجات البيئات والمجتمعات المختلفة. وهكذا يقدم التعليم الأساسي الحد الأدنى من التعليم، ويشكل مرحلة أولى من مراحل التعليم مدى الحياة، ويزود المتعلمين إلى جانب المعارف والمعلومات الأساسية، بمهارات وظيفية علمية مرتبطة ببرامج التنمية، ويحقق في هذا كله الربط العضوي المتكامل بين الفرد ومجتمعه، بين التعليم والعمل المنتج، بين النظر والعمل، بين خطة التعليم الأساسي والخطة العامة للتنمية في البلد المعني، هذا فضلاً عن تزويد المتعلّم طوال حياته، من خلال أساليب التعلّم الذاتي التي تمرّس بها وألفها، بحيث يصبح هدف مثل هذا التعليم – بل أي ضرب من التعليم – تكوين إنسان قادر على أن يتعلم، وليس تكوين إنسان متعلم، على حدّ تعبير “روسو”.
وقد نحا هذا التعليم الأساسي مناحي مختلفة في البلدان المتباينة، وتطّور على مّر السنين، وتباين مدّة ومحتوى من مصر إلى مصر ومن حين إلى حين. وقد يكون هذا التباين في التطبيق أمراً ينبع من طبيعة هذا التعليم الأساسي الذي يتسم أول ما يتسم، كما بيّنا، بارتباطه الوثيق بالمجتمع من حوله والبيئات المحيطة به، وبأهداف التنمية الخاصة بكل بلد. على أنه لابّد من القول أن تطبيق هذا التعليم في البلدان المختلفة لم يتوافر له دوماً الإخلاص لروح هذا التعليم ومقاصده، فنأى عن أغراضه في كثير من الأحيان، وارتد على عقبيه في أحيان أخرى، وعدا مجرّد تعليم عادي تقليدي تُذَرُّ فيه بعض النشاطات العلمية العابرة التي تظّل على هامشه، ولا تداخل صلبه.
وليس هدفنا أن نقدّم نقداً مفصلاً للتجارب التي تمّت في مختلف بلدان العالم في هذا المجال. ونحن نذكر ما نذكر لتأكيد حقيقة أساسية نودّ أن نبرزها في هذا البحث، وهي أن الربط الفعّال بين مرحلة التعليم الأساسي ومرحلة التعليم الثانوي يستلزم توافر شرطين:
– أولهما: أن تحقق مرحلة التعليم الأساسي على أكمل وجه الأهداف الأساسية التي وجدت من أجلها، والتي سبق أن شرنا إليها بإيجاز.
– وثانيهما: أن تلجأ مرحلة التعليم الثانوي إلى إحداث تغييرات جوهرية في بناها ومحتواها، بحيث تكمل مهمة التعليم الأساسي وتغنيها بدلاً من أن تتنكبها وترتد عنها. على هذه الشاكلة نفهم موضوع بحثنا. إنه يهدف إلى أن بعض النماذج العالمية في مجال الربط بين التعليم الأساسي والتعليم الثانوي. ويعني هذا، بعد كل ما ذكرنا، التريث عندما ينبغي أن يقوم به كل من هذين التعليمين، تحقيقاً لترابطهما.
أمّا التعليم الأساسي فأهدافه كما سبق أن ذكرنا بيّنة، والمسألة كل المسألة هي في نمط تحقيق تلك الأهداف، وفي اللبوس الذي تلبسه في البلدان المختلفة. لا سيما أنّ مدة هذا التعليم تنزع يوماً بعد يوم إلى مزيد من التشابه والتوحد في كل مكان. فمعظم البلدان كما نعلم، ومنها الدول النامية والدول العربية، كادت تمّد مرحلة التعليم الأساسي (التي تقابل بالتالي مرحلة الإلزام) إلى تسع سنوات. وقليلها يجعل مدّة هذا التعليم خمس سنوات أو ثمانياً أو عشراً (في البلدان المصنّعة بوجه خاص).
على أن ثمة مسألة واحدة أساسية تستحق أن نتريث عندها فيما يتصل بتحقيق أهداف التعليم الأساسي، ونعني الشأن الخاص الذي اكتسبه في السنوات الأخيرة إدخال “التكنولوجيا” في صلب مناهج هذا التعليم. سوى أن حدود البحث وأغراضه لا تتيح لنا التوقف عند هذا الجانب الهام، وقد نومئ إليه عبر حديثنا عن التعليم الثانوي.
وهكذا يكاد يرتد تحقيق الربط الفعلي المرجو بين التعليم الأساسي والتعليم الثانوي إلى تحقيق التطوّر اللازم في التعليم الثانوي (التالي للسنوات التسع التي تكوّن مرحلة التعليم الأساسي المقابل للتعليم الإلزامي).
والحق، أنّ التعليم الثانوي (أي المرحلة الثانية منه التالية للسنوات التسع من التعليم الأساسي أو الإلزامي كما سبق أن ذكرنا) غدا في السنوات الأخيرة المشكلة الرئيسة في نظم التعليم في العالم كله. وهذه الحلقة الوسطى التي تقع بين التعليم الأساسي والتعليم العالي، والتي تعّد المواطن لدخول معترك الحياة أو لمتابعة التعليم العالي، أصبحت مسألة المسائل في أزمة التربية العالمية، وفي التماس الحلول لها.
وتتخذ هذه المرحلة شأناً إضافياً هامّاً حين نربط بينها وبين مشكلات الشبّان بوجه عام. ومن هنا غدا شعار البحث التربوي اليوم، هو البحث عن صيغ تعليمية مبتكرة ومرنة ومتعددة من أجل تعليم من يسمّون “بالراشدين الشبّان”، وهم الذي تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والرابعة والعشرين، أي من أجل ابتكار صيغ جديدة للمرحلة الثانية من التعليم الثانوي، ثم لمرحلة التعليم العالي، مع مزيد من الاهتمام بفئة العمر الواقعة بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة.
ولا حاجة إلى القول، قبل هذا وفوق هذا، أنّ النظام التربوي، بمراحله وأشكاله المختلفة، نظام متكامل. ومرحلة التعليم الأساسي بالتالي مرحلة أولى لا تستمّد أهميتها من ذاتها فقط، بل تستمدها من الترابط بينها وبين ما يليها من مراحل وأنواع تعليمية. ولئن كان جزء يسير من الذين ينهون المرحلة الإلزامية يغادرونها إلى معترك الحياة، فإن كثرتهم الكاثرة تتابع شكلاً من أشكال التعليم والإعداد في المراحل التالية، ولا سيمّا مرحلة التعليم الثانوي بأشكاله وفروعه المختلفة.
وجملة القول أن الحديث عن بعض النماذج العالمية التي تحقق الربط بين التعليم الأساسي، لا يفترض في نظرنا أن نتريث عند نماذج من التعليم الأساسي، فهذا التعليم، وإن اختلفت أشكاله في التطبيق، واضح الأهداف بيّن المعالم. وقد قتلته الندوات والمؤتمرات في البلاد العربية وفي العالم بحثاً وتعليلاً، كما امتلأت بالحديث عنه أوراق الكتب. أمّا ما يستلزم البحث والبحث العميق والدقيق، فهو الحديث عن نماذج التعليم الثانوي (في مرحلته الثانية كما ذكرنا) التي تكمل مهمة التعليم الأساسي ولا سيمّا فيما يتصل بربط التعليم بحاجات المجتمع والبيئة والتنمية، وفيما يتصل بشد الوثاق بين النظر والعمل، بين التعليم والإنتاج، بين المدرسة والحياة.
وهكذا يكاد يرتد بحثنا إلى الحديث عن بعض النماذج العالمية في التعليم الثانوي التي تحقق الربط والتكامل مع مرحلة التعليم الإلزامي. والتكامل مع مرحلة التعليم الإلزامي يعني التكامل مع أهدافه الأساسية، نعني بإيجاز تحقيق التواصل العضوي بين التعليم والعمل، بين المدرسة والحياة، بين الإعداد التربوي بأشكاله المختلفة وبين أهداف التنمية الشاملة. ومن هنا لا نغلو إذا أعدنا صياغة موضوع بحثنا على النحو التالي:
«بعض النماذج العالمية حول المرحلة التالية على مرحلة التعليم الأساسي (السنوات التسع الأولى بوجه خاص) ودورها في تحقيق أهداف المجتمع الاقتصادية والاجتماعية، متكاملة في ذلك مع المراحل التي سبقتها (ولا سيما مرحلة التعليم الأساسي) والمراحل التي تليها (التعليم العالي) ومع مختلف أشكال التربية غير النظامية والتعليم المستمر مدى الحياة». ودفعاً لأي لبس، وتيسيراً للتعبير، سوف نطلق غالباً على هذه المرحلة الثانية من التعليم الثانوي التالية لمرحلة التعليم الأساسي، اسم “مرحلة ما بعد التعليم الإلزامي”، كما شاع في الأدب التربوي خلال العقدين الماضيين.
1- منطلقات أساسية:
1″- شهد العالم كله، بنسب متفاوتة طبعاً، تزايداً سريعاً في أعداد الذين يودون متابعة التعليم بعد مرحلة الإلزام. وقد استجابت معظم الدول لهذا الواقع عن طريق إحداث برامج من الأعداد متنوعة ودورات تدريبية خصصت جميعها للشبان بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة من العمر. وبالإضافة إلى ذلك، أعادت هذه الدول تنظيم هذا التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام وعاودت البحث في غاياته، سواء كان عاماً أو تقنياً أو مهنياً. وعندما انضافت إلى هذه المراجعة النظرة الإجمالية لحاجات الشبان في هذه السّن ولحاجات المجتمع ولمستلزمات التطور العلمي والتكنولوجي في العصر، فضلاً عن الاستمرار في تحقيق مطالب التعليم الأساسي، ولدت منازع تربوية مجددّة هدفها توليد نظام تعليمي مرن يقدّم تعليماً وإعداداً يتمّان في إطار نماذج تعليمية نظامية متعددة الأشكال والصيغ، وفي إطار تعليم غير نظامي له بالتعريف ما لا حدّ له من التنوع والتعدد ويكوّن وسواه جزءاً من تربية مستمرة من المهد إلى اللحد.
2”- وبقول موجز، لقد غدا الهدف إقامة مؤسسات تعليم وإعداد وتدريب مفتوحة القنوات والمخارج، مرنة الأشكال والمحتوى، تلبي حاجات “الزبائن” المتعددين لهذا التعليم، وهي حاجات متنوعة ومتكاثرة. ويعني هذا فيما يعني:
ـ قبول الطلاب من أعمار متباينة.
ـ تنظيم دراسات وبرامج ملائمة لحاجات الطلاب الخاصة ولإمكاناتهم ومؤهلاتهم.
ـ تنويع أشكال الإسهام في هذا التعليم.
ـ تناقص الأهمية التي تمنح عادة إلى التمييز التقليدي بين التعليم الثانوي وبين التعليم التالي، سواء كان ثانوياً من مستوى أعلى أو تعليماً عالياً،
ـ إقامة روابط وثيقة مع المؤسسات التعليمية الأخرى ومع الهيئات والأجهزة والشركات في مواقع الإنتاج نفسها.
ويعني هذا بوجيز القول “نزع الطابع المدرسي”(إن صح التعبير) عن مؤسسات التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام، وذلك لكي يقوى على تلبية المطالب الجديدة في ميدان الإعداد.
3”- وإذا أردنا استخدام لغة أخرى أكثر تفصيلاً، قلنا إن التجارب الحديثة في مجال التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام، ترى أن مفهوم النظام التربوي الثابت قد لقي حتفه، وغدا من الضروري الأخذ بالاتجاهات التالية (في شتى مراحل التعليم، ولا سيما مرحلة التعليم الثانوي التالية للتعليم الإلزامي)(1):
أ) المرونة المتزايدة في نظم التربية وبرامجها، والعزم على أن تستجيب لحاجات “الزبائن” المختلفة والمتجددة.
ب) انفتاح المدرسة على العالم، وعلى العمل بوجه خاص، وعلى العمل المنتج بوجه أخصّ.
ج) السير قدماً في مجال التنويع والتشعيب، ولا سيمّا في المرحلة الثانية من التعليم التالي لمرحلة الإلزام وفي محتواه، كما سنرى،
د) التخفيف من التصلّب الذي تبديه السلطات التربوية المركزية تجاه التجديد، والأخذ بالتالي بمزيد من اللامركزية في إدارة التربية،
هـ) ترسيخ مبدأ “التعلّم الذاتي” (تعلّم التعلّم) لمواجهة التغيّر السريع في العصر، سواء في ميدان العمالة أو سواها،
و) القضاء على الحواجز بين التعليم النظامي وغير النظامي، وتحقيق التكامل بينهما، كما سنرى،
ز) الاتجاه في كثير من البلدان نحو التقليل من أهمية الشهادات وتبنّي معايير جديدة من أجل اختيار المرشحين لسوق العمل،
ح) الاهتمام الكبير بنوعية التعليم وكفايته الداخلية، وهو مطلب ييسره استخدام التكنولوجيا التربوية الحديثة والطرائق المتقدمة في “التعليم” (الاقتصاد في الزمن اللازم للتعلّم، شأن الاقتصاد في إنفاق المال أو ترشيد الإنفاق).
ط) انتشار النظم التربوية التي توفر التناوب بين فترات الدراسة وبين فترات العمل في إطار تربية تعدّ “مستمرة”.
4″- ولئن كان ثمة اتفاق حول هذه المبادئ وحول الروح العامة التي ينبغي أن تسود التربية في هذه المرحلة الهامة من مراحل التعليم، فإن تطبيق تلك المبادئ يأخذ صوراً وأشكالاً متباينة في البلدان المصنعة نفسها، وفي البلدان الأخرى التي حاولت أن تنهج هذا النهج. بل لا نغلو إذا قلنا أن التجربة التربوية العالمية في هذا المجال لا تزال تتلمّس طريقها بعسر، وما تزال تمّر بمد وجزر. وأيّاً كان الأمر، فإن الشكل الذي يأخذه تطبيق مثل هذه المنطلقات الأساسية، لابد أن يتلون بلون كل بلد، ولابد أن يلبس لبوس حاجاته الخاصة وبنيته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المميزة.
وسوف نشير إلى أن أهمّ تلك النماذج، كما عرفتها البلدان المصنعة بوجه خاص. أما البلدان الأخرى، فقد تأثرت بتلك النماذج أو ببعضها، وشاركت أحياناً في نجاحها أو فشلها، وقلّما نقع على بلد منها ولّد تجربته الخاصة. على أننا نقع على كثير من البلدان التي حاولت المواءمة بين تجارب البلدان المصنعة في هذا السبيل، وبين بنيتها الخاصة وحاجاتها الفريدة.
2- البنى النموذجية الأساسية:
وفي وسعنا أن نلجأ إلى تصنيف أوّل للنماذج الأساسية التي اتجه إليها التعليم الثانوي التالي لمرحلة التعليم الإلزامي في البلدان المصنعة خلال العقود الماضية، ولا سيما العقدين الأخيرين. ومعيار هذا التصنيف مدى ارتباط بنية هذا التعليم بالتعليم النظامي أو سواه.
وههنا يميّز الباحثون بين أنماط ثلاثة: “النمط المدرسي” و “النمط المزدوج” و “النمط المركبّ”.
أمّا “النمط المدرسي” فسمته الأساسية أنه ينزع إلى أن يضّم معظم (بل كل) أشكال التعليم الثانوي التالي للمرحلة الإلزامية، في إطار النظام المدرسي، وأن ييسر بالتالي دخول المدرسة النظامية كل الوقت لمعظم الشبان الذين هم في عمر هذا التعليم. وقد تبنت هذا النمط طلائع البلدان التي نادت بتعليم ثانوي كامل لكل فرد، كالولايات المتحدة وكندا. ففي هذين البلدين تبلغ نسبة الطلاب المسجلين في التعليم الثانوي ممن بلغوا الثامنة عشرة من العمر 87% و72% على التوالي. واليابان أبرز مثال على هذا النمط اليوم، حيث يؤم المرحلة الثانية من التعليم الثانوي 94% من فئة العمر المقابلة لهذه المرحلة. وبعد الحرب العالمية الثانية جنحت معظم دول أوروبا إلى تعميم التعليم الثانوي أيضاً. ولهذا يسود في هذه البلدان حتى اليوم نمط التعليم المدرسي. وأبرز البلدان الأوروبية في هذا المجال بلجيكا والسويد، تليهما بلدان مثل هولندا وفنلندا والدانمارك وفرنسا إلى حّد ما. ففي هذه البلدان الأخيرة جميعها يرتاد التعليم الثانوي (في مرحلته الثانية) أكثر من ثلثي الشبان البالغين من العمر 17 عاماً. وتجدر الإشارة إلى أن هذا “النمط المدرسي” نقع عليه حتى في البلدان التي تبلغ معدلات الانتساب فيها أقّل مما ذكرنا، شأن تركيا والبرتغال وإسبانيا واليونان.
وأما “النمط المزدوج” فسمته البارزة هي ما لقطاع “التلمذة”(تعلم مهنة في موقع العمل عن طريق معلم حرفة أو مهنة) من شأن كبير فيه، وما يتصف به هذا القطاع من صعوبة. وهذا ما نجده في بلدان كألمانيا والنمسا وسويسرا بوجه خاص. على أن ثمة بلدان أخرى، كأوستراليا والدانمارك وفرنسا وهولندا والنرويج، يحتل فيها نظام التلمذة مكانة أدنى من البلدان الأولى، ولكنها مكانة مرموقة مع ذلك. ونظام “التلمذة” بوجه عام، وهو السائد في مثل هذا النمط، نظام يرتبط بإطار اجتماعي خاص، وهذا ما يتجلّى واضحاً في ألمانيا. ومن هنا تعثر تطبيقه في بعض البلدان الأوروبية.
وأما “النمط المركبّ” فيفسح مجالاً واسعاً للتعليم غير النظامي. ومنطلقه القول بأن التعليم النظامي، ولا سيما “النمط المدرسي” منه، لا يستطيع، ولا ينبغي له أن يحتكر توسع التعليم وتزايد الراغبين فيه، ولا سيما عندما يستبين أن الشبّان في حاجة ماسة إلى إعداد مهني أو إلى إعداد متناوب (فيه تناوب بين العمل والدراسة). وهذا النمط هو الذي تنزع إليه المملكة المتحدة، حيث منحت “لجنة خدمات القوى العاملة” التابعة لوزارة العمل السلطة اللازمة والإمكانات المالية اللازمة من أجل تقديم إعداد مهني لأربعين بالمائة من فئة العمر التي لا ترتاد المدارس الثانوية القائمة. وفي أذهان أصحاب روّاد هذا المشروع، أن برامج الإعداد المهني هذه تكوّن بديلاً عن التعليم المدرسي النظامي، بحيث تنافسه إلى حد ما وتخرج عن توجيهات السلطات المدرسية. على أن المدارس والثانويات النظامية والإدارة التعليمية يمكن أن تشارك في هذه البرامج، وهي تشارك فيها فعلاً، ولكن في معظم الأحوال من أجل تقديم خدمات معينة تنظمها عقود محددة.
وفي بلدان أخرى، ولا سيمّا في فرنسا، حيث يثير انتشار البطالة مشكلات متزايدة، وحيث تشتد الحاجة إلى إيجاد إمكانات للإعداد ملائمة لحاجات الفئات الاجتماعية الجديدة، يحظى هذا “النمط المركب” أو التعددي باهتمام متزايد، ويتخذ صورا وأشكالا متعددة. ولما كان العديد من البرامج المنتسبة إلى هذا “النمط المركب” ما يزال في طور التجربة، فإن من الصعب الحكم على نتائجها. على أن المرء يستطيع أن يتخيل بيسر إمكاناتها وطاقاتها المستقبلية. وعندما يستقر بها المقام (وهو المرجح)، لا بد من التساؤل يوماً بعد يوم إن كانت ستظل قادرة على الاحتفاظ بطابعها الخاص، ذلك الطابع الذي يرجع بالدرجة الأولى إلى قصر مدتها, وإلى طابعها”غير النظامي”. وقد لا يستبعد، على مر الأيام أن يقوم تأكيد متزايد على إعداد أطول وأوسع، ولا سيما حين تشتد الرغبة في أن تؤدي هذه البرامج إلى الحصول على مؤهلات وشهادات معترف بها. وعند ذلك تعود هذه البرامج، فتقترب من القطاع المدرسي النظامي.
وجملة القول، تضم البنى الأساسية للتعليم التالي للمرحلة الإلزامية في البلدان المصنعة بوجه خاص أنماطاً ثلاثة: نمطا يدعى”مدرسيا” وهو الذي يوكل التعليم والإعداد في هذه المرحلة إلى المدرسة النظامية وحدها (سواء اتخذ هذا التعليم طابع التعليم النظري الأكاديمي أو طابع التعليم التقني أو طابع التعليم المهني). ونمطا ثانيا يسمى “مزدوجا” يقيم وزنا كبيرا للتلمذة Apprenticeship الحرفية والمهنية والصناعية المباشرة إلى جانب التعليم الثانوي النظامي. ونمطا ثالثا يسمى “مركبا” يعني بالتعليم غير النظامي، إلى جانب عنايته بالتعليم النظامي، ويمنح ذلك التعليم غير النظامي دورا كبيرا في الإعداد والتدريب، يضطلع من خلاله بتقديم برامج متنوعة الأشكال متباينة المدة، ملائمة لحاجات الدارسين ولحاجات سوق العمل ولمستلزمات المهن المختلفة.
على أنه يظل من الصحيح، مهما يكن النمط المتبع، أن ثمة اتجاهات ومنازع كبرى غالبة، تفرضها على التربية التحولات التقانية الكبرى في العصر وما تستلزمه من تغييرات في تنظيم الأعمال والمهن. وكلنا يعلم أن هذه التحولات التقانية تتطلب، في مجالات الإنتاج والاتصال والعلاقات الاجتماعية وسواها، أحداث ثورة تربوية أساسية، سواء في بنى التربية أو محتواها أو إدارتها. ويبدو أن البحث عن آفاق تربوية جديدة يتجه بالدرجة الأولى يوما بعد يوم إلى هذه التربية “الواقعة على الحدود” بين مراحل التربية، نعني التربية التالية للتعليم الإلزامي، وكل ما يتحلق حولها من إعداد الشبان بعد السادسة عشرة من العمر حتى التاسعة عشرة، كما سبق أن ذكرنا، بل حتى الرابعة أو الخامسة والعشرين من العمر. وأهم ما في الاتجاهات التربوية الجديدة المستجيبة لمطالب التحولات التقانية ربط التربية بالعمل، ومنح دور متزايد في مجال التربية والإعداد للمؤسسات الصناعية والتجارية، والاهتمام بالإعداد في مواقع العمل نفسها. ومعنى هذا كله، بوجيز العبارة تنويع التعليم وتعدد أشكاله وصوره وانفتاحه على عالم العمل واستجابته للحاجات المتباينة للأفراد والجماعات والمهن. وهذا هو المعنى العميق لشعار “مرونة التعليم” الذي ذاع وشاع في العقدين الأخيرين، والذي كاد يصبح شعار التعليم التالي للمرحلة الإلزامية بوجه خاص، ثم التالي للمرحلة الثانوية. ومهما تتباين التجارب وتتعدد أشكال التطبيق تظل هنالك حقيقة لا مراء فيها، وهي أن المؤسسات التعليمية القديمة التي تقدم تعليماً ثانوياً (تالياً لمرحلة الإلزام) منمطاً، ذا أهداف ثابتة خالدة هي أهداف شهادة التعليم الثانوي، والتي تعد لمهن مرسومة سلفا محدودة ومعدودة، مؤسسات تجاوزها العصر وأصبحت بعيدة عن أهداف سوق العمل، فضلا عن بعدها عن حاجات المستقبل الجديدة الصارخة.
ومن هنا لجأت البلدان المختلفة في العقود الأخيرة إلى ابتكار صيغ تعليمية جديدة في هذه المرحلة التالية على الإلزام، هي التي سنشير إلى بعضها فيما يأتي.
صيغ تعليمية جديدة في المرحلة التالية على التعليم الإلزامي
ما أشرنا إليه من اتجاه النظم التربوية نحو التنوع والتعدد والمرونة، ولا سيما في المرحلة التالية على مرحلة التعليم الإلزامي، هدف أمثل تصبو إليه الكثير من الدول، وقد حققت الكثير من مستلزماته، غير أنها ماتزال مع ذلك في مرحلة المحاولة والخطأ في بعض الأحيان، وفي مرحلة المد والجزر أحيانا أخرى. وكل منها ينحو في الواقع في تطبيق هذا المنزع منحى مغايراً لسواه. غير أن روحا واحدة تكاد تجمع بين التجارب كلها في هذا الميدان، في البلدان المصنعة. وأبرز هذه التجارب ما أقامته العديد من الدول من مؤسسات ومناهج تعليمية “متعددة الأغراض Polyvalents” على مستوى التعليم التالي لمرحلة الإلزام، وما حققته دول أخرى من “تناوب” بين المدرسة والعمل.
وقد كان بودنا أن نتحدث عن تجارب الدول المصنّعة التي تملك تجارب بارزة ومحددة في ميدان التعليم الثانوي وتشعيبه، ولكن ضيق المجال يفرض علينا أن نكتفي بأمثلة محدودة:
أ) السويد والدول الاسكندنافية:
وبعض هذه الدول – كالسويد مثلا (في المدارس المعروفة باسم المدارس الثانوية المتكاملة Gymnassieskola) تتبع التقاليد المدرسية التي كانت سائدة سواء في الإعداد النظري الأكاديمي أو الإعداد المهني، ولكن بعد أن تجمع بينها في إطار مدرسة واحدة أعيدت صياغتها. ومع ذلك وعلى الرغم من أن هذه المؤسسة التعليمية الجديدة ما يزال لها وضع”المدرسة” فان خمس المسجلين فيها هم من الشباب الذين سبق لهم أن دخلوا سوق العمل، ثم عادوا إلى المدرسة. وقد بدأت تجربة هذه”المدرسة الثانوية المتكاملة” منذ عام 1971، وضمت جميع أنماط المدرسة الثانوية في إطار مدرسة واحدة وتحت سقف واحد. وكان هدفها إعطاء مكانة متساوية للتعليم الأكاديمي والتعليم التقني- المهني، انطلاقاً من مبدأ “تمهين” التعليم الأكاديمي و”تعميم” التعليم التقني والمهني أي جعله عاماً. وفي إطار هذه المدرسة نجد فروعا ثلاثة: فرع المواد الأدبية والاجتماعية، وفرع المواد الاقتصادية والتجارية، وفرع المواد العلمية والتقنية. وفي كل من هذه فروع مقررات أكاديمية وتقنية ومهنية. وتتراوح مدة هذه المقررات بين نصف عام وأربعة أعوام.
وينتسب حوالي 90% ممن أنهوا المرحلة الإلزامية إلى المدرسة الثانوية المتكاملة هذه. ولهم من حيث المبدأ، حرية اختيار مسار التربية في هذه المدرسة (حيث يوجد22مسارا دراسيا (Truck Study Line)”1″.
وما يصدق على السويد، يصدق إلى حد كبير على سائر الدول الاسكندنافية التي امتازت جميعها بمحاولة إقامة الجسور بين أنواع التعليم ومستوياته ومساقاته. ففي الدانمارك، ظهر اتجاه مبكر نحو إنكار التفريق بين التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي. وفيها كما في السويد، يقوم تنظيم مدرسي “متعدد الأغراض” ، نواته المواد المشتركة، وحولها تتحلق مسارات دراسية اختيارية (وفي هذا الاختيار يفضل الطلاب، كما تفضل السلطات العامة، الاختيارات ذات الطابع المهني). والبنى الرئيسة في التعليم التالي للإلزام تشمل تسع دراسات اختيارية متميزة وتسمح بالانتقال، بعد دراسة مواد مشتركة أساسية، إلى السنوات الثلاث من الدراسة المتخصصة سواء في التعليم النظري الأكاديمي أو الإعداد المهني.
وقد انطلق التعليم الزراعي انطلاقا بيّناً في البلدان الاسكندنافية كما انطلقت فيها برامج التعليم عن طريق التلفزيون، وحلت إلى حد كبير محل الأساليب التعليمية التقليدية التي شاعت في تاريخ تلك البلدان (فيما عرف باسم “الجامعات الشعبية”).
كذلك أكدت “فنلندا” مبدأ “تعدد الأغراض” في التعليم الثانوي التالي للإلزام، وأقامت معاهد مهنية جنباً إلى جنب مع مدارس التعليم النظري العام، كما أتاحت للطلاب (حتى السادسة عشرة من العمر) فرص الإفادة من التعليم المهني أو الإعداد المهني، سواء في مؤسسات التعليم المهني أو فيما يتجاوزها مستوى، وأنشأت لهذا الغرض، بين عام 1972، وعام 1977، مدرسة تعليم أساسي متعدد الأغراض يؤمها الطلاب الذين بلغوا السادسة عشرة من العمر، بدأت بممارسة وظائفها التربوية منذ ربيع 1982.
ب) المملكة المتحدة:
الأمثلة التي أتينا على ذكرها، والتي تقدمها لنا الدول الاسكندنافية، تتحدث عن تغيير في صيغ التعليم الثانوي، قامت به الدولة نفسها وفرضه القانون. ومثل هذه الحال هي السائدة دون شك في كثير من البلدان. غير أن ثمة تجارب أخرى في هذا الباب، لم تقم بها السلطة المركزية، بل قامت بها السلطات المحلية. وهذا ما نجده في ميدان التعليم التالي للإلزام في المملكة المتحدة بوجه خاص ، حيث نقع على تجارب قامت بها “السلطات التربوية المحلية”، حاولت من خلالها إنشاء مؤسسات ونماذج تعليمية تستجيب لحاجات الشبان في عصر قوامه التغير السريع.
فكلنا يعلم أن تطبيق مبدأ اللامركزية في التعليم في المملكة المتحدة منح السلطات المحلية في إنجلترا وبلاد الغال سلطات واسعة تخولها تحديد شكل وطبيعة التربية في كل من مناطقها. على أنها لا تملك مع ذلك سلطة كاملة، لأن ثمة شراكة في ذلك بين السلطات المحلية والحكومة المركزية (ممثلة بوزارة التربية والعلوم)، وهي شراكة غدت منذ صدور “قانون بتلر Buttler ” الشهير عام 1944، لصالح السلطة المركزية. ومع ذلك فالسلطات المحلية استطاعت أن تجد أشكالا متعددة مذهلة من الحلول في إطار قانون التعليم العام.
كذلك كلنا يعلم أن المدرسة في المملكة المتحدة كانت تقدم تقليديا تعليما ابتدائيا للأطفال بين الرابعة والحادية عشرة من العمر، وتعليما ثانويا بين الحادية عشرة والثامنة عشرة (وأحياناً التاسعة عشرة من العمر)، وتعليما عاليا مدته ثلاث سنوات أو أربع أو خمس أحيانا.
وفي إطار هذا المشهد المعقد، الذي أمعنا في تبسيطه ههنا، في وسعنا أن نتحدث عن تطور صيغة التعليم التالي للإلزام في المملكة المتحدة: فمنذ صدور قانون التربية عام 1944، شهدت المملكة المتحدة تحولا تدريجيا من الإعداد ثلاثي الوجوه الذي تقدمه المدرسة الثانوية نحو إنشاء مدرسة ثانوية “متعدد الأغراض”. وبعض اللجان، كلجنة “ليستر شاير Listershire ” أدخلت نظام التعليم الثانوي ذي المرحلتين:
إحداهما مرحلة تقدم مواد مشتركة للأطفال جميعهم حتى الرابعة عشر من العمر، والثانية تتفرع شعبتين أحداهما أكثر أكاديمية من الثانية. وثمة سلطات محلية أخرى أوجدت مدارس متعددة الأغراض حتى نهاية مرحلة الإلزام، في سن السادسة عشرة، تليها دراسات في معهد آخر يمكن أن يكون من طراز آخر، غير أنه في كل الأحوال متعدد الأغراض، وإن يكن ذلك على شاكلته.
وقبل التغيير الذي حدث عام 1968، كان النظام الشائع نظاما قوامه متابعة تعليم عام حتى السادسة عشرة تقريبا في المدرسة الثانوية، ثم متابعة دروس أكثر تخصصا في المدرسة نفسها. وكان ذلك النظام يتيح إعداد امتحان عام هام، يتم في السادسة عشرة من العمر عرف كما نعلم باسم”شهادة التعليم العامة ذات المستوى المتقدم”. على أن قلة من الطلاب كانوا ينتقلون في سن السادسة عشرة إلى معهد يقدم تعليما متمما، قوامه دراسات أقرب إلى الدراسات العملية أو دراسات موازية إلى حد ما للدراسات التي تقدمها المدرسة الثانوية، ولا سيما في مجال العلوم. ولم تكن نسبة الذين يلتحقون بهذا التعليم، خلال الخمسينات، تجاوز 10% من جملة الطلاب. وعندما ارتفعت هذه النسبة خلال الستينات إلى 14%، وأصبحت تناهز 40% في نهايتها، واجهت الإدارة التعليمة مشكلات خطيرة تتصل بعدد الأماكن المتاحة وعدد المعلمين والتجهيزات المدرسية وغير ذلك.
وقد تم حل هذه المشكلة جزئيا حين تزايد عدد الشبان الراغبين في الانتساب إلى “كليات التعليم المكملة” حيث كانوا يجدون، فيما يقولون، أجواء أرحب وأنضج وأجمل. ولكن ظل عدد كبير من الشبان في السادسة عشرة من العمر دون أن يجدوا أي تعليم هيئ لهم.
وإذ ذاك، ولدت فكرة جمع الطلاب في مراكز ملائمة “تالية للتعليم الإلزامي” تستقبل أولئك الذين تجاوزا السادسة عشرة من العمر والقادمين من مدارس عاجزة عن استقبال هذا العدد المتزايد من الراغبين في الانتساب إلى التعليم بعد مرحلة الإلزام. وقد أطلق على هذه المراكز أو المعاهد الجديدة التي تستقبل هؤلاء الطلاب اسم “كليات الصف السادس”، (لأن الامتحان النهائي في المدارس الثانوية التقليدية كان يتم في الصف السادس). وبعض هذه الكليات الجديدة ظل مرتبطا بمدرسة ثانوية، وكان يستقبل الطلاب الجدد الذين تجاوزوا السادسة عشر من العمر الوافدين من مدارس مجاورة ليس فيها متسع كبير لقبول أعداد كبيرة منهم.
وقد استطاعت “كليات الصف السادس” هذه أن توسع نطاق المواد التي تدرسها (فبلغ في بعضها أربعين مادة)، كما قدمت هذه المواد في صيغ مؤتلفة جديدة تلائم حاجات المهن الناشئة ومستلزمات الفروع الجديدة من الدراسة في التعليم العالي. لهذا لا غرابة أن تغدو هذه الكليات، بعد مرحلة تردد وتساؤل، الهدف الطبيعي الغالب للطلاب بعد السادسة عشرة من العمر.
وقد ذهبت بعض السلطات المحلية في تأييدها لهذا الاتجاه إلى الأخذ بنظام قوامه توقف الطلاب الكامل عن الدراسة بعد السادسة عشرة من العمر، ثم نقلهم بعد ذلك إلى معهدٍ تالٍ للمرحلة الإلزامية.
وقد أصابت بعض الكليات الجديدة، وهذه الإجراءات الجديدة المتصلة بالشبان بعد السادسة عشرة من العمر نجاحاً واضحاً، إذ لم تمض على إحداث هذه الكليات (كليات الصف السادس) بضع سنوات حتى أنشئت 120 كلية جديدة طرازها. هذا بالإضافة إلى إنشاء كليات أخرى قريبة النسب إليها، أطلق عليها اسم “الكليات المصاحبة”، وهو اسم يشير إلى كليات مستقلة أيضاً، تستقبل الطلاب بعد السادسة عشرة من العمر، وتديرها بعض السلطات التربوية المحلية في إطار التنظيم الرسمي للتعليم المكمل. وهي شأنها في ذلك شأن “كليات الصف السادس”، تستقبل فئات العمر الواقعة بين السادسة عشرة والثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر، وتقدم مناهج طابعها علمي واضح ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمهن والإعداد لها.
وهذه الكليات تجذب الأشخاص الذين يبحثون عن الدراسة بعض الوقت.
ومن العسير أن نستعرض سائر المحاولات الجديدة التي قامت بها السلطات المحلية في المملكة المتحدة في مجال التعليم التالي للإلزام، وأن نقنفي شعابها ودروبها. لا سيما أن أول ما يميزها ويمنح لها القوة كما يعرضها لبعض الضعف ما تتصف به من انعدام شبه كامل للصيغة والشكل. وقد لقي هذا التنوع المفرط الذي ينبئ عن رغبة أكيدة في الاستجابة للحاجات الجديدة، ضروبا كثيرة من النقد. وكثيرا ما تحدث النقاد عن انقلاب النظام التعليمي من خلال هذه التجارب كلها إلى ما يشبه المتاهة أو الغابة.
ومهما يكن من أمر، فقد قاد ذلك كله إلى حملات قوية من أجل إعادة تنظيم النظام التعليمي تنظيما جذريا وعقلانيا.
ج) الولايات المتحدة الأمريكية:
على الرغم من اختلاف القوانين بين الولايات، نقع في الولايات المتحدة الأمريكية على تعليم إلزامي للأطفال من عمر 6إلى 7سنوات حتى 16عاما. كما نقع على نماذج بنيوية عديدة للتعليم العام. وهذه النماذج جميعها تؤدي إلى التخرج من المدرسة الثانوية ((High Schoolفي سن السابعة عشرة أو الثامنة عشرة. يضاف إلى هذا أن بعض الولايات تقدم برامج دراسية لمدة عامين تقريبا في كليات المجتمع (Community Colleges) أو كليات الراشدين كجزء من النظام التعليمي العام.
وقد يكون أهم ما في نظام التعليم في الولايات المتحدة التعليم غير النظامي، إذ تتعدد أشكاله ومجالاته. وتقدم هذا التعليم مؤسسات عامة وخاصة كثيرة، مثل أصحاب الأعمال، واتحادات العمل، والأفراد الساعين إلى الربح، والجماعات الدينية والخيرية، الخ”1”.
على أن من التجارب التربوية المجددة البارزة في الولايات المتحدة – وفي كثير من البلدان- تلك التي تقوم على “التناوب” بين الدراسة والمهنة، وهي تجربة نقع عليها في مستوى التعليم الثانوي أحيانا فيما يعرف باسم “التربية التعاونية” وفي مستوى التعليم العالي غالبا. ويتسع هذا النوع من التعليم اتساعا كبيرا في الولايات المتحدة الأمريكية لدى أولئك الذين يعاودون الدراسة بعد فترة من العمل. ذلك أن ثمة حاجة ماسة لتجديد المعلومات دوما بسبب المكتشفات التقانية الجديدة، وبسبب تقادم المعلومات التي يتلقاها الطالب أثناء إعداده الأولي، والتي كثيرا ما تغدو مع الزمن بالية أو خاطئة. ومن هنا لابد من أجل الاستجابة لهذه التغيرات ولتجديد الكفاءة المهنية من الأخذ بمبدأ “التناوب” هذا. وجدير بالذكر أن الإعداد لحياة متجددة دوما، مع ما قد يصحب ذلك غالبا من تناوب بين الدراسة والعمل، ومن إعادة تدريب مستمرة، إعداد يبدأ منذ مرحلة التعليم الأساسي، سواء في الولايات المتحدة أو سواها، وان يكن تطبيقه الفعلي، يتم منذ أن يبلغ الأطفال مرحلة ما بعد التعليم الأساسي أو الإلزامي. وههنا نجد مرة أخرى كيف يتم التكامل والربط بين هاتين المرحلتين. ومحور الأمر في هذا كله هو تغير المواقف تجاه كل ما يعني التعليم التالي للإلزام. ونقطة التحول الأساسية هي تلك التي تقود في خاتمة المطاف إلى “التعلّم الذاتي” المستمر بفضل المشاركة المستمرة التي يقوم بها في هذا السبيل التعليم التالي للمرحلة الإلزامية في أمثل صوره وصيغه. وقد أخذ هذا التحول أشكالا مختلفة في البلدان المتقدمة، لا يتسع المجال للحديث عنها، وهو على أية حال تحول لابد أن يتشكل وفقا للظروف الخاصة بكل بلد. غير أن ثمة مبادئ عامة نجدها في الدول المتقدمة، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص. منها توافر قدر من المرونة بفضل وحدات تعليمية “يمكن حسابها”. ومنها تنظيم أوقات الطلاب وإمكاناتهم بحيث يستطيعون الإفادة من هذا النظام التعليمي المفتوح. ومنها تشجيع البرامج “المتحركة” والدراسة بعض الوقت والعطل المأجورة من أجل متابعة الدراسة. ومنها إعادة التأهيل المهني وإكمال الإعداد المدرسي عن طريق الإعداد في مواقع العمل نفسها. وأخيرا لا آخرا نشر برامج تلفزيونية أو برامج يتم تعليمها بمساعدة الحاسوب.
ولا حاجة إلى القول إن الولايات المتحدة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الدول، أخذت بنظام التعليم الثانوي المتعدد الأغراض الذي سبق أن وجدناه واضحا في التجربة البريطانية. والنسبة الكبيرة من المسجلين في المدارس الثانوية هناك (وهي نسبة عالية جداً) ترتاد هذه المدارس الثانوية المتعددة الأغراض. فالمدارس الثانوية الأمريكية جميعها التي تستقبل حوالي 90% من فئة العمر المقابلة للتعليم الثانوي بوجه عام، ينتسب 80% منها إلى المدارس الثانوية المتعددة الأغراض، وهذه المدارس الثانوية المتعددة الأغراض تقدم خيارا بين ثلاث مسافات: مساق الدراسات “الأكاديمية” الذي يعد لدخول الكليات الجامعية (ويضم حوالي 39% من الطلاب)، والمساق المهني (24%)، ومساق التعليم العام (37%). ويوجد من حيث المبدأ جذع مشترك بينها جميعها يضم مواد إلزامية. وعلى الرغم من أن المواد الاختيارية تمثل 50% من البرنامج، تمنح المدارس أو الولايات شهادة وحيدة هي شهادة نهاية المدرسة الثانوية (High School).
وقد وجهت سهام النقد، كما أشرنا سابقاً إلى هذا الطراز من التعليم الثانوي المتعدد الأغراض. وقد كان النقد ينصب أصلا خلال السنوات الممتدة بين عام 1970 وعام 1980 على انعدام التنوع وانعدام الاختيار الحقيقي للدراسة في مثل هذه المدرسة. وقد ولدت نقمة الرأي العام إذ ذاك حركة جديدة تؤيد ما عرف باسم “المدارس البديلة Alternative School” ، وبادرت الجماعات المحلية وبعض الفئات المستقلة إلى توليد نماذج جديدة من المؤسسات أو المناهج تتمتع بإشراف مستقل، وتهدف إلى تقديم مزيد من الخيار والتنوع داخل المدرسة. وقد أتاحت هذه المدارس مزيدا من التخصص في بعض الموضوعات النظرية أو الفنية، أو في بعض الدراسات ذات الطابع المهني، كما شجعت على الإتيان بجدائد تربوية، ونزعت في بعض الأحيان إلى توثيق الصلة مع عالم العمل. وفي بداية الثمانينيات، فقدت هذه النزعة قدرا كبيرا من الحماسة لها، ومن الدعم الذي حظيت به. ولا شك أن تطور المناخ السياسي، وتضاؤل الاعتمادات المالية، والشهادات المتضاربة فيما يتصل بنتائج هذه التجربة، قد أسهمت في هذا الموقف السلبي منها. يضاف إلى هذا، أن القوم أخذ يصيبهم القلق المتزايد حول التعليم الثانوي، وحول ما يشهدون من ترديه. ومن هنا اتجه الرأي إلى القيام بتدابير جديدة، وتقديم حلول أقدر على مواجهة المشكلات التي يطرحها التعليم الثانوي “المتعدد الأغراض”، بدلا من الدوران حول المسألة والالتفاف وراء المشكلات. غير أن مما يلفت النظر أن أيا من التقريرين الهامين اللذين ظهرا في السنوات الأخيرة، واللذين يتضمنان تقويما نقديا واضحا للنظام السائد في التعليم الثانوي في الولايات المتحدة الأمريكية، لم يضع موضع التساؤل والشك والمدرسة ذات الأغراض المتعددة.
وبوجه عام، يمكن القول في ضوء الدراسات الحالية أن تعميم المدارس الثانوية المتعددة الأغراض يعكس سياسة تقدم التنوع داخل المعاهد التعليمية على التنوع القائم بين معهد تعليمي وآخر. ولهذا فمن الممكن، من جانب، أن تكون هذه السياسة التعليمية قد قللت من فرص التنوع التي كان يرجى أن تكون أكبر لو أن ثمة نماذج مختلفة من المعاهد التعليمية الثانوية. غير أننا نجد من جانب آخر، أن أقسى ضروب النقد التي توجه إليها اليوم قوامها إنكار ما في داخل المدرسة من تنوع مفرط، وهو تنوع ينجم عن العدد الواسع والكبير من المواد الاختيارية التي تمنح “علامات معتمدة”، والتي يتبعها الطلاب على نحو لا يخلو من فوضى. وهذه الفوضى حملت بعض المنتقدين إلى وصم هذا النظام من التعليم بأنه نظام “الكافتريا”.
د) اليابان:
وتشبه تجربة اليابان تجربة الولايات المتحدة (1)، فيما يتصل ببنية التعليم الثانوي ووظائفه، بل إنها بين الدول المصنعة أقربها إلى تلك التجربة الأمريكية. وهي بالتالي تواجه من المشكلات مثل ما تواجهه خدينتها.
ويضّم التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام في اليابان 94% من فئة العمر المقابلة له، منهم 60% في التعليم العام، و30% في التعليم المهني، وفي كل منهما جذع مشترك قوي البنيان، وتتوّج كلهيما شهادة واحدة، هي شهادة إنهاء التعليم الثانوي. ويمكن القول بالتالي، إن نظام التعليم الثانوي في اليابان يتصف بقدر كبير نسبياً من التكامل، سواء على مستوى التنظيم أو على مستوى البرامج. والفروق الأساسية بين معاهد التعليم الثانوي في اليابان فروع تتصل بمستوى التعليم وبقيمته وشأوه. وعلى الرغم من وجود قطاع تعليمي خاص متطّور ومتين (في عام 1982 كان 28% من الشبّان يختلفون إلى مدارس خاصة، يفرض بعضها أقساطاً مدرسية عالية)، فإن المعاهد التعليمية الثانوية تطبق جميعها منهاجاً دراسياً موحداً، يستجيب للتعليمات المفصلة الصادرة عن السلطات المركزية واللجان المدرسية المحلية. وفي قلب اهتمامات المدرسة اليابانية، شأنها في ذلك شأن المدرسة في الولايات المتحدة، العناية بمستوى التعليم وجودته، وبالجو الذي يسود المدارس (كالعنف أو عدم الاكتراث أو سوى ذلك). غير أن نموذج المدرسة الثانوية المتكاملة ليس موضعاً للتساؤل أو التشكيك. وخلافاً لما يجري في الولايات المتحدة، تشجع السياسة الحالية التنوع داخل المعهد التعليمي والمرونة في مواد التعليم. والتوجيهات الحديثة للدولة فيما يتصل بإصلاح المرحلة الثانية من التعليم الثانوي (2)، توصي بمنح المعاهد مزيداً من الاستقلال، وبزيادة عدد المواد الاختيارية فيها، وبمرونة الخطة الدراسية وساعات التعليم، وسوى ذلك. وقد يكون ممّا يلفت النظر ذلك النزوع نحو تنظيم الصفوف المدرسية وفقاً “للنضج المدرسي” للطلاب، ولا سيمّا في المواد الأساسية كالرياضيات واللغات الأجنبية.
وجملة القول، إن ما نجده في تجربة الولايات المتحدة من نزوع نحو “تنميط” المناهج المدرسية، وما نجده في مقابل ذلك في اليابان من صبوة متزايدة إلى تنويعها، ظواهر تفصح عن العسر الذي تلقاه العديد من البلدان حين تحاول أن تجد التوازن الصحيح بين الرغبة في تقديم تعليم أساسي مشترك وتجربة اجتماعية مشتركة إلى أكبر عدد ممكن من الشبّان، وبين الرغبة في تنويع التعليم على نحو يستجيب لاهتمامات كل طالب وإمكاناته، ولحاجات سوق العمل، ولمطالب السوق العليا من النظام التعليمي.
هـ) بلدان أوروبا الغربية:
لقد أفردنا حديثاُ خاصاً لتجربة المملكة المتحدة، ولتجارب الدول الاسكندنافية لأهميتها في هذا المجال. غير أن معظم دول أوروبا الغربية، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا وهولندا، أدخلت جدائد كثيرة على نظامها التربوي في العقود الأخيرة، واتجهت نحو تطوير هذا النظام، ولا سيمّا في مرحلة التعليم الثانوي التالية على الإلزام، تطويراً يستجيب لحاجات العصر المتغيّرة، ولمطالب سوق العمل المتجددة.
هكذا يجتاز النظام التربوي الفرنسي مرحلة تكيف مع التغّيرات العميقة في المجتمع. ومن خلال ذلك، حدثت فيه في السنوات الأخيرة تطورّات متعددة الجوانب، سواء في بناه الإدارية أو في تنظيم الدراسات والمناهج في داخله. وأبرز تلك التطورات الأخذ بقدر كبير من اللامركزية في إدارة التعليم، وتحديث برامج المدارس الابتدائية والثانوية، فضلاً عن إصلاح التعليم العالي. وفي التعليم الثانوي بوجه خاص، يتّم التطوير في إطار الاستجابة لحال القلق التي يعاني منها الشبّان، ولا سيمّا أمام العجز عن معالجة مشكلة البطالة. ومن هنا تّم تطوير فروع الشهادة الثانوية بحيث غدت تستوعب اختصاصات جديدة أكثر ارتباطاً بحاجات سوق العمل. كما أدخلت إلى برامج البكالوريا مواد اختيارية عديدة تتضمّن دراسات عملية وتقنية، من بينها “علم المعلومات Information”. وتم كذلك إدخال تكنولوجيا التربية في المدارس الثانوية وسواها، عن طريق استخدام الأدوات التكنولوجية المساعدة للتعليم. وفي التعليم الثانوي زودت المدارس الثانوية بحاسبات إلكترونية صغيرة يستخدمها الطلاب، كما زودت بأجهزة التلفزيون، وسواها من الأجهزة التقنية المماثلة. ونستطيع أن نقول في الجملة أن إحدى السمات الهامة للتطّور التربوي الذي يتّم في فرنسا هو الاتجاه شطر إعداد الناشئة لمستقبل حوّل قلّب لا يستقر على حال، بل تكوين أطر من أجل إحداث هذا التطوّر. يضاف إلى هذا كله المزيد من العناية التي أخذت تمنحها الدولة للإعداد خارج إطار المدرسة، ولتجديد هذا الإعداد بل لتغيير الإعداد الأول الذي حصل عليه الشاب، وذلك من أجل معالجة مشكلة البطالة بشكل خاص، ومن أجل مواجهة التغيّرات الجذرية في هياكل الإنتاج ووسائل الإنتاج وعلى رأسها الأتمتة.
وفي ألمانيا (الاتحادية سابقاً) ينطلق التجديد التربوي من خلال التقاليد الراسخة في التربية الألمانية. فألمانيا ورثت، سواء في ميدان البحث الأساسي أو العلوم التطبيقية، تقاليد تعليمية عريقة رفيعة المستوى. وورثت كذلك نظام “تلمذة” راسخ (يرتاده نصف أولئك الذين يغادرون المدرسة). وورثت فوق هذا وذاك مدارس تقنية ـ صناعية من مستويات متعددة، تعدّ للحصول على شهادات تقنية بعد مغادرة التعليم الإلزامي.
والمقاطعة “Land” في ألمانيا، هي المسؤولة عن التعليم في حدود أراضيها. ولكن أثر الحكومة الاتحادية أخذ في التزايد خلال السنوات الأخيرة، ولا سيمّا بعد “المؤتمر الدائم لوزراء التربية والشؤون الثقافية”. ويعير هذا “المؤتمر” أهمية خاصة للتعليم غير النظامي ولاتجاهات التطوّر التقني ـ التكنولوجي. وقد صدر قانون حول الإعداد المهني، وبفضله تستطيع الدولة أن تشرّع أنظمة تربوية على المستوى القومي العام في ميدان الإعداد المهني والامتحانات المهنية، وأن تقدّم مساعدات للطلاب المعوزين من أجل متابعة هذا الإعداد، ومن أجل التعجيل بتطوير التربية في ميدان التقانة، وتيسّر الانتساب إلى “المدارس المتعددة التقنيات Fach Hochschulen”. وفي بعض المقاطعات منحت المدارس الثانوية المسماة “Haupts xhulen” (وهي مدارس ثانوية لا يتمّ التركيز فيها على الثقافة العامة وحدها) اتجاهاً يقربها أكثر من المهن والإعداد المهني، وذلك عن طريق إدخال برامج متزايدة من التعليم العملي.
والتقاليد الألمانية العريقة فيما يتصل بالإعداد للحياة ما تزال حيّة. هكذا نجد أن “مدارس المهنة Berufschulen” (وهي مراكز إعداد مهني بعض الوقت يقصدها الذين تركوا الدراسة كل الوقت قبل الثامنة عشرة من العمر)، تعدّ متدربين على أكثر من (430) نوعاً من النشاط، لكل منها مستوى خاص من المؤهلات والشهادات، وسلّم خاص من الأجور. وفي عام 1983، نشر “المؤتمر الدائم لوزراء التربية والشؤون الثقافية” تقريراً حول تطوّر تعليم “علم المعلومات” في ألمانيا الاتحادية. ويتريث هذا التقرير عند أهمية هذا القطاع في مناهج التعليم كلهّا.
و) الدول الاشتراكية والحدود المائجة بين التعلّم والعمل:
لقد رأينا من خلال استعراض تجارب الدول التي أتينا على ذكرها، أنّ من أهمّ خصائص الإصلاحات التربوية الحديثة، ولا سيمّا في المرحلة الثانوية التالية لمرحلة الإلزام، تضاؤل الحدود الفاصلة بين عالم التعليم وعالم العمل، والاتجاه يوماً بعد يوم إلى ربط التعليم بالعمل المنتج. وهذا الاتجاه نجده لدى معظم الدول المتقدمة، ولدى بعض الدول النامية. على أن أوضح صورة له نجدها في البلدان الاشتراكية. ولهذا سنشير إلى هذه التجارب، ونختار منها نموذجين: تجربة الاتحاد السوفياتي وتجربة الصين.
أمّا الاتحاد السوفياتي فقد أكّد منذ البداية، استجابة منه لإيديولوجيته، مبدأ “وحدة المدرسة والعمل”. وبعد وفاة ستالين عام 1953، أخذ مبدأ “التعليم البوليتيكنيكي” (المتعدد التقنيات إن صحّ التعبير) أهمية متزايدة. ثم جاء إصلاح “خروتشوف” عام 1958، فاستهدف أيضاً تعميق الصلة بين المدرسة والعمل والتقريب بين المدرسة والحياة. وأدخل ذلك الإصلاح تجربة مباشرة للعمل داخل المنهاج المدرسي، من مظاهرها مثلاً أن يقضي الطالب يوماً في الأسبوع في مصنع أو حانوت أو مزرعة، واعتبر ذلك ضرباً من الإسهام في تقديم “عمل مفيد للمجتمع”.
وقد أكدّ قانون عام 1973 هذا الاتجاه، وقرّر بوضوح أن على جميع المدارس الثانوية العامة أن تقدّم تربية عن طريق العمل، ومن أجله، كما أنّ عليها أن تنحو منحى مهنياً. وعليها فوق ذلك أن تستخدم “مراكز تجربة العمل” التي تمّ تكوينها، لكي تقدم تجربة عمل مناسبة لمجموعة المدارس التي لا تملك المشاغل العملية اللازمة. وجميع الطلاب (ولا سيمّا الأكبر عمراً) عليهم أن يكتسبوا خبرة مهنية في المصانع والمزارع والحدائق أثناء العطلة.
وأكدّ هذا الاتجاه البوليتيكنيكي بوجه خاص إصلاح عام 1984. وما يشير إليه هذا اللفظ من معنى “التعدد” (Poly) يتصّل بالدرجة الأولى بما ينزع إليه من كشف عن مظاهر جديدة للعمل، ومن أفكار جديدة. و”نوادي” التقنيين الشبّان مزودة أحياناً تزويداً رائعاً بالأجهزة الإلكترونية، والطلاب الذين يرتادونها طلاب ألفوا مختبرات البحث العلمي. وما يطمح إليه أصحاب هذا الاتجاه “أن تكمل المدرسة الثانوية العامة للجميع مدرسة إعداد مهني للجميع” تقدّم للشبّان جميعهم فرصة اكتساب مهنة قبل أن يدخلوا سوق العمل.
أمّا في جمهورية الصين الشعبية، فالمدارس الثانوية اصطفائية بدرجة كبيرة، تضع معايير قاسية لاصطفاء الطلاب بعد الحادية عشرة من العمر، وتقوم باصطفاء آخر عندما يبلغ الطلاب الرابعة عشرة تقرر في ضوئه فيما إذا كان على هؤلاء الطلاب أن يتابعوا الدراسة أو يتجهوا إلى شكل آخر من أشكال الإعداد. وتدوم السنة الدراسية أربعين أسبوعاً. أما الأسابيع الباقية من السنة، فأربعة منها فقط تخصص للعطلة السنوية. أمّا الأربعة الباقية فتخصص للقيام بأعمال جسدية وتقنية أو لإعداد مهني، لا سيمّا بالقياس إلى الطلاب الذين هم في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي. ومعظم المدارس الثانوية تقدّم تعليماً عاماً. غير أنّه بدءاً من عام 1979، أخذ عدد متزايد من المدارس الثانوية يقدّم إعداداً مهنياً في ميدان الزراعة، وفي قطاعات مهنية أخرى، وقد وجدت هذه المدارس قبل الثورة الثقافية، ثم أغلقت بين عام 1966 وعام 1977. وفي المناطق الريفية حيث يقيم 80% من أبناء الصين، تنظم المدارس الثانوية أوقات الدراسة فيها طوال العام، لتدخل فيها الاضطلاع بمهمات زراعية مختلفة، بدلاً من أسابيع الإعداد المهني الأربعة التي أشرنا إليها منذ حين.
والطلاب الذين لا يقبلون في المرحلة الأولى من التعليم الثانوي العام في الصين، قد يرتادون مدارس متوسطة (المرحلة الأولى من التعليم الثانوي) ذات اتجاه مهني، زراعي في الغالب. غير أن المدارس التي تقدّم إعداداً مهنياً مطبقاً، هي تلك التي يؤمها الطلاب الذين بلغوا سنّ المرحلة الثانية من التعليم الثانوي. وتدوم الدراسة فيها سنتين أو ثلاثة. وتموّلها الدولة أو الجماعات المحلية أو فرق الإنتاج. وبعض مدارس المرحلة الثانية من التعليم الثانوي مدارس متخصصة وتقدم برنامجاً أطول قد يمتد حتى أربع سنوات. وهي مرتبطة غالباً بمزارع أو مصانع أو شركات تجارية. ودور هذه المدارس الثانوية المتخصصة إعداد أطر تقنية أو إدارية. ولما كان اختيارها للطلاب يشمل منطقة واسعة، نجد أن معظمها يشتمل على قسم داخلي يأوي إليه الطلاب، ويقدم لهم بعض المال. أمّا الشبّان والشابات الذين لم يقبلوا في المدرسة الثانوية (ولا سيما في المرحلة الثانية منها أو حتى في المرحلة الأولى)، فكثيراً ما يسند إليهم عمل في سنّ الرابعة عشرة وأحياناً قبل ذلك في المناطق الريفية.
ز) في البلدان النامية:
لقد كان بودنا أن نتحدث حديثاً مفصلاً بعض الشيء عن تجارب البلدان النامية في مجال تنويع التعليم الثانوي بعد مرحلة الإلزام، تحقيقاً للربط بين أهدافه وبين أهداف مرحلة التعليم الأساسي، واستجابة لمطالب العصر ومستلزمات التقدّم العلمي والتكنولوجي ومطالب التغيرات السريعة في سوق العمل.
ولا شك أن كثيراً من البلدان النامية تملك تجارب في هذا المجال أكثرها مستقى من تجارب البلدان المتقدمة، وبعضها يؤلف بين هذه التجارب وبين ثقافة البلد وبنيته الاجتماعية والاقتصادية الخاصة به.
ومن أبرز الدول التي كان من الجدير بنا أن نتحدث عنها، وعن تجاربها في هذا المجال بلدان مثل كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وبلدان مثل الهند ودول أمريكا اللاتينية وأفريقيا، فضلاً عن البلدان العربية. غير أن المجال لا يتسع لذلك (1). والنماذج التي سبق أن تحدثنا عنها تكاد تشمل سائر النماذج الأخرى وتوجّه مسيرة التغيير في بنيان التعليم الثانوي وصيغه في معظم بلدان العالم، المتقدم منها والنامي.
ح) في البلدان العربية:
قامت في البلدان العربية، وما تزال تقوم، جهود تترى من أجل تجديد التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام، سعياً وراء تنويعه وتشعيبه بوجه خاص. وبالإضافة إلى الكثير من المؤتمرات والحلقات التي عقدت لهذه الغاية، قامت في معظم البلدان العربية تجارب في مجال تنويع التعليم الثانوي، أشهرها تجربة المدرسة الشاملة (التي طبقت بوجه خاص في الجمهورية العراقية بين عام 1979 وعام 1980، وفي المملكة العربية السعودية بدءاً من عام 1975/1976)، وتجربة نظام التفريغ والتشعيب (في دولة البحرين وسواها)، وتجربة نظام الساعات المعتمدة (المقررات) في الكويت والمملكة العربية السعودية، وتجربة نظام الفصلين الدراسيين في الكويت وفي بلدان عربية عديدة، وتجربة التعليم البوليتيكنيكي (في الجزائر بوجه خاص).
وفي مجال الجدائد في التعليم الثانوي التقني والمهني، قامت في البلاد العربية تجارب متنوعة، وظهرت أنماط متعددة لا مجال للتفصيل فيها.
خاتمة:
قد يكون بحثنا عن نماذج عالمية في تطوير التعليم الثانوي، وإكماله لأغراض التعليم الأساسي، قد انتهى بنا إلى نتيجة لعلّها تبدو سلبية، وهي أنّنا لا نقع في التجربة العالمية في هذا الميدان، على نماذج نموذجية جديرة بأن تحتذى، وأننا في الواقع أمام نماذج متعددة متكاثرة، يلبس كل منها لبوس البلد الذي جريت فيه، وينطلق من بنيته التربوية والاجتماعية والاقتصادية، ومن حاجاته الراهنة والمقبلة. يضاف إلى هذا أن هذه النماذج هي دوماً، كما رأينا، في طريق التعديل والتعبير والمراجعة. وفوق هذا وذاك كثيراً ما نجد في البلد الواحد نماذج متعددة تختلف باختلاف الولايات أو المناطق أو سواها.
غير أنّ هذا كلّه لا يعني أنّ هذه النماذج المفرطة في التنوّع لا يجمع بينهما جامع، ولا يربط بين أجزائها خيط رائد. بل أن فرط تنوع هذه النماذج وتعددها هو أوّل جامع أساسي وهام يجمع بينها.
فالتجربة التربوية الحديثة، كما سبق أن ذكرنا، انتهت بعد لأي إلى إنكار الصيغ التعليمية الأزلية الجامدة والثابتة، وإلى جعل التعدد والتنوع والمرونة والحركة شعارها وجوهرها. ولقد ذهب فيها إلى غير رجعة “مفهوم النظام التربوي الثابت المستقر”. بل إن بعضهم يرى أن رأس أهداف المدرسة الحديثة أن تعدّ الطلاب لما ينتظرهم من مفاجآت وظروف غير متوقعة.
ومن هنا يجمع بين هذه النماذج أنّها جميعها نماذج مفتوحة، مشرعّة الأبواب أمام التجدد. ويجمع بينها كذلك أنّها نماذج تريد أن تستجيب لمطالب جديدة متعددة ومتنوعة، منها تغير حاجات سوق العمل، ومنها تغير زبائن هذه المدارس وعدم اقتصارهم على سن محددة، ومنها مطالب التغير التكنولوجي، ومنها وعلى رأسها الاستجابة لحاجات تلك الشريحة من السكان التي تقع بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة من العمر، بل حتى الخامسة والعشرين من العمر.
ويلزم عن هذا ما يجمع بينها من تغيرات في بنيتها وصيغتها، ولا سيما في مرحلة التعليم الإلزامي وبين التعليم الثانوي والعالي.
ويجمع بين هذه النظم بعد ذلك، بل قبل ذلك، أنها جميعها تؤمن بأهمية التدريب وتجديد التدريب وإعادة التدريب، وبسائر أشكال التربية غير النظامية والتعليم المستمر، وبهدف الأهداف في أي تربية حقة ألا وهو التعّلم الذاتي.
ومن هنا كانت جميعها حريصة على الربط الوثيق بين التعليم والعمل، بين التربية والإنتاج، بين مؤسسات التعليم والمؤسسات الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة، مؤكدة كرّة بعد كرّة أن ثمة ثالوثاً لم يعد من الجائز أو الممكن فصله، هو التربية والتقانة والحياة المهنية. فهذه الميادين الثلاثة لابّد أن تهجر العزلة الماضية بينها، وأن تغدو مظاهر متكاملة لنظام جديد واحد ووحيد.
وهكذا، أيّا كان النموذج المتبع، فالضالة واحدة: أنها توليد نظام تربوي، ولا سيمّا في المرحلة الثانوية التالية للإلزام (وفي مرحلة التعليم العالي بعد ذلك)، يستجيب لحاجات الشبّان ومطالبهم، ويقضي على ما يساورهم من قلق، ولا سيمّا أمام تزايد البطالة، ويستجيب لحاجات المجتمع المتجددة، ولحاجات التطوّر العلمي والتكنولوجي السريع، ولمطالب سوق العمل ومؤسسات العمل والإنتاج، ويجعل من نظام التعليم في نهاية المطاف جزءاً من سعي مشترك من أجل التقدّم والتطوير في شتى مجالات الحياة.
ومن هنا نجد اللحمة القوية التي تربط بين هذه النماذج الجديدة أو المأمولة في التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام وبين التعليم الأساسي، إذا نحن أخذنا بالمعنى الأصيل لهذا التعليم. فالتعليم الأساسي الحق هو الذي يعمل على تطوير الفرد وبناء شخصيته، ويجعله قادرا على مواصلة تعليمه طوال حياته، وهو الذي يعنى بتطوير المجتمع وبالاستجابة لحاجات البيئات المحلية المختلفة، وهو الذي يربط بين العمل والإنتاج ويسهم في التنمية الشاملة للبلد. وتجارب التعليم الأساسي التي تمّت في العديد من البلدان تلتقي مع هذه الأهداف وتلتقي بالتالي مع أهداف الصيغ الجديدة التي ينزع إليها التعليم الثانوي التالي للتعليم الأساسي (أو الإلزامي)، كما سبق أن رأينا. فهناك في ميدان تطبيق التعليم الأساسي، تجارب التعليم اللانظامي في مثل “بيرو”، والهند وتجارب التدريب المهني الوظيفي في إسبانيا، وتجارب التعليم الأساسي كأداة لتطوير المجتمع في مثل “تنزانيا”، وتجارب ربط التعليم الأساسي بالتنمية القومية في مثل “أندونيسيا””1”.
ومعنى هذا، أن التعليم الأساسي في أصله، وأصفى صوره يبدأ بالمهمات التي يتولى التعليم الثانوي التالي له متابعتها وتعميقها. ما ذكرنا من نماذج التعليم الثانوي، هذا يبين أن ثمة تأثرا وتأثيرا متباين بين التعليم الأساسي والتعليم الثانوي التالي له، فلكي يضطلع التعليم الثانوي بالمهمات الأساسية التي أشرنا إليها، لا بد أن يتولى التعليم الأساسي التمهيد لها عن طريق تطبيق الأهداف الموكلة إليه. وفي المقابل فإن المهمات التي يضطلع بها التعليم الإلزامي تكملها، وترقى بها النماذج الجديدة من التعليم الثانوي التالي له.
أما الإجابة على سؤال قد يجول في الخاطر، وهو شكل النموذج الذي يمكن أن تأخذ به البلاد العربية، في ميدان التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام، فأمر يخرج عن حدود هذا البحث. وقد سبق أن أشرنا إلى العديد من الندوات والمؤتمرات والدراسات التي تمت لهذه الغاية في المنطقة العربية وسواها. غير أن ما يمكن قوله هو أننا اخترنا من النماذج العالمية، في مجال التعليم الثانوي التالي لمرحلة الإلزام، ما نجد فيه بذورا صالحة يمكن أن تستعين بها التجارب العربية في هذا الميدان وما ذكرنا من الروح الواحدة التي تجمع بين النماذج التي اخترناها، يصدق على التربية العربية كما يصدق على سواها. بل لعلنا في حاجة إلى أن نؤكد على نحو أوضح أهم المنازع التي رأيناها في النماذج التي اخترناها، وذلك لأن هذه المنازع في رأينا خير ما يستجيب للتحديات التي تواجه وطننا العربي. فالتأكيد على تجديد النظم التربوية وعلى الربط العضوي بينها وبين حاجات سوق العمل المتغيرة ومطالب الشبان المتطورة، أمر ندرك جميعا أهميته في بلادنا. والحاجة إلى نظام تعليم ثانوي مفتوح ومرن، مرتبط بالعمل والإنتاج، قادر على أن يخرج أناساً تستوعبهم سوق العمل ومطالبها الجديدة، مطلب غدا ذائعا على كل شفة ولسان في الوطن العربي، وينطق به واقعه في كل مجال. وحسبنا أن النماذج التي أتينا على ذكرها نماذج تريد أن يمتلك النظام التربوي حرية الحركة ودينامية التغير وتنوع الإبداع، وأن ينأى عن الثبات والجمود والتصلب، وهذه كلها منازع يتوق إليها الواقع العربي في شق الميادين.
إن أهم درس تقدمه لنا هذه النماذج هو روحها، روحها المبدعة المجددة المتكيفة مع حاجات التغير السريع في عصر مغذ في سيره. وعندما نملك مثل هذه الروح المبدعة، وننطلق من معطياتها، لا بد أن نصل إلى توليد النماذج الجديرة بواقعنا العربي، المستجيبة لحاجاته والمتطلعة إلى مستقبله.
المراجع
الدكتور عبد الله عبد الدائم. التربية وتنمية الإنسان في الوطن العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1988 (ولا سيما الفصل الأول منه).
Annuaire international de l’éducation. Volume XXXll,1985.
Unesco, 1986.
O.C.D.E. La formation après la scolarité obligatoire, Paris, 1985.
O.C.D.E. L’enseignement dans la société moderne, Paris, 1985.