عبد الله عبد الدائم مفكراً تربوياً

أريد أن أتحدث في هذه المقالة عن فكر الدكتور عبد الله عبد الدائم التربوي، لعلي أوفيه ديناً ثقافياً له في عنقي: فالرجل أستاذي، وأنا فخور بتتلمذي عليه.
والحقيقة أن الحديث عنه حديث عن علم من أعلام الفكر العربي المعاصر في البلاد العربية: فقد كان أستاذاً جامعياً ومؤلفاً ومشاركاً في كثير من المؤتمرات التربوية العربية والدولية. أما نشاطه في الفكر التربوي، فيشمل ميداني الترجمة والتأليف، عدا مقالات كثيرة نشرها في مجلة المعلم العربي التي تصدرها وزارة التربية في القطر العربي السوري، وصحيفة التخطيط التربوي في البلاد العربية، التي يصدرها المركز الإقليمي للأونسكو في بيروت.
وقد تناولت الترجمة الكتب التالية:
«المدارس الحديثة» لبول فولكييه، و«التنبؤ التربوي» لبارنس، و«المطول في التربية العامة» لرينيه أوبير. في حين تناول التأليف الكتب التالية:
المدخل إلى التربية التجريبية، وتاريخ التربية، والتربية القومية، والتخطيط التربوي، وتكنولوجيا التربية.
وإذا شئنا أن نلم إلماماً صحيحاً بفكر عبد الدائم التربوي، كان لابد لنا من التمييز فيه، بين جانب مقرر مأخوذ من المصادر التربوية، ويقتصر فضله فيه على فضل الجامع والعارض وربما المبسط، وجانب تنظيري يعتمد على التفكير الشخصي، ويرجع الفضل فيه إليه دون غيره، مثل نظريته في التربية القومية. إنه في كتبه التقريرية يقدم الأفكار والآراء المتداولة في التربية إلى القارئ العربي، ببيان وأسلوب ينسيانه الأصول الأجنبية التي نقلت منها. في حين أنه في «التربية القومية» يعرض ثقافته التربوية من خلال منظور شخصي هو صاحبه، وإن كان لملم عناصره من الآراء المنتشرة حوله في بيئته الوطنية.
ومع ذلك، فإننا لا نستطيع إلا أن نحمد هذه المحاولة، إذ إن لم شعث الشتيت المفترق في نظرة كلية متناسقة لا يخلو من الجدة، ويكاد الوصول إليه لا يخلو من آلام المخاض والولادة.
فلنقف قليلاً عند التربية القومية وتصوره لها( ). وهنا لابد لنا من أن نلاحظ، أنه يقيم نظريته على نظرية في القومية يؤمن بها، وإن كانت ليست من صنعه. ومن هنا كانت ضرورة معرفة المبادئ التي تعتمد عليها هذه النظرية التي انطلق منها لبناء نظريته في التربية القومية.
إن عبد الدائم يحلل المقومات التي تقوم عليها فكرة القومية العربية، لتكون أساساً لنظريته في التربية القومية. وبهذا الصدد يقول: «لابد أن تكون نقطة البداية في التربية القومية، توضيح المقومات الأساسية السليمة للفكرة القومية العربية، لنتوسل بعد ذلك بالوسائل التربوية اللازمة إلى إقامة هذه المقومات في النفوس والأذهان، وإلى تكوين البنيان الروحي لها». (التربية القومية، ص 39).
ولكن، ما هذه المقومات؟ إنه يجدها خمسة، فهي: إنسانية، وروحية، وديمقراطية، واشتراكية، وثورية (التربية القومية، ص 39-80).
وإذا كانت هذه هي المقومات، فما تصور القومية العام؟ يقول في بيان هذا التصور: «إن الفكرة القومية عامة، لا تتخذ مبدأ الصراع بين القوميات ديدنها، ولا تجعل من الغلبة والتفوق وعداء الشعوب الأخرى شرعة لها. بل إننا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: إن الفكرة القومية منذ ولادتها، لم تكن فكرة معادية مجانبة للإنسانية، وما انجرت إلى مثل هذا المصير في بعض الدول الأوربية، إلا نتيجة انحرافات مقصودة أملتها ظروف سياسية خاصة». (التربية القومية، ص 41).
وإذا كانت الظروف السياسية الخاصة لبعض الدول الأوربية، أدت إلى انحراف فكرة القومية عن مسارها الإنساني السليم، فمن أين استقى عبد الدائم فكرته عن القومية الصحيحة؟ يقول في الإِجابة عن هذا السؤال ما يأتي: «فلقد بينا عن قصد، إن النظرية العربية نظرية واقعية، مستمدة من واقع الشعب العربي. ولقد استبان لنا في أثناء حديثنا عن مقومات القومية العربية، إننا نستمد هذه المقومات من تقرّي الواقع وملاحظته، من سؤاله واستجوابه». (التربية القومية، ص 84).
وإذاً، فعبد الدائم يستمد الفكرة القومية الصحيحة من الواقع العربي. وهذا ما يجعله يعتمدها أساساً ينطلق منه لبناء نظريته في التربية القومية، وهو يعني بها التربية القومية العربية. ولهذا فهو يقول: «من اللازب علينا أن نعرّف بحثنا في التربية القومية، بأنه بحث يرمي إلى تحديد الملامح الرئيسية للتربية القمينة بأن تكوِّن المواطن العربي ذا الاتجاه القومي السليم». (التربية القومية، ص 7).
وهنا نصل إلى نظريته في التربية القومية. ويمكننا أن نبدأ بالمقوم الإنساني، الذي يبدو أن عبد الدائم يعده حجر الأساس في التربية القومية. والصفة الإنسانية عنده تعني التفتح على الحرية، وعلى الحضارة والوجود الإنساني والتراث الإنساني، بحيث لا يقتصر هذا وذاك على أمة دون أمة، بل يشمل الأمم قاطبة.
ولكن، لم الحديث عن الحرية؟ ألا يمكن للتربية الإنسانية أن تكون إنسانية من دون الحرية؟ ولكن عبد الدائم يرى أنها ضرورية لتفتيح إمكانات الفرد ومواهبه، فمن دونها لن يكون إنساناً. وبهذا الصدد يقول: «إن هذه التربية الإنسانية تستلزم منهجاً أول، هو تفتيح إمكانيات المواطن العربي عامة، والطفل العربي خاصة. فالتربية الإنسانية تعني أن نستخرج من كل إنسان كامل إمكانياته ومواهبه، وأن نفجر طاقاته وقابلياته. ومعنى ذلك إن هذه التربية يجب أن تعنى قبل كل شيء، بأن تكون تربية تكشف عن قابليات الأفراد، وتسمح لهم بالتفتح في جوّ من الحرية». (التربية القومية، ص 85).
ولكن، ما الغاية من تفتيح إمكانيات الفرد الإنساني في جو من الحرية؟
يرى عبد الدائم، إنها ربطه بالحضارة الإنسانية. وهو يقول من هذه الناحية:
«على أن المنزع الإنساني في التربية القومية لا يشتمل على هذا الشطر الوحيد، شطر تفتيح مواهب الفرد واستخراج كامل إمكانياته، بل هو يشمل شقاً ثانياً هاماً، هو ربط هذا الفرد بالحضارة الإنسانية، وتفتيحه على الوجود الإنساني». (التربية القومية، ص 90).
بيد أن الحضارة الإنسانية تعني التراث الإنساني العالمي، والتراث الإنساني العالمي يشمل التراث القومي المحلي، إلى جانب تراث الأمم الأخرى.
ومن هنا كانت التربية القومية الإنسانية تعنى بالتراثين معاً. ويعبر عبد الدائم عن هذا قائلاً: «ولهذا كانت المهمة الأساسية من مهمات التربية الإنسانية، هذا الربط بالتراث الإنساني العالمي ربطاً سليماً. وهذه المهمة تفترض أمرين في آن واحد: تفترض إطلاع الطالب العربي على نتاج التجربة العالمية والثقافة الإنسانية إطلاعاً سليماً غير ذي عوج. فالتواصل بين الثقافة العربية والثقافات العالمية لا يجوز أن يتم على حساب أي منهما». (التربية القومية،
ص90-91).
تلكم هي شروط التربية القومية الإنسانية. وهي كافية نظراً، ولكنها ليست كافية عملاً، ما لم نضم إليها شرطاً رابعاً، هذا الشرط يتعلق بالجانب التنفيذي: وهو جانب يجب على الأمم جميعاً أن تأخذه على عاتقها. وهذا ما يقول فيه عبد الدائم: «غير أن هذه الرسالة الإنسانية التي تضطلع بها التربية، لا يمكن أن تؤتي ثمراتها، إن هي ظلت محصورة في نطاق الأفكار التربوية العامة، التي ينادي بها مفكرون منعزلون، أو تنادي بها منظمات تربوية قليلة الأثر في مجرى حياة الأمم. ولا يكون لهذه الرسالة الإنسانية صداها. إن هي لم تداخل التربية القومية لكل أمة. وإن هي لم تصبح شرعة أساسية في الحياة القومية». (التربية القومية،
ص 28-129).
ولكن التربية الإنسانية لا تكون إنسانية ما لم تكن ديموقراطية: فما دام البشر يسهمون بإمكاناتهم ومواهبهم في حضارة متفتحة في الوجود الإنساني، فلابد من أن تتاح لهم فرص متكافئة لاستخراج ما في إمكاناتهم ومواهبهم.
وبهذا الصدد يقول عبد الدائم: «أما التربية التي من شأنها أن تحقق المنزع الديمقراطي للفكرة العربية، فقوامها قبل كل شيء، أن تقدم فرصاً متكافئة للجميع في ميدان التربية والتعليم. وبهذا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتربية الإنسانية التي أتينا على الحديث عنها». (التربية القومية، ص92).
غير أن التربية الديمقراطية، إذا كانت إنسانية، لا تتنافى مع التربية الاشتراكية التي تسعى إلى بناء المجتمع.
ومن هنا كان لابد للتربية الإنسانية أن تكون اشتراكية: يقول عبد الدائم: «وتربية المواطن العربي على الروح الاشتراكية، أصبحت مطلباً عاجلاً من مطالب حياتنا. فما دام المجتمع الذي ننشده هو المجتمع الاشتراكي، من اللازم إذاً، أن نعد لهذا المجتمع، بتربية تخلق في المواطنين منذ طور مبكر الروح الاشتراكية اللازمة لبناء هذا المجتمع». (التربية القومية،
ص 102-103).
وإذا كانت التربية الاشتراكية تتطلب التضحية من أجل الجميع، وفقاً للقيم والمثل العليا، كان لابد للتربية الروحية من أن تكون مقوماً من مقومات التربية القومية الإنسانية. يقول عبد الدائم بهذا المعنى: «إن الأساليب التي تحدثنا عنها فيما يتصل بالتربية الإنسانية والتربية الاشتراكية، تؤدي بطبيعتها إلى التربية الروحية وتمدها. فهذه التربية الروحية تعني أولاً وقبل كل شيء، تربية الفرد العربي على احترام القيم والمثل العليا في الحياة والسلوك، وتوكيد التكوين الخلقي الروحي الذي يمكّن لهذه القيم». (التربية القومية، ص 111).
ولكن هذا كله يفترض قلب الأوضاع، ومغادرة الفساد إلى الصلاح، والخروج من عالم القبح إلى عالم الجمال. يفترض الثورة، ويفترض تربية ثورية تمهد لهذه الثورة. وهذا ما يعنيه عبد الدائم حين يقول: «ومن خلال هذا التوضيح للتربية الروحية، وأصولها الفنية، ومن خلال نظرتنا هذه إلى ما في الإصلاح الاجتماعي من جانب فني يطلب القوام، نجد أنفسنا أمام التربية الثورية المنشودة. فالتربية الثورية تعني أول ما تعني، تكوين روح الانفصال عن الفساد القائم، والإحساس بالأدواء الموجودة». (التربية القومية، ص 118).
تلكم هي نظرية التربية القومية ومقوماتها عند عبد الدائم. وهي إذا أنعمنا النظر فيها قليلاً، وجدناها إنسانية في جوهرها. إنها إنسانية في شمولها وتضمنها: فمن حيث الشمول هي تسعى إلى أن تضم أمم الأرض كلها، ومن حيث التضمن تريد أن تفيد من طاقات كل فرد ومواهبه، أي تريد أن تحقق في حياة الحضارة، كل ما ينطوي عليه الوجود الإنساني.